د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

القياس السلوكي العادل: تطبيق نموذج BARS ومؤشرات السلوك الإيجابي Behavioral Fair Measurement: Applying the BARS Model and Positive Behavior Indicators

يُقدّم هذا المقال تحليلًا معمقًا لمفهوم القياس السلوكي العادل، بوصفه الركيزة التي تضمن نزاهة تقييم الأداء، وتحوّل السلوك الإنساني إلى مؤشراتٍ علميةٍ قابلةٍ للقياس والتطوير المستمر.

October 31, 2025 عدد المشاهدات : 86

منذ أن بدأت المؤسسات تُدرك أن الأداء ليس رقمًا يُسجّل في تقارير نهاية العام، بل هو سلوكٌ يُمارس في كل لحظةٍ من لحظات العمل، أصبح السؤال الأكثر عمقًا في علم الإدارة هو: كيف نقيس السلوك بعدلٍ دون أن نُفرغه من إنسانيته؟. إنّ السلوك الإنساني متغير، غنيٌّ بالدوافع والظروف والتفاعلات، وهو مرآةٌ للقيم والبيئة والثقافة، ومع ذلك، تحتاج المؤسسة إلى أدواتٍ تُترجم هذا السلوك إلى معاييرٍ موضوعيةٍ تُمكّنها من التقييم والتطوير. وهنا وُلد مفهوم القياس السلوكي العادل، كمنهجٍ إداريٍّ وفلسفيٍّ يوازن بين العلم والعدالة، بين الصرامة في القياس والرحمة في الفهم، وبين الموضوعية في التقييم والإنصاف في الحكم.

العدالة في قياس السلوك ليست مجرد نزاهةٍ شكليةٍ في الأرقام أو النسب، بل هي وعيٌ مؤسسيٌّ عميقٌ بطبيعة الإنسان. فالمدير الذي يُقيّم موظفيه دون إدراكٍ للفوارق الفردية، أو دون فهمٍ للسياق الذي يُنتج السلوك، يقع في فخّ التحيّز غير المقصود الذي يُفسد العدالة ويشوّه نتائج الأداء. في المقابل، فإنّ القياس السلوكي العادل يُعيد بناء العلاقة بين المقيم والمُقيَّم على أساسٍ من الفهم والتوثيق والشفافية، بحيث يُصبح التقييم وسيلةً للتطوير لا أداةً للعقاب. وهنا تتجلّى أهمية النماذج العلمية الحديثة مثل نموذج السلوك المعياري المرتكز (BARS)، الذي يُعتبر من أكثر الأدوات قدرةً على تحقيق هذا التوازن بين الدقة الإنسانية والمنهجية الإحصائية.

ففي ظلّ تطوّر نظم إدارة الأداء في المنطقة العربية، خصوصًا في السعودية والإمارات، أصبح اعتماد نموذج BARS وغيره من أدوات القياس السلوكي معيارًا على نضج المؤسسة في إدارة مواردها البشرية. إذ لم يعد التقييم يُقاس بمدى إنجاز الأهداف فقط، بل بمدى تجسيد الموظف للقيم المؤسسية في سلوكه اليومي، ومدى قدرته على تحويل المبادئ إلى ممارساتٍ ملموسةٍ تُظهر التزامه بالهوية التنظيمية والتميّز المهني. ومن هنا، لم يعد القياس السلوكي مسألة فنية فحسب، بل قضية حوكمةٍ وعدالةٍ وثقافةٍ مؤسسيةٍ تُعيد للإنسان مكانته كجوهر النظام الإداري لا كأحد مخرجاته.

القياس السلوكي العادل إذًا ليس أداةً للمراقبة، بل منظومةٌ للوعي، تعلّم القائد كيف يرى السلوك بإنصافٍ، وتُدرّب المؤسسة على أن تجعل من العدالة معيارًا دائمًا في كل ما تقوم به. إنه يعلّمنا أن الحكم على السلوك يجب أن يكون مرآةً للحق لا للانطباع، وأن العدالة لا تتحقق بالأرقام فقط، بل بنية النية والمنهج والإدراك. ولذلك فإنّ المؤسسات التي تتقن فن القياس السلوكي العادل تُصبح أقرب إلى جوهر التميز، لأنها تُوازن بين النظام والضمير، وتحوّل تقييم الأداء من حدثٍ إداريٍّ إلى حوارٍ إنسانيٍّ راقٍ.


