د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

المساءلة والشفافية في منظومة إدارة الأداء الوظيفي Accountability and Transparency in the Performance Management Framework

يُحلّل هذا المقال البنية الأخلاقية والتنظيمية للمساءلة والشفافية في إدارة الأداء الوظيفي، بوصفهما ركيزتين لإعادة الثقة، وترسيخ العدالة، وتحقيق التوازن بين السلطة والمسؤولية في بيئة العمل.

November 4, 2025 عدد المشاهدات : 45

حين نتحدث عن المساءلة والشفافية في منظومة إدارة الأداء الوظيفي فإننا لا نتحدث عن مفهومين إداريين جامدين بل عن روحٍ حيةٍ تمثّل الضمير الأخلاقي للنظام بأكمله، فالمساءلة ليست عقوبة بل مسؤولية، والشفافية ليست إفشاء أسرارٍ بل ضمانة عدالةٍ ووضوح، وهما معًا يحددان المسافة بين المؤسسة التي تُدار بالخوف وتلك التي تُدار بالثقة. فالمساءلة هي فن تحويل السلطة إلى أمانة، والشفافية هي فن تحويل المعلومة إلى وعي، ومن خلالهما تتحول الإدارة من ممارسةٍ فوقيةٍ إلى شراكةٍ واعيةٍ بين القائد والموظف والمجتمع.
إنّ المساءلة والشفافية في إدارة الأداء ليستا إجراءين لاحقين للتقييم، بل هما النسيج الذي يُبنى عليه النظام منذ لحظة تصميمه الأولى، فكل مؤشرٍ وهدفٍ وتقييمٍ وخطة تطوير يجب أن تُبنى على وضوح المسؤولية وقابلية القياس وحق الاطلاع، لأن العدالة المؤسسية لا تتحقق في غياب المساءلة، والثقة لا تولد في غياب الشفافية. لقد أدركت المؤسسات الحديثة أن الإدارة بلا مساءلة تتحول إلى سلطةٍ بلا حدود، وأن الأداء بلا شفافية يتحول إلى رقمٍ بلا معنى، ولذلك أصبحت المساءلة والشفافية مبدأين استراتيجيين يُقاسان قبل النتائج لا بعدها.
إنّ المساءلة تعني أن يعرف كل فردٍ ما له وما عليه، وأن يُدرك أن مسؤوليته ليست عبئًا بل فرصة لإثبات ذاته، فهي ليست عقوبةً لاحقة بل ثقافةً سابقة، تُحوّل الخوف من الرقابة إلى وعيٍ بالمحاسبة الذاتية. أما الشفافية فهي الهواء الذي تتنفسه المؤسسة العادلة، إذ تمنع التراكمات والغموض، وتكشف الانحراف قبل أن يتحول إلى أزمة، وتبني الثقة بين المستويات الإدارية لأنها تُضيء ما كان يُدار في الظل.
ومن هنا تأتي أهمية هذا المقال الذي يحاول أن يُعيد تعريف المساءلة والشفافية في سياق إدارة الأداء الوظيفي بوصفهما منظومتين تكامليتين لا تنفصلان، فالمساءلة بلا شفافية ظلم، والشفافية بلا مساءلة فوضى، وإذا أردنا أن نبني نظامًا يُنصف الموظف ويُمكّن القائد ويحمي المؤسسة فعلينا أن نجعل هذين المبدأين نهجًا إداريًا لا شعارًا، وسلوكًا يوميًا لا فقرةً في دليل.


🗂️ الفهرس للمقال

1️⃣ 🔎 مفهوم المساءلة والشفافية في إدارة الأداء الوظيفي
2️⃣ ⚖️ العلاقة التكاملية بين المساءلة والشفافية
3️⃣ 🧭 مستويات المساءلة في منظومة الأداء
4️⃣ 🪞 أدوات الشفافية في بيئة العمل
5️⃣ 🧩 البنية المؤسسية للمساءلة: الأدوار والمسؤوليات
6️⃣ 📊 الشفافية في دورة إدارة الأداء: من التخطيط إلى التقييم
7️⃣ 🧠 الثقافة التنظيمية للمساءلة والشفافية
8️⃣ 🔐 أخلاقيات المعلومة وحقوق الاطلاع
9️⃣ 🌍 الممارسات الخليجية والعالمية الرائدة
🔟 🔮 نحو منظومة عربية نزيهة للشفافية والمساءلة في الأداء


1️⃣ 🔎 مفهوم المساءلة والشفافية في إدارة الأداء الوظيفي

حين يُطرح مفهوم المساءلة (Accountability) في سياق إدارة الأداء الوظيفي، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن لدى الكثيرين هو صورة العقوبة والمحاسبة وربما الخوف من اللوم، بينما جوهر المساءلة في الفكر الإداري الحديث يبتعد تمامًا عن هذا الفهم، إذ لا يُراد بها العقاب بل تحمل المسؤولية بوعيٍ وعدالةٍ وشفافية. فالمساءلة في أصلها ليست موقفًا تأديبيًا بل سلوكًا إداريًا ناضجًا، يقوم على مبدأ أن كل فعلٍ مهنيٍّ يجب أن يكون له صاحب، وكل قرارٍ له أثر، وكل أثرٍ له مسؤول، وكل مسؤولٍ له حقٌّ في التوضيح والدفاع كما عليه واجب في البيان والاعتراف، فهي دائرة توازنٍ بين الحقوق والواجبات، وليست ميزانًا يُرجِّح كفةً على أخرى. أما الشفافية (Transparency) فهي الوجه الآخر للمساءلة، لأنها تُضيء الطريق الذي تُمارس فيه، وتجعل الحقائق متاحةً قبل أن تُساءل، وتجعل الفعل الإداري قابلاً للملاحظة والمراجعة، فتُنتج بيئةً واضحةً لا يتوارى فيها القرار خلف الغموض، ولا تُتّخذ الإجراءات في الظلام، بل في النور الذي يمنح الثقة ويمنع الشك. ولهذا فإن العلاقة بين المساءلة والشفافية هي علاقة تلازمٍ وجوديٍّ لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، فكل مساءلةٍ بلا شفافيةٍ تتحول إلى ظلم، وكل شفافيةٍ بلا مساءلةٍ تتحول إلى فوضى.

لقد ارتبطت المساءلة تاريخيًا بالرقابة الحكومية، لكن التطور الإداري الحديث نقلها من كونها وظيفةً رقابيةً إلى أن تصبح ثقافةً مؤسسيةً تُمارس على جميع المستويات، فهي لم تعد حكرًا على الأجهزة العليا أو وحدات التفتيش الداخلي، بل أصبحت مبدأً إداريًا عامًا يمتد إلى كل موظفٍ في المؤسسة، من القائد التنفيذي إلى أصغر مسؤولٍ ميدانيٍّ، لأن الوعي بالمسؤولية الجماعية هو ما يضمن اتساق الأداء، ويحول المؤسسة من كيانٍ يُدار بالقرارات إلى كيانٍ يُدار بالضمير الجمعيّ. إنّ المساءلة في هذا المفهوم ليست عمليةً “من الأعلى إلى الأدنى”، بل عمليةٌ “دائرية” تشمل المساءلة الذاتية، والمساءلة الأفقية بين الزملاء، والمساءلة الرأسية بين الرؤساء والمرؤوسين، والمساءلة الاجتماعية أمام أصحاب المصلحة. فهي شبكةٌ معقّدةٌ من العلاقات التي تُبنى على الثقة المتبادلة والوضوح المشترك.

أما الشفافية، فقد تطوّر معناها في الإدارة الحديثة من مجرد “إتاحة المعلومات” إلى “تمكين الفهم”. فالشفافية لا تقتصر على نشر البيانات أو الأرقام، بل تتجاوزها إلى تفسيرها وتمكين المعنيين من فهمها واستيعابها والمشاركة في اتخاذ القرار بناءً عليها. ولهذا فإن الشفافية في إدارة الأداء لا تعني فقط أن تكون تقارير الأداء متاحة، بل أن تكون مفهومةً، ومبنيةً على منطقٍ واضحٍ، وأن يُتاح للموظف أن يعرف معايير تقييمه، وكيف تُحسب نتائجه، وما هي العلاقة بين أدائه الفردي وأداء فريقه، وأداء المؤسسة ككل. إنّ الشفافية هي لغة العدالة الحديثة، وهي التي تحوّل الإدارة من سلطةٍ تمارس الغموض إلى شراكةٍ تقوم على الوضوح، ومن نظامٍ يَحسب النتائج إلى نظامٍ يُفهم نتائجه.

تُعدّ المساءلة والشفافية من المفاهيم التي أعادت صياغة فلسفة الإدارة العامة والحوكمة المؤسسية في القرن الحادي والعشرين. فالمساءلة اليوم ليست مجرد مطالبةٍ بالأداء، بل هي أيضًا التزامٌ بالتفسير، لأن القائد الذي لا يُفسّر قراراته لا يمكن أن يُطالب الآخرين بتبرير نتائجهم. والشفافية ليست مجرد إعلانٍ للبيانات، بل هي أيضًا أسلوب تواصلٍ مؤسسيٍّ يجعل الجميع جزءًا من الوعي الجمعي. وعندما تندمج المساءلة والشفافية في منظومةٍ واحدةٍ، تنشأ بيئةٌ جديدةٌ تُدار فيها المنظمة كما لو كانت جسدًا واحدًا، كل عضوٍ فيه يرى ما يفعله الآخر، ويُدرك أثره على الكل، فتتلاشى المناطق الرمادية ويحل محلها الوضوح المنهجي.

إنّ فلسفة المساءلة في منظومة الأداء ترتكز على ثلاث طبقات: المسؤولية الفردية، والمساءلة الإدارية، والمساءلة المؤسسية الشاملة. المسؤولية الفردية هي القاعدة، وتعني أن الموظف يُدرك أنه صاحب الأثر في عمله، وأن تقصيره أو تميّزه ينعكس على الجميع، وهي تبدأ بالوعي الذاتي وتنتهي بالسلوك الواعي. أما المساءلة الإدارية فهي الوسط الذي يُنظّم العلاقة بين الموظف ورئيسه المباشر، وهي التي تضمن ألا يتحول الأداء إلى فوضى أو مجاملة، بل إلى علاقةٍ قائمةٍ على الوضوح في الأهداف والمعايير والتقارير. وأما المساءلة المؤسسية الشاملة فهي السقف الذي يجمع الجميع، إذ تُساءل المؤسسة أمام المجتمع، وأمام الجهات الرقابية، وأمام عملائها الداخليين والخارجيين، على جودة أدائها، وكفاءة خدماتها، وعدالتها في تطبيق السياسات. ومن خلال هذا الهرم تتكامل حلقات المساءلة من الفرد إلى الفريق إلى المنظمة إلى الوطن.

وعندما نربط هذه الطبقات الثلاث بالشفافية، نكتشف أن الشفافية هي الأداة التي تجعل المساءلة ممكنة، فبدون وضوحٍ في المعلومات لا يمكن معرفة من المسؤول، وبدون توافر البيانات لا يمكن تقييم القرار، وبدون وضوح الأهداف لا يمكن محاسبة أحدٍ على النتائج. لذلك فإن الشفافية في منظومة الأداء ليست ترفًا بل شرطًا وجوديًا للمساءلة. إنها البنية التحتية للمساءلة العادلة، كما أن المساءلة هي الضمانة العليا للشفافية الصادقة، فكل منهما يحمي الآخر من الانحراف. الشفافية من دون مساءلة قد تتحول إلى استعراضٍ إعلاميٍّ يفرغ القيم من مضمونها، والمساءلة من دون شفافية قد تتحول إلى قمعٍ مؤسسيٍّ يقتل روح المبادرة، أما اجتماعهما فينتج حوكمةً أخلاقيةً رشيدةً تُوازن بين العدالة والرحمة، بين الانضباط والإبداع، بين النظام والإنسان.

ولذلك فإن الحديث عن المساءلة والشفافية في إدارة الأداء الوظيفي لا يمكن أن يُختزل في تقارير أو إجراءات، لأنه في جوهره حديثٌ عن ثقافةٍ وسلوكٍ وضميرٍ مؤسسيٍّ. فالمؤسسة التي تُكرّس ثقافة المساءلة تُنشئ بيئةً من الانضباط الواعي، والمجتمع المهني الذي يتنفس الشفافية يُزيل الغموض ويُحيي الثقة، والمدير الذي يُمارس المساءلة والشفافية مع نفسه أولًا يصبح قدوةً لمرؤوسيه، لأن القائد الذي يُخفي الحقائق أو يتجنب المحاسبة يُضعف المنظومة كلها مهما كانت صلابتها الإجرائية. فالقيادة بالقدوة هي أعلى أشكال الشفافية، والمساءلة الذاتية هي أسمى مراتب الانضباط.

ولعل من أهم الإشارات المفصلية في هذا السياق أن المساءلة والشفافية ليستا ضد الولاء المؤسسي كما يتوهم البعض، بل هما شرطه الحقيقي، لأن الولاء لا يُبنى على الخوف أو الإخفاء بل على الصدق والثقة. حين يعلم الموظف أن الأداء يُقيّم بعدالةٍ وأن الخطأ لا يُدفن بل يُعالج، فإنه يشعر بالانتماء، وحين يرى أن المعلومة لا تُحتكر بل تُتشارك، فإنه يُقدّر مؤسسته ويزداد التزامًا بها. فالثقة لا تُولد من السرية بل من المشاركة، والمساءلة لا تُفسد العلاقات بل تُصلحها، لأن العدالة لا تُفرّق بين الناس بل تُوحّدهم حول قيمٍ مشتركةٍ.

وعلى المستوى المؤسسي، تمثل المساءلة والشفافية ركيزتين استراتيجيتين في تحقيق التميز المؤسسي (Institutional Excellence)، لأنهما تضمنان اتساق الأهداف مع القيم، وتجعلان الأداء نتيجةً للوعي لا للإكراه. إنّ المؤسسة التي تُخفي نتائجها تخسر ثقة أصحاب المصلحة، والمجتمع الذي لا يمارس الشفافية في أجهزته يفقد ثقة مواطنيه، والإدارة التي تتهرب من المساءلة تفقد احترام العاملين فيها. أما حين تُمارس الشفافية والمساءلة بوعيٍ وتوازنٍ، فإنها تُنتج بيئةً من الوضوح والثقة والإبداع، وتجعل الأداء أكثر دقةً واستدامةً وعدالةً.

إنّ المفهوم الشامل للمساءلة والشفافية في إدارة الأداء الوظيفي يقوم على مبدأٍ بسيطٍ لكنه عميق: أن يعرف كل طرفٍ الحقيقة كاملةً، وأن يتحمل مسؤوليته بصدقٍ، وأن تُبنى العلاقة بين القائد والموظف على النور لا على الظلال. فالمساءلة هي القانون الأخلاقي الذي يحكم السلوك، والشفافية هي الضوء الذي يُظهر أثره، وبدونهما لا يمكن الحديث عن إدارة أداءٍ نزيهةٍ أو بيئة عملٍ عادلةٍ أو ثقافةٍ مؤسسيةٍ مستدامةٍ. ومن هنا، يمكن القول إنّ المساءلة والشفافية ليستا جزءًا من إدارة الأداء، بل هما قلبها النابض وروحها المتجددة، وبهما فقط يتحول الأداء من رقمٍ يُكتب في تقرير إلى قيمةٍ تُصنع في الوعي، ومن نظامٍ يُفرض من الأعلى إلى ثقافةٍ تُمارس من الداخل، ومن سلطةٍ تُخيف إلى إدارةٍ تُلهم.


