د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

ربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي: من KPIs مؤشرات الأداء إلى OKRs الأهداف والنتائج Linking Individual and Organizational Performance: From KPIs to OKRs

يحلّل هذا المقال التحوّل العميق من قياس الأداء إلى هندسة القيمة عبر الربط بين الأداء الفردي والأداء المؤسسي، من خلال دمج مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs) بالأهداف والنتائج الرئيسة (OKRs) لخلق منظومة أداءٍ موحّدةٍ تُوازن بين القياس والتحفيز والابتكار المؤسسي المستدام.

October 31, 2025 عدد المشاهدات : 102

حين تتحوّل المؤسسة من التركيز على مراقبة الأداء إلى هندسة الأداء، ومن متابعة النتائج إلى صناعة القيمة، يصبح الربط بين الأداء الفردي والأداء المؤسسي هو التعبير الأصدق عن النضج الإداري والقيادة الواعية في زمن التحول المؤسسي. فالمؤسسات لا تُقاس اليوم بما تُنجزه فقط، بل بقدرتها على بناء منظوماتٍ بشريةٍ تفهم الاتجاه وتترجمه إلى نتائجٍ ملموسةٍ متصلةٍ بالرؤية الكبرى. هذا الربط ليس مجرد آلية فنية، بل هو فلسفةٌ متكاملةٌ تسعى إلى توحيد البوصلة بين ما يسعى إليه الفرد في مساره المهني وما تسعى إليه المؤسسة في رسالتها المجتمعية. ومن هنا يتكوّن جوهر التكامل بين مؤشرات الأداء (KPIs) والأهداف والنتائج (OKRs) بوصفه الجسر الذي يربط بين الرؤية الاستراتيجية والجهد اليومي، وبين الغاية الكبرى والممارسة الميدانية.

إنّ العالم الإداري الحديث لا ينظر إلى الأداء بوصفه رقمًا يُسجّل أو تقييماً يُمنح، بل بوصفه منظومةً معرفيةً تتكامل فيها الكفاءات البشرية مع النظم المؤسسية والسياسات التشغيلية لتشكّل نسيجًا واحدًا يعبّر عن روح المؤسسة. وفي هذا السياق تتجلّى أهمية ربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي، إذ إنّ نجاح أيّ منظمةٍ يعتمد على مدى قدرتها على خلق اتساقٍ أفقيٍّ وعموديٍّ بين أهدافها الاستراتيجية العليا، وخططها التشغيلية المتوسطة، وجهود العاملين اليومية. فالهدف الفردي الذي يحققه الموظف ليس منفصلًا عن مسار المؤسسة، بل هو لبنةٌ معرفيةٌ وسلوكيةٌ تكمّل البناء الاستراتيجي. ومن هنا يصبح كل إنجازٍ شخصيٍّ إنجازًا مؤسسيًا بالضرورة، وكلّ انحرافٍ فرديٍّ خللًا في النظام الكليّ، مما يُبرز البعد الحوكمي لهذا الربط كضمانٍ لاستدامة النتائج وعدالتها.

لقد تطوّرت فلسفة إدارة الأداء عبر العقود من التركيز على التقييم Evaluation إلى التركيز على التمكين Empowerment، ومن متابعة المؤشرات إلى بناء ثقافة الأداء كقيمةٍ يوميةٍ متجذّرةٍ في السلوك المهني، ومن أنظمةٍ سنويةٍ جامدةٍ إلى منظوماتٍ مرنةٍ تواكب ديناميكيات التغيير. ومع بروز نماذج مثل KPIs وOKRs، انتقلت إدارة الأداء من مرحلةٍ كانت فيها الأهداف مفروضةً من الأعلى إلى مرحلةٍ تشاركيةٍ يُشارك فيها الموظف في صياغة أهدافه ونتائجه، مما جعل الأداء مسؤوليةً مشتركةً لا يُقاس فيها النجاح بالنتيجة وحدها بل بمستوى الوعي التنظيمي الذي ولّدها. إنّ هذا التحوّل يعيدنا إلى المعنى الجوهري لإدارة الأداء كما حدّدته معايير CIPD وISO 30414 وEFQM وSHRM، والتي ترى أنّ الأداء ليس فعلًا إداريًا بل هو نظامُ تعلمٍ وتطويرٍ مستمرٍ يستمدّ قوته من وضوح الاتجاه وتكامل الأدوار واستدامة التحفيز.

إنّ المقال الذي بين أيدينا يفتح هذا الأفق الواسع من خلال تحليلٍ علميٍّ تطبيقيٍّ لرحلة التحول من قياس الأداء إلى قيادته، موضحًا كيف يُمكن للمؤسسات الخليجية أن تبني منظومة ربطٍ مؤسسيةٍ متكاملةٍ بين الفرد والنظام، تُجسّد رؤى التحول الوطني وتُحوّل الخطط الاستراتيجية إلى ممارسةٍ حيةٍ تتنفس عبر مؤشراتٍ دقيقةٍ وأهدافٍ طموحةٍ ونتائجَ قابلةٍ للقياس والتحسين.


📚 الفهرس (Table of Contents)

1️⃣ 🧭 مفهوم ربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي – من التبعية إلى التكامل
2️⃣ 📊 مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs): المنهجية، الوظيفة، والأبعاد القياسية
3️⃣ 🎯 الأهداف والنتائج الرئيسة (OKRs): التحول من القياس إلى الإلهام والتحفيز الذاتي
4️⃣ ⚙️ التكامل بين KPIs وOKRs: نحو منظومة أداءٍ تفاعليةٍ ديناميكيةٍ موحّدة
5️⃣ 🏛 هندسة منظومة الأداء المؤسسي: من الرؤية إلى السلوك الفردي
6️⃣ 🌍 التجارب الخليجية في مواءمة الأداء المؤسسي والفردي: السعودية والإمارات نموذجًا
7️⃣ 🧠 التحديات الفكرية والتنظيمية والثقافية في تطبيق الربط بين المستويات
8️⃣ 🌿 التطبيقات العملية والتوصيات العلمية لبناء منظومة ربطٍ فعّالةٍ ومستدامةٍ في المؤسسات العربية


🧭 المحور الأول: مفهوم ربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي – من التبعية إلى التكامل

يُشكّل ربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي في الفكر الإداري الحديث محورًا مركزيًا في إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والمنظمة، إذ لم تعد المؤسسة المعاصرة كيانًا يوجّه ويُراقب فقط، بل أصبحت منظومةً حيةً تُبنى من الداخل بفعل وعي العاملين فيها، وتتكامل فيها الأدوار والمسؤوليات في نسيجٍ واحدٍ يجسد الإرادة الاستراتيجية للمؤسسة ويترجمها إلى ممارسةٍ واقعيةٍ متواصلة. هذا المفهوم الذي بدأ كمحاولةٍ لضبط العلاقة بين المستويات الإدارية تطوّر اليوم إلى فلسفةٍ شموليةٍ تُعيد صياغة فهمنا لطبيعة العمل ذاته، بحيث لا يُنظر إلى الموظف كأداةٍ تنفيذيةٍ تخضع للأوامر، بل كفاعلٍ إدراكيٍّ يمتلك فهمًا عميقًا للأهداف الكبرى، ويُسهم بوعيه وقدراته في تحويل الرؤية المؤسسية إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع. فالمنظمة الناجحة ليست التي تفرض الأهداف من الأعلى إلى الأدنى، بل التي تنجح في خلق وعيٍ مشتركٍ واتجاهٍ موحّدٍ بين جميع العاملين بحيث يشعر كل فردٍ أن إنجازه الشخصيّ جزءٌ لا يتجزأ من إنجاز المؤسسة بأكملها.

في هذا السياق، لم يعد مفهوم الأداء مقتصرًا على الإنتاجية الفردية أو الالتزام الوظيفي، بل أصبح مرتبطًا بمستوى الانسجام Alignment بين الفرد والنظام. إنّ هذا الانسجام هو حجر الزاوية في تحقيق التوازن بين الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى والنتائج التشغيلية اليومية، وهو ما تشير إليه منهجيات التميز المؤسسي مثل نموذج EFQM الأوروبي عندما تؤكد أن الأداء المؤسسي الفعّال يقوم على قدرة المؤسسة على ترجمة استراتيجيتها إلى أهدافٍ قابلةٍ للقياس عبر المستويات التنظيمية كافة، بحيث يكون كل هدفٍ فرديٍّ انعكاسًا مباشرًا لهدفٍ مؤسسيٍّ أعلى منه. هنا يصبح العمل اليومي للموظف حلقةً من سلسلةٍ كبرى تُسهم في تقدم المؤسسة ككل، ويغدو تحقيق الأهداف الشخصية وسيلةً لتحقيق الأهداف الوطنية أو القطاعية أو المؤسسية الكبرى، فيتحقق بذلك مفهوم الترابط البنيوي للأداء الذي يُعتبر من أبرز مؤشرات النضج التنظيمي.

ويُعرِّف CIPD هذا الترابط بأنه عمليةٌ مستمرةٌ يتم من خلالها مواءمة خطط الأفراد ومؤشراتهم الشخصية مع الاستراتيجية المؤسسية العامة، بهدف بناء بيئةٍ متكاملةٍ تُحفّز الأداء وتضمن تحقيق القيمة. ويتطلّب ذلك أن تُترجم الخطة الاستراتيجية للمؤسسة إلى أهدافٍ تشغيليةٍ واضحةٍ، ثم إلى مؤشرات أداءٍ رئيسيةٍ على مستوى الإدارات، تُشتق منها مؤشراتٌ فرديةٌ على مستوى الموظفين، بحيث يُصبح التسلسل الإداري ليس مجرد هرمٍ للسلطة بل سلسلة قيمة Value Chain تبدأ من الرؤية وتنتهي بالسلوك. وهذا ما يُعرف في الأدبيات الإدارية بمبدأ Cascade of Objectives أي تسلسل الأهداف أو انسيابها من الأعلى إلى الأدنى عبر الطبقات التنظيمية، بحيث يُمكن تتبّع أثر كل هدفٍ فرديٍّ على الأهداف الأعلى، وهو مبدأٌ أساسيٌّ في أنظمة الأداء المعتمدة في دولة الإمارات العربية المتحدة، كما ورد في الدليل الإرشادي لإدارة الأداء الصادر عن الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية، والذي نصّ على أنّ الأهداف الفردية يجب أن تكون مشتقةً مباشرةً من الأهداف المؤسسية وتُراجع دوريًا لضمان الاتساق.

إنّ المؤسسات التي تطبّق هذا المبدأ تلاحظ أن مستوى الوعي بالغاية الكبرى ينعكس مباشرةً على نوعية الأداء، فالموظف الذي يدرك أثر عمله في تحقيق أهداف مؤسسته يعمل بدافعيةٍ أعلى وشعورٍ أعمق بالمسؤولية، بينما الموظف الذي يُؤدي مهامه دون فهمٍ للسياق العام يُنتج نتائج جزئيةً لا تُضيف قيمةً استراتيجية. ومن هنا يمكن القول إنّ الربط بين الأداء الفردي والمؤسسي ليس تقنيةً إداريةً بل ثقافةٌ تنظيميةٌ متكاملة تُعيد تعريف الانتماء والالتزام والمساءلة. فحين يُدرك الأفراد أن نجاح المؤسسة يُترجم إلى نجاحهم، وأن أداءهم يُقاس بقدر إسهامهم في تحقيق رؤيتها، تتحوّل إدارة الأداء إلى منظومةٍ من الشراكة في الإنجاز، لا إلى نظام رقابيٍّ يُقيّد الحرية ويُحبط المبادرة.

لقد أكّدت التجارب الخليجية الحديثة هذا التحول بوضوح، فالنظام السعودي للأداء الوظيفي – كما ورد في الدليل الإرشادي للائحة الأداء الصادر عن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية – لم يعد يقتصر على عملية تقييمٍ سنويةٍ منفصلة، بل أصبح منظومةً تفاعليةً تبدأ بتحديد الأهداف المشتركة بين الرئيس المباشر والموظف، مرورًا بعمليات المراجعة الدورية والتغذية الراجعة، وانتهاءً بربط نتائج التقييم بخطط التطوير الفردي (IDP) وبرامج التحفيز والترقيات. هذا النموذج يؤسس لعلاقةٍ جديدةٍ بين الموظف والمؤسسة قائمةٍ على الحوار المستمر والمسؤولية المشتركة، حيث تتحول عملية الأداء من تقييمٍ للنتائج إلى إدارةٍ للنمو.

أما في دولة الإمارات، فقد طوّر النظام الاتحادي لإدارة الأداء نموذجًا أكثر نضجًا حين حدد ثلاث ركائزٍ رئيسةٍ تشكّل البنية الأساسية للربط بين الفرد والمؤسسة، وهي: الأهداف، والكفاءات، والمراجعة الدورية. فالأهداف تمثّل ما يجب تحقيقه (What)، والكفاءات تمثل كيف يُنجز (How)، والمراجعة الدورية تمثّل آلية المتابعة والتطوير المستمر. وقد أكّد النظام أن فعالية الأداء المؤسسي لا تتحقق إلا حين يُصبح الأداء الفردي مرآةً تعكس التقدم نحو تحقيق الخطة الاستراتيجية، وأنّ كل موظفٍ – بغض النظر عن درجته – هو شريكٌ مباشرٌ في تحقيق النتائج الوطنية. هذا النموذج يعكس فلسفة القيادة بالجدارات التي تربط بين السلوك الفردي والنتائج المؤسسية عبر منظومةٍ متكاملةٍ من مؤشرات الأداء النوعية والكمية، وهي الفلسفة ذاتها التي تنسجم مع توجهات ISO 30414 الخاصة بقياس رأس المال البشري في المؤسسات.

إنّ الربط بين الأداء الفردي والمؤسسي لا يمكن أن يُختزل في المعايير الرقمية وحدها، إذ إنّ الأبعاد النفسية والسلوكية تلعب دورًا محوريًا في تشكيل أنماط الأداء. فحين تُحفّز المؤسسة موظفيها على الإبداع، وتمنحهم الثقة والمسؤولية، فإنها تبني لديهم إحساسًا بالملكية والمشاركة، فيتحول الأداء من واجبٍ وظيفيٍّ إلى التزامٍ ذاتيٍّ. وحين يُبنى النظام على الثقة لا على الخوف، وعلى الشفافية لا على الغموض، وعلى التواصل لا على الأوامر، فإنّ الأداء يصبح انعكاسًا طبيعيًا لثقافة المؤسسة. لذا فإنّ نجاح الربط بين المستويات يعتمد أولًا على نضج الثقافة التنظيمية بقدر ما يعتمد على دقة الأدوات. الثقافة التي تُقدّر الجهد، وتُكافئ المبادرة، وتُعيد تعريف الفشل بوصفه فرصةً للتعلم، هي وحدها القادرة على تحويل نظام الأداء إلى منظومة تحفيزٍ مستدامةٍ تخلق الدافعية الذاتية لدى الأفراد.