📚 فهرس المقال

1️⃣ مفهوم القياس السلوكي العادل وأبعاده الفلسفية ⚖️
2️⃣ مشكلة التحيّز في التقييم وأثرها على العدالة المؤسسية 🧩
3️⃣ نشأة نموذج BARS وتطوره في الفكر الإداري الحديث 🧠
4️⃣ تطبيق نموذج BARS في بيئة العمل الخليجية 🇸🇦🇦🇪
5️⃣ بناء مؤشرات السلوك الإيجابي وربطها بالأداء الفردي 🌱
6️⃣ العدالة التنظيمية والتسلسل المنهجي في المراجعة السلوكية 🏛️
7️⃣ العلاقة بين القياس السلوكي وخطة التطوير الفردي (IDP) 📈
8️⃣ التحول الرقمي في التقييم السلوكي وضمان الشفافية التقنية 💻


1️⃣ مفهوم القياس السلوكي العادل وأبعاده الفلسفية ⚖️

حين نتحدث عن “القياس السلوكي العادل”، فإننا في الحقيقة لا نتحدث عن إجراءٍ إداريٍّ تقنيٍّ محدود، بل عن فلسفةٍ متكاملةٍ في النظر إلى الإنسان داخل المؤسسة، وعن وعيٍ أخلاقيٍّ عميقٍ بكيفية تحويل السلوك المهني — بوصفه ظاهرةً إنسانيةً معقّدة — إلى مؤشرٍ قابلٍ للقياس دون أن نفقد جوهره الإنساني أو نحوله إلى رقمٍ جامدٍ بلا معنى. فالعدالة في القياس ليست مسألة حيادٍ شكليٍّ في أدوات التقييم، بل هي منهجيةٌ فكريةٌ تُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والمؤسسة، بين الحكم والفهم، بين التقييم والتنمية، بحيث لا يُختزل الموظف في رقمٍ أو نسبةٍ، بل يُنظر إليه ككائنٍ إنسانيٍّ كاملٍ، له ظروفه ودوافعه وسياقه، ويُقيَّم في ضوء تلك المعطيات جميعًا.

إنّ “القياس السلوكي العادل” هو جسر الوعي بين الأخلاق والعلم. فمن جهةٍ، يستند إلى أدواتٍ علميةٍ موضوعيةٍ تُقلّل من التحيّز وتُحافظ على الاتساق في التقييم، ومن جهةٍ أخرى، يتجذر في فلسفة العدالة التي تُدرك أن السلوك لا يُفهم بمعزلٍ عن الإنسان الذي أنتجه. وهنا يكمن جوهر التوازن الإداري الحديث: أن نجعل من العدالة معيارًا للقياس، لا من القياس وسيلةً للحكم. فكم من مؤسسةٍ فشلت في تطوير كوادرها لأنها اختزلت السلوك في استمارةٍ، وكم من قائدٍ أفسد العدالة لأنه حكم على الناس بمشاعره لا بمعاييره، وكم من نظامٍ فقد روحه لأنه فصل بين “النتائج” و“القيم”. ولهذا جاء مفهوم القياس السلوكي العادل ليعيد لهذه العلاقة اتزانها، فيجعل من التقييم فعلًا منصفًا ومسؤولًا في آنٍ واحدٍ، يجمع بين الدقة في الأداة والرحمة في الفهم.

من الناحية الفلسفية، يمكن النظر إلى “القياس السلوكي العادل” باعتباره امتدادًا لمبدأ العدالة الأرسطية الذي يفرّق بين العدالة المطلقة والعدالة النسبية. فالعدالة المطلقة هي الإنصاف في الجوهر، بينما العدالة النسبية هي المساواة في التطبيق. وعندما نُسقط هذا المبدأ على بيئة العمل، ندرك أن العدالة في تقييم السلوك لا تتحقق بمجرد استخدام معايير موحدةٍ، بل تتحقق حين تُطبّق تلك المعايير بفهمٍ للسياق والنية والظرف. فالموظف الذي يواجه ضغطًا شديدًا أو ظروفًا استثنائية قد يُظهر سلوكًا يبدو ظاهريًا أقل انضباطًا، لكن القائد العادل لا يكتفي بملاحظة النتيجة، بل يسعى إلى فهم الدافع والموقف والبيئة، لأن العدالة في السلوك هي عدالة الفهم قبل أن تكون عدالة الحكم.