2️⃣ ⚖️ العلاقة التكاملية بين المساءلة والشفافية

حين نتأمل العلاقة بين المساءلة والشفافية في منظومة إدارة الأداء الوظيفي، نجد أننا أمام ثنائيةٍ وجوديةٍ تُشكّل جوهر العدالة الإدارية، فلا يمكن لأي نظامٍ أن يبلغ النضج المؤسسي دون أن يتحقق فيه التكامل العميق بين هذين المبدأين، لأن المساءلة بلا شفافية تتحول إلى سلاحٍ إداريٍّ يزرع الخوف ويقتل الثقة، بينما الشفافية بلا مساءلة تتحول إلى انكشافٍ سطحيٍّ يُفرّغ الإدارة من قيمتها الرقابية. ولذلك فإن التكامل بينهما هو الذي يجعل الأداء فعلًا واعيًا ومسؤولًا، ويُحوّل الرقابة إلى ثقة، والمحاسبة إلى تطوير، والمعلومة إلى وعيٍ يُنير القرار ويمنع الانحراف.
تعمل المساءلة والشفافية معًا كما يعمل القلب والرئتان في الجسد المؤسسي؛ فالقلب يضخ المسؤولية في شرايين العمل، والرئتان تُزوّدها بالأوكسجين المعرفي الذي يُبقيها حيةً ونقيةً وقادرةً على النمو. فإذا غابت المساءلة ماتت روح الانضباط، وإذا غابت الشفافية اختنق الوعي المؤسسي بالشكوك والإشاعات، وحين يلتقيان تنبض المؤسسة بالحياة، ويصبح الأداء نظامًا حيًا يُصحح نفسه بنفسه دون الحاجة الدائمة إلى تدخّلٍ خارجيٍّ أو أوامر فوقية.
إنّ العلاقة بين المساءلة والشفافية ليست علاقة ترتيبٍ أو تبعيةٍ بل علاقة تفاعلٍ دائريٍّ دائم، فالمساءلة تُولّد الحاجة إلى الشفافية، لأن الإنسان لا يمكن أن يُحاسب إلا على ما هو واضحٌ ومُعلنٌ ومُوثّق، والشفافية تُنتج المساءلة لأنها تكشف ما كان خفيًا وتجعل المسؤولية ممكنةً وقابلةً للقياس. فكلما ارتفع مستوى الشفافية في المؤسسة، أصبحت المساءلة أكثر عدالةً وفاعليةً، وكلما نُزعت الشفافية تراجعت المساءلة إلى دائرة الظنون والاجتهادات الشخصية. ولهذا فإن كل مؤسسةٍ لا تُمارس الشفافية تُضعف آلية المساءلة فيها مهما كانت قوانينها صارمة، لأن المساءلة التي تُبنى على المجهول لا يمكن أن تُنتج عدلًا، بل تُنتج خوفًا وريبةً وتكتمًا.
لقد أثبتت التجارب المؤسسية الناجحة، سواء في النماذج الخليجية أو العالمية، أن المساءلة الفاعلة لا تبدأ بالعقوبة بل بالوضوح، وأن الشفافية ليست خطرًا يُهدد الإدارة بل هي درعها الوقائيّ. ففي دولة الإمارات مثلًا، تُمارس المساءلة في منظومة الأداء الحكومي من خلال لجان مراجعة النتائج في بيئةٍ شديدة الشفافية، حيث تُعرض المؤشرات بوضوحٍ أمام الجميع دون إخفاءٍ أو تبريرٍ، ويتم تحليل الانحرافات بمنهجٍ علميٍّ لا شخصيٍّ، فيتحول الخطأ إلى فرصةٍ للتعلّم لا إلى وصمةٍ للعقوبة. وفي المملكة العربية السعودية، عزّزت وزارة الموارد البشرية هذا التكامل من خلال الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي الذي ربط المساءلة بحقّ الاطلاع والشفافية في المعايير، بحيث لا يجوز تقييم موظفٍ على أساسٍ لم يُبلّغ به أو لم يُشرح له مسبقًا، وهذا بحد ذاته ترجمة عملية للعلاقة التكاملية بين المبدأين.
وتكمن عبقرية هذا التكامل في كونه يُعيد بناء العلاقة بين الإدارة والعاملين على أساس الثقة بدل الخوف، لأن الشفافية تُلغي عنصر المفاجأة، وتجعل التقييم عمليةً متوقعةً ومفهومةً يمكن الاستعداد لها، بينما المساءلة تضمن أن هذا الوضوح لا يُستخدم للزينة بل يُترجم إلى التزامٍ حقيقيٍّ بالنتائج. فالمؤسسة التي تُمارس الشفافية دون مساءلة تُنتج "ثرثرةً إدارية" تُغرقها في الاجتماعات والتقارير دون أثرٍ ملموس، أما المؤسسة التي تُمارس المساءلة دون شفافية فتُنتج "بيروقراطيةً قمعية" تُصادر الإبداع وتكبت المبادرة. وحدها المؤسسة التي توازن بين الاثنين تُنتج بيئةً ناضجةً تُحفّز على الأداء وتُربي على المسؤولية.
إنّ التكامل بين المساءلة والشفافية يخلق ما يُعرف بـ "البيئة التنظيمية النزيهة"، وهي البيئة التي تُدار فيها القرارات كما تُدار العدالة في القضاء، فالقضية تُعرض علنًا، والأدلة تُفحص أمام الجميع، والحكم يُبنى على حقائق لا على انطباعات، وهذا هو جوهر العدالة المؤسسية. ولعلّ أجمل ما في هذا النموذج أن المساءلة فيه لا تُفرض بالقوة بل تُمارس بالإيمان، لأن الموظف في هذه البيئة لا ينتظر أن يُسأل ليُجيب، بل يُسائل نفسه قبل أن يُسأل، فالشفافية المستمرة تُحوّل المساءلة من عمليةٍ خارجيةٍ إلى ثقافةٍ داخليةٍ، ومن أداةٍ للرقابة إلى محرّكٍ للتحسين الذاتي.
ولأن العلاقة بين المساءلة والشفافية علاقة ديناميكيةٌ لا ثابتة، فإنها تحتاج إلى أدواتٍ تنظّمها وتُبقيها متوازنة، من أهمها وضوح الأدوار، وتوثيق العمليات، وإدارة البيانات، وتحديد معايير الإفصاح، وتفعيل قنوات الاتصال الداخلي، وتبنّي سياسات "البيانات المفتوحة" على المستوى الحكومي والمؤسسي. فحين تكون المعلومات دقيقةً ومحدثةً ومُتاحةً بوضوحٍ لكل المعنيين، يصبح الخطأ قابلًا للاكتشاف المبكر، وتصبح المساءلة أداةً للتعلم المستمر لا وسيلةً للتهديد.
على الصعيد النفسي، يُنتج التكامل بين المساءلة والشفافية ما يُسمّى بـ الأمان المهني النفسي (Psychological Safety)، وهو شعور الموظف بأنه يستطيع أن يتحدث بصراحةٍ عن التحديات والأخطاء دون خوفٍ من العقوبة ما دام ذلك في إطار الإصلاح، وأنّ النظام سيُعامله بعدالةٍ لأن الحقائق واضحةٌ ومتاحة. فالمساءلة في هذه البيئة تُمارس على أساس الحقائق لا الانطباعات، والشفافية تُصبح مظلة الحماية للضمير المهني، ومن ثمّ ترتفع مستويات الثقة والانتماء والمبادرة والإبداع.
أما على الصعيد القيادي، فإن القائد الذي يُجسّد المساءلة والشفافية معًا يُصبح نموذجًا للاتزان الإداري، لأنه لا يخفي الحقيقة ولا يتهرب من المسؤولية، بل يواجه الواقع بوضوحٍ ويعترف بالأخطاء ويتعلم منها. ومن هنا، فإنّ القائد الذي يتبنّى ثقافة الشفافية يُحوّل فريقه إلى مجتمع تعلمٍ متبادلٍ لا إلى تسلسلٍ سلطويٍّ مغلقٍ، ويُحوّل تقارير الأداء إلى أدوات تطويرٍ لا إلى وثائق إدانةٍ، ويُحوّل الاجتماعات إلى مساحات وعيٍ لا إلى جلسات توبيخٍ. إنه يُمارس القيادة بالقدوة لا بالتحكم، وبالوضوح لا بالغموض، وبالمساءلة المشتركة لا بالمحاسبة الانتقائية.
في المقابل، فإن غياب هذا التكامل يُنتج مظاهر خطيرة مثل تضارب التقارير، وانخفاض الثقة في الإدارة، وتفشي ثقافة التبرير بدل التحسين، وانتشار ما يُعرف بـ "الظلال التنظيمية" حيث تُدار الأمور في الخفاء وتُخفى الأخطاء خوفًا من العقوبة. وهنا تموت روح المؤسسة، لأن الغموض يقتل الوعي، والخوف يُجمّد الإبداع، وتتحول التقارير إلى أوراقٍ بلا قيمةٍ والأداء إلى أرقامٍ بلا معنى.
ولذلك فإن التكامل بين المساءلة والشفافية ليس ترفًا تنظيميًا بل ضرورة وجودية لضمان بقاء المؤسسة صحيّة ومزدهرة، لأن المساءلة تُنقّي السلوك من الانحراف، والشفافية تُنقّي النظام من الغموض، واتحادهما يُنتج بيئةً مؤسسيةً نزيهةً تتغذى على الصدق والعدالة وتُثمر ثقةً مستدامةً بين جميع الأطراف. ومن ثمّ، يمكن القول إن المساءلة والشفافية هما "المحوران المتقاطعان" في هندسة إدارة الأداء: الأول يُحدّد الاتجاه الرأسي للعدالة، والثاني يُرسم الأفق الأفقي للثقة، وعند نقطة التقاطع بينهما يولد التميّز المؤسسي الحقيقي.
فكل مؤسسةٍ تُريد أن تُحقق استدامة الأداء لا يكفي أن تضع نظامًا للقياس أو مؤشراتٍ للنتائج، بل يجب أن تُنشئ نظامًا متكاملًا للمساءلة الشفافة، يُحدّد المسؤوليات بدقة، ويُعلن المعايير بوضوح، ويُوثّق القرارات بشكلٍ متاحٍ للمراجعة، ويُحفّز الأفراد على المشاركة في تقييم أدائهم دون خوفٍ أو مواربةٍ. عندها فقط، يتحول نظام الأداء من جهازٍ رقابيٍّ إلى منظومةٍ معرفيةٍ تُنتج العدالة، ويصبح الموظف شريكًا في صناعة القرار لا متلقيًا له، وتصبح القيادة راعيةً للوعي لا حارسةً للأخطاء.
هكذا تتكامل المساءلة والشفافية في إدارة الأداء لتصنع بيئةً من الصدق الإداري الذي لا يحتاج إلى شعاراتٍ لأنه يُمارس يوميًا في القرارات والسلوكيات والتقارير، بيئةٍ تدفع الناس إلى العمل بإخلاصٍ لا خوفٍ، وتُعلّمهم أن الحقيقة لا تُخيف بل تُحرّر، وأنّ الإدارة الناضجة لا تُخفي أخطاءها بل تُواجهها لتتعلم منها، وأنّ الشفافية حين تُقرن بالمساءلة تُعيد إلى الإدارة معناها الإنساني الأصيل: خدمة الحق، وصناعة الثقة، وتحقيق العدل.


3️⃣ 🧭 مستويات المساءلة في منظومة الأداء

حين ننتقل إلى الحديث عن مستويات المساءلة في منظومة إدارة الأداء الوظيفي، فإننا في الحقيقة لا نتحدث عن درجاتٍ في هرمٍ إداري فحسب، بل عن طبقاتٍ من الوعي والمسؤولية تتوزع داخل جسد المؤسسة، لتضمن أن تكون العدالة شاملةً، وأن لا يبقى أي سلوكٍ أو قرارٍ أو نتيجةٍ بلا صاحبٍ يُسأل عنها ويُحاسب عليها بإنصافٍ ووضوح. فالمساءلة في جوهرها ليست ممارسةً رقابيةً فقط، بل نظام توازنٍ دقيقٍ يربط بين السلطة والمسؤولية، ويُوزّع الأدوار بين المستويات المختلفة بطريقةٍ تجعل كل طرفٍ مسؤولًا عن قراراته ومخرجاته دون أن يُلغى دوره أو يُنتزع حقه في الدفاع والشرح والتفسير. وهذا الفهم هو ما يجعل المساءلة في إدارة الأداء ممارسةً ذكيةً لا ميكانيكيةً، قائمةً على الإدراك بأن العدالة لا تتحقق بالسيطرة بل بالوضوح، ولا تُفرض بالتهديد بل تُبنى بالثقة.
إنّ المنظور الحديث للمساءلة يرى أنها ليست خطًا واحدًا يبدأ من الأعلى وينتهي في الأدنى، بل منظومة متعددة المستويات تتفاعل فيها المسؤوليات في الاتجاهات الثلاثة: من الأعلى إلى الأدنى (المساءلة الرأسية)، ومن الأدنى إلى الأعلى (المساءلة الصاعدة)، وبين الأقران والزملاء (المساءلة الأفقية)، وصولًا إلى المستوى الأوسع وهو المساءلة المؤسسية أمام المجتمع وأصحاب المصلحة (المساءلة الخارجية). هذه المستويات لا تعمل منفصلةً، بل تتكامل في شبكةٍ متوازنةٍ تجعل الأداء عمليةً شموليةً تتوزع فيها المسؤوليات كما تتوزع الأدوار في الجسد البشري، فكل عضوٍ يؤدي وظيفةً محددةً لكنه في الوقت ذاته مسؤولٌ عن سلامة الكل.
في المستوى الأول تأتي المساءلة الفردية الذاتية، وهي الأساس الذي تُبنى عليه جميع المستويات الأخرى. وتعني أن يكون الفرد مسؤولًا عن نفسه، عن أفعاله، عن التزامه، عن أدائه، وعن قراراته اليومية في إطار مهامه الوظيفية. إنها ذلك الوعي الداخلي الذي يجعل الموظف لا ينتظر من يراقبه أو يُحاسبه، لأنه يُدرك أن الأداء قيمةٌ أخلاقيةٌ قبل أن يكون مطلبًا إداريًا. فالموظف الذي يُمارس المساءلة الذاتية هو الذي يقيس نفسه قبل أن يُقاس، ويُصحّح مساره قبل أن يُطلب منه التصحيح، ويعتبر النجاح مسؤوليةً لا مجدًا شخصيًا. هذه المساءلة الذاتية هي جوهر النضج المهني، وهي التي تُحوّل نظام الأداء من جهاز رقابي إلى ثقافةٍ أخلاقيةٍ، لأن الموظف الذي يُحاسب نفسه يُغني المؤسسة عن مئات الإجراءات الرقابية. وقد أكدت دراسات علم النفس التنظيمي أن المؤسسات ذات الوعي الذاتي العالي تقلّ فيها الأخطاء والانحرافات بنسبةٍ تتجاوز 40%، لأن الرقابة الداخلية – أي الضمير المهني – أقوى من أي نظامٍ خارجيٍّ مهما كان متطورًا.
أما المستوى الثاني فهو المساءلة الإدارية المباشرة، وهي العلاقة التنظيمية بين الرئيس المباشر والموظف، والتي تمثل العمود الفقري لإدارة الأداء. ففي هذا المستوى تتجسد فلسفة العدالة التنفيذية، حيث يُسأل الموظف عن تحقيق أهدافه، ويُراجع الرئيس مدى التزامه بالخطة، وتُقدّم التغذية الراجعة البنّاءة، ويُعالج القصور قبل أن يتحول إلى فشلٍ مؤسسيٍّ. والمساءلة في هذا المستوى يجب أن تُمارس بمنهجٍ مهنيٍّ لا شخصيٍّ، لأن الخطر الأكبر في هذا النوع من المساءلة هو أن تتحول إلى أداةٍ للعقاب أو لتصفية الحسابات، بدل أن تكون أداةً للتطوير. ومن هنا تأتي أهمية تدريب القادة على مهارات المساءلة الإيجابية التي تُركّز على الحقائق لا الأشخاص، وعلى السلوك لا النوايا، وعلى الحلول لا اللوم، لأن الهدف من المساءلة الإدارية ليس إثبات الخطأ بل منع تكراره، وليس تحميل المسؤولية بل تعزيز القدرة على تحمّلها.
وفي المستوى الثالث نجد المساءلة الأفقية أو الزملائية، وهي المساءلة التي تتم بين أعضاء الفريق الواحد أو بين الإدارات المتقاطعة، وتُعدّ من أكثر المستويات تطورًا في المؤسسات الحديثة، لأنها تُحوّل المساءلة من علاقة سلطةٍ إلى علاقة التزامٍ جماعيٍّ، وتُكرّس ثقافة “العمل كفريقٍ واحدٍ”. ففي هذا المستوى يُحاسب الزملاء بعضهم بعضًا في إطارٍ من الاحترام والشفافية والهدف المشترك، فيُذكّر أحدهم الآخر بمعايير الأداء، ويُساعده على تصحيح المسار قبل أن يتدخل النظام الرسمي، وبذلك تتحول المؤسسة إلى مجتمع تعلمٍ مستمرٍ يمارس الرقابة الذاتية الجماعية. هذه المساءلة الأفقية تحتاج إلى ثقافةٍ عاليةٍ من النضج المؤسسي، لأن نجاحها مرهونٌ بقدرة الأفراد على الحوار البنّاء وتقبّل النقد، وبوجود بيئةٍ من الأمان النفسي لا يخاف فيها أحدٌ من قول الحقيقة. وهي من أقوى مؤشرات نضج ثقافة الأداء، لأن المؤسسات التي تصل إلى هذا المستوى لا تحتاج إلى مراقبةٍ دائمةٍ من الخارج، بل تُصحّح نفسها بنفسها.
أما المستوى الرابع فهو المساءلة الصاعدة، وهي التي يُساءل فيها المرؤوسون قادتهم، وهي من أعلى أشكال النضج الإداري، لأنها تعكس الثقة بين الطرفين وتُحوّل القيادة من سلطةٍ مغلقةٍ إلى مسؤوليةٍ شفافةٍ. ففي هذا المستوى، يُتاح للموظفين أن يُقيّموا أداء قياداتهم من خلال أدواتٍ معتمدةٍ كالاستبيانات الدورية، والمقاييس السلوكية، ومؤشرات الرضا، وتُراجع هذه البيانات بموضوعيةٍ لا للانتقاص بل للتحسين. والمسؤول الذي يُرحّب بالمساءلة من الأسفل يُثبت أنه قائدٌ واثقٌ من نفسه، وأنه لا يخشى الوضوح بل يُؤمن بأن القيادة مسؤوليةٌ أخلاقيةٌ قبل أن تكون امتيازًا وظيفيًا. وقد أثبتت التجارب الإدارية في مؤسساتٍ حكوميةٍ خليجيةٍ رائدةٍ، أن اعتماد المساءلة الصاعدة ساهم في تعزيز الثقة وتقليل الشكاوى الوظيفية بنسبةٍ كبيرةٍ، لأنها منحت الموظفين صوتًا مسموعًا وأعادت التوازن بين الطرفين.
ويأتي في قمة الهرم المستوى الخامس: المساءلة المؤسسية الخارجية، وهي المساءلة التي تُمارس على المؤسسة ككل من قِبل جهات الرقابة العليا، أو المجتمع، أو أصحاب المصلحة، أو الهيئات المهنية والتنظيمية. في هذا المستوى لا يُسأل الفرد بل تُسأل المنظومة عن أدائها، وعن التزامها بالقوانين، وعن شفافية قراراتها، وعن كفاءتها في إدارة الموارد، وعن مدى تحقيقها للأهداف الوطنية والاستراتيجية. وهي المساءلة التي تُترجم مصداقية المؤسسة أمام بيئتها، لأن المؤسسة التي تُخفي نتائجها أو تتهرّب من المساءلة العامة تفقد مشروعيتها الأخلاقية حتى وإن نجحت رقميًا. ومن هنا جاء مبدأ “الإفصاح المؤسسي” في الحوكمة الحديثة، الذي يُلزم الجهات بنشر تقارير أدائها وإنجازاتها وانحرافاتها على الملأ، ليُحاسبها المجتمع بمقدار وعيه وثقافته المؤسسية. وهذا المستوى هو الذي يربط إدارة الأداء بالحوكمة الشاملة، لأنه يضمن أن لا تكون المساءلة محصورةً داخل الجدران الإدارية بل ممتدةً إلى أصحاب المصلحة كافة، فيتحقق ما يُعرف بـ الشفافية الاجتماعية للمؤسسة.
إنّ هذه المستويات الخمسة للمساءلة تشكل معًا منظومةً متكاملةً تضمن العدالة من الداخل إلى الخارج، وتربط الأداء بالمسؤولية عبر طبقاتٍ مترابطةٍ تبدأ من الذات وتنتهي بالمجتمع. ومن الخطأ أن تُختزل المساءلة في المستوى الرابع أو الخامس فقط كما يحدث في المؤسسات التقليدية، لأنها بذلك تتحول إلى ممارسةٍ فوقيةٍ تُفقد معناها الأخلاقي، بينما المساءلة الناضجة تبدأ من الداخل، من الضمير الفردي ومن التزام الفريق ومن التفاعل الصادق بين القائد والمرؤوس. وحين تُفعّل كل المستويات بشكلٍ متوازنٍ، فإن المؤسسة تُصبح بيئةً واعيةً تُدير نفسها بنفسها، لأن كل فردٍ فيها يعرف ما يُنتظر منه وما يجب عليه وما يحق له، ويُدرك أن النظام لا يستهدفه بل يحميه، وأن المساءلة ليست نهايةً بل بدايةً لتحسين الأداء وتطوير الذات وبناء الثقة.
إنّ بناء مستويات المساءلة بهذا الشكل المتكامل يُحوّل إدارة الأداء إلى منظومةٍ نزيهةٍ تتسم بالشفافية والوضوح، ويجعل العدالة الإدارية قابلةً للقياس والمراجعة. كما أنه يُعيد تشكيل القيادة لتكون قيادةً تشاركيةً تقوم على الشفافية المتبادلة، وتُربي جيلًا من الموظفين الذين لا ينتظرون الرقابة بل يصنعونها في سلوكهم اليومي. وهكذا تتحول المساءلة إلى وعيٍ حيٍّ متصلٍ يُغذّي الأداء ويُصحّحه باستمرار، وتُصبح المؤسسة بمثابة كائنٍ إداريٍّ يمتلك جهازًا مناعيًا ذاتيًا يحميها من الأخطاء والانحرافات، دون حاجةٍ إلى عقوباتٍ أو تدخلاتٍ فوقيةٍ مستمرة.
ولذلك يمكن القول إنّ نضج منظومة الأداء يُقاس بمدى تكامل مستويات المساءلة فيها، لا بعدد تقاريرها أو شدة رقابتها، لأن المؤسسة الناضجة ليست تلك التي تُحاسب كثيرًا بل التي لا تحتاج إلى محاسبةٍ متكررةٍ بفضل وعي أفرادها وعدالة نظامها. فالمساءلة الناضجة هي التي تُربّي الانضباط لا الخوف، وتُنشئ العدالة لا العقوبة، وتبني الثقة بدل التوتر، وهي التي تُحوّل كل خطأٍ إلى درسٍ، وكل انحرافٍ إلى فرصةٍ، وكل نتيجةٍ إلى وعيٍ جديدٍ يُقوّي المؤسسة ويُقرّبها خطوةً من التميز والاستدامة.