وبذلك يمكن القول إنّ الانتقال من مرحلة التبعية إلى مرحلة التكامل ليس مجرد خطوةٍ تنظيميةٍ بل هو تحوّلٌ فكريٌّ في طريقة فهمنا للأداء ذاته. ففي التبعية يكون الموظف منفذًا لتعليماتٍ تصدر من الإدارة العليا، ويُقاس نجاحه بمدى التزامه، بينما في التكامل يصبح شريكًا في صياغة القرار ومسؤولًا عن تحقيق القيمة. في التبعية يُقاس الأداء بالكمّ، وفي التكامل يُقاس بالأثر. في التبعية يُمارس التقييم كرقابةٍ، وفي التكامل يُمارس كتعلمٍ وتطويرٍ ونموٍّ متبادل. هذا التحول من منطق السيطرة إلى منطق المشاركة هو ما يجعل المؤسسات القائدة في القرن الحادي والعشرين قادرةً على المنافسة في بيئاتٍ معقدةٍ سريعة التغير، لأنه يمنحها مرونةً تنظيميةً عاليةً، ويخلق في داخلها طاقةً إنسانيةً مستمرةً تغذي الابتكار والتحسين.

ومن المنظور الفلسفي، يمكن النظر إلى هذا الربط بوصفه تجسيدًا لفكرة الوحدة داخل التنوع، إذ تتوحّد الاتجاهات دون أن تتطابق، وتتنوّع الأدوار دون أن تتعارض، فيتحقق الانسجام البنيوي الذي يجعل المؤسسة كيانًا واعيًا بذاته، متوازنًا بين مكوناته، قادرًا على التعلم والتكيّف والنمو. وهذا بالضبط ما قصده المفكرون المعاصرون في نظريات النظم Systems Theories حين شبّهوا المؤسسة بالكائن الحي الذي لا يزدهر إلا إذا تفاعلت خلاياه بذكاءٍ وتكاملٍ ووحدةٍ وظيفيةٍ.

إنّ جوهر ربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي هو إذًا الوعي الجمعي بالغاية المشتركة، والقدرة على تحويل هذا الوعي إلى عملٍ منسّقٍ متكاملٍ لا يعرف الانفصال بين الفرد والجماعة. وحين تصل المؤسسة إلى هذه الدرجة من النضج، يصبح الحديث عن الأداء حديثًا عن الثقافة والهوية والاتجاه أكثر من كونه حديثًا عن التقييم والإجراءات. ومن هنا يبدأ الطريق الحقيقي للتميز المؤسسي، حيث يُصبح الأداء لغة الحياة اليومية للمؤسسة، لا نشاطًا إداريًا يُمارس في نهاية العام.


📊 المحور الثاني: مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs): المنهجية، الوظيفة، والأبعاد القياسية


تُعدّ مؤشرات الأداء الرئيسية، أو ما يُعرف اصطلاحًا بـ Key Performance Indicators (KPIs)، الأداة المحورية التي تُترجم الرؤية الاستراتيجية إلى معايير تشغيليةٍ يمكن قياسها، وتُحوّل الغايات المجردة إلى مقاييس موضوعيةٍ واضحةٍ تُعبّر عن مدى التقدّم نحو تحقيق الأهداف المؤسسية والفردية. فهي ليست أرقامًا جامدةً تُدرج في التقارير السنوية، بل هي – في جوهرها – لغة الأداء التي تتحدث بها المؤسسة مع ذاتها، وتعكس وعيها بما هو مهمٌّ حقًّا، لا بما هو سهل القياس. إنّ بناء مؤشرات أداء فعّالة يعني في الحقيقة بناء منظومةٍ معرفيةٍ تشترك فيها الإدارة والموظفون والمستفيدون في تعريف النجاح ومعاييره، ويعني أيضًا ترسيخ ثقافةٍ تنظيميةٍ تُقدّر النتائج بقدر ما تُقدّر الجهود، وتُوازن بين الكمّ والنوع، بين الإنتاجية والقيمة، وبين الإنجاز الآنيّ والأثر الاستراتيجي طويل المدى.

لقد تطوّر مفهوم مؤشرات الأداء الرئيسية عبر المراحل التاريخية لإدارة الأداء من مجرد مقاييس تشغيليةٍ بسيطةٍ تُستخدم لتقييم الإنتاجية، إلى منظومةٍ متكاملةٍ للحوكمة والقياس والتحسين المستمر. ففي البدايات كانت المؤسسات تُقيس الأداء من خلال عدد الوحدات المنتجة أو الخدمات المقدّمة أو الإيرادات المتحققة، دون النظر إلى مدى اتساق تلك النتائج مع أهدافها العليا. ومع تطور الفكر الإداري، وظهور مدارس الإدارة الاستراتيجية وإدارة الجودة الشاملة، وخصوصًا بعد اعتماد نموذج Kaplan & Norton للبطاقة المتوازنة للأداء (Balanced Scorecard) في تسعينات القرن الماضي، بدأت المؤشرات تُبنى على أسسٍ علميةٍ تربط بين المنظور المالي والمنظور التشغيليّ ومنظور العملاء ومنظور التعلم والنمو. هذا التطور أوجد مفهومًا جديدًا للأداء المؤسسي يقوم على الترابط المتبادل بين النتائج والممكنات، أي بين ما تحققه المؤسسة وما تمتلكه من موارد بشرية وتنظيمية ومعرفية تمكّنها من تحقيقه.

وفي هذا السياق، أصبحت مؤشرات الأداء أداةً مزدوجةَ الوظيفة: فهي من جهةٍ وسيلةٌ للقياس الموضوعيّ، ومن جهةٍ أخرى محفّزٌ ثقافيٌّ يوجّه السلوك التنظيمي نحو ما يُعدّ ذا قيمةٍ في المؤسسة. فحين تُحدّد الإدارة العليا مجموعةً من المؤشرات، فإنها لا تُحدّد فقط ما سيتمّ قياسه، بل تُحدّد أيضًا ما سيتمّ التركيز عليه، وما سيعتبره الموظفون معيارًا للنجاح. ولهذا يُقال في الأدبيات الإدارية: "ما يُقاس يُنفَّذ، وما لا يُقاس يُهمَل". إنّ اختيار المؤشرات هو في حدّ ذاته فعلٌ قياديٌّ يعبّر عن الأولويات الاستراتيجية للمؤسسة، ويُحدّد اتجاه طاقتها الجماعية. فالمؤسسة التي تُركّز مؤشراتها على سرعة الإنجاز فقط قد تُهمل الجودة، والمؤسسة التي تُركّز على خفض التكاليف قد تُضحّي بالابتكار، والمؤسسة التي تُركّز على إرضاء العملاء فقط قد تُغفل كفاءة مواردها البشرية. ومن هنا تنبع أهمية التوازن المنهجيّ في تصميم مؤشرات الأداء.

وفقًا لمعايير ISO 30414 الخاصة بقياس رأس المال البشري، فإنّ المؤشر الجيد يجب أن يكون ذكياً SMART، أي محددًا (Specific)، قابلاً للقياس (Measurable)، قابلًا للتحقيق (Achievable)، ذا صلةٍ مباشرةٍ بالهدف (Relevant)، ومحدّدًا بزمنٍ واضحٍ (Time-bound). غير أنّ الذكاء الحقيقي في بناء المؤشرات لا يكمن في استيفاء هذه المعايير فقط، بل في القدرة على صياغة علاقةٍ سببيةٍ واضحةٍ بين المؤشر والغاية الكبرى. فالمؤشر ليس غايةً في ذاته، بل وسيلةٌ لإثبات أن الجهود اليومية تسير في الاتجاه الصحيح، وأنّ الموارد تُستخدم بكفاءة، وأنّ الأداء الفردي يُسهم فعليًا في الأداء المؤسسي. إنّ كل مؤشرٍ يجب أن يُجيب بوضوحٍ عن سؤالين محوريين: ماذا نريد أن نعرف؟ ولماذا نريد أن نعرفه؟، لأنّ الإجابة عن السؤال الثاني هي التي تُحدّد القيمة الحقيقية للمؤشر.

وتُقسّم المؤشرات في التطبيق العملي إلى ثلاث فئاتٍ رئيسةٍ متكاملة:
أولًا: مؤشرات النتائج (Lagging Indicators)، وهي المؤشرات التي تُظهر ما تحقق فعليًا بعد تنفيذ الأنشطة، مثل الإيرادات، ونسبة رضا العملاء، ومعدّل الإنجاز، وهي ضرورية لتقييم الأثر لكنها لا تُظهر مسار التحسين.
ثانيًا: مؤشرات القيادة أو التقدّم (Leading Indicators)، وهي التي تُقيس الأنشطة السابقة للنتائج، مثل عدد الدورات التدريبية، أو معدّل التواصل مع العملاء، أو سرعة الاستجابة، وهي تساعد في استشراف الأداء قبل أن يظهر أثره النهائي.
ثالثًا: مؤشرات الكفاءة والفعالية (Efficiency & Effectiveness Indicators)، وهي التي تُوازن بين الموارد المستهلكة والمخرجات المحققة، وتُستخدم لتقييم القيمة مقابل الجهد، وهي تمثّل الصلة بين النتائج والممكنات.

إنّ الجمع بين هذه الأنواع الثلاثة هو ما يخلق صورةً متكاملةً للأداء تسمح للمؤسسة بتحديد مواضع القوة وفرص التحسين بدقةٍ وموضوعيةٍ. وقد تبنّت أنظمة الأداء الخليجية الحديثة هذا التصنيف في أدلّتها الإرشادية، حيث نصّ الدليل السعودي للأداء الوظيفي على أهمية أن تشمل مؤشرات الأداء مستوياتٍ كميةً ونوعيةً، وأن تُمكّن الرئيس والموظف من مناقشة النتائج بصورةٍ دوريةٍ لتحديد الإجراءات التصحيحية في الوقت المناسب، لا بعد فوات الأوان. أما النظام الإماراتي فقد ذهب أبعد من ذلك حين جعل المؤشرات الفردية امتدادًا مباشرًا للمؤشرات المؤسسية عبر نظامٍ رقميٍّ متكاملٍ يُمكّن من تتبّع الأثر عبر المستويات كافة، بحيث تُربط مؤشرات الإدارات بمؤشرات القطاعات، ومؤشرات القطاعات بمؤشرات الجهة، ومؤشرات الجهة بمؤشرات الأداء الوطني ضمن رؤية الإمارات 2071.

وتُظهر الدراسات التطبيقية في هذا المجال أنّ المؤسسات التي تُجيد بناء مؤشرات الأداء وفق منهجيةٍ متوازنةٍ ومتكاملةٍ تتمتع بقدرةٍ أعلى على التنبؤ بالمستقبل واتخاذ القرار الاستباقي. فعلى سبيل المثال، عندما تعتمد مؤسسةٌ مؤشراتٍ لقياس الرضا الوظيفي، والتعلّم التنظيمي، ونسبة تنفيذ المبادرات، بجانب مؤشرات الأداء المالي، فإنها تخلق نظامًا قادرًا على قياس الحيوية المؤسسية لا الربحية فقط، وهذا ما يجعلها أكثر استدامةً في المدى البعيد. وفي المقابل، فإنّ المؤسسات التي تُركّز على مؤشراتٍ قصيرة الأمد دون رؤيةٍ شموليةٍ تُعاني عادةً من “العمى الاستراتيجي”، إذ تنجح في تحقيق الأهداف الآنية ولكنها تفشل في بناء القدرات المستقبلية.

ولكي تُسهم مؤشرات الأداء في الربط الفعّال بين الأداء الفردي والمؤسسي، ينبغي أن تتحقق فيها ثلاثة شروطٍ رئيسةٍ:
أولًا: الاشتقاق الهرمي Hierarchical Derivation، أي أن تكون كل مجموعةٍ من المؤشرات على مستوى إداريٍّ أدنى مشتقةً مباشرةً من المؤشرات الأعلى، مما يُنشئ تسلسلًا منطقيًا للأداء من الرؤية إلى التنفيذ.
ثانيًا: الشفافية والمشاركة Transparency & Engagement، بمعنى أن تكون المؤشرات معروفةً ومفهومةً لكل من يُسهم في تحقيقها، وأن يشارك الموظفون في تحديدها ومراجعتها، مما يُعزّز الإحساس بالمسؤولية والانتماء.
ثالثًا: الديناميكية Dynamic Adaptation، أي أن تُراجع المؤشرات بانتظامٍ لتتكيّف مع التغيرات في البيئة الداخلية والخارجية، لأنّ المؤشر الذي لا يتغيّر يصبح مع الزمن عديم الجدوى.

إنّ تطبيق هذه الشروط يُحوّل مؤشرات الأداء من أدوات قياسٍ إلى أدوات تعلمٍ وتطويرٍ وتحفيزٍ. فالبيانات الناتجة عن المؤشرات تُصبح موردًا استراتيجيًا يُغذّي عمليات صنع القرار، ويُسهم في بناء ثقافة التحسين المستمر. وهنا يتجلّى الرابط العميق بين KPIs ومفهوم إدارة المعرفة Knowledge Management، إذ إنّ المؤشرات في جوهرها تمثّل نظامًا منظمًا لتحويل البيانات إلى معرفةٍ، والمعرفة إلى أفعالٍ، والأفعال إلى نتائجٍ ذات قيمةٍ مضافة.

من منظورٍ إنسانيٍّ، لا بدّ من التذكير بأنّ المؤشرات مهما بلغت دقتها لا يمكن أن تحلّ محلّ الوعي البشريّ، لأنّ الأداء في النهاية فعلٌ إنسانيٌّ قبل أن يكون رقمًا أو معادلة. فالمؤشر يُقيس، لكنه لا يُلهم، ويُظهر الانحراف، لكنه لا يُصلحه. ولذلك فإنّ فعالية مؤشرات الأداء تعتمد على قدرة القيادة على قراءة الأرقام بروحٍ إنسانيةٍ ووعيٍ مؤسسيٍّ يدرك أن وراء كل رقمٍ قصةَ جهدٍ وسلوكٍ وتفاعلٍ ومعنى. هذه القراءة الواعية هي ما يُحوّل نظام المؤشرات إلى منظومة قيادةٍ وتحفيزٍ لا مجرد نظامٍ رقابيٍّ إداريٍّ تقليديٍّ.

وعليه، فإنّ مؤشرات الأداء الرئيسية تمثّل اليوم العمود الفقري لأي نظامٍ فعّالٍ لإدارة الأداء المؤسسي، ولكنها تظلّ بحاجةٍ إلى أن تُكمّلها الأهداف والنتائج الرئيسة (OKRs) لتضيف إليها البُعد الديناميكيّ والتحفيزيّ الذي يجعل الأداء فعلًا استباقيًا لا ردّ فعلٍ، ومسارًا للتعلّم لا مجرّد أداةٍ للحكم والتصنيف. وهذا ما سيُتناول تفصيلًا في المحور الثالث من هذا المقال، حيث سننتقل من منطق القياس إلى منطق الإلهام والتحفيز، لنرى كيف تتكامل KPIs وOKRs في بناء منظومة أداءٍ متوازنةٍ تجمع بين الدقة والمغزى، بين المؤشر والمعنى، وبين الهدف والنتيجة.


🎯 المحور الثالث: الأهداف والنتائج الرئيسة (OKRs): التحول من القياس إلى الإلهام والتحفيز الذاتي


حين دخلت المنظمات مرحلة النضج في إدارة الأداء، لم يعد كافيًا أن تُقاس النتائج بالأرقام وحدها، ولا أن تُربط الأهداف بمؤشراتٍ جامدةٍ تُتابعها الإدارة عبر تقاريرٍ دوريةٍ متكرّرةٍ تخلو من المعنى الإنساني، لأن الأداء لم يعد مجرد “ماذا نفعل؟” بل أصبح أيضًا “لماذا نفعل؟ وكيف نشعر بما نفعل؟”. وهنا بزغ نموذج الأهداف والنتائج الرئيسة (Objectives and Key Results – OKRs) كأحد أهم التحولات الفكرية والمنهجية في تاريخ الإدارة الحديثة، ليملأ الفجوة بين القياس والتحفيز، وبين الانضباط والابتكار، وليحوّل إدارة الأداء من نظام مراقبةٍ إلى ثقافة قيادةٍ واعيةٍ تشاركيةٍ تُلهم قبل أن تُقيِّم.