وتُشير الدراسات الحديثة في علم النفس التنظيمي إلى أن الشعور بالعدالة في التقييم السلوكي هو أحد أهم العوامل المؤثرة في الرضا الوظيفي والالتزام المؤسسي. فالموظف الذي يشعر بأنه يُقيَّم بعدالةٍ يكون أكثر استعدادًا لقبول الملاحظات، وأكثر التزامًا بالتطوير الذاتي، لأنه يرى في التقييم شراكةً لا خصومة. أما حين يغيب هذا الشعور، فإن التقييم يتحوّل إلى تهديدٍ لا إلى فرصةٍ، ويُصبح الحوار حول الأداء ساحةً للدفاع لا للتعلّم. لذلك تُشدّد أنظمة الأداء الحديثة، مثل النظام الإماراتي والسعودي، على ضرورة بناء ثقافةٍ مؤسسيةٍ تؤمن بأن العدالة ليست هدفًا في نهاية التقييم، بل هي شرطٌ لبدايته.

إنّ العدالة في القياس السلوكي ليست مجرد مطلبٍ أخلاقيٍّ، بل هي شرطٌ علميٌّ لصحة النتائج. فالتقييم غير العادل لا يُنتج فقط إحباطًا نفسيًا، بل يُنتج أيضًا بياناتٍ مشوّهةً تؤدي إلى قراراتٍ خاطئةٍ في الترقيات والتدريب والتطوير. وحين تُبنى القرارات المؤسسية على بياناتٍ منحازةٍ أو غير دقيقةٍ، فإنّ النظام بأكمله يفقد موثوقيته. ولذلك تُعتبر العدالة في القياس السلوكي جزءًا من منظومة الحوكمة الإدارية، لأنها تضمن أن تكون كل نتيجةٍ مبنيةً على ملاحظةٍ موثقةٍ، وكل حكمٍ قائمًا على معيارٍ واضحٍ، وكل قرارٍ مستندًا إلى فهمٍ لا إلى انطباعٍ.

ويُعبّر “القياس السلوكي العادل” عن رؤيةٍ إنسانيةٍ جديدةٍ في إدارة الأداء، تُركّز على تحويل السلوك إلى بياناتٍ ذات معنى لا إلى أرقامٍ مجردة. فبدلًا من أن نسأل “كم مرةً تأخّر الموظف؟”، نسأل “ما السبب؟ وما النمط؟ وكيف أثّر ذلك في الفريق؟ وهل أظهر السلوك ذاته في مواقف أخرى؟”. هذه الأسئلة التحليلية تُحوّل القياس إلى فهمٍ، والفهم إلى تطويرٍ. إنها تُعيد إلى التقييم روحه الإنسانية، وتُذكّرنا بأن السلوك لا يُفهم إلا في سياقه الكليّ. فالموظف ليس آلةً تنتج الأفعال، بل إنسانٌ يتفاعل مع قيمٍ وضغوطٍ وتطلعاتٍ، ومن العدالة أن نُقيّمه على هذا الأساس.

وعندما ننظر إلى العدالة السلوكية من منظورٍ إداريٍّ تطبيقيٍّ، نجد أنها ترتكز على ثلاث ركائزٍ كبرى: الشفافية، التوثيق، والمعايرة المؤسسية.

  • الشفافية تضمن أن يفهم الموظف ما يُقيَّم عليه، ولماذا، وبأي معايير. فغياب الوضوح يخلق شعورًا بالظلم حتى لو كانت الأداة دقيقة.

  • والتوثيق يضمن أن تكون كل ملاحظةٍ سلوكيةٍ مدعومةً بدليلٍ واقعيٍّ قابلٍ للتحقق، لأن الحكم بلا دليلٍ هو انطباعٌ لا تقييم.

  • والمعايرة المؤسسية تضمن أن تُطبَّق المعايير ذاتها على الجميع، بحيث لا يُصبح التقييم خاضعًا لاجتهادات الأفراد بل لنظامٍ عادلٍ موحدٍ.