4️⃣ 🪞 أدوات الشفافية في بيئة العمل

حين نتحدث عن أدوات الشفافية في بيئة العمل، فإننا نتحدث عن الوسائل التي تُحوّل القيم إلى ممارسات، والمبادئ إلى إجراءات، والأخلاق إلى أنظمةٍ ملموسةٍ قابلةٍ للقياس والملاحظة. فالشفافية ليست شعورًا عامًا بالنزاهة، بل منظومة متكاملة من الأدوات الإدارية والتقنية والسلوكية التي تُنشئ فضاءً من الوضوح والثقة داخل المؤسسة، وتضمن أن تكون المعلومات متاحة، والقرارات مبررة، والمسؤوليات محددة، والنتائج قابلة للتحقق. وهذه الأدوات ليست محصورةً في القنوات الإعلامية أو الخطابات الرسمية، بل تمتد إلى كل جزئيةٍ في إدارة الأداء، من تحديد الأهداف إلى التقييم إلى التغذية الراجعة إلى تقارير التحسين، فهي بمثابة الأوعية التي تنقل الحقيقة عبر مستويات التنظيم دون تحريفٍ أو إخفاء.
إنّ الشفافية لكي تُمارس تحتاج إلى أدواتٍ فاعلةٍ تُزيل الغموض وتُسهّل الوصول إلى المعلومات وتُفسّر القرارات وتُبرر النتائج. ويمكن تصنيف أدوات الشفافية في بيئة العمل إلى أربعة محاورٍ أساسيةٍ مترابطة: أدوات الاتصال والإفصاح، وأدوات التوثيق والتحليل، وأدوات المشاركة والمساءلة، وأدوات التقنية والتحول الرقمي. وكل محورٍ منها يُكمّل الآخر ليُنتج شبكةً شفافةً من العلاقات الإدارية التي تُحافظ على الثقة وتُعزّز الوعي وتمنع الانحراف المؤسسي.

فأول أدوات الشفافية وأكثرها أهميةً هي أدوات الاتصال والإفصاح، إذ لا يمكن أن تُبنى الثقة في الظل، ولا أن تُمارس العدالة في الصمت. فالشفافية تبدأ من الكلمة، من البيان الصادق والواضح الذي يشرح ويُفسّر ويُجيب. ولهذا تُعدّ اجتماعات الأداء الدورية، وتقارير المتابعة، والنشرات الداخلية، والمنصات المؤسسية للإفصاح من أهم أدوات الاتصال الشفاف. فحين تُقدّم المؤسسة تقاريرها بوضوحٍ للعاملين، وتُبيّن أهدافها ومؤشراتها ومخرجاتها دون غموض، فإنها تُعطي رسالةً ضمنيةً بأن لا شيء يُخفى، وأنّ الجميع شُركاء في الوعي لا متلقّين للتوجيه فقط. ولعلّ أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو النموذج الإماراتي الذي اعتمد في الحكومة الاتحادية "لوحات الأداء المفتوحة" التي تُتيح للموظفين والمسؤولين رؤية مؤشرات الأداء لحظيًا، مما جعل الشفافية حالة يومية لا موسمًا سنويًا. وكذلك في المملكة العربية السعودية، أطلقت العديد من الجهات الحكومية بواباتٍ رقميةٍ لنتائج الأداء، بحيث يستطيع كل موظفٍ الاطلاع على أهدافه ومستوى تقدّمه في أي وقتٍ، مما خلق ثقافة "الوضوح المحفّز" الذي يُضاعف الوعي والمسؤولية.

أما المحور الثاني فهو أدوات التوثيق والتحليل، فالشفافية الحقيقية لا تقوم على الخطاب وحده، بل على الدليل والبيان. فالتوثيق هو الذي يمنح الشفافية قوتها، لأنّ المعلومة غير الموثّقة تتحوّل إلى رأيٍ، والرأي لا يُحاسب عليه أحد. ولهذا تُعدّ نظم إدارة الوثائق وتقارير الأداء والمراجعة الدورية ومذكرات الاجتماعات ومحاضر جلسات التقييم أدواتٍ جوهريةً لضمان الشفافية. فحين تُوثّق المؤسسة كل مرحلةٍ من مراحل الأداء وتُحفظ البيانات بطريقةٍ منظّمةٍ ومؤتمتةٍ، فإنها تُغلق الباب أمام التأويلات والانحيازات، لأنّ القرار يصبح مبنيًا على وقائعٍ لا على انطباعات. كما أنّ استخدام أدوات التحليل الإحصائي والبياني مثل لوحات البيانات التفاعلية (Dashboards) وأنظمة الذكاء التحليلي يجعل الشفافية عمليةً رياضيةً قابلةً للفحص المستمر، لا حالةً معنويةً تعتمد على النوايا. إنّ الشفافية التحليلية هي التي تُحوّل البيانات إلى بصيرة، وتمنح الإدارة القدرة على اتخاذ قراراتٍ تستند إلى الحقائق لا إلى التخمين.

ويأتي المحور الثالث وهو أدوات المشاركة والمساءلة، إذ لا معنى للشفافية إن لم تُصاحبها مشاركةٌ تُحوّلها إلى حوارٍ تفاعليٍّ بين الإدارة والعاملين. فالإفصاح من طرفٍ واحدٍ يُسمّى إعلامًا، أما الشفافية الحقيقية فهي تلك التي تُفتح فيها قنوات المشاركة ليكون كل موظفٍ جزءًا من عملية الفهم والتطوير. وتشمل أدوات المشاركة آليات الاستطلاعات الدورية لقياس الرضا والوعي بالأداء، والمجموعات الحوارية (Focus Groups)، واجتماعات التغذية الراجعة الثنائية، والمنتديات المؤسسية التي تُناقش مؤشرات الأداء. كما تُعدّ صناديق الملاحظات الرقمية وخطوط الاتصال الداخلي الآمنة أدواتٍ حيويةٍ لتفعيل الشفافية التشاركية، لأنها تمنح الموظف مساحةً آمنةً للتعبير والمساءلة دون خوفٍ أو حرج. فالشفافية لا تعني فقط أن تُظهر الإدارة بياناتها، بل أن تسمح للآخرين بطرح أسئلتهم عليها، لأن السؤال هو أعلى درجات الوعي، والمشاركة في المساءلة هي ذروة الشفافية.

أما المحور الرابع فهو أدوات التقنية والتحول الرقمي، التي أصبحت اليوم العمود الفقري للشفافية المؤسسية في عصر البيانات. فالتقنية لم تُعد وسيلةً مساعدةً بل أصبحت إطارًا وجوديًا لعمل المؤسسات الحديثة. فأنظمة إدارة الأداء الإلكترونية (EPMS) ومنصّات الموارد البشرية الذكية (HRMS) وقواعد البيانات المشتركة وأنظمة التتبع الزمني للمشروعات وأنظمة تحليل البيانات الضخمة كلها أدوات تجعل الشفافية قابلةً للتطبيق الفوري. ففي النظام التقليدي كانت المعلومات تُخزّن في الأدراج وتُتداول شفهيًا بين المسؤولين، أما اليوم فهي متاحةٌ للجميع ضمن صلاحياتهم المحددة، ويمكن التحقق منها لحظيًا، مما يجعل الشفافية حالة تشغيلٍ يوميةٍ لا قرارًا إداريًا. كما تُسهم تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات واكتشاف الأنماط غير الظاهرة والانحرافات السلوكية في الأداء، مما يُضيف بعدًا جديدًا للشفافية التحليلية التي لا تكتفي بما يُقال بل تبحث في ما لا يُقال.

وإلى جانب هذه الأدوات الأربع الكبرى، توجد أدواتٌ مساندةٌ تُثري بيئة الشفافية مثل السياسات المكتوبة التي تُنظّم عملية الإفصاح وتُحدّد معايير السرية وحدود النشر، وأدلة الإجراءات التي تُعرّف الموظفين بحقوقهم في الوصول إلى المعلومات، وبرامج التدريب التي تُنمّي مهارة التواصل الواضح والكتابة الإدارية الرصينة، فالكلمة نفسها أداة شفافيةٍ حين تُكتب بصدقٍ ووضوحٍ واحترام. كما تُعدّ ثقافة التوثيق نفسها أداةً نفسيةً عميقةً للشفافية، إذ تُحوّل السلوك المهني إلى عادةٍ توثيقيةٍ تحفظ الحقوق وتُجنّب المؤسسة الأزمات الناتجة عن النسيان أو التضارب في الأقوال.

ويُخطئ من يظن أن الشفافية تتحقق فقط بنشر البيانات، لأنّ البيانات المجردة قد تخلق التباسًا أكبر إذا لم تُقدّم معها التفسيرات الصحيحة. ولهذا فإنّ من أهم أدوات الشفافية الحديثة ما يُعرف بـ "التواصل التفسيري" (Interpretive Communication)، وهو أن تُقدّم المؤسسة الحقائق مصحوبةً بالسياق، لتمنع سوء الفهم والتأويل. فمثلاً حين تُنشر نتائج الأداء يجب أن تُبيّن الأسباب والعوامل المؤثرة والتحديات والفرص، لأن المعلومة من دون تفسيرٍ قد تتحول إلى أداة تشويهٍ بدل أن تكون أداة وعيٍ. وهذا النوع من التواصل هو ما يميز المؤسسات الناضجة التي تُدرك أن الشفافية لا تعني كشف الأرقام فقط بل رواية الحقيقة كاملةً بموضوعيةٍ ومسؤوليةٍ.

ومن أدوات الشفافية كذلك إدارة الاجتماعات المفتوحة، وهي الاجتماعات التي يُسمح فيها بمشاركة الأفكار والتحديات على الطاولة دون خوفٍ من المحاسبة السلبية، فالإدارة التي تُشجّع الحوار العلني تُغلق الباب أمام الشائعات وتُحوّل الاجتماعات إلى منصّاتٍ للتعلّم الجماعي. وتُضاف إليها أداة التغذية الراجعة المستمرة التي تجعل التواصل بين القائد والموظف مفتوحًا على مدار العام، فلا يُختزل الحوار في نهاية الدورة التقييمية، بل يصبح مسارًا دائمًا من التوجيه والمراجعة، مما يُنتج نوعًا من "الشفافية الزمنية" التي تُرافق الأداء لحظة بلحظة.

إنّ كل هذه الأدوات لا تُثمر إلا إذا كانت مدعومةً ببيئةٍ ثقافيةٍ تُقدّر الحقيقة ولا تُعاقب الصراحة، لأن الأدوات وحدها لا تصنع الشفافية ما لم يتبنّها الإنسان بقناعةٍ داخليةٍ. فالمؤسسة قد تمتلك أفضل الأنظمة والمنصات، لكنها تفشل في تحقيق الشفافية إذا كان موظفوها يخشون التعبير أو إذا كانت القيادة تُمارس الإخفاء الانتقائي للمعلومات. لذلك فإنّ أعظم أدوات الشفافية ليست تقنيةً ولا إجرائيةً، بل هي القدوة القيادية، فحين يتحدث القائد بصراحةٍ، ويعترف بأخطائه، ويشرح قراراته، ويُقدّم البيانات بنفسه، فإنه يُرسل رسالةً أقوى من أي نظامٍ إلكترونيٍّ، مفادها أن الصدق جزءٌ من هوية المؤسسة وليس خيارًا ظرفيًا.

ومن هنا يمكن القول إنّ أدوات الشفافية ليست مجرد أدواتٍ إداريةٍ، بل هي أدوات لبناء الإنسان الواعي، لأنها تُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمعلومة، وتجعل المعرفة ملكًا للجميع، وتُعيد توزيع القوة في المؤسسة من القلة التي تعرف إلى الجماعة التي تفهم. وعندما تُفهم المعلومة لا يعود الخوف ضروريًا كوسيلة ضبط، لأن الوعي يصبح هو الحارس الحقيقي للنظام. فالموظف الذي يعرف السبب وراء القرار لا يُقاومه بل يُنفّذه بإخلاص، والقائد الذي يُفصِح بوضوحٍ لا يُثير القلق بل يُعزّز الولاء، والمجتمع الذي يرى الحقائق بعينٍ مفتوحةٍ لا يُصدّق الشائعات بل يُشارك في البناء. تلك هي الغاية الكبرى من أدوات الشفافية: أن تجعل الوعي هو نظام الرقابة الأول، وأن يكون النور هو الحارس الأمين لكل أداءٍ نزيهٍ ومسؤولٍ ومستدامٍ.


5️⃣ 🧩 البنية المؤسسية للمساءلة – الأدوار والمسؤوليات

حين نتحدث عن البنية المؤسسية للمساءلة في إدارة الأداء الوظيفي، فإننا نتحدث عن الهيكل الخفي الذي يمنح العدالة شكلها التشغيلي ويمنح الشفافية طريقها العملي، لأن المساءلة ليست نشاطًا عرضيًا بل نظامًا متكاملًا من الأدوار والمسؤوليات التي تُوزَّع داخل المؤسسة وفق منطقٍ دقيقٍ يضمن ألا تتركز السلطة في يدٍ واحدةٍ ولا تُلقى المسؤولية على كتفٍ واحدٍ، بل تتوزع المسؤولية كما يتوزع الضوء في الزجاج؛ كل طرفٍ يحمل جزءًا منه فيضيء ما يليه. والمسؤولية في المنظور الحوكمي الحديث ليست عبئًا بل أمانة، والسلطة ليست امتيازًا بل تكليف، ومن ثمّ فإن تصميم بنية المساءلة المؤسسية يمثل حجر الأساس لأي نظامٍ يُراد له أن يكون نزيهًا وفعّالًا ومستدامًا، لأنه النظام الذي يُحدّد من يُخطط، ومن يُنفّذ، ومن يُراقب، ومن يُقيّم، ومن يُحاسب، ومن يُراجع الحساب نفسه بعد انتهاء الدورة، بحيث لا تبقى أي فجوةٍ يمكن أن تُستغل أو يُلقى فيها الخطأ دون مسؤولٍ واضح.