ظهر مفهوم OKRs أول مرةٍ في السبعينات على يد أندي غروف (Andy Grove) في شركة Intel، ثم تبنّاه جون دوِر (John Doerr) لاحقًا ونقله إلى شركة Google في تسعينات القرن الماضي، لتتحول هذه الفكرة إلى أحد أسرار ثقافة الأداء في أكبر شركات العالم. غير أن هذا المفهوم تجاوز الإطار التقني ليصبح منهجًا إداريًا متكاملًا في التفكير بالنتائج، إذ يقوم على مبدأين جوهريين: الأول أن الأهداف يجب أن تكون طموحةً بما يكفي لتلهم الجهود، لكنها واقعيةٌ بما يكفي لتوجّه الموارد، والثاني أن النتائج الرئيسة يجب أن تكون محدّدةً وقابلةً للقياس لتترجم الطموح إلى فعلٍ ملموسٍ يُمكن تتبّعه وتحسينه.

ولفهم هذا التحول العميق، يجب أن نُدرك أنّ OKRs ليست نسخةً مطوّرةً من مؤشرات الأداء KPIs، بل هي فلسفةٌ مكمّلةٌ لها في الأصل. فبينما تركّز مؤشرات الأداء على قياس ما تمّ تحقيقه من نتائجٍ مقابل المعايير المحددة، فإن OKRs تُركّز على تحفيز الأفراد والفرق على تحقيق ما لم يتحقق بعد، أي على توسيع الأفق الذهنيّ والمؤسسيّ نحو الممكن والمحتمل. فالأداء في نموذج OKRs لا يُقاس فقط بما تحقق، بل يُقاس أيضًا بمستوى الجرأة في صياغة الأهداف، وبمدى الإلهام الذي تولّده داخل المؤسسة. فكل هدفٍ يُحدّد وفق هذا النموذج يجب أن يكون محفّزًا، عميق المعنى، واضح الاتجاه، يعكس رؤية المؤسسة وقيمها، ويمنح كل موظفٍ شعورًا بأنّ عمله جزءٌ من قصةٍ أكبر تكتبها المؤسسة مع الزمن.

إنّ جوهر النموذج يقوم على ثنائية التكامل بين الإلهام والانضباط، إذ لا يمكن أن تنجح المؤسسة في تبنّي الأهداف الطموحة ما لم تمتلك نظامًا منضبطًا للمتابعة، ولا يمكن أن تُلهم موظفيها ما لم تمنحهم الحرية للمشاركة في صياغة الأهداف والنتائج. ولذلك، فإنّ OKRs تُعدّ من أكثر الأدوات التي تجمع بين القيادة التشاركية والمساءلة المؤسسية، فهي تمنح الأفراد شعورًا بالملكية والمساهمة في النجاح الجماعي، وفي الوقت نفسه تُلزمهم بمقاييس أداءٍ واضحةٍ تتيح المتابعة والتقويم المستمر. هذا المزيج هو ما يجعل نموذج OKRs أقرب إلى “نظام تحفيزٍ مؤسسيٍّ قائمٍ على الوعي”، لا إلى “نظام تقييمٍ إداريٍّ قائمٍ على الأوامر”.

وقد أظهرت الدراسات التطبيقية التي أجرتها مؤسسات مثل Harvard Business Review وCIPD أنّ المنظمات التي تبنّت نموذج OKRs سجّلت معدلات أعلى في المشاركة الوظيفية والابتكار المؤسسي بنسبةٍ تجاوزت 40% مقارنةً بتلك التي تعتمد فقط على أنظمة KPIs التقليدية. ويرجع ذلك إلى أن OKRs لا تُفرض من الأعلى، بل تُصاغ بالتشارك بين القيادة والفِرق، مما يخلق حالةً من التفاعل الشعوريّ والمعنويّ بين العاملين وأهدافهم. فعندما يُسهم الموظف في صياغة الهدف، يصبح تحقيقه التزامًا ذاتيًا نابعًا من الداخل لا أمرًا إداريًا يُفرض من الخارج. هذه النقلة من الامتثال إلى الالتزام تمثل ذروة النضج في إدارة الأداء، لأنها تُحوّل الطاقة التنظيمية من طاقةٍ دفاعيةٍ إلى طاقةٍ إبداعيةٍ قادرةٍ على تجاوز التوقعات.

إنّ نموذج OKRs يفرض على المؤسسات أن تُفكّر بطريقةٍ جديدةٍ في صياغة الأهداف نفسها، فلا تعود الأهداف مجرّد عباراتٍ كميةٍ محددةٍ كـ “زيادة المبيعات بنسبة 10%”، بل تصبح قصصًا تحفيزيةً تعبّر عن الرؤية الكبرى مثل “مضاعفة أثرنا في السوق من خلال تطوير تجربة العميل” أو “تحقيق بيئة عملٍ تُلهم الإبداع وتحتضن الأفكار الجديدة”. ثم تُترجم هذه الأهداف الملهمة إلى نتائج رئيسةٍ قابلةٍ للقياس مثل “إطلاق 3 منتجاتٍ جديدةٍ خلال الربع القادم” أو “تحقيق نسبة رضا موظفين تتجاوز 85%”. هذا الدمج بين المعنى الرقمي والمعنى الرمزي يجعل الهدف المؤسسي أكثر عمقًا وإنسانية، ويخلق علاقة وجدانية بين الموظف والمؤسسة.

وتتميّز OKRs أيضًا بكونها مرنةً زمنياً وديناميكيةً منهجياً، فهي لا تُربط عادةً بدورةٍ سنويةٍ مغلقةٍ كما في أنظمة الأداء التقليدية، بل تُراجع كل ربعٍ أو نصف عامٍ، مما يسمح بإعادة ضبط الاتجاهات بسرعةٍ ومواكبة التغيرات في السوق والبيئة التنظيمية. فالمؤسسة التي تعتمد على OKRs تُصبح أكثر قدرةً على التكيّف مع الواقع وأكثر استعدادًا لاستثمار الفرص، لأنها تُركّز على التعلم المستمر لا على التقييم النهائي. وهذا ما يجعل هذا النموذج مناسبًا جدًا لبيئات العمل الخليجية المعاصرة التي تشهد تحولاتٍ سريعةٍ ضمن مشاريع التحول الوطني مثل رؤية السعودية 2030 ورؤية الإمارات 2071، حيث تتطلب تلك المشاريع أنظمةً مرنةً تقيس الأداء لكنها في الوقت نفسه تُحفّز الابتكار وتُشعل الحماس الجماعيّ نحو التغيير.

ويُمكن القول إنّ التحوّل من KPIs إلى OKRs هو تحوّلٌ من منطق "الرقابة على الأداء" إلى منطق "قيادة الأداء". ففي حين تسعى KPIs إلى الإجابة عن سؤال: هل أنجزنا ما خطّطنا له؟، تسعى OKRs إلى الإجابة عن سؤالٍ أعمق: هل أنجزنا ما يستحق الإنجاز فعلًا؟. هذا الفرق البسيط في الصياغة يُحدث فارقًا جوهريًا في الثقافة المؤسسية. فالأولى تُقيس الالتزام، والثانية تُقيس الإلهام. الأولى تُركّز على الماضي، والثانية تُركّز على المستقبل. الأولى تتابع النتائج التي تحققت، والثانية تُحفّز السلوك الذي سيصنع النتائج القادمة. ولذلك فإنّ المؤسسات التي تطبّق OKRs تُعتبر أكثر نضجًا لأنها تخلق توازنًا بين التحكم التنظيمي والتحفيز الإنساني، وتجمع بين الصرامة في القياس والمرونة في الابتكار.

وفي التجارب الخليجية الحديثة، بدأت بعض الجهات الحكومية والشركات الكبرى في الإمارات والسعودية بتبنّي فلسفة OKRs في سياق تطوير منظومات الأداء المؤسسي والحوكمة. ففي الإمارات، أطلقت جهات اتحادية عدة مثل وزارة الاقتصاد وهيئة تنمية المجتمع مبادراتٍ لتطبيق الأهداف الطموحة القصيرة المدى كأداةٍ لتسريع الابتكار المؤسسي، مع ربطها مباشرةً بنتائج الأداء الحكومي الذكي. أما في المملكة العربية السعودية، فقد ظهرت ملامح هذا التحول في مبادرات برنامج تطوير القيادات الإدارية وبرنامج التحول الوطني، حيث جرى التركيز على ترجمة مؤشرات الأداء العامة إلى أهدافٍ نوعيةٍ تُحفّز العاملين وتُشركهم في عملية التغيير، مثل "تعزيز الكفاءة التشغيلية عبر ثقافة الابتكار" و"رفع جودة الخدمات من خلال تمكين الموظفين"، وهي نماذج تتماشى مع فلسفة OKRs القائمة على الطموح والتحفيز والمساءلة المشتركة.

ومن الناحية التقنية، تتيح أنظمة الموارد البشرية الحديثة (HRMS) وواجهات التحليل الرقمي (Dashboards) دعم نموذج OKRs من خلال تمكين الربط اللحظيّ بين الأهداف الفردية والنتائج المؤسسية عبر قواعد بياناتٍ ذكيةٍ، مما يجعل عملية المراجعة مستمرةً وليست حدثًا موسميًا. هذا التكامل بين التكنولوجيا والثقافة المؤسسية يُشكّل السمة الأبرز في نماذج الأداء المعاصرة، حيث لم تعد الأنظمة الرقمية مجرد أدواتٍ مساعدةٍ بل أصبحت بيئة أداءٍ متكاملةٍ تحافظ على الشفافية وتضمن العدالة وتُسهم في خلق الثقة بين القادة والفرق.

لكن الأهم من كل ذلك أن نموذج OKRs لا يُقاس بنجاحه في رفع الأرقام، بل بنجاحه في تحويل الوعي المؤسسي نحو التفكير في الأثر. فحين يبدأ الموظفون بالتحدث عن "القيمة التي خلقوها" بدلًا من "المهام التي أنجزوها"، وحين يُصبح السؤال اليومي داخل المؤسسة هو "ما الأثر الذي أحدثناه؟" لا "كم أنجزنا؟"، عندها يمكن القول إن ثقافة OKRs قد ترسخت بالفعل. هذه النقلة من القياس إلى الإلهام، ومن الكم إلى الكيف، ومن الهدف إلى المعنى، هي التي تجعل المؤسسات تتجاوز حدود الأداء التقليدي لتصل إلى مفهوم التميز المستدام الذي يتغذى من الداخل ويُثمر في الخارج.

وعندما تتبنّى المؤسسات الخليجية هذا النموذج بروحٍ واعيةٍ ومتكاملةٍ مع بيئتها، فإنها لا تنقل فقط أداةً إداريةً من الغرب إلى الشرق، بل تُعيد صياغة هذه الأداة في ضوء قيمها وثقافتها، فتتحول OKRs إلى منظومةٍ أخلاقيةٍ وسلوكيةٍ تُعزّز روح المسؤولية، وترسّخ ثقافة الإنجاز، وتُعيد الاعتبار للإنسان كقائدٍ للتغيير لا كمنفّذٍ له. وفي هذا تكمن القيمة الجوهرية للانتقال من KPIs إلى OKRs: أن يتحول الأداء من تقريرٍ يُكتب إلى وعيٍ يُعاش، ومن متابعةٍ خارجيةٍ إلى التزامٍ داخليٍّ ينبع من القناعة بأنّ كل هدفٍ مؤسسيٍّ هو رسالة، وكل نتيجةٍ رئيسةٍ هي أثرٌ باقٍ يتجاوز حدود الوظيفة إلى حدود الحضارة.


⚙️ المحور الرابع: التكامل بين KPIs وOKRs – نحو منظومة أداءٍ تفاعليةٍ ديناميكيةٍ موحّدة


إنّ من أدقّ وأعمق المفاهيم في فلسفة إدارة الأداء الحديثة هو إدراك العلاقة التكاملية بين مؤشرات الأداء الرئيسية (Key Performance Indicators – KPIs) والأهداف والنتائج الرئيسة (Objectives and Key Results – OKRs)، فهي ليست أدواتٍ متنافسةً ولا بدائل متناقضة، بل منظومتان متكاملتان تُشكّلان معًا جناحي الأداء المؤسسي في العصر الحديث. فـ KPIs تمثل البنية الصلبة للنظام، بينما تمثل OKRs روحه الحيّة، وإذا كان القياس هو العقل الذي يُنظّم، فإن الإلهام هو القلب الذي يُحرّك. ومن الجمع بين العقل والقلب يولد الأداء الناضج المتوازن القادر على قيادة المؤسسة نحو التميز المستدام.

إنّ KPIs وحدها تُعطيك صورةً عن موقعك الحالي، لكنها لا تُخبرك إلى أين يمكنك أن تصل، كما أن OKRs تمنحك الاتجاه والطموح لكنها تحتاج إلى مؤشراتٍ صلبةٍ لتقيس مدى اقترابك من الهدف. لذلك فإنّ التكامل بينهما هو الذي يُحوّل إدارة الأداء من نظام متابعةٍ إلى نظام تعلّمٍ وتطوّرٍ مستمر. فبينما تضمن KPIs الانضباط التشغيليّ والعدالة في القياس والمساءلة، تضمن OKRs المرونة الذهنية والتحفيز الإبداعيّ والقدرة على التجديد. وهذا التكامل ليس مجرد توازنٍ بين نوعين من الأدوات، بل هو تزاوجٌ معرفيٌّ بين منطق التحليل ومنطق التطلّع، بين الفكر الكميّ الدقيق والفكر النوعيّ التحويليّ، بين الحوكمة والقيادة، وبين النظام والثقافة.

إنّ المؤسسات التي تُجيد الجمع بين النموذجين تبني في الواقع منظومةً مزدوجةً تُحقّق ثلاثة أبعادٍ متكاملة: البعد المؤسسيّ، والبعد القياديّ، والبعد الثقافيّ. فعلى المستوى المؤسسي، يُوفّر هذا التكامل إطارًا شاملاً لضبط الأداء في جميع مستوياته، من الأهداف الاستراتيجية العليا إلى المؤشرات الفردية التفصيلية، بحيث لا تبقى الاستراتيجية فكرةً نظريةً ولا يتحوّل العمل اليومي إلى جهدٍ معزولٍ بلا معنى. وعلى المستوى القيادي، يمنح القادة أدواتٍ متنوعةً تجمع بين الصرامة في التقييم والمرونة في التحفيز، فيُصبح القائد أكثر قدرةً على قيادة الأداء لا مجرد مراقبته. أما على المستوى الثقافيّ، فإن هذا التكامل يُعيد تشكيل الوعي الجماعي في المؤسسة، فيتحوّل الأداء إلى لغةٍ مشتركةٍ يتحدثها الجميع، يفهمها العامل والقياديّ، ويتوحّد حولها الهدف والاتجاه.