بهذه الركائز الثلاث يتحقق التوازن بين العدالة الإنسانية والانضباط الإداري. فالقياس السلوكي العادل لا يُساوي بين الناس في النتائج فقط، بل يُساوي بينهم في الفرصة والمنهج والمعيار. إنه لا يُطالب الجميع بأن يكونوا متشابهين، بل يُقيّم كل إنسانٍ وفق دوره وظروفه وسياقه، دون أن يُفرّط في ثوابت العدالة المؤسسية.

ومن منظورٍ فلسفيٍّ أعمق، يمكن القول إن العدالة السلوكية هي التطبيق الإداري الحديث لمبدأ “رفع الحرج” في الفكر الإسلامي؛ فهي تُوازن بين المثالية والواقعية، فلا تُحاسب الإنسان على ما لا يملك، ولا تُبرّئه مما يملك. إنها تجعل التقييم وسيلةً للإصلاح لا للحكم، وتجعل من العدالة ممارسةً يوميةً لا شعارًا مؤقتًا. ولهذا فإن المؤسسات التي تتبنّى هذا المفهوم لا تكتفي بتحسين أرقام الأداء، بل تُعيد تشكيل الضمير المؤسسي، لأن العدالة حين تُصبح جزءًا من نظام القياس، تُصبح تلقائيًا جزءًا من سلوك الأفراد، وينشأ من ذلك ما يمكن أن نُسميه بـ الوعي الأخلاقي المؤسسي، وهو الحالة التي يلتقي فيها القانون مع القيم، والعلم مع الإنسانية.

وبهذا المعنى، فإن “القياس السلوكي العادل” هو أكثر من نظامٍ إداريٍّ؛ إنه منهج حضاريٌّ يُعبّر عن تطوّر الوعي الإداري الإنساني في عصرٍ لم يعد يقبل أن يُدار الإنسان بالأوامر فقط، بل بالثقة والفهم والتقدير. وهو في الوقت ذاته أداةٌ للحوكمة، لأنها تمنح القائد رؤيةً موضوعيةً عن الواقع، وتمنح الموظف شعورًا بالإنصاف يحفّزه على النمو، وتمنح المؤسسة صورةً حقيقيةً عن ثقافتها الداخلية. فحين تكون العدالة مبدأ القياس، يُصبح السلوك مرآةً للضمير المؤسسي، وتُصبح الأرقام شاهدًا على الوعي لا على الأداء فحسب.


2️⃣ مشكلة التحيّز في التقييم وأثرها على العدالة المؤسسية 🧩

لا يمكن الحديث عن العدالة في القياس السلوكي دون الوقوف بعمقٍ عند ظاهرة التحيّز الإداري، تلك المعضلة الخفية التي تُهدّد نزاهة أنظمة الأداء مهما بلغت من تطورٍ ودقةٍ في أدواتها. فالتحيّز في التقييم لا يُعدّ مجرد خطأٍ مهنيٍّ أو انحرافٍ في الأحكام، بل هو تشوّهٌ إدراكيٌّ وأخلاقيٌّ يمسّ جوهر العدالة المؤسسية ذاتها. وهو أخطر ما يمكن أن يصيب نظام إدارة الأداء، لأنه لا يفسد الأرقام فحسب، بل يُفسد الثقة التي تقوم عليها العلاقة بين الإنسان والنظام. فما جدوى أداةٍ دقيقةٍ إذا كان من يستخدمها يحمل في ذهنه تحيّزًا خفيًّا يوجّه قراراته دون وعي؟ وما قيمة التقييم إذا فقد المتلقّي شعوره بالإنصاف؟ هنا تنكسر العدالة من الداخل، ويذوب النظام في فوضى الانطباعات.

إنّ التحيّز في التقييم ليس ظاهرةً نادرةً، بل هو سلوكٌ إدراكيٌّ شائعٌ يتسلّل إلى العقل البشري بحكم الطبيعة النفسية والذهنية للإنسان. فالقائد أو المدير مهما كان مؤهلًا قد يقع — من حيث لا يدري — في أسر ما يُسمّى بـ التحيّزات المعرفية (Cognitive Biases) التي تؤثر على طريقة تفسيره للمواقف وسلوكه في التقييم. ومن أشهر هذه التحيّزات ما يُعرف بـ تأثير الهالة (Halo Effect)، حيث يميل المقيم إلى تعميم حكمٍ إيجابيٍّ واحدٍ على جميع جوانب أداء الموظف، أو العكس في حالة الحكم السلبي (Horn Effect). كما يظهر تحيّز الحداثة (Recency Bias) حين يُركّز المقيم على آخر ما رآه من أداءٍ نسيانًا لما قبل، وتحيّز التشابه (Similarity Bias) حين يُفضّل المدير الموظفين الذين يشبهونه في التفكير أو الأسلوب، وتحيّز الألفة (Familiarity Bias) حين يُقيّم الإنسان من يعرفه برحمةٍ أكثر أو بصرامةٍ أقل. كل هذه التحيّزات تُحيل العدالة إلى انطباعاتٍ شخصيةٍ تُزيّن الخطأ وتشوّه الصواب.