إنّ أول مقومات البنية المؤسسية للمساءلة هو وضوح الهيكل التنظيمي، فالمؤسسة التي لا تعرف حدود الأدوار لا يمكن أن تُقيم عدالةً في الأداء. فوضوح الهيكل يعني أن تُحدَّد الخطوط الفاصلة بين من يملك سلطة القرار ومن يملك سلطة التنفيذ ومن يملك سلطة المراجعة ومن يملك سلطة الاعتماد، لأن الخلط بين هذه المستويات يولّد ما يُعرف بـ «تعارض المصالح الحوكمية»، وهو أخطر مظاهر ضعف المساءلة في المؤسسات التقليدية، حيث يُصبح المدير هو الذي يضع الهدف ويُقيّم نتيجته ويعتمد تقريره ويُبرّره أمام الإدارة العليا، فيغيب التوازن ويُستبدل المعيار المؤسسي بالاجتهاد الشخصي. ولهذا نصّت النظم العالمية للحوكمة مثل ISO 37000 وEFQM وCIPD على ضرورة فصل خطوط السلطة عن خطوط المراجعة، بحيث تُمارس المساءلة ضمن إطارٍ من التوازن المؤسسي بين القوة والرقابة، وبين الصلاحية والمساءلة، لأنّ كل سلطةٍ بلا رقيبٍ مُفسدة، وكل رقابةٍ بلا صلاحيةٍ مُعطّلة، والميزان بينهما هو الذي يخلق العدالة الحقيقية.

ولكي تُبنى البنية المؤسسية للمساءلة على نحوٍ ناضج، لا بد من وجود توزيعٍ هرميٍّ ومنطقيٍّ للأدوار والمسؤوليات داخل دورة إدارة الأداء نفسها، بدءًا من القيادة العليا وصولًا إلى الموظف، بحيث يعرف كل طرفٍ موقعه في منظومة المساءلة ومجال سلطته وحدود دوره. فعلى قمة الهرم تأتي القيادة العليا ممثلةً في مجلس الإدارة أو الجهة التنفيذية العليا، وهي المسؤولة عن رسم الإطار الاستراتيجي العام للمساءلة ووضع السياسات والمعايير واعتماد النظم، وضمان أن تكون العدالة جزءًا من هوية المؤسسة لا مجرد بندٍ في لائحةٍ إدارية. وتُعدّ القيادة العليا الحارس القيمي للمساءلة، لأنها تُحدّد المناخ العام الذي إما أن يُشجع على الصراحة أو يُخيف منها، وإما أن يُكافئ الاعتراف أو يُعاقبه، ولذلك فإنّ مستوى نضج المساءلة في أي مؤسسةٍ يُقاس بدرجة انفتاح قيادتها على النقد والتقويم الذاتي، لأنّ القائد الذي لا يُساءل نفسه لا يمكن أن يُنشئ بيئةً يُساءل فيها الآخرون بإنصاف.

ويأتي بعد القيادة العليا المدير العام أو الرئيس التنفيذي، وهو نقطة التحوّل من السياسة إلى التنفيذ، فهو المكلّف بتحويل القيم إلى خطط، والمعايير إلى إجراءات، والتوجهات إلى مؤشرات أداءٍ واضحةٍ تُقاس وتُراجع، وهو من يتحمل مسؤولية ربط الأداء الاستراتيجي بالأداء التشغيلي، وضمان أن تكون قنوات المساءلة فعّالةً في جميع الاتجاهات. فهو يُساءل من جهةٍ أمام مجلس الإدارة عن النتائج، ويُحاسب من جهةٍ أخرى مديريه ووحداته التنفيذية عن تحقيق الأهداف، وهو بهذا المعنى نقطة التوازن المركزية في منظومة المساءلة، لأنه يجمع بين السلطة والمسؤولية في آنٍ واحدٍ، ويُعدّ أداؤه نموذجًا لما يجب أن تكون عليه بقية المستويات، فإذا مارس المساءلة بعدلٍ مارسها الآخرون، وإذا تحايل على الشفافية فتح الباب أمام الجميع للتحايل، ولهذا فإنّ الثقافة الحقيقية للمساءلة تبدأ من الرئيس التنفيذي لا من الأنظمة الإلكترونية.

ثم يأتي المستوى التنفيذي المتوسط، الذي يضمّ مديري الإدارات ورؤساء الأقسام والمشرفين، وهؤلاء هم العمود الفقري الفعلي للمساءلة اليومية، لأنهم الحلقة التي تُترجم الخطط إلى عملٍ ملموسٍ، وتحوّل الأهداف العامة إلى مؤشراتٍ فرعيةٍ، وتُقدّم التغذية الراجعة الفورية. والمسؤولية في هذا المستوى مزدوجة: فهم يُساءلون من الأعلى على النتائج، ويُحاسبون من الأسفل على القيادة العادلة والمتابعة الفاعلة. فالمساءلة هنا ليست فقط عن الأرقام بل عن السلوك القيادي ذاته، عن أسلوب إدارة الفريق، وعدالة توزيع المهام، وشفافية التواصل، ودقة التقارير. فالقائد التنفيذي المتوسط هو من يُحدّد هل تتحول المساءلة إلى ثقافةٍ إيجابيةٍ أم إلى أداة خوفٍ إداريٍّ، لأنه الأقرب إلى الموظفين والأكثر تأثيرًا في نظرتهم للنظام، فإذا فهم المساءلة على أنها تطويرٌ لا عقوبة، غيّر إدراك الفريق بأكمله، وإذا تعامل معها كأداة تهديدٍ دمّر الثقة التي بُنيت في القمم.

أما المستوى التشغيلي، الذي يضمّ الموظفين ومنفذي العمليات، فهو الميدان الحقيقي لاختبار عدالة المساءلة، لأنهم الطرف الذي يشعر بنتائجها مباشرةً في تقييماتهم وحوافزهم وترقياتهم. وهنا تظهر أهمية وضوح معايير الأداء وشفافية الأهداف ودقة المتابعة، لأنّ أي غموضٍ في هذه المكونات يُحوّل المساءلة إلى حالةٍ من الظلم الإداري المبطّن. ولذلك يجب أن تُوفّر المؤسسة لكل موظفٍ معلوماتٍ واضحةً حول ما يُتوقع منه، ومعايير القياس، وآلية التقييم، وحق الاعتراض، وقنوات المراجعة، حتى يشعر أن النظام عادلٌ ومفتوحٌ وقابلٌ للمساءلة في الاتجاهين، لأن المساءلة لا تكون نزيهةً إلا إذا استطاع الطرف الأضعف أن يُساءل الطرف الأقوى، ولو بطريقةٍ موضوعيةٍ ومؤسسيةٍ تحفظ التوازن بين الحقوق والواجبات.

وتُكمل البنية المؤسسية للمساءلة دوائرها بوجود الجهات الداعمة والمساندة مثل إدارة الموارد البشرية ووحدة التدقيق الداخلي وإدارة المخاطر والحوكمة والالتزام، فهذه الجهات تمثل «مراكز الثقل التنظيمي» التي تضمن نزاهة النظام وتراقب حياد تطبيقه. فإدارة الموارد البشرية مسؤولةٌ عن توفير النظام والبيانات، والتدقيق الداخلي مسؤولٌ عن التحقق من مطابقة التطبيق للسياسات، ووحدة الحوكمة مسؤولةٌ عن مراقبة تكامل القيم والإجراءات، وإدارة المخاطر مسؤولةٌ عن تحليل الانحرافات قبل أن تتفاقم، ووحدة الامتثال مسؤولةٌ عن ضمان الالتزام باللوائح الوطنية والمعايير الدولية. ومن خلال هذا التوزيع تتشكل البنية الحوكمية للمساءلة التي تمنع تضارب المصالح وتُوزّع الرقابة عبر أكثر من جهةٍ، بحيث لا يُمكن لأي مستوىٍ أن يكون الخصم والحكم في آنٍ واحد.

ولأن المساءلة لا تكتمل دون مراجعةٍ مستقلةٍ، تأتي لجان المراجعة العليا لتُمثّل المستوى الأعلى من الرقابة المؤسسية، وهي عادةً لجان مستقلةٌ ترتبط مباشرةً بالقيادة العليا أو بمجلس الإدارة، وتُراجع تطبيق نظام الأداء، وتُقيّم مدى التزام الإدارات المختلفة بمعايير العدالة والشفافية، وتُقدّم تقاريرها للمجلس الأعلى أو الجهة التنظيمية المعنية. وجود هذه اللجان يُعزّز الثقة في النظام ويُثبت أن العدالة ليست شعارًا بل ممارسةً مؤسسيةً لها أدواتها وإجراءاتها وضماناتها.

أما الضمانة الأخيرة لبنية المساءلة فهي وجود منظومةٍ واضحةٍ للبلاغات والتظلّمات وحماية المبلّغين، لأنّ المساءلة من دون حرية التعبير عن المخالفات تُصبح ناقصةً، فالموظف الذي يرى خطأً ولا يستطيع التبليغ عنه يُصبح شريكًا في استمراره. ولهذا تُنشئ المؤسسات المتقدمة قنواتٍ آمنةٍ وسرّيةٍ تسمح بتقديم الشكاوى والملاحظات المتعلقة بسوء تطبيق نظام الأداء، على أن تُدار هذه القنوات من جهاتٍ مستقلةٍ تضمن سرية المعلومات وحماية أصحاب البلاغات من أي انتقامٍ أو تمييزٍ لاحق.

إنّ توزيع الأدوار بهذه الطريقة يخلق ما يمكن تسميته بـ العمارة المؤسسية للمساءلة، وهي الهيكل الذي يجعل العدالة بنيةً تنظيميةً لا نيةً أخلاقيةً فقط، لأنها تُحوّل المفهوم من المجال الوعظي إلى المجال الإجرائي، ومن مستوى الرغبة إلى مستوى النظام. وفي هذه العمارة يتجسد التوازن بين السلطة والمسؤولية: فكل صاحب سلطةٍ يُقابله قيدٌ من المساءلة، وكل صاحب مسؤوليةٍ يُقابله دعمٌ من النظام، وكل من يعمل ضمن هذه المنظومة يُدرك أنه ليس معصومًا من المراجعة ولا محرومًا من الدفاع، لأن المساءلة لا تعني الإدانة بل التفسير، ولا تُقيد الحرية بل تُنظمها، ولا تُضعف القيادة بل تُقوّيها.

وفي النهاية، فإنّ البنية المؤسسية للمساءلة لا تُقاس بجمال لوائحها أو تعدد لجانها، بل بقدرتها على خلق الثقة والاستقرار الداخلي، لأنّ المؤسسة التي تُوزّع المسؤوليات بعدالةٍ تُقلّل النزاعات وتُضاعف الانتماء، والمجتمع المهني الذي يُدرك من يُحاسب من ولماذا يُحاسبه، يعيش في وضوحٍ يُغنيه عن كثيرٍ من الصراعات الجانبية. وعندما تعمل هذه البنية بكفاءة، تتحوّل المساءلة إلى منظومةٍ ذاتيةٍ تدير نفسها بنفسها، لأن كل مستوىٍ يُراقب المستوى الذي فوقه والذي تحته والذي بجانبه، فتتوازن القوى المؤسسية في شبكةٍ حيويةٍ من الوعي والانضباط والثقة المتبادلة، وهكذا تُصبح المساءلة قلب النظام النابض، تحفظ المؤسسة من الانحراف، وتُعيدها إلى التوازن كلما مالت، وتُبقي الأداء في حالة نموٍّ مستمرٍّ نحو التميز والاستدامة.


6️⃣ 📊 الشفافية في دورة إدارة الأداء – من التخطيط إلى التقييم

حين نتحدث عن الشفافية في دورة إدارة الأداء، فإننا في الحقيقة نتحدث عن الخيط الذهبي الذي يربط كل مراحل النظام ويمنحها صدقها وفاعليتها، فالشفافية ليست مرحلةً تُضاف بعد اكتمال التخطيط أو التقييم، بل هي نَفَس الدورة كلّها وروحها الحاكمة من بدايتها إلى نهايتها. فمن دون شفافية يفقد التخطيط معناه لأن الأهداف لا تُفهم كما صيغت، وتفقد المتابعة صدقها لأن الأرقام تُجمّل وتُخفي، ويفقد التقييم عدالته لأن النتائج تُناقش في الظل لا في النور. فالشفافية هنا ليست قيمةً أخلاقيةً فحسب، بل شرط وجودٍ لنظام الأداء نفسه، لأنها الضامن الوحيد لأن تكون المعلومات صحيحةً، والقرارات منصفةً، والنتائج قابلةً للتحسين. إنّ دورة إدارة الأداء تتكون من أربع مراحلٍ أساسيةٍ: التخطيط، والمتابعة، والتقييم، والتحسين المستمر، والشفافية تمثل الرابط الحيوي الذي يجعل هذه المراحل تتكلم اللغة نفسها وتُنتج المعنى نفسه، لأنها تضمن أن يكون الإدراك مشتركًا بين الجميع، وأن تُرى الصورة كاملةً كما هي دون تزويقٍ أو حجبٍ أو انتقائيةٍ في العرض.

ففي المرحلة الأولى، مرحلة التخطيط للأداء، تبدأ الشفافية من اللحظة التي تُحدّد فيها الأهداف الفردية والمؤسسية. فالهدف الذي لا يُفهم لا يُمكن تحقيقه، والهدف الذي يُفرض دون تفسيرٍ لا يُنتج التزامًا بل مقاومةً خفية. ولذلك فإنّ أول معايير الشفافية في التخطيط هو وضوح الغاية والمخرجات والمسؤوليات. يجب أن يُتاح للموظف أن يعرف لماذا اختير هذا الهدف، وكيف يتصل بالخطة الاستراتيجية، وما معايير قياسه، وما مستوى التوقع المطلوب منه، لأنّ الغموض في البداية هو أصل كل نزاعٍ في النهاية. فالشفافية في التخطيط تعني أن تُوضع الأهداف بالتشارك لا بالإملاء، وأن يُشرح المنهج لا أن يُفترض، وأن يُدوَّن الاتفاق لا أن يُترك للذاكرة. ولهذا فإن المؤسسات الناضجة تُجري ما يُعرف باجتماعات المواءمة (Alignment Meetings) قبل اعتماد الأهداف النهائية، لتتأكد أن كل طرفٍ يفهم الهدف بالطريقة نفسها ويقبله كالتزامٍ واعٍ لا كمهمةٍ مفروضةٍ. هذه الاجتماعات ليست مجرد جلساتٍ تنسيقيةٍ بل ممارساتٌ مؤسسيةٌ تُؤسس للشفافية منذ اللحظة الأولى، لأنّها تجعل التخطيط عمليةً تشاركيةً قائمةً على الحوار، وتمنح كل موظفٍ شعورًا بالملكية المشتركة للنتائج.

وحين تنتقل الدورة إلى مرحلتها الثانية، وهي المتابعة الدورية للأداء، تصبح الشفافية أكثر حساسيةً لأنها تختبر مدى صدق التقارير ووضوح المؤشرات ومصداقية المتابعة. ففي هذه المرحلة تُظهر المؤسسات ما إذا كانت الشفافية لديها ثقافةً راسخةً أم إجراءً شكليًا. فالمؤسسة التي تُخفي الانحرافات خوفًا من المساءلة تؤجل مشكلتها، والمؤسسة التي تُزيّن الأرقام لتبدو متألقةً في التقارير تُفرغ النظام من محتواه. أما المؤسسة الشفافة فهي التي تُعلن الواقع كما هو، لا لتُعاقب أحدًا بل لتُصحّح المسار قبل أن يتضخم الخلل. ومن هنا تأتي أهمية نظام المتابعة المستمرة المبنية على البيانات الحقيقية، حيث تُسجّل مؤشرات الأداء في الزمن الحقيقي وتُتاح للمستويات الإدارية وفق صلاحياتهم، بحيث لا تكون المعلومات محتكرةً في يد فئةٍ محدودةٍ بل متاحةً لمن يحتاجها لاتخاذ القرار. كما أن الاجتماعات الدورية للمتابعة يجب أن تُدار بمنهجٍ شفافٍ يُركّز على الحلول لا على اللوم، وأن تُوثّق نتائجها في محاضر واضحةٍ تُعرض على الجميع، لأنّ الشفافية في المتابعة تُجنّب المؤسسة المفاجآت، وتجعل التصحيح عمليةً مستمرةً لا رد فعلٍ متأخر.

وفي المرحلة الثالثة، مرحلة التقييم والتحليل، تصل الشفافية إلى ذروتها، لأنها تمسّ المشاعر الإنسانية المباشرة مثل العدالة، والاعتراف، والتقدير. وهنا تكمن أكبر التحديات، لأنّ غياب الشفافية في التقييم ينسف الثقة بالنظام كله مهما كان تصميمه متقنًا. فالشفافية في التقييم تعني أن تُعلن المعايير منذ البداية، وأن يُتاح للموظف أن يرى كيف تم تقييمه، وأن تُشرح له أسباب الدرجة التي حصل عليها، وأن يُمنح حق الردّ أو التوضيح أو الاعتراض وفق آليةٍ منظمةٍ. كما تعني أن يُمنع التقييم المفاجئ أو السري، لأنّ الأداء يُبنى عبر عامٍ كاملٍ، ومن غير المنطقي أن يُختزل في جلسةٍ واحدةٍ غير معلنةٍ تُصدر حكمًا دون مرافعة. ولهذا فإنّ الشفافية في التقييم تتطلب اعتماد ما يُعرف بـ التغذية الراجعة الثنائية الاتجاه (Two-Way Feedback) التي يُشارك فيها الموظف بوجهة نظره، ويُناقش تقييمه مع رئيسه في حوارٍ مهنيٍّ هادئٍ لا يعتمد على الرأي بل على الأدلة والسلوكيات القابلة للملاحظة. وفي المؤسسات المتقدمة يُتاح للموظف الوصول إلى ملف أدائه الكامل عبر النظام الإلكتروني، بحيث يرى سجله من الأهداف إلى الملاحظات إلى مؤشرات الإنجاز، وهو ما يُسمّى بـ النافذة الشفافة للأداء، التي تمنع سوء الفهم وتُغلق الباب أمام الظنون.