من الناحية العملية، يُمكن فهم التكامل بين KPIs وOKRs على أنه عمليةٌ من أربع مراحلٍ مترابطةٍ تشكّل دورة الأداء المؤسسيّ الحديثة:
أولًا: مرحلة الترجمة Translation، حيث تُحوّل الأهداف الاستراتيجية إلى مؤشراتٍ تشغيليةٍ قابلةٍ للقياس، وهي المرحلة التي تهيمن فيها KPIs لضمان وضوح المعايير وتحديد نقاط القياس.
ثانيًا: مرحلة التحفيز Motivation، حيث تُحوّل المؤشرات إلى أهدافٍ طموحةٍ تُحفّز الفرق على تجاوز الحدود المعتادة، وهنا تتقدّم OKRs لتُحوّل الأرقام إلى رؤى، والمقاييس إلى معانٍ.
ثالثًا: مرحلة التحليل والتحسين Analysis & Improvement، وهي التي يُعاد فيها النظر في النتائج والعمليات لتحديد ما تحقق وما يمكن تحسينه، حيث يتكامل التحليل الكميّ لمؤشرات الأداء مع التحليل النوعيّ للأهداف الطموحة.
رابعًا: مرحلة التجديد Renewal، حيث تُراجع المنظومة بأكملها وتُعاد صياغة الأهداف والمؤشرات بناءً على الدروس المستفادة، لتبدأ دورةٌ جديدةٌ أكثر نضجًا ووعيًا.

هذا التتابع المنهجيّ يجعل المؤسسة كيانًا حيًا يتعلّم من ذاته، لا يكتفي بالمقارنة بين ما تحقق وما لم يتحقق، بل يبحث في لماذا تحقق؟ وكيف يمكن أن يتحقق بصورةٍ أفضل؟. فحين يُصبح نظام الأداء وسيلةً للتفكير لا مجرد وسيلةٍ للقياس، تتحوّل الإدارة إلى علمٍ وفنٍ في الوقت نفسه.

من التجارب العالمية التي تُظهر هذا التكامل نموذج Google التي تجمع بين OKRs لتحفيز الابتكار في الفرق وبين KPIs لمتابعة الأداء التشغيليّ في الإدارات، بحيث تُستخدم الأولى كأداةٍ لتوسيع الأفق والثانية كأداةٍ لضبط المسار. وفي المقابل، نجد أن الحكومات الذكية مثل حكومة الإمارات العربية المتحدة تبنّت هذا النهج عبر أنظمة الأداء الحكومي التي تدمج مؤشرات الأداء المؤسسيّ في لوحة القيادة الوطنية (National Dashboard) مع الأهداف التحفيزية لكل جهةٍ حكوميةٍ لتحقيق التكامل بين الانضباط التنفيذيّ والطموح الوطنيّ. أما في السعودية، فقد بدأت الجهات الحكومية ضمن برنامج التحول الوطني ورؤية 2030 في دمج مؤشرات الأداء في أنظمة “أداء” الحكومية مع آليات التخطيط والتحفيز الداخلي للموظفين، بحيث لا تُتابع المؤشرات كأرقامٍ جامدةٍ بل كرحلةٍ نحو الأثر التنمويّ الحقيقيّ.

إنّ التكامل بين KPIs وOKRs لا يتحقق تلقائيًا بدمج القوائم أو النماذج، بل يحتاج إلى تصميمٍ مؤسسيٍّ متكاملٍ يقوم على ثلاث ركائز:
الأولى هي الربط الهرميّ (Vertical Alignment)، أي أن تتدفق الأهداف والمؤشرات من الأعلى إلى الأدنى بشكلٍ منطقيٍّ من الرؤية إلى الفرد، بحيث يفهم كل موظفٍ كيف تُسهم أهدافه في دعم الهدف الأعلى.
الثانية هي الربط الأفقيّ (Horizontal Integration)، أي تناغم المؤشرات والأهداف بين الإدارات والقطاعات المختلفة، بحيث لا يعمل كل قسمٍ بمعزلٍ عن الآخر، بل تعمل الفرق كوحداتٍ متعاونةٍ ضمن نظامٍ واحدٍ.
الثالثة هي الربط الزمنيّ (Temporal Synchronization)، أي أن تُراجع الأهداف والمؤشرات على دوراتٍ زمنيةٍ متزامنةٍ تضمن المرونة في التعديل وسرعة الاستجابة للمتغيرات. هذه الأركان الثلاثة تجعل المنظومة متوازنةً ومستجيبةً وقادرةً على التعلم الذاتيّ.

وعندما يتحقق هذا التكامل، تنشأ داخل المؤسسة بيئةُ عملٍ معرفيةٌ “Intelligent Performance Ecosystem” حيث تتفاعل البيانات مع الرؤى، وتتغذى الأهداف من المؤشرات، وتُترجم النتائج إلى قراراتٍ وتحسيناتٍ مستمرة. هنا لا يعود الأداء نظامًا إداريًا منفصلًا، بل يصبح ثقافةً حاكمةً تُنظّم التفكير والسلوك على المستويين الفردي والجماعي. فالموظف لم يعد ينتظر دورة التقييم السنوية ليعرف موقعه، بل يُتابع أداءه بشكلٍ لحظيٍّ عبر لوحاتٍ رقميةٍ تفاعليةٍ تُبيّن مدى تقدّمه نحو أهدافه الشخصية والمؤسسية.

إنّ هذا التكامل يخلق أيضًا قيمةً عميقةً في مجال الحوكمة المؤسسية، إذ يُعيد تعريف المساءلة لتُصبح مساءلةً تشاركيةً، بمعنى أن كل فردٍ مسؤولٌ عن أدائه كما هو مسؤولٌ عن دعم أداء زملائه وفريقه وإدارته. فحين تُدمج KPIs وOKRs ضمن نظامٍ واحدٍ، يصبح القائد شريكًا في التطوير لا مجرّد مقيّمٍ للأداء، وتتحول الاجتماعات الدورية من مراجعةٍ للأرقام إلى حواراتٍ معرفيةٍ تتناول الأفكار والتحسينات، ويتحوّل التقرير من وثيقةٍ ورقيةٍ إلى لوحةٍ حيةٍ للتعلّم الجماعيّ.

ولعلّ أجمل ما يميز التكامل بين النموذجين هو أنه يجمع بين الصرامة والإنسانية. فـ KPIs تضمن العدالة، وOKRs تضمن الشغف. KPIs تُحدّد ما يجب فعله، وOKRs تُوضّح لماذا يجب فعله. KPIs تُراقب الاتجاه، وOKRs تُحرّك الطاقة. وهذا التفاعل هو الذي يصنع الأداء المتوازن الذي لا يكتفي بتحقيق النتائج بل يسعى لبناء القدرات وصناعة القيمة المستدامة.

في النهاية، لا يمكن لأي مؤسسةٍ أن تُدير أداءها بفعاليةٍ دون أن تُدير في الوقت نفسه طموحها، ولا يمكنها أن تُحفّز موظفيها دون أن تُقيس نتائجهم بعدالة. ومن هنا فإنّ المنظومة التفاعلية الموحدة بين KPIs وOKRs هي الحلّ الأمثل لبناء أنظمة الأداء في بيئة العمل الخليجية المعاصرة، لأنها تُوازن بين ثقل الانضباط الحكوميّ ومرونة الإبداع المؤسسيّ، وبين ثقافة الامتثال وثقافة الإنجاز، وبين صرامة الأرقام وإنسانية الأثر. وعندما تصل المؤسسة إلى هذه الدرجة من النضج، لا يعود الأداء مهمةَ إدارةٍ بل يصبح رسالةَ قيادةٍ، تُمارَس بالعقل وتُلهِم بالقلب، وتبني المستقبل بوعيٍ مؤسسيٍّ متكاملٍ يجعل من كل رقمٍ قصةَ إنجازٍ، ومن كل هدفٍ وعدًا بالتحسّن، ومن كل نتيجةٍ بدايةً لهدفٍ جديدٍ أكثر طموحًا ونضجًا.


🏛 المحور الخامس: هندسة منظومة الأداء المؤسسي – من الرؤية إلى السلوك الفردي


إنّ هندسة منظومة الأداء المؤسسي ليست مجرد تصميمٍ إداريٍّ للعمليات والإجراءات، بل هي في جوهرها عملية إعادة بناءٍ للوعي التنظيميّ كي يتحول الأداء من نشاطٍ وظيفيٍّ إلى ثقافةٍ حيّةٍ تُمارس يوميًا في كل قرارٍ وكل سلوكٍ وكل تفاعلٍ داخل المؤسسة. فالهندسة في المفهوم الإداري الحديث لا تعني تخطيط النظام فقط، بل بناء منطقٍ داخليٍّ يربط بين الرؤية الاستراتيجية والسلوك الفرديّ بطريقةٍ تجعل من الأهداف العليا واقعًا عمليًا يتجسد في التصرفات اليومية للعاملين. وهكذا تصبح المنظومة الإدارية – في معناها الأعمق – بنيةً معرفيةً قيميةً تُوجّه كلّ تفصيلٍ من تفاصيل الأداء نحو الغاية الكبرى، فتتحد الفكرة والفعل، وتذوب الفواصل بين التخطيط والتنفيذ، ويصبح النظام المؤسسي كيانًا يتنفس الرؤية عبر ممارسات موظفيه.

إنّ كلمة "الهندسة" في سياق الأداء المؤسسي تستمد معناها من علم النظم (Systems Engineering) الذي يرى أن الكفاءة ليست في كل عنصرٍ على حدة، بل في العلاقات بين العناصر، وأن النجاح التنظيمي لا يتحقق بتفوق الأفراد بمعزلٍ عن بعضهم، بل بتكامل أدوارهم داخل هيكلٍ يربط الجهود الفردية بالنتائج الكلية. ولذلك فإن هندسة منظومة الأداء تبدأ من السؤال الجوهريّ: كيف نضمن أن الرؤية الاستراتيجية لا تبقى شعارًا، بل تصبح سلوكًا يوميًا؟. الجواب يكمن في بناء نظامٍ إداريٍّ يتكوّن من طبقاتٍ مترابطةٍ تبدأ من الرؤية، مرورًا بالأهداف الاستراتيجية، ثم الأهداف التشغيلية، فالبرامج والمشروعات، وصولًا إلى السلوك الفرديّ في الميدان. هذا التسلسل العموديّ هو ما يُعرف في أدبيات الأداء بـ “سلسلة القيمة المؤسسية – Institutional Value Chain”، وهو الذي يجعل كل موظفٍ يعي موقعه داخل المنظومة الكبرى، ويدرك أنّ قراراته اليومية هي في الحقيقة لبناتٌ صغيرةٌ في بناءٍ وطنيٍّ أو استراتيجيٍّ شاملٍ.

ولأن الأداء المؤسسي في بيئة القرن الحادي والعشرين أصبح مرتبطًا بمفاهيم المرونة والاستدامة والتعلّم المستمر، فإن هندسة منظومته لم تعد تقتصر على تحديد الأهداف والمؤشرات، بل باتت تتطلب تصميم حلقة تعلمٍ دائمةٍ بين القيادة والعاملين تُغذيها البيانات والتحليلات والمراجعات الدورية، لتتحول المؤسسة من كيانٍ يُقيم الأداء إلى كيانٍ يتعلم من الأداء. وهذا المفهوم الذي تؤكد عليه معايير ISO 9001 وISO 30414 وEFQM Excellence Model يُبرز الفرق بين المؤسسات التي تُدير أداءها بعقلية المتابعة وبين المؤسسات التي تُهندس أداءها بعقلية التعلّم والتحسين المستمر. فالمؤسسة التي تراقب أرقامها فقط تكتفي بتشخيص الواقع، أما التي تُحلّل أسباب الأرقام وتعيد تصميم العمليات بناءً عليها فإنها تُمارس فعل القيادة والتطوير في آنٍ واحدٍ.

وتتجلى عملية الهندسة في أربعة أبعادٍ مترابطةٍ تشكّل هيكل منظومة الأداء: البعد الاستراتيجي، والبعد التشغيلي، والبعد السلوكي، والبعد الثقافي.

أولًا: البعد الاستراتيجيّ.
في هذا البعد تُترجم الرؤية والرسالة إلى أهدافٍ استراتيجيةٍ محددةٍ، تُحدّد الاتجاه العام للمؤسسة وتُعبّر عن طموحها البعيد المدى. هذه الأهداف لا تكون فعّالةً إلا إذا صيغت وفق مبدأ “الغاية القابلة للقياس”، أي أن تكون مُلهمةً وواضحةً في الوقت نفسه. وهنا تتقاطع أدوات OKRs مع فلسفة التخطيط الاستراتيجيّ، لأن الأهداف الكبرى تُبنى بطريقةٍ طموحةٍ قابلةٍ للترجمة إلى نتائجٍ رئيسةٍ محددةٍ. ومن الأخطاء الشائعة في هذا البعد أن تُكتب الرؤية في وثائق التخطيط دون أن تجد طريقها إلى السلوك اليوميّ، وهنا تأتي الهندسة لتربطها عمليًا بالأداء من خلال آلية التحويل إلى أهدافٍ تشغيليةٍ ومؤشراتٍ واضحةٍ.

ثانيًا: البعد التشغيليّ.
وهو الذي يتناول تحويل الأهداف الاستراتيجية إلى خططٍ ومشروعاتٍ وأنشطةٍ قابلةٍ للتنفيذ. هنا يظهر دور KPIs كمحركٍ للقياس والحوكمة، إذ تُمكّن المؤسسة من مراقبة التقدّم، وتحديد الانحرافات، واتخاذ القرارات التصحيحية في الوقت المناسب. لكن الهندسة المتقدمة لا تكتفي بقياس النشاطات، بل تربطها بتحقيق القيمة من خلال التحليل المتكامل للأداء عبر وحدات العمل كافة. فمثلًا، لا تُقاس فعالية التدريب بعدد الدورات، بل بمدى تحسّن الأداء الفعليّ للموظفين بعد التدريب، ولا يُقاس نجاح خدمة العملاء بعدد المكالمات المستلمة، بل بمدى التحول في رضا العملاء واستمرار ولائهم. هذه النظرة التكاملية هي التي تخلق سلسلة قيمةٍ حقيقيةٍ بين المدخلات والمخرجات والنتائج والأثر، وتُحوّل النظام من آلةٍ بيروقراطيةٍ إلى منظومةٍ ذكيةٍ.

ثالثًا: البعد السلوكيّ.
وهو قلب المنظومة النابض، لأنّ الأداء المؤسسي لا يعيش في الأوراق بل في السلوك الإنسانيّ الذي يُترجم الأهداف إلى أفعالٍ. إنّ الموظف الذي يملك المهارة ولا يملك الدافعية لن يحقق النتائج المرجوة، كما أن المؤسسة التي تُقيس الأداء دون أن تُعزّز سلوكيات الإنجاز والالتزام والإبداع، تُعرّض نفسها لخطر الجمود التنظيميّ. لذلك تدمج هندسة الأداء بين الجدارات السلوكية Behavioral Competencies والكفاءات الفنية Technical Competencies لتبني نموذجًا متوازنًا يُحقّق الكفاءة والفعالية معًا. وقد أثبتت التجارب في المؤسسات الخليجية الرائدة – مثل حكومة دبي وهيئة تقويم التعليم والتدريب في السعودية – أنّ إدراج الجدارات السلوكية في نظام الأداء يسهم في رفع مستوى الالتزام التنظيمي والانتماء المؤسسيّ، لأنّه يربط الأداء بالقيم المؤسسية لا بالأرقام فقط.

رابعًا: البعد الثقافيّ.
وهنا تصل الهندسة إلى أعمق مستوياتها، إذ يصبح الهدف ليس فقط ضبط الأداء بل بناء ثقافة أداءٍ Performance Culture تُوجّه سلوك العاملين دون حاجةٍ إلى رقابةٍ مستمرة. فالثقافة القوية تجعل النظام الذكي يعمل بجهدٍ أقل، لأنها تُنشئ “وعيًا ذاتيًا مؤسسيًا” لدى العاملين، فيدير كل موظفٍ نفسه بنفسه ضمن إطارٍ قيميٍّ موحّدٍ. وتكمن قوة هذه الثقافة في كونها تُحوّل الأداء من واجبٍ إلى قناعةٍ، ومن رقابةٍ خارجيةٍ إلى التزامٍ داخليٍّ، وهي أعلى درجات النضج في إدارة الأداء.

إنّ الربط بين هذه الأبعاد الأربعة لا يتحقق إلا من خلال ما يُعرف بـ العمارة المؤسسية للأداء – Performance Architecture، وهي النموذج البنائيّ الذي يُنظّم العلاقات بين الاستراتيجية، والعمليات، والأفراد، والتقنية، والثقافة. فالمؤسسة التي تملك رؤيةً دون هندسةٍ لا تستطيع تحقيق رؤيتها، والمؤسسة التي تملك هندسةً دون ثقافةٍ لا تستطيع الاستمرار. ولهذا فإنّ كل هندسةٍ ناجحةٍ تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه، لأنه العنصر الوحيد القادر على تحويل الخطة إلى واقعٍ والقيمة إلى أثرٍ.

لقد طبّقت العديد من الجهات في المنطقة هذا المفهوم في بناء منظومات الأداء المؤسسي، منها على سبيل المثال برنامج الشيخ خليفة للتميز الحكومي في الإمارات الذي اعتمد إطارًا تكامليًا يجمع بين السياسات والإجراءات والأهداف والجدارات، وجعل الأداء المؤسسي انعكاسًا مباشرًا للأداء الفرديّ والسلوكيّ. كما أن وزارة الموارد البشرية السعودية في دليلها الإرشادي للأداء الوظيفي وضعت أسسًا واضحةً لربط هندسة النظام الإداريّ بالأداء الفعليّ، من خلال تحديد الأدوار والمسؤوليات ومتابعة تنفيذ الخطط وربطها بمؤشرات الأداء على مستوى الفرد والإدارة والمؤسسة. هذه الممارسات أكدت أنّ هندسة منظومة الأداء لا يمكن أن تكون نسخًا من نماذج عالمية، بل يجب أن تنطلق من البيئة الثقافية والتنظيمية المحلية لتُحقّق أصالتها وفاعليتها.

ومن الزاوية النظرية، يمكن القول إنّ هندسة منظومة الأداء تمثل التطبيق العمليّ لمبدأ “التصميم المتسق بين النظام والإنسان” الذي تؤكده نظريات الأنظمة الاجتماعية التقنية (Socio-Technical Systems Theory)، حيث يُنظر إلى المؤسسة كنظامٍ مزدوجٍ مكوّنٍ من بُعدين: البعد التقنيّ (العمليات والأدوات والمؤشرات) والبعد الاجتماعيّ (القيم، العلاقات، الثقافة). ولا يمكن لأي نظامٍ أن ينجح دون أن يتكامل هذان البعدان في توازنٍ مستمرٍ. فحين تُهندس المؤسسة منظومتها بطريقةٍ تجعل التقنية في خدمة الإنسان لا العكس، تُصبح الإدارة أداةً للتمكين لا للتقييد، ويصبح الأداء فعلًا إنسانيًا متجددًا لا رقمًا ثابتًا في تقرير.

وهكذا، فإنّ هندسة منظومة الأداء المؤسسي من الرؤية إلى السلوك الفرديّ هي في حقيقتها رحلة وعيٍ مؤسسيٍّ متصاعدٍ تبدأ من السؤال عن "لماذا نعمل؟" وتنتهي بالإجابة العملية في "كيف نعمل؟". وهي رحلة لا تنتهي، لأن الأداء ليس نقطةَ وصولٍ بل حالةُ تطوّرٍ دائمٍ. فكلّما نضج النظام ازدادت حاجته إلى التحسين، وكلّما تقدّمت المؤسسة ازدادت حاجتها إلى التعلم. وبذلك تتحول منظومة الأداء إلى دائرةٍ مغلقةٍ من التطوير المستمر الذي يربط بين الفكر والفعل، وبين الاستراتيجية والتنفيذ، وبين القيم والنتائج، لتغدو المؤسسة وحدةً متكاملةً واعيةً بذاتها وبمستقبلها، قادرةً على النمو والتجدّد والابتكار في عالمٍ لا يعرف الثبات.


🌍 المحور السادس: التجارب الخليجية في مواءمة الأداء المؤسسي والفردي – السعودية والإمارات نموذجًا


حين نُمعن النظر في مسار التحوّل الإداري الذي شهدته دول الخليج العربي خلال العقدين الأخيرين، نلحظ أنّ إحدى أهمّ نقاط النضج الإداري تمثّلت في الانتقال من إدارة الأفراد إلى إدارة المنظومات، ومن تقييم الأداء إلى قيادته، ومن الانعزال بين المستويات التنظيمية إلى التكامل بينها. وقد برزت التجربتان السعودية والإماراتية بوصفهما النموذجين الأكثر نضجًا في العالم العربي في مواءمة الأداء المؤسسي بالأداء الفردي، عبر تبنّي أنظمةٍ وطنيةٍ متكاملةٍ تُجسّد الرؤية الاستراتيجية للدولة في ممارساتٍ إداريةٍ يوميةٍ داخل المؤسسات. لقد انتقل الأداء في هاتين الدولتين من كونه ملفًا إداريًا إلى أن أصبح ثقافةً وطنيةً تُعبّر عن الوعي الجمعي بالتنمية والإتقان والتميز.

أولًا: التجربة السعودية – الأداء كمنظومةٍ وطنيةٍ للتمكين

بدأت المملكة العربية السعودية منذ إطلاق رؤية 2030 في بناء نظامٍ إداريٍّ متكاملٍ يُعيد تعريف العلاقة بين الحكومة والمجتمع، وبين العاملين والمؤسسات، ليصبح الأداء لغةَ الإنجاز الوطنيّ لا مجرد أداةٍ للمساءلة الوظيفية. وانطلقت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية من هذا المنطلق لتطوير اللائحة التنفيذية للأداء الوظيفي وإصدار الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي الذي مثّل نقطة تحولٍ جوهريةٍ في فلسفة إدارة الأداء في القطاع العام.

جاء هذا النظام ليؤكد على أنّ الأداء ليس إجراءً دوريًا، بل منظومةٌ ديناميكيةٌ تستند إلى الشراكة بين الموظف والرئيس المباشر، وتستهدف بناء ثقافة التطوير المستمر. لم تعد عملية التقييم مجرّد تسجيلٍ لنقاطٍ سنويةٍ، بل أصبحت رحلة تفاعلية تمر بثلاث مراحلٍ مترابطة: مرحلة تخطيط الأداء، مرحلة المراجعة الدورية، ومرحلة التقييم النهائي، ثم تتوّج بـ خطة التطوير الفردي (IDP) التي تُحوّل نتائج التقييم إلى برامج تمكينٍ وتدريبٍ وتوجيهٍ وظيفيٍّ مستمر.

في مرحلة التخطيط، تُوضع الأهداف بالتوافق بين الموظف والرئيس المباشر، على أن تكون أهدافًا ذكيةً SMART مشتقةً من أهداف الإدارة والإدارة من أهداف الجهة الحكومية، بما يضمن تحقيق مواءمةٍ عموديةٍ واضحةٍ بين المستويات المؤسسية والفردية. في مرحلة المراجعة، تُعقد جلسات متابعةٍ دوريةٍ تُناقش فيها المؤشرات، وتُقدّم التغذية الراجعة البنّاءة، وتُرصد الانحرافات في الوقت المناسب، أما في مرحلة التقييم النهائي، فتُحوّل النتائج إلى قراراتٍ تطويريةٍ تتعلق بالترقيات والمكافآت والتحفيز. هذا التتابع يعكس منهجيةً علميةً تستند إلى فلسفة التحسين المستمر PDCA (Plan – Do – Check – Act)، وهو ما يجعل الأداء عملية تعلمٍ مؤسسيٍّ مستمرةٍ لا حدثًا موسميًا.

كما يُلاحظ أنّ النظام السعودي أعاد تعريف مفهوم العدالة التنظيمية في إدارة الأداء، فجعل المعيار هو الكفاءة والإنتاجية والمبادرة، لا الأقدمية أو الولاء. وتمّ إنشاء بواباتٍ إلكترونيةٍ مثل منصة مسار MASAR لتوحيد عمليات الأداء في القطاع الحكوميّ، مما عزّز الشفافية والموضوعية والمواءمة بين الجهات الحكومية المختلفة. هذا التحوّل الرقميّ مكّن القادة من متابعة مؤشرات الأداء في الزمن الحقيقيّ عبر لوحاتٍ تفاعليةٍ (Dashboards)، وربط الأداء الفرديّ بالخطط التشغيلية للمؤسسات. وهكذا أصبحت منظومة الأداء في السعودية تمثّل رابطًا بين التحول الوطني والتحول المؤسسي، حيث تُسهم بيانات الأداء في صياغة القرارات الحكومية، ويُستخدم الأداء الفردي كمؤشرٍ على نضج المنظومة الإدارية ككل.

وقد أُدخل مفهوم الجدارات الوظيفية Competencies كأحد الأعمدة الرئيسة في بناء الأداء، فتمّ اعتماد إطار الجدارات الوطني الذي يُحدّد السلوكيات والمعارف والمهارات التي تُسهم في تحقيق الأداء الفعّال. هذا الإطار لا يقتصر على التقييم، بل يُستخدم في التوظيف، والترقية، والتدريب، والتخطيط الوظيفيّ، مما يجعل الأداء جزءًا من دورة الحياة المهنية الكاملة للموظف. وهكذا تجاوزت إدارة الأداء حدود الإدارة العامة لتصبح منهجًا لبناء رأس المال البشري الوطني القادر على تحقيق مستهدفات رؤية 2030 في الكفاءة والإنتاجية والحوكمة.

إنّ جوهر التجربة السعودية في مواءمة الأداء المؤسسي والفردي يكمن في تحويل النظام الإداريّ إلى منظومة قيمٍ وسلوكياتٍ، بحيث يُصبح الأداء معيارًا للهوية الوطنية في العمل الحكوميّ. فالموظف السعوديّ اليوم يُقاس أداؤه بقدر ما يضيفه للوطن، والمؤسسة تُقاس بمدى إسهامها في تحقيق الرؤية، والدولة تُقاس بقدرتها على تحويل هذه الرؤية إلى واقعٍ يقاس ويُتابع ويُحسَّن باستمرار. هذه المنظومة جعلت الأداء ليس مجرد وظيفةٍ إداريةٍ بل مشروعًا وطنيًا للتمكين.


ثانيًا: التجربة الإماراتية – الأداء كأداةٍ للتميّز الحكوميّ والقيادة بالجدارات

أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد وصلت إدارة الأداء إلى مستوىً متقدّمٍ من التكامل والوعي بفضل فلسفة القيادة بالجدارات التي اعتمدتها الحكومة الاتحادية منذ أكثر من عقد. فقد تأسّس النظام الاتحادي لإدارة الأداء على مبدأ "إدارة الأداء من أجل التميز" لا من أجل التقييم، وأُصدرت له وثائق مرجعيةٌ عدّة مثل نظام إدارة الأداء لموظفي الحكومة الاتحادية والدليل الإرشادي لتطبيق النظام وإطار الجدارات السلوكية والقيادية والفنية، وهي مراجع تنظّم العلاقة بين الأهداف الفردية والمؤسسية ضمن رؤية الإمارات 2071.

تقوم فلسفة النظام الإماراتي على ثلاث ركائزٍ رئيسةٍ تشكّل معًا الهيكل العام لدورة الأداء: الأهداف Objectives، والجدارات Competencies، والمراجعة الدورية Review. فالأهداف تحدّد ما يُراد تحقيقه، والجدارات تحدّد كيف يُنجز، والمراجعة الدورية تضمن استمرارية التحسين والتعلّم. ويتميّز النظام بكونه تشاركيًا وشفّافًا، إذ يُشرك الموظف في تحديد أهدافه، ويُتيح له التعبير عن تطلعاته التطويرية، ويُوفّر له أدوات الدعم والتغذية الراجعة من القائد المباشر. هذه العلاقة الحوارية بين الموظف والرئيس تُحوّل إدارة الأداء إلى شراكة قيادية توازن بين المساءلة والدعم، وتُحوّل النقاش حول الأداء من حكمٍ إداريٍّ إلى حوارٍ تنمويٍّ.

أحد أبرز ما يميّز التجربة الإماراتية هو دمج الأداء الفرديّ بالأداء المؤسسيّ عبر نظامٍ إلكترونيٍّ موحّدٍ متكاملٍ مع أنظمة الموارد البشرية، مما يسمح بتتبع الأثر العموديّ بين المستويات، من الهدف الوطنيّ إلى الهدف المؤسسيّ إلى الهدف الفرديّ. ويُتيح النظام ما يُعرف بـ “تسلسل الأهداف Cascading of Goals”، بحيث تنسجم أهداف جميع الموظفين مع أهداف المؤسسة وأهداف الحكومة الاتحادية. ومن خلال هذه الآلية يُصبح تحقيق الأداء الفرديّ مساوٍ لتحقيق جزءٍ من الأداء الحكوميّ الكليّ، فيتحول الأداء إلى شبكةٍ متكاملةٍ من النتائج المتبادلة التأثير.

كما اعتمدت الإمارات نموذج الجدارات السلوكية والقيادية والفنية الذي يهدف إلى ترجمة القيم المؤسسية إلى سلوكياتٍ قابلةٍ للقياس، مثل التواصل، والابتكار، والعمل الجماعيّ، وخدمة المتعاملين. فالموظف لا يُقيّم فقط على ما يُنجزه، بل على كيف ينجزه، مما يعزّز البعد الأخلاقيّ والسلوكيّ في الأداء. وقد ساهم هذا النموذج في خلق ثقافةٍ مؤسسيةٍ راقيةٍ تركّز على التفاعل الإيجابيّ والتميّز في تقديم الخدمة العامة.

ومن ناحيةٍ أخرى، شكّل برنامج الشيخ خليفة للتميز الحكوميّ مظلةً استراتيجيةً لدمج نظام إدارة الأداء ضمن منظومة التميز المؤسسيّ، بحيث تُستخدم بيانات الأداء الفرديّ والمؤسسيّ في تغذية معايير التقييم في نموذج التميز، مثل معيار القيادة، والمعرفة والابتكار، والنتائج المحققة. هذا التكامل جعل إدارة الأداء ليست هدفًا بحدّ ذاته، بل وسيلةً لتحقيق التميز الوطنيّ والارتقاء بجودة الحياة في الدولة.