ومن أرقى مظاهر الشفافية في التقييم كذلك الفصل بين دور المقيّم ودور المعتمد، بحيث لا يكون الشخص ذاته هو الذي يُقيّم ويُقرّر النتيجة النهائية، لأن هذا الجمع يُضعف الحياد ويُعرض النظام للتأثر بالعلاقات الشخصية. فحين تُوزّع الأدوار بين المشرف المباشر والمراجع الإداري ووحدة الموارد البشرية، تصبح عملية التقييم متعددة الزوايا أكثر موضوعيةً وعدلًا. كما يُسهم وجود لجان المراجعة النهائية للأداء في تعزيز الشفافية المؤسسية، لأنها تُراجع النتائج الكلية وتقارنها بالاتجاهات العامة وتتحقق من عدالة التطبيق، فلا يُترك مصير الموظف لتقدير فردٍ واحدٍ بل يُناقش ضمن سياقٍ مؤسسيٍّ متكاملٍ.

أما المرحلة الرابعة، وهي مرحلة التحسين والتطوير بعد التقييم، فهي الاختبار الحقيقي للشفافية في النوايا المؤسسية، لأنّ كثيرًا من المؤسسات تُجيد إعلان النتائج لكنها تفشل في تحويلها إلى خطط تطويرٍ واقعيةٍ. فالشفافية هنا تعني أن تُشارك المؤسسة موظفيها بنتائج التحليل العام، وتُوضّح الاتجاهات الإيجابية والسلبية، وتُعلن القرارات التصحيحية بوضوحٍ دون مجاملةٍ أو توريةٍ، وتُتابع تنفيذها في العلن. كما تشمل هذه المرحلة الشفافية في إظهار فرص التطوير المتاحة، سواء عبر برامج التدريب أو الإرشاد أو التمكين، لأن الموظف الذي يرى مؤسسته تُساعده على التحسّن بدل معاقبته على القصور، يُدرك أن النظام عادلٌ في جوهره. إنّ الشفافية في التحسين تُحوّل التقييم من حكمٍ نهائيٍّ إلى بدايةٍ جديدةٍ، ومن مصدر خوفٍ إلى فرصةٍ للتعلّم والنموّ، وهي العلامة الفارقة بين نظامٍ يُقيم الناس ونظامٍ يُنميهم.

وتمتد الشفافية عبر الدورة كلها لتشمل الزمن واللغة والسياق، فالشفافية الزمنية تعني أن تكون البيانات محدثةً والقرارات معلنةً في الوقت المناسب دون تأخيرٍ متعمدٍ، لأنّ المعلومة المتأخرة تفقد قيمتها وتُثير الشكوك. والشفافية اللغوية تعني أن تُصاغ القرارات والتقارير بلغةٍ واضحةٍ مفهومةٍ بعيدًا عن الغموض البيروقراطي أو التعميمات الفضفاضة التي تُخفي أكثر مما تُظهر. أما الشفافية السياقية فتعني أن تُعرض النتائج في إطارها الصحيح، فلا يُضخَّم النجاح دون مبررٍ، ولا يُدان الإخفاق دون فهم الظروف، لأنّ الحقيقة بلا سياقٍ قد تتحول إلى ظلمٍ، والعدل في التقييم لا يكتمل إلا بقراءة الصورة كاملةً.

وفي التجارب الخليجية الرائدة نرى أمثلةً ملهِمةً على الشفافية عبر دورة إدارة الأداء، مثل التجربة الإماراتية في الحكومة الاتحادية التي تعتمد نشر مؤشرات الأداء المؤسسي والوظيفي على بواباتٍ رقميةٍ مشتركةٍ تُتيح للموظف والقائد معًا متابعة التقدم، مما جعل عملية الأداء شراكةً واعيةً لا لعبةً مغلقةً. وكذلك التجربة السعودية التي تبنّت الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي، حيث نصّ على مراحل محددةٍ للشفافية بدءًا من إعداد الأهداف وحتى الاعتماد النهائي للتقييم، مع حق الموظف في الاعتراض ومراجعة نتائجه وفق آليةٍ موثقةٍ. وهذه النماذج أثبتت أن الشفافية ليست ترفًا إداريًا بل شرطًا للتحفيز، لأنّ الموظف حين يرى العدالة يضاعف العطاء، وحين يشعر بالغموض ينسحب من الالتزام تدريجيًا دون إعلان.

وهكذا، فإنّ الشفافية في دورة إدارة الأداء هي البوصلة التي تُحافظ على توازن النظام بين الثقة والرقابة، وبين الطموح والواقعية، وهي الضمانة الوحيدة لأن يتحول الأداء إلى وعيٍ جماعيٍّ لا إلى سباقٍ فرديٍّ. فحين يعرف الجميع كيف وُضعت الأهداف وكيف قيس الأداء وكيف نوقشت النتائج وكيف صُمّمت خطط التطوير، تنتفي الشكوك ويُصبح النظام شفافًا بذاته، لا يحتاج إلى تبريرٍ أو دفاعٍ أو تغطيةٍ إعلاميةٍ، لأنه يُضيء من الداخل. والشفافية حين تُصبح عادةً يوميةً وليست موسمًا إداريًا، تُحوّل المؤسسة إلى كائنٍ حيٍّ يتنفس الصدق ويُنتج الثقة ويُعيد تعريف القيادة بوصفها فنّ الوضوح لا إدارة الغموض. إنها ليست فقط أخلاقًا في السلوك، بل هندسةً في النظام، ووعيًا في الثقافة، واستدامةً في الوعي، وحين تتحقق بهذا المعنى تتحول إدارة الأداء من روتينٍ إداريٍّ إلى منظومةٍ معرفيةٍ تُنير الطريق نحو التميز المؤسسي الحقيقي.


7️⃣ 🧠 الثقافة التنظيمية للمساءلة والشفافية

إنّ الثقافة التنظيمية للمساءلة والشفافية تمثل الجوهر الإنساني لنظام إدارة الأداء، فهي الروح التي تنفخ في النصوص حياةً، وتحوّل الأنظمة من أوراقٍ جامدةٍ إلى سلوكٍ حيٍّ يتجلّى في كل قرارٍ وتصرفٍ وتفاعلٍ داخل المؤسسة. فالمساءلة والشفافية، مهما بلغت دقة لوائحهما وجودة أنظمتهما، تظلّان عديمتي الفاعلية إن لم تتجذرا في ثقافة المؤسسة كقناعةٍ داخليةٍ وسلوكٍ يوميٍّ متكررٍ، لأنّ ما يحدّد مصير أي نظامٍ إداريٍّ ليس مدى إحكام تصميمه بل مدى عمق تبنّي العاملين له في وعيهم الجمعي وسلوكهم العملي. فالثقافة التنظيمية هنا لا تعني الأعراف فقط، بل هي نظام القيم والمعاني والمواقف الضمنية التي تُشكّل تفسير الأفراد للمساءلة والشفافية: هل يراها الموظف تهديدًا أم أمانًا؟ هل يراها القائد قيدًا أم أداة تطوير؟ وهل يراها الفريق عبئًا إداريًا أم ممارسةً حضاريةً تحفظ الحقوق وتُعزّز العدالة؟ هذه الأسئلة تُحدد مستوى نضج المؤسسة، لأن الثقافة هي التي تسبق السلوك وتبرّره أو تعيقه، وحين تكون الثقافة منحازةً للوضوح والمساءلة تتحول كل أدوات النظام إلى قوةٍ بنّاءةٍ، أما إذا كانت الثقافة مترددةً أو خائفةً أو نفعيةً فإن أقوى الأنظمة سيفشل في التطبيق.

إنّ بناء ثقافة المساءلة والشفافية يبدأ من القدوة القيادية، لأنّ القائد هو الموجّه العاطفي والمعرفي للمؤسسة، فحين يرى الموظفون قائدهم يُمارس المساءلة على نفسه قبل الآخرين، ويعترف بأخطائه بشجاعةٍ، ويُصرّح بالمعلومة بوضوحٍ، ويتعامل مع النقد بوعيٍ، فإنّهم يتعلمون بالاقتداء لا بالتوجيه. والقيادة الشفافة لا تقتصر على إصدار التقارير، بل على تبنّي فلسفة الانفتاح المعرفي، أي أن تتصرّف القيادة وكأنّها تحت الضوء دائمًا، لأنّ من يعمل في النور لا يخشى النظر، ومن يُدير في الظل يزرع الخوف قبل الفساد. ولهذا فإنّ أحد أهم مؤشرات الثقافة الشفافة هو ما يُعرف في الدراسات التنظيمية بمؤشر “الأمان النفسي المؤسسي”، وهو درجة شعور الأفراد بإمكانية التعبير عن آرائهم أو ملاحظاتهم أو أخطائهم دون خوفٍ من العقوبة أو الإقصاء. فالمؤسسة التي تزرع الخوف لا تستطيع أن تحصد الصراحة، ومن دون صراحةٍ لا وجود لشفافيةٍ حقيقية، لأن الشفافية لا تُفرض بالقوانين بل تُبنى بالثقة.

ولأنّ الثقافة لا تُخلق بقرارٍ إداريٍّ، فهي تُبنى عبر الزمن والتكرار والتجربة، فتبدأ من الخطاب اليومي، ومن لغة المدير مع موظفيه، ومن طريقة التعامل مع الخطأ، ومن أسلوب الرد على الأسئلة، ومن تعامل المؤسسة مع النقد الداخلي. فحين يُكافأ الصدق يُصبح عادة، وحين يُعاقب يُصبح كتمانًا. ولذلك فإنّ أول تمرينٍ لتأسيس ثقافة المساءلة هو أن تُحوّل المؤسسة الاعتراف بالخطأ من عيبٍ إلى شجاعةٍ، وأن تُكافئ من يُبلّغ عن الخلل بدل من يُخفيه، وأن تُعتبر المراجعة الذاتية ممارسةً إيجابيةً لا ضعفًا إداريًا. هذه التحولات الصغيرة في السلوك اليومي تُغيّر المناخ التنظيمي كله، لأنّها تُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والنظام، وتُحوّل المساءلة من أداةٍ للمحاسبة إلى وسيلةٍ للتعلّم، وتُحوّل الشفافية من واجبٍ رسميٍّ إلى التزامٍ قيميٍّ.

إنّ المؤسسات الناجحة تدرك أن الثقافة الشفافة لا تنشأ إلا إذا كانت القيم المؤسسية نفسها مبنيةً على الوضوح والعدالة والاحترام المتبادل، ولهذا نجد أن كثيرًا من المنظمات الرائدة تُدرج في قيمها الرسمية كلماتٍ مثل النزاهة (Integrity)، والمسؤولية (Responsibility)، والاحترام (Respect)، والثقة (Trust)، لأنّها تُدرك أن القيم حين تُعلَن وتُمارس تصبح مرجعًا سلوكيًا يُوجّه القرارات اليومية. ولكن الفارق بين الشعارات والواقع هو أن تُترجم هذه القيم إلى ممارساتٍ محددةٍ، مثل الإفصاح عن معايير التقييم، وتوثيق الاجتماعات، ونشر القرارات بوضوحٍ، وتمكين الموظفين من الوصول إلى المعلومات. هذه الأفعال الصغيرة المتكررة هي التي تصنع ما يُسمى في علم الاجتماع التنظيمي بـ “الشفافية البنيوية”، أي أن يكون الوضوح جزءًا من طريقة عمل المؤسسة، لا فقط من نواياها.

كما أن التدريب والتمكين المعرفي يمثلان إحدى أدوات ترسيخ الثقافة الشفافة، لأنّ كثيرًا من الغموض الإداري لا ينتج عن سوء نية بل عن ضعف معرفة. فالموظف الذي لا يفهم معايير التقييم يظنها غامضةً، والقائد الذي لا يُتقن مهارات المحادثة الصريحة يُفضّل الإخفاء على المواجهة. ولهذا فإنّ البرامج التدريبية التي تُركّز على مهارات التغذية الراجعة الفعالة، وإدارة الحوار البنّاء، وكتابة التقارير الواضحة، والتواصل غير العنيف، تُعدّ من أهم أدوات تعزيز ثقافة الشفافية. فالثقافة لا تُلقَّن بل تُدرَّب، وكل مهارةٍ من هذه المهارات هي جسرٌ نحو وعيٍ جديدٍ بالمسؤولية. إنّ بناء ثقافة المساءلة يعني بناء وعيٍ جماعيٍّ بأنّ كل موظفٍ حارسٌ على جودة عمله، وأنّ الصراحة ليست عداءً بل احترام، وأنّ إظهار المعلومة ليس ضعفًا بل التزام.

ومن الركائز العميقة في هذه الثقافة كذلك العدالة الإجرائية، أي شعور الموظفين بأنّ إجراءات النظام تطبّق بعدالةٍ واتساقٍ بغضّ النظر عن الأشخاص. لأنّ غياب العدالة يُدمّر الشفافية من جذورها، فحين يُحاسَب الضعيف ويُتجاهل القوي تنكسر المصداقية، وحين تُطبّق الأنظمة انتقائيًا تُصبح المساءلة وسيلة قهرٍ لا إصلاحٍ. ولهذا يجب أن تُصمَّم السياسات المؤسسية بحيث تُضمن المساواة في التطبيق، وتُمنع التدخلات الشخصية، وتُتيح حق المراجعة والتظلّم لكل طرفٍ دون خوف. وحين يرى الموظف أن النظام يُنصفه حتى في وجه مديره، وأن القانون لا يميز بين المناصب، فإنّ ثقافة المساءلة تنمو في داخله دون حاجةٍ إلى شعاراتٍ أو حملاتٍ تحفيزيةٍ.

وإلى جانب العدالة، يجب أن تتوافر الثقة الأفقية والرأسية داخل المؤسسة، فالثقافة الشفافة لا تُبنى على الخوف بل على الثقة المتبادلة بين الزملاء والرؤساء والمرؤوسين. وهذه الثقة تُزرع حين يكون التواصل صادقًا، والمعلومات متاحة، والنية في التقييم واضحة، وحين يرى الجميع أن الأخطاء تُناقش لإصلاحها لا لتسجيلها. فالثقة هي المناخ الذي تنمو فيه المساءلة، وهي التي تُحوّل النقد إلى تطوير، والوضوح إلى طمأنينة. وقد أثبتت الدراسات أن المؤسسات التي تتمتع بثقافة ثقةٍ داخليةٍ عالية ترتفع فيها الإنتاجية بنسبة تتجاوز 30% وتنخفض فيها النزاعات بنسبة 40%، لأنّ الناس يعملون براحةٍ حين يعرفون أن النظام لا يترصّدهم بل يحميهم.

ومن السمات الجوهرية لهذه الثقافة أيضًا الذاكرة المؤسسية الواضحة، فالمؤسسة التي تحفظ تاريخ قراراتها وأسبابها وتوثّق دروسها السابقة تبني شفافيةً متوارثةً عبر الزمن، لأنّ كل جيلٍ فيها يعرف كيف وصل من كان قبله إلى القرارات التي اتخذها، فلا يُعيد الخطأ نفسه ولا يُكرّر النقاش نفسه. هذه الذاكرة المؤسسية تمثل الضمانة الثقافية لاستمرار المساءلة، لأنها تمنع تغيّر الأشخاص من أن يُغيّر القيم، وتُحافظ على الاستقرار الإداري رغم التحولات القيادية. ولهذا يجب أن تُنشئ المؤسسات سجلاتٍ معرفيةً داخليةً توثّق فيها قرارات الأداء وتفسيراتها، وتُتيحها للمعنيين، فكل شفافيةٍ لا تملك ذاكرةً مكتوبةٍ ستذوب مع الوقت في ضجيج الاجتهادات الشخصية.

إنّ الثقافة التنظيمية للمساءلة والشفافية لا تنشأ في الفراغ، بل تتأثر بالبيئة الوطنية والقيم المجتمعية والدينية التي تحيط بالمؤسسة. ففي البيئة العربية والإسلامية، تتجذر قيم المساءلة في مفهوم الأمانة والمحاسبة أمام الله والناس، وفي قوله تعالى: “وقفوهم إنهم مسؤولون”، وفي الحديث الشريف: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”، وهذه النصوص تؤسس لمفهومٍ روحيٍّ عميقٍ للمساءلة يجعلها عبادةً قبل أن تكون نظامًا. كما أن الشفافية تتصل في جوهرها بقيمة الصدق، وهي من أوائل ما جاء في تعاليم الإسلام حين قال النبي ﷺ: “عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البرّ، وإن البرّ يهدي إلى الجنة”. وهذه المرجعية القيمية تمنح الثقافة التنظيمية في المؤسسات العربية بعدًا أخلاقيًا فريدًا، لأنّها تجعل العدالة ليست مطلبًا إداريًا فقط بل التزامًا دينيًا وإنسانيًا، وتُحوّل الشفافية من التزامٍ وظيفيٍّ إلى خُلقٍ عباديٍّ يُراقب الله فيه الموظف قبل أن يُراقبه المدير.

وعندما تُصبح هذه القيم جزءًا من الهوية المؤسسية، تتحول المساءلة والشفافية إلى ما يُعرف بـ الضمير التنظيمي، أي ذلك الحسّ الداخلي الذي يُوجّه السلوك حتى في غياب الرقابة. وهذا الضمير هو ما يُميّز المؤسسة الناضجة عن المؤسسة الملتزمة شكليًا، لأنّ الأولى تملك نظامًا داخليًا ذاتيّ التصحيح، بينما الثانية لا تتحرك إلا بأمرٍ خارجيٍّ. والمؤسسة التي تملك ضميرًا مؤسسيًا لا تحتاج إلى حملاتٍ لتذكيرها بالمساءلة، لأنّ الوعي أصبح جزءًا من سلوكها الجمعي. وهنا تتحقق أعلى درجات النضج الإداري حين يُصبح النظام نفسه انعكاسًا للثقافة لا مفروضًا عليها، وحين تُدار القوانين لا لتُقيّد الناس بل لتُعبّر عن وعيهم المتفق عليه.

وهكذا، فإنّ الثقافة التنظيمية للمساءلة والشفافية ليست ترفًا فكريًا بل ضرورةٌ حيويةٌ لاستدامة العدالة المؤسسية، لأنها تُحوّل النظام من مجموعة إجراءاتٍ إلى نمط حياةٍ مهنيةٍ، وتضمن أن تظلّ القيم متجددةً رغم تغيّر الأشخاص والظروف. فحين تكون الثقافة شفافةً تنعكس الشفافية في كل شيءٍ: في الاجتماعات، في القرارات، في الخطاب اليومي، في لغة البريد الإلكتروني، في أسلوب كتابة التقارير، حتى في نبرة الحديث في الممرات. وعندها فقط نستطيع القول إنّ المساءلة أصبحت جزءًا من الحمض الوراثي للمؤسسة، وأنّ الشفافية لم تعد شعارًا في اللوحات بل سلوكًا في النفوس، وأنّ إدارة الأداء لم تعد نظامًا للتقييم بل مدرسةً للتطور والنزاهة والتكامل الإنساني والمهني.


8️⃣ 🔐 أخلاقيات المعلومة وحقوق الاطلاع

حين نتحدث عن أخلاقيات المعلومة وحقوق الاطلاع في منظومة إدارة الأداء، فإننا نلجُ إلى أحد أكثر المحاور حساسيةً وعمقًا في الإدارة الحديثة، لأن المعلومة هي الدم الذي يجري في شرايين النظام الإداري، ومن يملكها يملك القوة، ومن يحجبها يحجب العدالة. فالمساءلة والشفافية لا تقومان إلا على معلومةٍ صحيحةٍ متاحةٍ في الوقت المناسب للشخص المناسب بالقدر الذي يسمح به النظام والقانون، لأنّ الإفراط في الإخفاء يولّد الظلم، والإفراط في الإفصاح قد يُنتج الفوضى، والتوازن بينهما هو قمة النضج الإداري. ولهذا فإنّ أخلاقيات المعلومة تمثّل الإطار الأخلاقي والقانوني الذي يضبط حركة البيانات داخل المؤسسة، ويُحدّد من يحق له أن يعرف، ومتى يعرف، ولماذا يعرف، وكيف يُستخدم ما يعرفه، حتى لا تتحول المعلومة من أداة تمكينٍ إلى أداة تلاعبٍ أو انتهاكٍ لخصوصية الأفراد أو أسرار المنظمة.

إنّ المعلومة في منظومة الأداء ليست مجرد أرقامٍ أو تقارير، بل هي حقيقةٌ تحمل أثرًا إنسانيًا واقتصاديًا ونفسيًا، لأنها ترتبط بتقييم الناس، ومكافآتهم، وترقياتهم، ومستقبلهم المهني، ولذلك فإنّ إدارتها يجب أن تخضع لمنظومةٍ أخلاقيةٍ صارمةٍ تُوازن بين الحق في المعرفة والحق في الخصوصية. فالموظف له حقٌ أصيلٌ في أن يعرف كيف تم تقييمه، وما معايير الأداء التي طُبقت عليه، وما الملاحظات المسجلة حول عمله، لكنه في الوقت ذاته لا يملك الحق في الاطلاع على بيانات غيره أو في استخدام المعلومة خارج سياقها الوظيفي. هذه الثنائية بين الحق والمسؤولية تُشكّل جوهر أخلاقيات المعلومة، وهي التي تحمي النظام من الانحراف نحو أحد طرفي النقيض: التعتيم أو التسريب. فالشفافية لا تعني أن تكون المعلومة بلا حدود، بل أن تكون متاحةً بعدالةٍ ومنضبطةٍ وفق معيار الحاجة الوظيفية والمصلحة المؤسسية العامة.

إنّ منطلق أخلاقيات المعلومة يبدأ من مبدأين حوكميين أساسيين: الحق في المعرفة (Right to Know) والحق في الحماية (Right to Protection). فالحق في المعرفة يضمن للموظف أن يطّلع على ما يخصه من بياناتٍ وأحكامٍ وتقاريرٍ ونتائجٍ تتعلق بأدائه، وأن يُراجعها وأن يُسائل عنها، أما الحق في الحماية فيضمن أن تُصان هذه البيانات من أي استخدامٍ غير مشروعٍ أو نشرٍ خارج السياق أو تلاعبٍ بقصد الإضرار أو التشويه. والمؤسسة التي تُوازن بين هذين المبدأين تحقق أعلى درجات الشفافية الأخلاقية، لأنها تُتيح المعرفة وتُقيّد الفضول، وتُحمي الخصوصية دون أن تُخفي الحقيقة. ولهذا تبرز أهمية وجود سياساتٍ مكتوبةٍ واضحةٍ لإدارة المعلومات داخل نظام الأداء، تُحدّد درجات السرية، ومستويات الصلاحية، وآليات الوصول، وإجراءات الاعتراض أو التصحيح أو التظلم عند وجود خطأٍ في البيانات.

وفي هذا السياق، تُعتبر حوكمة المعلومات (Information Governance) الركيزة الأساسية لأخلاقيات المعلومة، لأنها الإطار الذي يُنظّم دورة حياة البيانات من لحظة إنشائها إلى لحظة أرشفتها أو إتلافها. فالمؤسسة الناضجة لا تتعامل مع المعلومة بعشوائيةٍ، بل تُديرها كأصلٍ استراتيجيٍّ له قيمته ومخاطره. وتبدأ هذه الحوكمة من تحديد مالك المعلومة ومسؤول صيانتها ومستخدمها النهائي، مرورًا بآليات حفظها وتحديثها ونشرها، وصولًا إلى مراقبة استخدامها ومساءلة من يسيء التعامل معها. إنّ هذه السلسلة الدقيقة تُنشئ بيئةً منضبطةً تمنع التسريب وتُقلّل التلاعب وتُعزّز الثقة في النظام، لأنّ الموظف حين يعلم أن بياناته تُدار بمسؤوليةٍ وشفافيةٍ يشعر بالأمان ويُقدّر النظام أكثر، بينما المؤسسة التي تُهمل إدارة معلوماتها تُعرّض نفسها للانهيار الأخلاقي والتنظيمي معًا.

ومن القواعد الأخلاقية الأساسية في هذا المجال مبدأ الصدق والدقة في نقل المعلومة، إذ لا يجوز التلاعب بالأرقام أو تعديل التقييمات أو حذف الوقائع بقصد تجميل الأداء أو إخفاء الأخطاء، لأنّ مثل هذه الممارسات تُدمّر الثقة وتُحوّل النظام إلى أداة تضليلٍ لا تطوير. فالصدق في البيانات ليس ترفًا أخلاقيًا، بل هو شرطٌ إداريٌّ للعدالة، لأنّ القرارات تُبنى على المعلومات، وإذا فُسدت المعلومة فسد القرار تبعًا لذلك. كما أن الدقة في جمع البيانات وتحليلها وتوثيقها تمثل واجبًا أخلاقيًا ومهنيًا في آنٍ واحد، لأنّ الخطأ في القياس أو التوثيق قد يؤدي إلى ظلمٍ في التقييم أو خللٍ في توزيع الموارد. ولهذا يجب أن تُدرّب المؤسسات موظفيها على مهارات التوثيق والتحقق والمراجعة، وأن تُعتمد نظم تدقيقٍ داخليةٍ منتظمةٍ للبيانات لضمان صحة ما يُبنى عليها من قراراتٍ في الأداء والتطوير والتحفيز.

وتتصل أخلاقيات المعلومة كذلك بـ مبدأ الاستخدام المسؤول للبيانات، فالمعلومة لا تُستخدم إلا للغرض الذي جُمعت من أجله. فلا يجوز مثلًا أن تُستعمل نتائج التقييم الفردي في أغراضٍ خارج سياق تحسين الأداء، أو تُوظّف في النيل من سمعة الموظف، أو تُنشر في بيئة العمل على نحوٍ يُحرجه أو يُفقده مكانته المهنية. كما لا يجوز مشاركة البيانات الحساسة مع أطرافٍ خارجيةٍ دون تفويضٍ صريحٍ أو إطارٍ قانونيٍّ يضمن حفظ السرية. وهذه القواعد ليست شكليةً، بل هي تعبيرٌ عن احترام الكرامة الإنسانية، لأنّ المعلومة عن الفرد جزءٌ من خصوصيته، والاعتداء عليها هو نوعٌ من الاعتداء على ذاته. ولهذا فإنّ المؤسسات المتقدمة تعتمد أنظمةً تقنيةً صارمةً للتحكم في صلاحيات الوصول إلى البيانات، وتستخدم تقنيات التشفير والمصادقة الثنائية لضمان ألا تُستخدم المعلومة إلا من قبل من يملك الحق في ذلك.

أما على مستوى حقوق الاطلاع، فإنّ المبدأ الحاكم هو الحق في الوصول إلى المعلومة الخاصة بك والحق في فهمها. فالموظف الذي يُقيَّم دون أن يعرف معاييره أو تفاصيل تقريره يُعامل كأداةٍ لا كإنسانٍ مسؤولٍ، لأنّ المعرفة شرط المشاركة. ولهذا فإنّ تمكين الموظف من الاطلاع على بياناته وتقرير أدائه ومؤشرات تقدمه يُعدّ من أهم صور الشفافية العادلة، لأنه يُحوّل النظام من سلطةٍ تُراقب إلى بيئةٍ تُشارك. كما يجب أن يُتاح للموظف حق الاعتراض أو التصحيح إذا تبيّن وجود خطأٍ موضوعيٍّ في بياناته، فالمؤسسة النزيهة لا تخاف من المراجعة، لأنها تدرك أن الشفافية لا تُناقض الثقة بل تُعمّقها. ومن النماذج الراقية في هذا الجانب ما تطبّقه الحكومة الإماراتية في نظام إدارة الأداء الإلكتروني، حيث يمكن للموظف الاطلاع على ملفه الكامل من الأهداف إلى المؤشرات إلى التقييم النهائي، ومتابعة التعديلات والتعليقات في الزمن الحقيقي، مما جعل المعلومة حقًا متاحًا لا امتيازًا إداريًا.

إنّ الأخلاقيات المؤسسية للمعلومة لا تقتصر على الجانب الداخلي، بل تمتد إلى البُعد المجتمعي والوطني في الإفصاح عن نتائج الأداء العامة، لأنّ المؤسسات التي تعمل في القطاع العام مسؤولةٌ أمام المجتمع عن جودة أدائها وشفافية نتائجها. غير أنّ هذا الإفصاح يجب أن يتم وفق ضوابط تضمن عدم الإضرار بالأمن الوطني أو المصالح العليا أو الأسرار التجارية أو الخصوصيات الفردية. ولهذا تُعدّ الموازنة بين حق المجتمع في المعرفة وحق المؤسسة في السرية من أعقد التحديات الإدارية في زمن البيانات المفتوحة. والحلّ يكمن في تبنّي ما يُعرف بـ سياسات الإفصاح المتدرّج، أي أن تُنشر المعلومات بمستوياتٍ مختلفةٍ تتناسب مع الفئة المستهدفة وسياق الاستخدام، فالموظف يطّلع على ما يخصه، والإدارة العليا على ما يخص التخطيط، والمجتمع على النتائج الكلية دون تفاصيلٍ فرديةٍ، وبهذا تتحقق الشفافية دون أن تُمسّ الخصوصية.

ومن الأبعاد المهمة كذلك التربية الأخلاقية الرقمية، لأنّ التكنولوجيا وسّعت نطاق الوصول إلى المعلومات لكنها لم تُوسّع بالضرورة الوعي باستخدامها. فالموظف الذي يحمل هاتفًا ذكيًا أو يدخل على نظام الأداء الإلكتروني يستطيع بلمسةٍ واحدةٍ أن يُرسل معلومةً حساسةً خارج المؤسسة، ولهذا يجب أن تكون الثقافة الأخلاقية في التعامل مع البيانات جزءًا من برامج التدريب الإلزامي، لتغرس في الموظف وعيًا رقابيًا ذاتيًا يجعله يُدرك أن الأمانة لا تُمارس فقط عند الحديث، بل عند الضغط على زرّ الإرسال أيضًا. إنّ العالم اليوم يتجه نحو تبنّي تشريعاتٍ دقيقةٍ في هذا الجانب مثل النظام الأوروبي لحماية البيانات (GDPR) والتشريعات الخليجية الجديدة في الإمارات والسعودية التي تُجرّم إساءة استخدام المعلومات الشخصية أو المؤسسية، وهي نماذج تُبرز كيف أصبحت أخلاقيات المعلومة جزءًا من البنية القانونية للحوكمة الحديثة.

وفي السياق الإسلامي والعربي، تُستمد أخلاقيات المعلومة من مفهوم الأمانة والستر والصدق، كما قال الله تعالى: “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها”، فالمعلومة أمانة، والاطلاع عليها تكليف، ونقلها مسؤولية، والإفصاح عنها شهادة. ولهذا فإنّ من يُدير بيانات الأداء يُمارس عبادةً مهنيةً تتطلّب صدقًا وعدلًا وحرصًا على عدم الإضرار بأحد. والمجتمع الذي يفقد أخلاق المعلومة يفقد العدالة نفسها، لأنّ العدالة لا تُبنى إلا على معرفةٍ صحيحةٍ وموثوقةٍ. ولهذا يجب أن تُربط سياسات المعلومات في المؤسسات العربية بالقيم الدينية والأخلاقية الراسخة، لأنها تُضفي على الحوكمة بعدًا روحيًا يضمن استدامتها، ويجعل الانضباط الداخلي نابعًا من الضمير قبل أن يكون مفروضًا من النظام.

وفي النهاية، فإنّ أخلاقيات المعلومة وحقوق الاطلاع تمثل الدرع الأخلاقي لمنظومة إدارة الأداء، لأنها تضمن أن يكون الحق في المعرفة متوازنًا مع واجب الحماية، وأن تكون الشفافية منضبطةً بالقيم، وأن يكون الاطلاع مسؤولًا لا فضوليًا، وأن تتحول البيانات من أدوات سلطةٍ إلى أدوات ثقةٍ. فحين تُدار المعلومة بوعيٍ وأمانةٍ، تُصبح المؤسسة شفافةً وآمنةً في آنٍ واحدٍ، ويُصبح نظام الأداء أداة بناءٍ لا سلاحًا، ويُصبح الموظفون شركاء في الحقيقة لا ضحايا لها. تلك هي الغاية العليا من أخلاقيات المعلومة في إدارة الأداء: أن تُعيد تعريف القوة بأنها مسؤولية، والمعلومة بأنها أمانة، والشفافية بأنها وعيٌ ناضجٌ يُوازن بين الحق والحكمة، فيُقيم العدالة على أرضيةٍ من الثقة، ويُبقي المؤسسة في مسارها المستقيم نحو النضج والاستدامة.


9️⃣ 🌍 الممارسات الخليجية والعالمية الرائدة في المساءلة والشفافية

حين ننظر إلى المشهد الخليجي والعالمي في تطبيق مفاهيم المساءلة والشفافية ضمن أنظمة إدارة الأداء، ندرك أن العالم قد تجاوز مرحلة الحديث عن أهمية الشفافية إلى مرحلة صناعتها، وأن الدول والمؤسسات التي نجحت في تحويلها إلى ممارسةٍ مؤسسيةٍ مستقرةٍ هي التي استطاعت أن تخلق الثقة الداخلية وتكسب الثقة الخارجية في آنٍ واحد. فالشفافية لم تعد خيارًا أخلاقيًا، بل أصبحت شرطًا للتنافسية والاستدامة، والمساءلة لم تعد آلية رقابيةً فحسب، بل أداةً قياديةً لتوجيه الأداء وتحفيز التطوير. ولعلّ من أبلغ مظاهر النضج المؤسسي في القرن الحادي والعشرين أن أصبح العالم يتعامل مع المساءلة والشفافية كمنظومةٍ علميةٍ لها أدواتها وتقنياتها ومؤشراتها ومعاييرها، لا كقيمةٍ مجردةٍ تُترك لاجتهاد الأشخاص أو ظروف اللحظة.

في المشهد الخليجي، تُعدّ دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجًا متقدمًا في ترسيخ الشفافية كجزءٍ من بنية الأداء الحكومي والوظيفي، إذ لم تُقدّم الشفافية كشعارٍ إداريٍّ بل كممارسةٍ استراتيجيةٍ مُمأسسةٍ في كل دورةٍ من دورات الأداء. فابتداءً من نظام إدارة الأداء الحكومي (Government Performance Management System – GPMS) الذي يربط بين أهداف الحكومة الاتحادية وأداء الجهات والموظفين، تمّ وضع مؤشراتٍ دقيقةٍ قابلةٍ للقياس، تُعلن نتائجها في منصّاتٍ مفتوحةٍ للموظفين والإدارات والقيادات، بل وأحيانًا للرأي العام عبر تقاريرٍ سنويةٍ منشورةٍ بوضوحٍ على المواقع الرسمية. وتُعدّ مبادرة «الجهات الأكثر تميزًا في الأداء الحكومي» مثالًا على الشفافية التحفيزية، حيث تُكافأ الجهات التي تُفصح عن بياناتها بصدقٍ وتُقدّم تقاريرها في الوقت المحدد، مما جعل الإفصاح نفسه معيارًا من معايير التميز. كما يُبرز النظام الإماراتي في أدائه ركيزة «التحسين المستمر» التي تقوم على مراجعة الأداء بشفافيةٍ دوريةٍ من خلال «برنامج الشيخ محمد بن راشد لقياس الأداء الحكومي»، الذي يعتمد على نشر النتائج وتحليلها علنًا أمام القيادات، ليكون الحوار حول الأداء جزءًا من الثقافة الإدارية لا مناسبةً استثنائيةً.