لقد تجاوزت التجربة الإماراتية في إدارة الأداء حدود الإدارة العامة لتصبح منهجًا للقيادة المؤسسية، فالقائد في هذا النظام ليس مقيّمًا للأداء فحسب، بل مُمكّنًا للموظفين، ومرشدًا لهم نحو تحقيق أهدافهم، ومسؤولًا عن تطويرهم المهنيّ. وتُعدّ فلسفة “القيادة بالجدارات” التي اعتمدتها الحكومة الاتحادية ترجمةً عمليةً لفكر القيادة التحويلية Transformational Leadership التي تركز على الإلهام والتطوير وتمكين الآخرين، وهي الفلسفة التي جعلت الأداء في الإمارات ليس فقط مؤشرًا على الإنجاز، بل مقياسًا على نضج القيادة ذاتها.


ثالثًا: المقارنة التحليلية والتكامل الخليجيّ

عند المقارنة بين التجربتين السعودية والإماراتية، نلاحظ أن كليهما انطلق من ذات القاعدة الفكرية وهي ضرورة الانتقال من التقييم إلى التمكين، ولكن كلّ دولةٍ جسّدت ذلك بآليةٍ مختلفةٍ تتناسب مع بنيتها المؤسسية وثقافتها الإدارية. فالسعودية ركّزت على بناء النظام الوطنيّ الشامل وربطه بالتحول الاستراتيجيّ لرؤية 2030، مما جعل الأداء جزءًا من منظومة الحوكمة الشاملة للدولة. أما الإمارات فركّزت على القيادة بالجدارات ودمج الأداء بالتميز المؤسسيّ، مما جعل الأداء جزءًا من هوية التميز الحكوميّ ذاته.

وفي جوهرهما، يتكامل النموذجان في تقديم رؤيةٍ عربيةٍ رائدةٍ لإدارة الأداء تقوم على ثلاثة محاور: الإنسان، والنظام، والثقافة. فالإنسان هو محور التطوير، والنظام هو الأداة التي تضمن العدالة والاتساق، والثقافة هي الإطار الذي يحافظ على استدامة الممارسات. هذا التكامل يمكن أن يشكّل الأساس لما يمكن تسميته مستقبلًا بـ "النموذج الخليجيّ لإدارة الأداء المؤسسيّ"، نموذجٍ يُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمؤسسة في ضوء قيمنا وهويتنا، ويُقدّم للعالم تجربةً عربيةً أصيلةً في بناء منظومات الأداء المتكاملة التي تجمع بين الدقة والإلهام، وبين الانضباط والمرونة، وبين الحوكمة والإنسانية.


🧠 المحور السابع: التحديات الفكرية والتنظيمية والثقافية في تطبيق الربط بين المستويات


إنّ الحديث عن ربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي لا يكتمل دون مواجهة الحقيقة الصعبة التي كثيرًا ما تتجاهلها الأدبيات الإدارية وهي أنّ المشكلة في تطبيق أنظمة الأداء ليست في النماذج ولا في الأدوات، بل في الفكر الذي يقف وراءها، والثقافة التي تُحيط بها، والبيئة التي تُمارس فيها. فالنظام مهما كان متكاملًا على الورق، يظلّ عاجزًا عن تحقيق أثرٍ فعليٍّ إن لم يُزرع في تربةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ صالحةٍ، تُدرك أن الأداء ليس مراقبةً، بل وعيًا ومسؤوليةً وقيادة. وهنا تظهر التحديات الكبرى التي تعترض طريق المؤسسات في الخليج والعالم العربي في سعيها لبناء منظومات أداءٍ متكاملةٍ قادرةٍ على المواءمة بين المستويات المختلفة.

أولًا: التحدي الفكري – من ثقافة "الرقابة" إلى فلسفة "القيادة بالأداء"

يُعدّ التحول الفكريّ في نظرة القادة والموظفين إلى مفهوم الأداء هو أصعب مراحل النضج المؤسسي، لأنّه يتطلب تغييرًا في نمط التفكير قبل تغيير النظام. ففي كثيرٍ من المؤسسات العربية ما زال الأداء يُفهم على أنه "وسيلة للرقابة والمساءلة"، تُمارس من الأعلى إلى الأدنى، ويُنظر إلى التقارير والمؤشرات بوصفها أدواتٍ للمحاسبة لا أدواتٍ للتطوير. هذا الفهم يجعل الموظف يعيش في دائرة الخوف، ويُضعف روح المبادرة والإبداع، لأنّ الأداء يتحول إلى وسيلةٍ لحماية الذات لا لتحقيق القيمة.

إنّ هذا التحدي الفكريّ يتجسّد في مقاومة التغيير التي تُبديها بعض الإدارات الوسطى، والتي ترى في نظم الأداء تهديدًا لسلطتها التقليدية. فحين تُصبح المؤشرات شفافة، والنتائج قابلة للقياس، والعمليات قابلة للمراجعة، يفقد المدير التقليديّ سلطته المستندة إلى الغموض، ولذلك قد يُحاول – وعيًا أو لا وعيًا – تعطيل النظام أو تحريفه. إنّ هذه المقاومة ليست فنيةً بل فكرية، ولا تُواجه باللوائح بل بتحويل فلسفة الأداء من المراقبة إلى القيادة، أي من "من يراقب من؟" إلى "من يُلهم من؟". وهذا ما يُعرف في الأدبيات الإدارية الحديثة بمفهوم Leadership by Performance، حيث يُصبح الأداء أداةً للقيادة، يُحفّز بها القائد موظفيه، ويقود بها الفريق نحو الأثر الجماعيّ، بدلًا من أن يُستخدم الأداء كسيفٍ للمحاسبة فقط.

ويقتضي هذا التحول أن يُدرّب القادة على قراءة مؤشرات الأداء قراءةً تنمويةً، لا عقابيةً، فيفهموا أنّ الأرقام ليست أحكامًا بل إشارات، وأنّ الهدف من التقييم ليس تصنيف الناس بل تطويرهم. إنّ التحول في الذهنية القيادية هو الأساس الذي يبنى عليه أي نظامٍ ناجحٍ للأداء، لأنّ القائد هو من يترجم النظام إلى سلوكٍ يوميٍّ ملموسٍ. ولهذا نصّت معايير CIPD وSHRM على أنّ نجاح أنظمة الأداء يُقاس أولًا بمدى نضج القيادة في استخدامها لا بمدى تطور النماذج التقنية ذاتها.


ثانيًا: التحدي التنظيمي – من التجزئة الهيكلية إلى التكامل المنهجي

من التحديات الجوهرية أيضًا أن الهياكل التنظيمية في كثيرٍ من المؤسسات العربية ما زالت مجزأةً وظيفيًا، حيث تعمل الإدارات كوحداتٍ مغلقةٍ لكلٍّ منها أهدافها الخاصة، دون وجود آليةٍ تضمن تكامل الأداء بينها. في مثل هذه البيئة، يصعب تحقيق الربط بين الأداء الفرديّ والمؤسسيّ، لأنّ كل وحدةٍ ترى نفسها مركز الكون. والنتيجة هي أنّ الموظف لا يرى الأثر الكليّ لعمله، ولا يشعر بانتمائه إلى المنظومة الكبرى، فتنقطع السلسلة التي تربط الهدف الفرديّ بالرؤية العامة.

إنّ هذا التحدي التنظيميّ لا يُحلّ بتعديل الهيكل فقط، بل بإعادة هندسة العمليات (Business Process Reengineering) بحيث تتقاطع خطوط العمل أفقيًا بين الإدارات، وتُبنى الأهداف المشتركة عبر المشاريع والبرامج العابرة للقطاعات. وهذا ما فعلته الحكومة الإماراتية في نظام الأداء الاتحاديّ حين أنشأت مفهوم "الأهداف المشتركة Cross-Functional Goals" التي تتشارك فيها أكثر من جهةٍ أو إدارةٍ لضمان التكامل في تحقيق النتائج. فبدلًا من أن يُقيَّم كل قطاعٍ بمعزلٍ عن الآخر، أصبحت المؤشرات تقيس التعاون والتنسيق بقدر ما تقيس الإنجاز الفرديّ، مما حوّل الأداء من سلوكٍ تنافسيٍّ إلى سلوكٍ تكامليٍّ.

كما أن أحد أبرز التحديات التنظيمية يتمثل في ضعف التكامل بين أنظمة الموارد البشرية وأنظمة الأداء، بحيث تعمل كل منهما في جزرٍ منعزلة. فحين لا تُربط نتائج الأداء بقرارات التدريب أو الترقية أو المكافأة، يفقد النظام مصداقيته ويُصبح بلا أثر. ولهذا تؤكد المعايير الدولية مثل ISO 30414 وEFQM على مبدأ Integration of HR & Performance Systems، أي الدمج الكامل بين إدارة الموارد البشرية وإدارة الأداء، لأنّهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، فلا يمكن تطوير رأس المال البشري بمعزلٍ عن قياس أدائه، ولا يمكن تحسين الأداء دون تطوير القدرات.


ثالثًا: التحدي الثقافي – من ثقافة التبرير إلى ثقافة التحسين

يُعدّ التحدي الثقافي هو الأعمق والأصعب في بيئة الأداء العربية، لأنّه يرتبط بنمطٍ راسخٍ من السلوك الجمعيّ يرى في التقييم تهديدًا للذات لا فرصةً للتعلّم. فكثيرٌ من الموظفين ما زالوا يعتقدون أنّ الهدف من التقييم هو البحث عن الأخطاء لا عن فرص التطوير، ولذلك يتعاملون مع نظام الأداء بأسلوبٍ دفاعيٍّ قائمٍ على التبرير لا التحسين. هذه الثقافة تُفرغ الأداء من محتواه، لأنّها تُحوّل الحوار حول النتائج إلى جدلٍ حول الأعذار.

إنّ بناء ثقافة التحسين يتطلّب سنواتٍ من العمل المتواصل على مستوى القيادة والتدريب والاتصال الداخليّ، إذ يجب أن يشعر كل موظفٍ أنّ النظام وُجد لمساعدته لا لمعاقبته، وأنّ التغذية الراجعة ليست نقدًا بل دعمًا. وقد نجحت بعض المؤسسات الخليجية في تغيير هذه الثقافة من خلال تبنّي مفهوم "التحفيز بالتعلّم" (Learning-Driven Motivation) الذي يجعل كل خطأٍ فرصةً للتطوير، وكل تقييمٍ خطوةً على طريق النموّ. ومن الأمثلة العملية لذلك، ما طبقته هيئة كهرباء ومياه دبي في نظام الأداء لديها حين جعلت جلسات مراجعة الأداء شهريةً وبطريقةٍ حواريةٍ وداعمةٍ، فارتفعت نسب الرضا الوظيفيّ إلى أكثر من 90% خلال ثلاث سنوات، مما أثبت أن ثقافة الأداء يمكن أن تكون بيئةً للسعادة لا للضغط.

كما يُعاني كثير من المؤسسات من ثقافة "المجاملة" في التقييم، حيث يتردد القادة في إعطاء تقييماتٍ منخفضةٍ خوفًا من النزاعات أو من الإحراج الاجتماعيّ، مما يؤدي إلى ما يُعرف في أدبيات الأداء بـ "التضخيم التقييمي Rating Inflation"، أي فقدان النظام مصداقيته لأنّ الجميع يُقيّم فوق المتوسط. هذه الظاهرة تفرغ الأداء من قيمته التحفيزية، وتقتل التنافسية الصحية. ومواجهتها لا تكون بإصدار التهديدات، بل ببناء ثقافة الثقة التي تسمح بالصدق في الحوار. فالثقافة الصادقة في التقييم هي التي تخلق العدالة، والعدالة هي التي تبني التحفيز الحقيقيّ.


رابعًا: التحدي التقني – من الأنظمة الورقية إلى التحليلات الذكية

هناك تحدٍ آخر لا يقل أهميةً وهو التحدي التقنيّ المتمثل في بطء التحول الرقميّ لأنظمة الأداء في بعض المؤسسات، واعتمادها على أدواتٍ تقليديةٍ لا تُتيح التحليل ولا التفاعل اللحظيّ. فالأنظمة الورقية أو النماذج الجامدة لا تُمكّن من متابعة الأداء بصورةٍ ديناميكيةٍ، مما يجعل عملية الربط بين المستويات بطيئةً ومحدودة الأثر. أما الأنظمة الحديثة القائمة على الذكاء الاصطناعي والتحليلات التنبؤية (Predictive Analytics)، فإنها تُحوّل الأداء إلى علمٍ حيٍّ يتنبّأ بالاتجاهات قبل حدوثها، ويقترح الإجراءات التصحيحية تلقائيًا.

لقد بدأت السعودية والإمارات بتطبيق هذه المنهجية في أنظمتها الرقمية، فأنشأت السعودية منصاتٍ مثل منصة الأداء الحكومي الموحّد ونظام مسار، بينما أطلقت الإمارات نظام التحول الرقمي للأداء الحكوميّ المتكامل مع بوابة الموارد البشرية "بياناتي"، مما جعل البيانات تتدفّق في الزمن الحقيقيّ بين المستويات المؤسسية والفردية. إنّ هذا التقدّم التقنيّ يُظهر أنّ نجاح الأداء في المستقبل لن يتوقف على النماذج الإدارية فقط، بل على قدرة المؤسسة على إدارة المعرفة من خلال البيانات، أي تحويل البيانات إلى بصيرةٍ معرفيةٍ Insight تُوجّه القرارات وتدعم القيادة.


خامسًا: التحدي الإنساني – من مقاومة التغيير إلى التملّك والمشاركة

يبقى أخطر التحديات هو التحدي الإنسانيّ المتعلق بـ المقاومة الطبيعية للتغيير، وهي ظاهرةٌ معروفةٌ في علم السلوك التنظيميّ. فكل نظامٍ جديدٍ يُهدد المألوف ويُحدث قلقًا لدى العاملين، خصوصًا إذا شعروا أن النظام سيُكشف ضعفهم أو يُعيد توزيع النفوذ داخل المؤسسة. لذلك، فإنّ أول ما يجب أن يُفكّر فيه القائد حين يُطلق نظام أداءٍ جديدٍ هو كيف يُشرك الناس فيه لا كيف يفرضه عليهم. فالإشراك هو العلاج الفعّال لمقاومة التغيير، لأنّ الإنسان لا يُقاوم ما ساهم في بنائه.

إنّ إشراك الموظفين في تصميم الأهداف والمؤشرات، وفي جلسات مراجعة الأداء، وفي صياغة خطط التطوير الفرديّ، يُحوّل النظام من سلطةٍ خارجيةٍ إلى مسؤوليةٍ ذاتيةٍ، ومن خوفٍ إلى حافزٍ. وهذا هو جوهر فلسفة OKRs التي أثبتت أنّ التملّك الذاتيّ للأهداف يرفع الالتزام بها أكثر من أي حوافزٍ ماليةٍ. كما أن الإشراك يُعزز الإبداع، لأنّ الموظف حين يشعر أنّ رأيه مسموعٌ يُقدّم أفضل ما لديه. ولذلك فإنّ المؤسسات التي تنجح في تحويل الأداء إلى حوارٍ مستمرٍ بين القائد والفريق تبني في الحقيقة ثقافةً تشاركيةً مستدامةً تتجاوز حدود التقييم إلى حدود الانتماء.


سادسًا: التحدي القيَمي – من الأداء كوظيفةٍ إلى الأداء كرسالةٍ

وأخيرًا، هناك التحدي الأعمق والأكثر إنسانيةً، وهو التحدي القيميّ، إذ إنّ الأداء في جوهره انعكاسٌ للقيم التي تُوجّه السلوك. فحين تكون القيمة العليا في المؤسسة هي الالتزام، سيُصبح الأداء شكليًا؛ وحين تكون القيمة هي التعلم، سيُصبح الأداء تطوريًا؛ وحين تكون القيمة هي الإتقان، سيُصبح الأداء حضاريًا. ولهذا قال القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ}، وهي قاعدةٌ إيمانيةٌ تربط الأداء بالعبادة، وتجعل الإتقان قيمةً وجوديةً لا مهنيةً فحسب.

إنّ تحويل الأداء إلى رسالةٍ قيميةٍ يعني أن يتعامل القائد مع التقييم على أنه مسؤولية تربوية قبل أن يكون مسؤولية إدارية، وأن يُعلّم الموظف أن جودة عمله ليست فقط وسيلةً للحصول على مكافأةٍ، بل مظهرًا من مظاهر الصدق والإحسان. ومن هنا فإنّ إدارة الأداء في العالم العربي بحاجةٍ إلى أن تُعيد بناء فلسفتها القيمية من الداخل، لتُصبح مزيجًا من العلم والإيمان، من النظام والضمير، من الأداء والنية، لأنّ الأداء الذي يُفقد معناه الأخلاقيّ يفقد قيمته الإنسانية مهما بلغت دقته الرقمية.


بهذا، يتضح أن التحديات التي تواجه ربط الأداء الفرديّ بالأداء المؤسسيّ ليست مشكلاتٍ إجرائيةً فحسب، بل هي قضايا فكرية وثقافية وإنسانية وتنظيمية متشابكة، تتطلب معالجةً شموليةً تستند إلى القيادة الواعية والتصميم المؤسسيّ الرشيد وبناء ثقافة الأداء الإيجابية التي ترى في التقييم طريقًا إلى التطوير لا بابًا للمحاسبة.


🌿 المحور الثامن: التطبيقات العملية والتوصيات العلمية لبناء منظومة ربطٍ فعّالةٍ ومستدامةٍ في المؤسسات العربية


حين تصل المؤسسة إلى مرحلةٍ متقدمةٍ في نضجها الإداري، وتبدأ بالتفكير في بناء منظومةٍ متكاملةٍ لربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي، فإنها في الحقيقة لا تُنشئ نظامًا جديدًا فحسب، بل تُعيد تعريف هويتها ووعيها وطريقة تفكيرها. فهذه المنظومة ليست برنامجًا إداريًا يُضاف إلى غيره، بل إطارٌ حاكمٌ يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والنظام، بين الأهداف والنتائج، بين الجهد والقيمة، بين الممارسة والرؤية. ومن هنا تأتي أهمية بناء هذه المنظومة على أسسٍ علميةٍ ومنهجيةٍ متكاملةٍ تجمع بين الفكر الإداري، والعمق التنظيمي، والبصيرة الثقافية، والالتزام الأخلاقيّ.

ولكي تكون منظومة الربط فعّالةً ومستدامةً، لا بدّ أن تستوفي خمسة شروطٍ كبرى تمثل في مجموعها أعمدة البناء المؤسسيّ الحقيقيّ: الوضوح، والاتساق، والتمكين، والتغذية الراجعة، والتحسين المستمر.


أولًا: الوضوح – من ضبابية التوقعات إلى دقة الاتجاهات

الوضوح هو الشرط الأول لكل أداءٍ فعّالٍ، لأن الغموض في الأهداف يُنتج غموضًا في النتائج. فالموظف الذي لا يفهم ما يُنتظر منه لا يمكن أن يُحاسب عليه بعدالة، ولا أن يُنجزه بإتقان. ولذلك يجب أن تُصاغ الأهداف والمؤشرات بطريقةٍ ذكيةٍ واضحةٍ محددةٍ، تُترجم رؤية المؤسسة إلى مهامٍ واقعيةٍ يفهمها كل فردٍ في موقعه. إنّ تطبيق قاعدة SMART Goals هنا ليس غايةً شكليةً، بل ممارسةً معرفيةً تضمن أن يعرف الجميع ماذا يُفترض تحقيقه، ولماذا، وبأي طريقة، وفي أي زمن.

وفي التجارب العربية الحديثة، اتضح أنّ أكبر معوقات الأداء هو غياب الوضوح في التوقعات. فكثيرٌ من الموظفين يعملون بجدٍّ لكن في اتجاهٍ مختلفٍ عن الاتجاه المؤسسيّ، لأنّهم لم يُشركوا في مرحلة التخطيط، ولم يتلقوا تفسيرًا كافيًا للأولويات. لذلك فإنّ أول تطبيقٍ عمليٍّ لبناء منظومة الربط هو توحيد لغة الأهداف داخل المؤسسة، بحيث تُصبح جميع الخطط التشغيلية نابعةً من الرؤية العليا، ومترجمةً في مؤشراتٍ قابلةٍ للقياس على كل مستوى. ويمكن تحقيق ذلك عبر استخدام ما يُعرف بـ خرائط الأهداف (Objective Maps)، وهي أدواتٌ بصريةٌ تربط بين الأهداف الاستراتيجية والتشغيلية والفردية، بحيث يُدرك الجميع موقعهم من خريطة الإنجاز الكبرى.


ثانيًا: الاتساق – من التناقضات الإدارية إلى التوافق المؤسسيّ

الاتساق هو العمود الفقريّ لأي منظومةٍ للأداء، وهو ما يجعل المؤسسة تسير باتجاهٍ واحدٍ رغم تعدد الوحدات والوظائف. فحين تتعارض الأهداف بين الإدارات، أو تتكرّر المهام دون تنسيق، تُفقد المؤسسة طاقتها في الصراعات الداخلية بدلًا من استثمارها في الإنجاز المشترك. لذلك ينبغي عند بناء منظومة الربط أن يُضمن الاتساق الأفقيّ والعموديّ معًا؛ الأفقيّ بين الإدارات والقطاعات عبر الأهداف المشتركة والمشروعات التكاملية، والعموديّ عبر تسلسل الأهداف من القمة إلى القاعدة.

وفي هذا الإطار، يمكن تطبيق نموذج Alignment Matrix الذي يستخدمه EFQM لتتبع مدى توافق كل هدفٍ ووحدةٍ مع الرؤية الكلية. كما يمكن استخدام آلية Cascading KPIs وCascading OKRs لضمان تدفّق الأهداف والمؤشرات من المستويات العليا إلى الفردية دون تشويهٍ أو تضخيمٍ أو غموض. إنّ الاتساق هنا ليس تنظيميًا فقط، بل قيميٌّ وسلوكيٌّ أيضًا، لأن المؤسسة المتسقة هي التي تُوحّد قيمها في السلوك قبل أن تُوحّد أرقامها في التقارير. وهذا الاتساق هو الذي يجعل كل موظفٍ يشعر أنه يتحرّك ضمن مسارٍ واحدٍ مع زملائه نحو غايةٍ واحدةٍ مشتركةٍ، لا في جزرٍ معزولةٍ تبحث عن مجدٍ فرديٍّ عابر.


ثالثًا: التمكين – من التبعية الوظيفية إلى المسؤولية الذاتية

التمكين هو التحوّل الجوهريّ الذي يُحوّل الأداء من نظامٍ رقابيٍّ إلى نظامٍ قياديٍّ تشاركيٍّ. فحين تُمنح الثقة للموظفين في صياغة أهدافهم، وفي اختيار وسائل تحقيقها، وفي تقييم نتائجهم، تُولد روح الملكية والمسؤولية الذاتية التي تُعدّ أهمّ ضمانةٍ لاستدامة الأداء. ولذلك فإنّ أحد أهم التطبيقات العملية هو إشراك الموظفين في مرحلة تصميم الأهداف، بحيث لا تُفرض عليهم من الإدارة العليا، بل تُناقش وتُطوّر معهم. وهذا ما يُعرف في أدبيات OKRs بمفهوم Bottom-Up Objectives Setting أي "الأهداف الصاعدة من الميدان".

إنّ الموظف الذي يشعر أنّ هدفه من اختياره سيسعى إليه بطاقةٍ ذاتيةٍ لا تُقارن بمن يعمل لتحقيق هدفٍ فُرض عليه. ومن هنا يجب أن تُبنى المنظومة على فلسفة القيادة بالثقة (Trust-Based Leadership) التي تجعل المدير مُمكّنًا لا مُراقبًا، وتحوّل الاجتماعات الدورية إلى حواراتٍ تطويريةٍ لا جلساتٍ للمحاسبة. كما ينبغي تمكين القادة الميدانيين بسلطاتٍ مرنةٍ لاتخاذ قراراتٍ فوريةٍ تتعلق بتحسين الأداء، لأنّ المركزية المفرطة تُبطئ الاستجابة وتُضعف الدافعية. وهكذا يُصبح التمكين ليس شعارًا تنظيميًا، بل ممارسةً واقعيةً تُترجم إلى سلوكٍ إداريٍّ يوميٍّ يقوم على الثقة والمسؤولية والمساءلة الواعية.


رابعًا: التغذية الراجعة – من الصمت الإداري إلى الحوار التفاعليّ

من أكبر أخطاء أنظمة الأداء أن تُختزل التغذية الراجعة في نهاية الدورة السنوية، لأنّ الأداء كالكائن الحيّ يحتاج إلى تغذيةٍ مستمرةٍ ليبقى فاعلًا ومتجددًا. فحين يغيب الحوار الدوريّ بين الرئيس والموظف، يتحول الأداء إلى حالةٍ من العمى المؤسسيّ، تُراكم الأخطاء دون تصحيحٍ أو تحسينٍ في الوقت المناسب. لذلك ينبغي أن تكون المراجعات الدورية (Check-ins) جزءًا أصيلًا من النظام، لا إجراءً إضافيًا.

وقد أثبتت التجارب العالمية أنّ جلسات المتابعة الشهرية التي تُدار بروحٍ داعمةٍ تحقّق زيادةً في التحفيز والرضا الوظيفيّ بنسبةٍ تتجاوز 35%. إنّ التغذية الراجعة ليست أداةً للتقييم فحسب، بل هي لغة التواصل في بيئة الأداء، تُستخدم لتوجيه السلوك، وتثبيت النجاحات، وتعديل المسار بلطفٍ وحزمٍ في آنٍ واحد. ومن التطبيقات الناجحة لذلك ما يُعرف بنظام Feedforward الذي ابتكره الخبير الأمريكي مارشال جولدسميث، والذي يُركّز على توجيه المستقبل بدلًا من نقد الماضي، أي أنّ الحوار يدور حول ما الذي يمكن فعله أفضل؟ بدلًا من ما الذي فشلنا فيه؟. هذا الأسلوب التحفيزيّ يُحوّل الأداء إلى مسارٍ للتعلّم والنموّ لا مصدرًا للتوتر أو الخوف.


خامسًا: التحسين المستمر – من الموسمية إلى المنهجية

لا يمكن لأي نظامٍ أن يحقق الاستدامة دون أن يمتلك آليةً ذاتيةً للتعلّم والتطوير. إنّ التحسين المستمر (Continuous Improvement) ليس مرحلةً نهائيةً بل دورةً دائمةً تُعيد بناء المنظومة كلما تغيّرت البيئة أو الأهداف. وهنا تأتي أهمية تبنّي منهجياتٍ مثل كايزن (Kaizen) وLean Management التي تجعل كل موظفٍ مسؤولًا عن اقتراح التحسين في مجاله، وتجعل كل عمليةٍ قابلةً للمراجعة والتطوير.

ويُوصى بأن تعتمد المؤسسات آلية المراجعة السنوية الإستراتيجية للأداء (Strategic Performance Review) التي تُقيم ليس فقط النتائج ولكن فعالية النظام ذاته: هل المؤشرات ما تزال مناسبة؟ هل الأهداف ما تزال واقعية؟ هل السلوك المؤسسيّ ما يزال متسقًا مع الرؤية؟ هذه الأسئلة تضمن أن تبقى المنظومة حيةً وقادرةً على التجدد.

كما يُعدّ تطبيق نظام إدارة المعرفة Knowledge Management System (KMS) خطوةً أساسيةً في استدامة الأداء، لأنه يُخزّن الدروس المستفادة من الدورات السابقة ويجعلها متاحةً في الوقت المناسب، فلا تبدأ كل دورةٍ من الصفر. فالمعرفة المتراكمة هي وقود الأداء المستقبليّ، والنظام الذي لا يتعلم يُعيد أخطاءه مهما كان متطورًا.


سادسًا: بناء الثقافة المؤسسية – من النظام إلى الوعي

في نهاية المطاف، تبقى الثقافة هي الإطار الذي يحتضن كل أنظمة الأداء. فلا معنى لأي نموذجٍ أو مؤشرٍ إذا لم تتحوّل قيم الأداء إلى سلوكٍ جمعيٍّ واعٍ يعيش في ضمير المؤسسة. وهنا تأتي الحاجة إلى برامج التحول الثقافيّ التي تزرع في الأذهان مفهوم الأداء بوصفه التزامًا ذاتيًا ومسؤوليةً أخلاقيةً قبل أن يكون متطلبًا وظيفيًا.

ومن أفضل الأساليب لبناء هذه الثقافة اعتماد القيادة بالقدوة (Leading by Example)، فالقائد الذي يُتقن أداءه يُعلّم فريقه بالقدوة أكثر مما يُعلّمهم بالخطاب. كما ينبغي تعزيز مفهوم الشفافية التنظيمية التي تجعل الأرقام متاحةً للجميع، لأنّ المعرفة المشتركة تُولّد الوعي الجمعيّ، والوعي يولّد المسؤولية، والمسؤولية تولّد التميز. إنّ الثقافة التي ترى في الأداء وسيلةً للتعلّم، وفي التقييم فرصةً للتحسّن، هي التي تُنتج مؤسساتٍ تتنفس الجودة والإتقان لا تُفرض عليها من الخارج.


سابعًا: دمج الأداء بالتنمية الوطنية – من المؤسسة إلى الدولة

من التوصيات الجوهرية التي تُوصي بها التجارب الخليجية المعاصرة أن يُدمج نظام إدارة الأداء المؤسسيّ في الإطار الأوسع للتنمية الوطنية، بحيث تُستخدم بيانات الأداء في تقييم فاعلية السياسات العامة، وتُربط المؤشرات المؤسسية بالمؤشرات الوطنية الكبرى مثل الناتج المحليّ، وكفاءة الخدمات، ومستوى الرضا المجتمعيّ. إنّ هذا الدمج يُحوّل الأداء من شأنٍ إداريٍّ داخليٍّ إلى أداة حوكمةٍ وطنيةٍ تُوجّه الدولة في مسارها الاستراتيجيّ.

وقد بدأت السعودية والإمارات بالفعل في تبنّي هذا التوجه عبر ربط لوحات الأداء المؤسسية بلوحات القيادة الوطنية (National Dashboards)، مما يجعل نتائج الأداء على مستوى الجهة تنعكس مباشرةً في المؤشرات الحكومية العليا. وبهذا تتحقق الشفافية والاتساق والربط المتبادل بين الفرد والمؤسسة والدولة، فيتحول كل إنجازٍ شخصيٍّ إلى لبنةٍ في بناء الوطن، وكل تطويرٍ داخليٍّ إلى إضافةٍ نوعيةٍ في منظومة التنمية الشاملة.