أما في المملكة العربية السعودية، فقد خطت منظومة الأداء خطواتٍ جوهريةً نحو ترسيخ المساءلة والشفافية من خلال «الدليل الإرشادي للائحة إدارة الأداء الوظيفي» الذي صدر ضمن إطار تطوير الموارد البشرية الحكومية. هذا الدليل لم يُكتفِ بتحديد المراحل والإجراءات بل جعل الشفافية مبدأً محوريًا في جميعها، فنصّ على حق الموظف في معرفة معايير تقييمه ونتيجته والتظلم عليها ضمن إطارٍ مؤسسيٍّ موثّقٍ. كما أكّد على أهمية عقد اجتماعاتٍ دوريةٍ لمناقشة الأداء بين الرئيس والمرؤوس، بحيث تكون العملية حوارًا مفتوحًا يتضمن تغذيةً راجعةً بنّاءةً، لا تقييمًا أحاديًا مغلقًا. وإلى جانب ذلك، أطلقت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية مبادرة «منصة الأداء» الرقمية، التي تُتيح للموظف والقائد الاطلاع على أهداف الأداء ومؤشرات التقدّم لحظيًا، في تجسيدٍ عمليٍّ لمبدأ «الشفافية الرقمية» التي تربط بين الحق في المعلومة وحق المتابعة المستمرة. كما أن الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين وهيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) لعبتا دورًا مهمًا في وضع المعايير الوطنية للنزاهة والإفصاح، وربط مؤشرات الأداء الفردي والمؤسسي بمعايير الامتثال الأخلاقي والشفافية المالية والإدارية، ليصبح الأداء ليس مجرد كفاءةٍ في الإنجاز بل نزاهةً في الممارسة.

أما دولة قطر، فقد ركّزت في استراتيجيتها الوطنية 2030 على ربط الأداء المؤسسي بالشفافية والمساءلة العامة، عبر ما يُعرف بـ «إدارة الأداء من أجل النتائج» (Results-Based Performance Management)، التي تفرض على المؤسسات الحكومية الإفصاح عن مؤشرات نتائجها للمجتمع بشكلٍ دوريٍّ. كما أن رؤية قطر في التحول الرقمي الحكومي تضمّنت مبادراتٍ متقدمةً في بناء قواعد بياناتٍ وطنيةٍ مفتوحةٍ تُمكّن الجمهور من الوصول إلى المعلومات الإحصائية والمؤشرات التنموية، في انسجامٍ مع مبدأ «الشفافية المجتمعية» الذي يجعل المواطن شريكًا في الرقابة والتقييم. وتُعدّ تجربة وزارة التنمية الإدارية والعمل والشؤون الاجتماعية في إنشاء نظام إلكتروني متكامل لإدارة الأداء نموذجًا خليجيًا يحتذى به في مأسسة الشفافية الداخلية، إذ يُتيح النظام لكل موظفٍ الاطلاع على أهدافه ومؤشرات إنجازه وخطط تطويره في بيئةٍ رقميةٍ موثقةٍ وآمنةٍ، مما جعل الشفافية حالة تشغيليةً يوميةً لا مجرد قيمةٍ خطابيةٍ.

وفي سلطنة عمان، تبرز جهود جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة وهيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في ترسيخ مبدأ الشفافية والمساءلة من خلال التقارير العلنية والبوابات الرقمية، إلى جانب تطوير برامج تقييم الأداء الحكومي ضمن خطة التحول الإداري الحديثة. كما أن رؤية «عُمان 2040» نصّت صراحةً على جعل الحوكمة والشفافية والمساءلة ركائز في جميع الأنشطة الإدارية، مما يعبّر عن التحوّل الاستراتيجي نحو ثقافة الأداء القائمة على الوضوح والانفتاح. وفي البحرين والكويت، يمكن ملاحظة تطورٍ مشابهٍ في المؤسسات الحكومية التي تبنّت أنظمة مؤشرات الأداء المرتبطة بالميزانية وبالنتائج الاجتماعية، وأدخلت سياساتٍ جديدةً لإفصاح التقارير السنوية ومشاركة الموظفين في المراجعات الدورية للأداء.

أما على المستوى العالمي، فتُعدّ التجربة النيوزيلندية من أبرز النماذج التي حوّلت المساءلة إلى منظومةٍ قانونيةٍ متكاملةٍ تربط بين الأداء الحكومي والمساءلة أمام البرلمان والمجتمع. إذ تُلزم الوزارات بنشر تقارير الأداء المالي والتشغيلي السنوية في مواعيدٍ محددةٍ، وتُراجع هذه التقارير من جهاتٍ مستقلةٍ لضمان دقتها، ويُحاسب القادة التنفيذيون على تحقيق الأهداف المتفق عليها في عقود الأداء (Performance Agreements). هذا النظام أرسى مفهوم «المساءلة التعاقدية» التي تجعل العلاقة بين الحكومة والمجتمع شفافةً ومحددةَ الالتزامات. كذلك، في كندا تمّ تبنّي إطار المساءلة الإدارية (Management Accountability Framework – MAF) الذي يُقيّم المؤسسات العامة سنويًا وفق معايير الشفافية والنزاهة والحوكمة وإدارة الأداء، ويُعلن التقييم للعموم مما يخلق حافزًا أخلاقيًا للمؤسسات لتطوير نفسها باستمرار. وفي المملكة المتحدة، تُعتبر هيئة المعايير في الحياة العامة (Committee on Standards in Public Life) نموذجًا مرجعيًا عالميًا في تحديد القيم الأخلاقية للمساءلة، إذ وضعت منذ عام 1995 المبادئ السبعة للسلوك العام: النزاهة، الموضوعية، المساءلة، الشفافية، القيادة، الإخلاص، والاحترام، وهي المبادئ التي أصبحت اليوم معايير دولية تُطبّق في كثيرٍ من المؤسسات حول العالم.

ومن أبرز النماذج كذلك التجربة السنغافورية التي جعلت الشفافية جزءًا من سياسة مكافحة الفساد ورفع الكفاءة في القطاع العام، حيث تُدار أنظمة الأداء عبر بواباتٍ إلكترونيةٍ مفتوحةٍ تُتيح متابعة المشاريع والمؤشرات الحكومية في الزمن الحقيقي، ويُحاسب الوزراء وكبار التنفيذيين على أساس نتائج واضحةٍ وبياناتٍ منشورةٍ. كما تُعدّ التجربة الفنلندية مرجعًا في ربط الشفافية بثقافة التعليم والبحث والابتكار، إذ تُنشر جميع مؤشرات الأداء الحكومي والمؤسسي في مواقعٍ عامةٍ يمكن للجمهور الاطلاع عليها والمشاركة في تحليلها، وهو ما عزّز الثقة المجتمعية وساهم في جعل فنلندا من أكثر دول العالم شفافيةً وفق مؤشرات النزاهة الدولية.

إنّ المقارنة بين هذه النماذج تُظهر أن سرّ النجاح لا يكمن فقط في وجود اللوائح أو الأنظمة، بل في التحوّل الثقافي والإداري الذي يُحوّل الشفافية والمساءلة إلى جزءٍ من هوية المؤسسة. فالإمارات والسعودية وقطر مثلًا لم تكتفِ بإصدار القوانين بل ربطت الشفافية بالأداء اليومي عبر المنصات الرقمية والحوكمة التشغيلية، بينما النماذج الغربية مثل نيوزيلندا وكندا ركّزت على المساءلة الخارجية أمام المجتمع والبرلمان. وبذلك يمكن القول إنّ العالم العربي، وخاصةً الخليج، يسير نحو نموذجٍ هجينٍ يجمع بين المساءلة الداخلية التي تُنظّم الأداء الوظيفي والمساءلة المجتمعية التي تُعزّز الثقة العامة، وهذا التزاوج هو ما يُميّز الرؤية العربية الحديثة للحوكمة المتكاملة.

أما على صعيد المنظمات الدولية، فقد ساهمت أطر مثل ISO 30414 لإدارة رأس المال البشري وEFQM للتميز الأوروبي وCIPD وSHRM في تحديد معايير دقيقةٍ للشفافية في إدارة الأداء، إذ تُطالب هذه الأطر المؤسسات بتوثيق سياساتها في التقييم والإفصاح عنها للموظفين، وتقديم تقارير سنويةٍ عن نتائج الأداء والالتزام الأخلاقي. كما تبنّت الأمم المتحدة ومجموعة البنك الدولي مفهوم «الشفافية من أجل التنمية» (Transparency for Development) الذي يربط بين الإفصاح والمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، مؤكدةً أن الشفافية ليست فقط أداةً إداريةً بل حقًا إنسانيًا يُمكّن الشعوب من المشاركة في الرقابة على مواردها ومؤسساتها.

ومن خلال هذه المقارنات يمكن استخلاص مجموعةٍ من الدروس العملية للمؤسسات العربية في بناء نموذجٍ متوازنٍ للمساءلة والشفافية. أولها: أن الشفافية لا تتحقق بالإعلان فقط بل بالمنهجية، وأنّ الإفصاح المنظم خيرٌ من الإفصاح الفوضوي. وثانيها: أن المساءلة حين تُمارس بروحٍ تطويريةٍ تُصبح حافزًا، وحين تُمارس بعقليةٍ عقابيةٍ تُصبح تهديدًا. وثالثها: أن التقنية هي الوسيط الطبيعي الجديد للشفافية، لكنها لا تُغني عن القيم، وأنّ الرقمنة بلا وعيٍ أخلاقيٍ تُنتج فضائح لا شفافية. ورابعها: أن المجتمع العربي يمتلك من رصيده القيمي والديني ما يجعله مؤهلًا لتبنّي نموذجٍ فريدٍ يجمع بين الشفافية المؤسسية والأمانة الأخلاقية، بحيث تُدار المعلومة بعقلٍ إداريٍّ وحسٍّ إنسانيٍّ في الوقت نفسه.

إنّ الممارسات الخليجية والعالمية الرائدة تُثبت أن المساءلة والشفافية ليستا مشروعًا إداريًا محدودًا، بل مشروعًا حضاريًا شاملًا يعيد بناء العلاقة بين الفرد والمؤسسة والمجتمع. فحين تُصبح المعلومة حقًا، والوضوح عادةً، والمسؤولية ثقافةً، تتحول المؤسسة إلى كيانٍ ناضجٍ قادرٍ على التعلم والتطور من ذاته دون خوفٍ أو إنكار. ومن هنا يمكن القول إنّ المستقبل الإداري في العالم العربي يتّجه نحو مرحلةٍ جديدةٍ تُصبح فيها الشفافية والمساءلة ليسا فقط أدواتٍ للحوكمة بل معاييرَ للتميز والريادة، لأنّ المؤسسة التي تُفصح بصدقٍ وتُحاسب بعدلٍ وتتعلم بشجاعةٍ هي المؤسسة التي تملك الشرعية الأخلاقية للبقاء في عالمٍ لا يرحم الغموض ولا يتسامح مع الانغلاق.


🔟 🔮 نحو منظومة عربية نزيهة للشفافية والمساءلة في الأداء

إنّ بناء منظومة عربية نزيهة للشفافية والمساءلة في إدارة الأداء ليس مجرد طموحٍ إداريٍّ، بل هو مشروع حضاريٌّ يعيد تشكيل علاقة الإنسان العربي بمؤسسته ومجتمعه ودولته، لأنّ الشفافية ليست فقط أسلوب إدارة بل فلسفة وجودٍ تُعيد تعريف معنى السلطة، ومعنى الثقة، ومعنى العدالة في السياق العربي الحديث. فالمنظومة النزيهة هي تلك التي تُوازن بين الخصوصية الثقافية والامتداد الإنساني، وتستفيد من التجارب العالمية دون أن تفقد روحها القيمية، وتبني أنظمتها على الأمانة لا على الخوف، وعلى الثقة لا على الريبة، وعلى المشاركة لا على المركزية. والمنطلق الأول لبناء هذه المنظومة هو الاعتراف بأنّ الشفافية ليست دخيلةً على البيئة العربية، بل متجذّرةٌ في تراثها الأخلاقي والديني، إذ يقول الله تعالى: «ولا تبخسوا الناس أشياءهم»، ويقول سبحانه: «وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم»، وهي آياتٌ تُؤسس لجوهر العدالة التي تقوم عليها المساءلة. وفي السنة النبوية قول النبي ﷺ: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»، وهو مبدأ الأداء بمعناه العميق، لأنّ الإتقان لا يتحقق إلا في بيئةٍ شفافةٍ يُحاسَب فيها الجميع بعدلٍ ويُكرّم فيها المجتهد بوضوحٍ.

ولأنّ المنظومة العربية تتميز بترابطٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ قويٍّ، فإنّ المدخل إلى بناء الشفافية فيها يجب أن يكون قيمياً وإنسانيًا قبل أن يكون تقنيًا، فالثقة لا تُبنى عبر الأنظمة بل عبر القلوب والعقول، والعدالة لا تُفرض بالقوانين بل تُزرع بالقدوة، والمساءلة لا تنجح إن كانت قائمةً على الخوف بل على الشعور بالمسؤولية أمام الله والناس. ولهذا فإنّ تأسيس منظومة عربية نزيهة يتطلب أولًا إعادة صياغة الوعي الجمعي حول مفهومي المساءلة والشفافية، بحيث لا يُنظر إليهما كوسائل مراقبةٍ أو عقابٍ بل كأدوات تمكينٍ وتطويرٍ. فالشفافية في الفكر العربي المعاصر يجب أن تُحرر من صورة التجسس أو الفضح، لتُعاد تعريفها كحقٍ في المعرفة وواجبٍ في الأمانة، والمساءلة يجب أن تُحرر من صورة التحقيق والتأنيب، لتُعاد تعريفها كعمليةٍ تربويةٍ لتحسين الأداء ورفع الكفاءة. هذه التحولات في اللغة والمعنى تُمهّد لتغييرٍ ثقافيٍّ حقيقيٍّ، لأنّ الكلمات حين تتغير تتغير معها السلوكيات والأنظمة.

ولكي تكون المنظومة العربية نزيهةً ومستدامةً، يجب أن تُبنى على أربعة أركانٍ مترابطةٍ: الركن القيمي، والركن التشريعي، والركن المؤسسي، والركن التقني. فالركن القيمي هو الأساس الذي يمنحها المصداقية، ويقوم على ترسيخ قيم الأمانة والصدق والعدالة في الثقافة المؤسسية من خلال التعليم والإعلام والخطاب القيادي. والركن التشريعي هو الذي يمنحها الشرعية، عبر وضع القوانين والأنظمة التي تُلزم بالإفصاح العادل والمساءلة المنصفة، وتُحدّد الحقوق والواجبات، وتفرض العقوبات على إساءة استخدام المعلومات أو السلطة. أما الركن المؤسسي فهو الذي يمنحها الهيكل والديمومة، من خلال إنشاء وحداتٍ للحوكمة والمراجعة والامتثال داخل كل جهةٍ حكوميةٍ وخاصةٍ، تضمن تطبيق المعايير ومراقبة الأداء ونشر التقارير. وأخيرًا الركن التقني، وهو الذي يمنحها الشفافية التشغيلية عبر الأنظمة الرقمية والمنصات المفتوحة التي تُتيح الوصول إلى البيانات في الزمن الحقيقي وتمنع التلاعب أو الاحتكار. وحين تتكامل هذه الأركان الأربعة يتحول مفهوم الشفافية من شعاراتٍ إلى ممارسةٍ يوميةٍ تُدار تلقائيًا داخل النظام المؤسسي.

غير أنّ هذه الأركان لا تكفي وحدها إن لم تُبنَ على رؤيةٍ استراتيجيةٍ عربيةٍ موحّدةٍ تنقل الشفافية من الإطار المحلي إلى الإطار الإقليمي، فالعالم اليوم يتعامل مع الشفافية كقوةٍ ناعمةٍ تحدّد مصداقية الدول ومكانتها الدولية، ومن ثمّ فإنّ بناء منظومةٍ عربيةٍ مشتركةٍ للمساءلة والإفصاح أصبح ضرورةً استراتيجيةً لا خيارًا إداريًا. ويمكن لهذه الرؤية أن تستند إلى مبادئ جامعةٍ مثل "العدالة في الأداء" و"الحق في المعرفة" و"التمكين عبر الوضوح"، وأن تُدار عبر مجلسٍ عربيٍّ موحّدٍ لتطوير نظم الأداء الحكومي والوظيفي، يتولى وضع المعايير العربية للحوكمة، وتنسيق تبادل الخبرات، وتوحيد المصطلحات والمقاييس. فالعالم العربي بحاجةٍ إلى مرجعيةٍ عربيةٍ في الشفافية والمساءلة تكون بديلاً عن النماذج الغربية التي لا تراعي الخصوصية الثقافية ولا القيم الاجتماعية. إنّ وجود هذا الإطار العربي سيُسهم في بناء ما يمكن تسميته بـ «الهوية الأخلاقية للأداء العربي» التي توازن بين الصراحة والاحترام، وبين الحزم والرحمة، وبين الإفصاح والحكمة.

ولأنّ العدالة تبدأ من التعليم، فإنّ المنظومة النزيهة يجب أن تُغرس جذورها في المناهج التعليمية والتدريبية، بحيث يتعلّم الطالب منذ مراحله الأولى معنى الشفافية كقيمةٍ إنسانيةٍ، ويمارسها في حياته المدرسية عبر التقييم العادل، والعمل الجماعي، وتقبّل النقد، واحترام المعلومات. فالثقافة لا تُصنع في المكاتب العليا بل في الصفوف الأولى. كما يجب أن تُدرّب القيادات الإدارية على ممارسة الشفافية كمهارةٍ قياديةٍ، لأنّ القائد العربي الذي يتقن فن الحوار الصادق وإدارة النقد العلني باحترامٍ هو حجر الزاوية في أي تحولٍ حقيقيٍّ نحو النزاهة المؤسسية. ولهذا فإنّ برامج القيادة الحديثة في العالم العربي ينبغي أن تتضمن وحداتٍ متخصصةً في "أخلاقيات الشفافية" و"المساءلة الذكية"، لتربط بين السلوك القيادي والقيم الأخلاقية وتُعيد تعريف النجاح الإداري بأنه تحقيق الأهداف بالعدل لا بالأرقام فقط.