ثامنًا: التوصيات العلمية الختامية

بعد استعراض المسار الكامل لرحلة الأداء من الرؤية إلى النتائج، يمكن تلخيص التوصيات العلمية لبناء منظومة ربطٍ فعّالةٍ ومستدامةٍ في النقاط التالية:

1️⃣ تبنّي فلسفة القيادة بالأداء (Leadership by Performance) بوصفها الإطار الفكريّ الذي يُحوّل القادة إلى مُمكّنين للتطوير لا مراقبين.
2️⃣ اعتماد نموذج تكامليّ بين KPIs وOKRs يضمن الجمع بين الدقة الكمية والتحفيز النوعيّ في نظامٍ واحدٍ متكامل.
3️⃣ تصميم هندسة أداءٍ مؤسسيةٍ متعددة الأبعاد تربط بين الاستراتيجية، والعمليات، والسلوك، والثقافة، والتقنية.
4️⃣ دمج أنظمة الأداء بالموارد البشرية (HRMS) لضمان الترابط بين التقييم، والتطوير، والترقية، والمكافأة.
5️⃣ التحوّل إلى الأداء الإلكترونيّ الذكيّ باستخدام لوحاتٍ تحليليةٍ فوريةٍ تتيح المراقبة اللحظية والتحليل التنبؤيّ.
6️⃣ تعزيز ثقافة الحوار والتغذية الراجعة المستمرة عبر جلسات متابعةٍ شهريةٍ بنهجٍ تشاركيٍّ محفّزٍ.
7️⃣ ربط الأداء بالجدارات السلوكية والقيم المؤسسية لتغليب البعد الإنسانيّ والأخلاقيّ على البعد الإجرائيّ.
8️⃣ تبنّي منهجية التحسين المستمر (Kaizen) بوصفها نمطًا دائمًا لإعادة بناء النظام وتطويره.
9️⃣ تحويل الأداء إلى مشروع وطنيٍّ للتنمية عبر ربطه بالمؤشرات الاستراتيجية لرؤية الدولة.
🔟 تأسيس مركز وطنيٍّ أو خليجيٍّ للتميّز في إدارة الأداء يتولى وضع المعايير، وتبادل الخبرات، وتوحيد الممارسات، وبناء القدرات.


🌺 الخلاصة التحليلية

إنّ ربط الأداء الفرديّ بالأداء المؤسسيّ هو في جوهره مشروع حضاريّ أكثر من كونه نظامًا إداريًا، لأنه يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمؤسسة، ويُحوّل العمل من وظيفةٍ إلى رسالةٍ، ومن الواجب إلى الإبداع، ومن الخوف إلى الثقة. والمؤسسة التي تُتقن هذا الربط تُصبح كيانًا حيًا يوازن بين النظام والروح، بين الانضباط والتحفيز، بين العقلانية والإنسانية. وحين تتحقق هذه المعادلة، تُولد بيئةٌ إداريةٌ جديدةٌ ترى في الأداء طريقًا للوعي، وفي الوعي طريقًا للتنمية، وفي التنمية طريقًا للريادة. وهذه هي الغاية الكبرى التي تسعى إليها الرؤية الخليجية في القرن الحادي والعشرين: أن تُصبح الإدارة علمًا يُدار بالعقل، وفنًا يُمارس بالقلب، ورسالةً تُبنى بالإنسان.


🪞 الخاتمة

حين نصل إلى نهاية هذا المقال، لا نكون أمام خاتمةٍ بالمعنى التقليديّ، بل أمام لحظة تأملٍ عميقةٍ تُعيدنا إلى البدايات الأولى للفكر الإداريّ ذاته، حين كان الإنسان يسعى لأن يجعل من عمله مرآةً لقيمه، ومن نظامه امتدادًا لوعيه، ومن مؤسسته تجسيدًا لرؤيته. إنّ الحديث عن ربط الأداء الفرديّ بالأداء المؤسسيّ ليس حديثًا عن معادلاتٍ إداريةٍ جامدةٍ أو جداولَ تقنيةٍ محضةٍ، بل هو حديث عن الإنسان بوصفه محور النظام، والعقل بوصفه مصممه، والقيم بوصفها ضميره. فكل منظومةٍ للأداء، مهما بلغت من التعقيد، تظلّ في جوهرها فعلًا معرفيًا أخلاقيًا يُعبّر عن الكيفية التي ترى بها المؤسسة ذاتها والعالم من حولها.

لقد بيّن هذا المقال، عبر محاوره الثمانية المتتابعة، أنّ عملية الربط بين المستويين الفرديّ والمؤسسيّ هي عملية بناءٍ متكاملةٍ تتجاوز فكرة القياس إلى فكرة التمكين والتحوّل والاتساق. ففي المحور الأول رأينا كيف يتأسس المفهوم على إدراك العلاقة الجدلية بين الجزء والكلّ، بين الفرد كعنصرٍ فاعلٍ والمؤسسة كنسقٍ جامعٍ، وأنّ كلّ نظامٍ للأداء لا ينجح إلا إذا فهم أنّ الإنسان ليس أداة تنفيذٍ بل شريك تصميمٍ. وفي المحور الثاني تعمّقنا في العلاقة المنهجية بين مؤشرات الأداء (KPIs) التي تقيس الكفاءة، والأهداف والنتائج (OKRs) التي تُعبّر عن الطموح والتقدّم، وكيف يمكن الجمع بين الدقة الكمية والدافعية النوعية في منظومةٍ واحدةٍ تُوازن بين الصرامة والمرونة، وبين المتابعة والإلهام.

أما المحور الثالث فقد كشف أنّ جوهر الأداء لا يقوم على النماذج بل على الفكر القياديّ الذي يُوجّهه، وأنّ القيادة الواعية هي التي تجعل الأرقام تتحدث بمعنى، لأنّها تقرأها بعين الرؤية لا بعين الرقابة، وتُحوّل التقييم إلى حوارٍ لا إلى حكمٍ، والمراجعة إلى تطويرٍ لا إلى محاسبة. وفي المحور الرابع تناولنا أثر الأنظمة الرقمية والتحول الإلكترونيّ في إعادة صياغة الوعي الإداريّ، إذ لم تعد التقنية غايةً في ذاتها بل أصبحت وسيطًا معرفيًا يُربط بين العقل المؤسسيّ وقراراته عبر البيانات والتحليلات التنبؤية. وهنا يتجلى البعد الفلسفيّ للأداء: أنّ الإنسان حين يُنمذج وعيه في نظامٍ ذكيٍّ، فإنّه لا يُسلم القيادة للآلة، بل يوسع مداركه بها، ويجعل التقنية أداةً لتعظيم إنسانيته لا لاستبدالها.

وفي المحور الخامس رأينا كيف تُبنى هندسة منظومة الأداء عبر أربعة أبعادٍ: الاستراتيجيّ، والتشغيليّ، والسلوكيّ، والثقافيّ، ليصبح الأداء سلسلةً من الترجمات المتراكبة تبدأ من الرؤية وتنتهي بالسلوك الفرديّ. وتبيّن لنا أنّ هذه الهندسة ليست عملًا إداريًا بحتًا، بل هي ممارسةٌ معرفيةٌ قيميةٌ تستند إلى فهمٍ عميقٍ للعلاقات بين الأجزاء، تمامًا كما يفعل المهندس حين يبني جسرًا يربط بين ضفتين، فيحسب التوازن بين المادة والقوة، بين الشكل والغاية. كذلك الأداء المؤسسيّ، هو الجسر الذي يربط بين الطموح والواقع، وبين الفكرة والفعل، وبين الرؤية والسلوك.

ثمّ جاء المحور السادس ليُجسّد هذا الفكر في واقع التجربة الخليجية من خلال النموذجين السعوديّ والإماراتيّ، حيث تحوّل الأداء إلى لغةٍ وطنيةٍ للتميّز. فالسعودية جعلت من الأداء مشروعًا وطنيًا للتمكين المؤسسيّ، يربط الإنسان بالرؤية عبر منظومةٍ متكاملةٍ تجمع العدالة بالتحفيز، والمساءلة بالتمكين، بينما جعلت الإمارات من الأداء مدرسةً قياديةً لتجسيد القيم المؤسسية في السلوك اليوميّ، عبر نموذج الجدارات القيادية والسلوكية والفنية، وعبر القيادة بالقدوة والتميّز. وبين التجربتين تتكوّن ملامح النموذج الخليجيّ المتكامل الذي يزاوج بين الحوكمة والقيم، وبين الكفاءة والإنسانية، ليقدّم للعالم رؤيةً عربيةً ناضجةً في إدارة الأداء بوصفها ممارسةً حضاريةً نابعةً من هويةٍ أصيلةٍ ومفتوحةٍ على العالم.

وفي المحور السابع واجهنا التحديات الفكرية والتنظيمية والثقافية والإنسانية التي تعيق هذا الربط، فظهر جليًا أنّ المعضلة ليست في النظام بل في الوعي، وأنّ أي إصلاحٍ إداريٍّ لا يبدأ من تغيير الثقافة التنظيمية سيظلّ سطحيًا مهما بلغت أناقته الشكلية. فالفكر الذي يرى الأداء رقابةً لا قيادة، والثقافة التي ترى التقييم عقوبةً لا فرصةً، والهيكل الذي يُجزّئ الجهود بدلًا من أن يُكاملها — كلّها عقباتٌ تجعل المنظومة عاجزةً عن تحقيق رسالتها. لذلك، فإنّ التغيير الحقيقيّ يبدأ من تحويل الأداء إلى منهج للتفكير والسلوك، لا إلى أداةٍ للتقويم فقط.

أما المحور الثامن فقد وضع التوصيات العملية والعلمية لبناء المنظومة الفعّالة والمستدامة، مبيّنًا أنّ الاستدامة لا تتحقق إلا حين يُصبح الأداء ثقافةً تُمارس لا نظامًا يُطبّق، وأنّ سرّ النجاح في الوضوح والاتساق والتمكين والتغذية الراجعة والتحسين المستمر، لأنّها الأعمدة الخمسة التي يقوم عليها بناء الأداء المتوازن. ومن خلال هذه الأعمدة يُمكن للمؤسسة أن تنشئ دورة حياةٍ للأداء تبدأ من وضوح الهدف وتنتهي بخلق القيمة، مرورًا بالمشاركة والتعلّم والابتكار، فيتحوّل الأداء من إدارةٍ للنتائج إلى إدارةٍ للوعي المؤسسيّ نفسه.

وعند هذا الحدّ، يمكننا القول إنّ الربط بين الأداء الفرديّ والمؤسسيّ هو ليس مجرد تقنيةٍ إداريةٍ حديثة، بل هو تحوّلٌ أنطولوجيٌّ في فهمنا للمؤسسة، إذ يُعيد تعريفها لا بوصفها هيكلًا تنظيميًا أو مجموعةَ وظائف، بل بوصفها كيانًا حيًا له ذاكرةٌ وسلوكٌ وضميرٌ جمعيّ. فكلّ موظفٍ هو خليةٌ في هذا الجسد، وكلّ مؤشرٍ هو نبضةٌ من نبضاته، وكلّ تفاعلٍ بينهما يُكوّن ملامح الحياة في هذا الكيان. فإذا اضطربت الخلايا انقطع الاتصال بين القلب والأطراف، وإذا انسجم الإيقاع بينهما دبت الحياة في الجسد بأكمله.

إنّ الفهم العميق لربط الأداء يعني الانتقال من منطق "الأداء كمخرجات" إلى منطق "الأداء كحالةٍ وجوديةٍ مستمرةٍ"، أي أنّ الأداء ليس نهاية دورةٍ إداريةٍ، بل هو حركةٌ دائمةٌ في الوعي الجمعيّ للمؤسسة. وكلّما ارتفع نضج المؤسسة في إدارة هذه الحركة، ازدادت قدرتها على التكيّف مع التغيير، والابتكار في الحلول، وتحقيق الاستدامة. لذلك فإنّ المؤسسات الرائدة اليوم هي تلك التي تُحوّل أنظمة الأداء إلى أدواتٍ للتفكير الاستراتيجيّ، فتقرأ الأرقام بوصفها قصصًا، والبيانات بوصفها تجاربَ إنسانيةٍ، والمؤشرات بوصفها بوصلاتٍ للمعنى لا للمحاسبة فقط.

ومن هنا تتضح العلاقة العميقة بين الأداء كعلمٍ والإدارة كفنٍّ والفكر كفلسفة. فالعلم يُزوّدنا بالأدوات، والفنّ يُعلّمنا كيف نستخدمها، والفكر يُحدّد لنا لماذا نستخدمها. وحين تتكامل هذه الأبعاد الثلاثة، يولد النموذج المؤسسيّ الناضج الذي يُعبّر عنه د. محمد العامري في فلسفته التدريبية والاستشارية ضمن منظومة مهارات النجاح، حيث يرى أن الأداء المؤسسيّ ليس نشاطًا إداريًا منعزلًا، بل منظومةُ وعيٍ متكاملٍ تُوحّد التخطيط والتنظيم والتطوير والقيادة في سياقٍ واحدٍ يُدار بالعقل ويُلهِم بالقلب ويستمدّ معناه من القيم العليا.

إنّ المؤسسات العربية والخليجية اليوم أمام فرصةٍ تاريخيةٍ لأن تُعيد صياغة مفهوم الأداء في ضوء هويتها الثقافية والدينية والاجتماعية، فتقدّم للعالم نموذجًا يُوازن بين الأصالة والمعاصرة. فالإتقان الذي نادى به الإسلام، والتميز الذي تدعو إليه الرؤى الوطنية، والحوكمة التي تنشدها المعايير الدولية، ليست مساراتٍ متوازيةً بل حلقاتٌ في دائرةٍ واحدةٍ هي دائرة الوعي بالأداء كقيمةٍ حضاريةٍ شاملة. ومن هنا فإنّ أعظم إنجازٍ يمكن أن تحقّقه أي مؤسسةٍ عربيةٍ ليس أن تبلغ مؤشراتٍ مرتفعةً فحسب، بل أن تخلق وعيًا جمعيًا جديدًا يرى في كل عملٍ رسالةً، وفي كل نتيجةٍ معنى، وفي كلّ أداءٍ حضارة.

ولذلك، فإنّ الربط بين الأداء الفرديّ والمؤسسيّ هو في نهاية المطاف رحلة وعيٍ أكثر من كونه نظامًا، رحلةٌ تبدأ من السؤال: لماذا نعمل؟، وتُجاب عمليًا في كيف نعمل؟، وتُتوج بالإيمان العميق بأنّ العمل المتقن عبادةٌ، وأنّ الأداء الراقي مسؤوليةٌ، وأنّ المؤسسة الناجحة هي التي تُمكّن الإنسان من أن يكتشف ذاته عبر دوره، ويُحقّق رسالته عبر مهنته، ويخدم وطنه عبر عمله.


✍🏻 التوثيق للمحتوى

📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات، ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.

✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد:
د. محمد العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية، بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.

📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية، ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z

🌐 تصفّح المزيد من المقالات عبر الموقع الرسمي:
👉 www.mohammedaameri.com


🔖#إدارة_الأداء #Performance_Management #د_محمد_العامري #مهارات_النجاح #التميز_المؤسسي #القيادة_بالأداء #إدارة_الموارد_البشرية #التحول_الرقمي #رؤية_السعودية_2030 #رؤية_الإمارات_2071 #OKRs #KPIs #التنمية_المستدامة #التمكين_المؤسسي #التحسين_المستمر #القيادة_التحويلية

تحميل محتوى الصفحة رجوع