ومن التحديات الكبرى التي تواجه بناء المنظومة العربية للمساءلة والشفافية هو التفاوت بين النضج المؤسسي والنضج الثقافي، فبعض المؤسسات العربية قد تمتلك أنظمة أداءٍ رقميةٍ متطورةٍ لكنها تفتقر إلى ثقافة الاعتراف، وبعضها يملك قوانين إفصاحٍ متقدمةٍ لكنها تُمارس الغموض خوفًا من النقد. وهنا يأتي دور القيادة في تحقيق التوازن بين التطوير التقني والتحول القيمي. فالمؤسسة التي تريد أن تكون نزيهةً حقًا يجب أن تتبنى ما يُعرف بـ «الشفافية التربوية»، أي أن تُعلّم موظفيها تدريجيًا معنى الصراحة المهنية وحدودها، وأن تُدرّبهم على تقديم المعلومات بوعيٍ واحترامٍ وسياقٍ صحيحٍ. كما يجب أن تتبنى الدول العربية حملاتٍ وطنيةً لتوعية المجتمع بأهمية الشفافية في الأداء الحكومي، لتُحوّل الرقابة المجتمعية من حالة نقدٍ سلبيٍّ إلى شراكةٍ بنّاءةٍ في التطوير. فالثقافة العامة الداعمة للشفافية هي التي تحمي المنظومة من الانحراف حين تتغير القيادات أو تتبدّل الظروف.

ولتحقيق النزاهة في الأداء العربي، لا بد من إعادة هندسة العلاقة بين المواطن والمؤسسة، بحيث يُنظر إلى المواطن لا كمستفيدٍ صامتٍ بل كشريكٍ فاعلٍ في الرقابة والتطوير. فالشفافية لا تُمارس فقط داخل المؤسسات بل تمتد إلى المجتمع كله، من خلال نشر تقارير الأداء، وإشراك المواطنين في التقييم، وفتح قنوات الملاحظات والمقترحات، لأنّ المساءلة تبدأ من الداخل ولكنها لا تكتمل إلا بالخارج. وحين يشعر المواطن العربي أنّ الحكومة تُفصح له باحترامٍ، وأنّ الموظف يُحاسب بعدلٍ، وأنّ المعلومة تُقدّم له بصدقٍ، فإنّ الثقة بين الطرفين تتجدد، وتُصبح الشفافية رابطًا اجتماعيًا قبل أن تكون أداةً إدارية.

وفي ظل التحول الرقمي المتسارع في المنطقة، فإنّ التكنولوجيا ستكون الركيزة الأهم في بناء المنظومة النزيهة، لكنها في الوقت نفسه أكبر تحدٍّ، لأنّ الشفافية الرقمية تُخفي في طياتها خطرًا جديدًا هو الإفراط في الإفصاح أو سوء استخدام البيانات. ومن هنا تأتي أهمية بناء تشريعاتٍ عربيةٍ موحّدةٍ لحوكمة البيانات وحماية الخصوصية وتعزيز الأمن المعلوماتي، حتى لا تتحول المنظومة إلى مصدر ضعفٍ أمنيٍّ أو تسريبٍ غير مقصود. كما يجب أن تتبنّى المؤسسات استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل الأداء والتنبؤ بالانحرافات السلوكية أو المؤسسية، على أن تُدار هذه التقنيات بأخلاقياتٍ عربيةٍ واضحةٍ تُحافظ على خصوصية الإنسان وكرامته. فالمنظومة النزيهة ليست فقط تلك التي تُفصح عن المعلومات بل التي تُفصح عنها بضميرٍ، وتُوازن بين حق الجمهور في المعرفة وحق الفرد في الاحترام.

ومن أهم مقومات هذه المنظومة كذلك القيادة الأخلاقية، وهي القيادة التي تُمارس الشفافية كمبدأ حياةٍ لا كوسيلةِ ترويجٍ إعلاميٍّ، وتُحوّل المساءلة إلى طاقةٍ إيجابيةٍ تُحفّز على الأداء لا إلى خوفٍ يُكبّل الإبداع. فالقائد العربي الذي يمتلك الشجاعة للاعتراف والتصحيح هو الذي يصنع ثقافة الثقة من حوله، لأنّ الشفافية تبدأ من الأعلى دائمًا، والمساءلة تفقد معناها إن لم تُطبّق أولًا على من يملك السلطة. ومن هنا يجب أن تكون النزاهة معيارًا لاختيار القيادات وترقيتهم، وأن يُربط تقييم القادة بمستوى ممارستهم للشفافية وعدالتهم في تطبيق المساءلة، لأنّ القدوة هي القانون الأول في التربية المؤسسية.

ولكي تكتمل ملامح المنظومة العربية النزيهة، يجب أن تُصاغ مؤشرات أداءٍ نوعيةٍ لقياس الشفافية والمساءلة، بحيث لا تظلّ القيم الأخلاقية مجرد شعاراتٍ بل تتحول إلى نتائجٍ قابلةٍ للقياس والتحسين. ويمكن أن تشمل هذه المؤشرات مثلًا: درجة وضوح الأهداف للموظفين، معدل المشاركة في اجتماعات الأداء، نسبة الاطلاع على البيانات المفتوحة، عدد الملاحظات المعالجة ضمن زمنٍ قياسي، معدل الرضا عن عدالة التقييم، نسبة الشكاوى الموثقة والمعالجة، ومستوى الثقة المؤسسية العامة. فحين تُقاس الشفافية بالمؤشرات تصبح ثقافةً قابلةً للإدارة والتحسين، وحين تُدار بالضمير تصبح قيمةً قابلةً للاستدامة.

وفي نهاية المطاف، فإنّ بناء منظومة عربية نزيهة للشفافية والمساءلة في الأداء ليس مشروع دولةٍ واحدةٍ بل مشروع أمة، يُعيد للمنطقة العربية مكانتها الحضارية كمركزٍ للعدالة والصدق والعلم والإتقان، تلك القيم التي صنعت حضارتها الأولى. فالشفافية ليست تنازلًا عن السلطة بل ارتقاءٌ بها، والمساءلة ليست نقيضًا للثقة بل ضمانةٌ لاستمرارها، والوضوح ليس ضعفًا في الحوكمة بل ذروتها. والمنظومة العربية المنشودة يجب أن تكون منظومةً تُضيء لا تُدين، تُربّي لا تُعاقب، وتُحاسب لتُصلح لا لتُقصي، لأنّ هدفها الأسمى هو أن تُعيد الإنسان العربي إلى موقعه الطبيعي كمحورٍ للتنمية وغايةٍ للإدارة. وحين يتحقق ذلك، ستصبح الشفافية والمساءلة في الأداء العربي ليست فقط أنظمةً في الملفات، بل ثقافةً في الضمائر، وصوتًا للعقل، وامتدادًا للأمانة التي خُلق الإنسان لأجلها.


🧩 الخاتمة

إنّ التأمل في منظومة المساءلة والشفافية في إدارة الأداء الوظيفي يُظهر لنا أنّها ليست مجرد نظامٍ إداريٍّ قابلٍ للقياس والتطبيق، بل هي في جوهرها منظومة أخلاقية وسلوكية وقيمية تُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمؤسسة، وبين السلطة والمسؤولية، وبين الحقيقة والثقة. فالشفافية هي النور الذي يجعل العدالة ممكنة، والمساءلة هي الميزان الذي يجعل الأداء نزيهًا، وإذا غاب النور انطفأ الميزان، وإذا تعطّل الميزان غابت الثقة، وحين تغيب الثقة ينهار الأداء مهما بلغت كفاءة النظام أو جمال لائحته. لذلك فإنّ المساءلة والشفافية ليستا خيارين إداريين بل شرطين وجوديين لاستمرار المؤسسة في زمنٍ أصبحت فيه المعلومة سريعة، والوعي الجمعي متيقظًا، والمجتمع أكثر قدرةً على الرصد والمساءلة. إنّ المؤسسة التي لا تُفصح تفقد مصداقيتها، والتي لا تُحاسب نفسها يُحاسبها الآخرون، والتي تُخفي الحقيقة تعيش في ظلها حتى تذبل، أما التي تواجه الحقيقة وتُعلنها وتُصلح نفسها فإنها تزداد نضجًا ومناعةً وصلابةً، لأنّ الصراحة ليست ضعفًا في الإدارة بل شجاعة في القيادة.

لقد بيّن هذا المقال أنّ المساءلة والشفافية ليستا إجراءاتٍ منفصلةً بل نَسقًا تكامليًا يبدأ من الفكر وينتهي بالسلوك، ويتجلّى في كل تفصيلةٍ من تفاصيل إدارة الأداء: في التخطيط حين تُوضع الأهداف بوضوحٍ وتُناقش بشراكةٍ، وفي التنفيذ حين تُتابع المؤشرات بصدقٍ وتُعالج الانحرافات بشفافيةٍ، وفي التقييم حين يُشرح القرار وتُتاح المراجعة ويُمنح الحق في الاعتراض، وفي التحسين حين تُعلَن الدروس المستفادة وتُحوّل النتائج إلى فرصٍ للتطوير. فالنظام الذي يُبنى على الغموض يُنتج الخوف، والنظام الذي يُبنى على الوضوح يُنتج الولاء، وهذا هو جوهر العلاقة بين الشفافية والثقة؛ لأنّ الإنسان لا يُطيع من يخافه بل من يفهمه، ولا يلتزم بالنظام لأنه مفروض عليه بل لأنه يؤمن بعدالته. ولهذا فإنّ المساءلة الحقيقية لا تُفرض بالعقوبات بل تُزرع بالقيم، والشفافية لا تُتحقق بالإفصاح القسري بل بالإيمان الداخلي بأنّ الحقيقة، مهما كانت صعبة، هي الطريق الوحيد للإصلاح.

إنّ التجارب الخليجية والعالمية التي استعرضناها تؤكد أن نجاح الشفافية والمساءلة لا يقاس بكمية المعلومات المنشورة ولا بعدد التقارير الصادرة، بل بمدى صدقها وقدرتها على إحداث تغييرٍ حقيقيٍّ في السلوك المؤسسي. فالإفصاح لا قيمة له إن لم يُصحّح المسار، والمساءلة لا جدوى منها إن لم تُنتج تطويرًا. ولهذا فإنّ معيار النضج في أي نظام أداءٍ هو أن تتحول المساءلة من روتينٍ إداريٍّ إلى وعيٍ ذاتيٍّ، وأن تتحول الشفافية من إجراءٍ إلى ثقافةٍ. وحين يبلغ النظام هذا المستوى يصبح مستدامًا بطبيعته، لأنّ القيم هي التي تحميه لا اللوائح، ولأنّ الضمير الجمعي للعاملين هو الذي يُفعّله لا القرارات الفوقية. فالمنظومة الناجحة هي تلك التي تُحوّل الالتزام بالشفافية والمساءلة من خوفٍ من الرقابة إلى فخرٍ بالمشاركة، ومن واجبٍ وظيفيٍّ إلى سلوكٍ حضاريٍّ يعكس وعي الإنسان بقيمته ومسؤوليته.

وفي السياق العربي، يمكن القول إنّ الطريق نحو منظومةٍ نزيهةٍ للشفافية والمساءلة بدأ فعلاً، لكنه يحتاج إلى عمقٍ ثقافيٍّ أكبر واتساعٍ مجتمعيٍّ أوسع. فالقوانين والأنظمة وُضعت، والتقنيات فُعّلت، لكن الثقافة ما زالت في طور التحول. وما لم يُدرك القادة والموظفون والمجتمع أنّ المساءلة ليست عقوبةً بل حماية، وأنّ الشفافية ليست تهديدًا بل أمانًا، فإنّ النظام سيبقى في نصف الطريق. إنّ التحدي الحقيقي لا يكمن في كتابة اللوائح بل في بناء القلوب التي تؤمن بها، لأنّ النية الصادقة في العدالة أقوى من أي نظامٍ مهما كان مُحكمًا. ولهذا فإنّ الإصلاح المؤسسي لا يبدأ من التقنية بل من الإنسان، ولا يكتمل إلا حين يُصبح كل موظفٍ يرى في كشف الحقيقة واجبًا، وفي الاعتراف بالخطأ فضيلةً، وفي تصحيح المسار شرفًا، لأنّ المؤسسة التي يتربى أفرادها على هذه المبادئ لن تحتاج إلى مراقبين دائمين، بل إلى قادةٍ ملهمين يحافظون على الضوء مشتعلاً.

وتبرز هنا أهمية ربط المساءلة والشفافية في إدارة الأداء بالحوكمة الشاملة للمؤسسة، لأنّ الشفافية في الأداء لا يمكن أن تستمر في بيئةٍ يغيب فيها الانضباط المالي أو تضطرب فيها العدالة التنظيمية. فالنزاهة وحدةٌ لا تتجزأ، إما أن تكون شاملةً أو لا تكون. ولهذا فإنّ بناء المنظومة العربية للمساءلة والشفافية يجب أن يكون ضمن رؤيةٍ تكامليةٍ تربط بين الأداء والجودة والحوكمة والإصلاح الإداري، لتُصبح الشفافية خيطًا ناظمًا لكل الأنشطة المؤسسية. كما أنّ الاستثمار في نشر المعرفة المؤسسية وتبادل الخبرات بين الدول العربية سيُعزّز هذا الاتجاه، لأنّ التجارب الناجحة تُلهم، والنجاحات المشتركة تُكرّس المعايير. ومن هنا يمكن الدعوة إلى إنشاء مرصدٍ عربيٍّ للمساءلة والشفافية في إدارة الأداء، يُتابع تطبيق المعايير، ويُصدر التقارير المقارنة، ويُقدّم المشورة للدول والمؤسسات حول أفضل الممارسات، ليُصبح العالم العربي ليس فقط متلقيًا للنماذج بل صانعًا لنموذجٍ خاصٍ به يقوم على القيم والفاعلية في آنٍ واحد.

إنّ الشفافية والمساءلة في نهاية المطاف ليست أدواتٍ لحماية المؤسسة من الأخطاء فقط، بل هي أدواتٌ لصناعة المعنى في العمل. فالموظف الذي يعرف لماذا يُقيَّم وكيف يُقيَّم يُدرك معنى جهده، والقائد الذي يُفصح عن قراراته ويُبرّرها يُعيد للسلطة معناها الأخلاقي، والمجتمع الذي يرى أداء مؤسساته بوضوحٍ يُعيد للثقة معناها الوطني. ومن هنا فإنّ الشفافية والمساءلة لا تُنتجان فقط أداءً أفضل، بل تُنتجان إنسانًا أفضل، ومؤسسةً أكثر نضجًا، ومجتمعًا أكثر وعيًا. وحين يتحقق ذلك، تُصبح إدارة الأداء وسيلةً لإحياء القيم قبل أن تكون وسيلةً لقياس النتائج، لأنّ العدالة في جوهرها ليست رقمًا في تقرير، بل إحساسٌ بالإنصاف يتغلغل في ضمير العاملين، ويجعلهم يُعطون بإخلاصٍ لأنّهم يشعرون بأنّ نظامهم يُنصفهم، ويثقون بأنّ مؤسستهم تراهم كما هم لا كما تُريدهم التقارير أن يكونوا.

وهكذا يمكن القول إنّ المساءلة والشفافية تمثلان نقطة التوازن الكبرى في إدارة الأداء الوظيفي، فهي التي تربط بين العقل الإداري والقلب الإنساني، وبين الأنظمة الباردة والمشاعر الحية، وبين الأهداف المجردة والعدالة الملموسة. فحين تُدار المؤسسة بعقلٍ يُخطّط، وقلبٍ يُنصف، ونظامٍ يُضيء، تتحول المساءلة إلى رعايةٍ والشفافية إلى طمأنينةٍ، وتُصبح المؤسسة بيتًا يُربّي قبل أن يُحاسب، ويُعلّم قبل أن يُراقب، ويُكافئ على الصدق قبل أن يُعاقب على الخطأ. وهذه هي ذروة النضج الإداري الذي نسعى إليه: نظامٌ يُنصف الناس لا يُرهبهم، وبيئةٌ تُعلّمهم كيف يُحاسبون أنفسهم قبل أن يُحاسبهم أحد، ومجتمعٌ مؤسسيٌّ يُقدّر الوضوح لأنه مصدر قوته، ويُمارس الشفافية لأنها جزءٌ من كرامته، ويؤمن أنّ العدالة في الأداء هي صورة العدالة في الحياة نفسها. وعندها فقط نستطيع أن نقول إنّ إدارة الأداء الوظيفي لم تعد مجرد وسيلةٍ لتقييم الجهد، بل أصبحت مدرسةً لبناء الوعي الإنساني والمؤسسي في العالم العربي، وجسرًا حضاريًا يربط بين القيم والإنتاج، وبين الإيمان والكفاءة، وبين الأمانة والإتقان، وهي الغاية التي من أجلها نُقيم الأنظمة ونُطوّر اللوائح ونُؤمن بأنّ الشفافية والمساءلة ليستا مجرد مطلبٍ إداريٍّ، بل وعدٌ أخلاقيٌّ علينا أن نفي به في كل قرارٍ نتخذه وكل أداءٍ نقيّمه وكل إنسانٍ نُسهم في تطويره.


✍🏻 التوثيق للمحتوى

📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات،
ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.

✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد:
د. محمد العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية،
بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.

📲 للاشتراك في قناة د. محمد العامري على واتساب:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z

🌐 للمزيد من المقالات عبر الموقع الرسمي:
👉 www.mohammedaameri.com


📌#إدارة_الأداء #المساءلة #الشفافية #القيادة_الإدارية #الحوكمة #الجدارات #الأداء_الوظيفي #إدارة_الموارد_البشرية #التميّز_المؤسسي #مهارات_النجاح #د_محمد_العامري

تحميل محتوى الصفحة رجوع