والمؤسسات التي تُدرك عمق هذه المشكلة تعرف أن مواجهة التحيّز ليست تدريبًا بسيطًا على "الحياد"، بل هي عملية إعادة بناءٍ للوعي الإداري والسلوكي. لأن التحيّز في جوهره ليس نقصًا في المعرفة بل هو خللٌ في الإدراك. فالعقل البشري بطبيعته يميل إلى التبسيط، وإلى البحث عن أنماطٍ سريعةٍ للفهم والحكم، ولهذا يُفضّل الانطباع على التحليل، والعاطفة على الدليل، والاعتياد على المراجعة. ومن هنا تأتي خطورة التقييم السلوكي إذا لم يُدار بمنهجيةٍ دقيقةٍ قائمةٍ على التوثيق والمراجعة الجماعية والمعايرة المؤسسية. فحين يُترك الحكم الفردي بلا ضوابطٍ، يتحوّل النظام إلى أداةٍ لتكريس الانحياز بدلًا من منعه.

وليس التحيّز في التقييم خطرًا على الفرد فقط، بل هو تهديدٌ للنظام المؤسسي بكامله، لأنه يُنتج سلسلةً من الأخطاء المتراكمة التي تبدأ بتقييمٍ غير دقيقٍ، وتمتد إلى قراراتٍ خاطئةٍ في الترقيات والتدريب والمكافآت، ثم تتطوّر إلى شعورٍ جماعيٍّ بالظلم وفقدان الثقة. وعندما تفقد المؤسسة ثقة موظفيها في عدالة تقييمها، فإنها تفقد أقوى أدوات التحفيز والإنتاجية، لأن العدالة ليست قيمةً أخلاقيةً فقط، بل هي طاقةٌ تنظيميةٌ تُغذّي الرغبة في الإنجاز. فالإنسان العادل يُنجز لأنه يؤمن بأن جهده سيُقدّر، بينما الإنسان الذي يُحسّ بالتحيّز يفقد حماسه ويُصبح أسير الحد الأدنى من الأداء.

وقد أثبتت الدراسات الحديثة في علم السلوك التنظيمي (Organizational Behavior) أن العدالة الإدراكية — أي شعور الموظف بالإنصاف — تُشكّل ما يُعرف بـ الهوية النفسية التنظيمية. فالموظف الذي يشعر أن مؤسسته تُقيّمه بعدلٍ يُطوّر ولاءً غير قابلٍ للشراء، لأن العدالة تُخاطب كرامة الإنسان قبل مصالحه. بينما الموظف الذي يُحسّ بالتحيّز يتحوّل إلى مراقبٍ متحفّزٍ للثغرات، يرى النظام كخصمٍ لا كإطارٍ للتطوير. ومن هنا يتضح أن التحيّز لا يفسد فقط عملية التقييم، بل يفسد علاقة الإنسان بالمؤسسة، ويحوّل بيئة العمل من فضاءٍ للتعاون إلى ساحةٍ للتقابل.

ولكي تُواجه المؤسسة هذا الخطر، لا يكفي أن تُصدر تعليماتٍ تحذّر من التحيّز، بل يجب أن تصنع نظامًا مضادًا للتحيّز يُعيد ضبط سلوك المقيمين ويُحوّل العدالة إلى ممارسةٍ منهجيةٍ يوميةٍ. وهذا ما فعلته الأنظمة الخليجية الحديثة في إدارة الأداء. ففي المملكة العربية السعودية مثلًا، نصّ الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي على ضرورة تدريب المقيمين على التقييم الموضوعي القائم على الأدلة، وأكّد على استخدام النماذج الوصفية مثل نموذج BARS التي تُقلّل مساحة الانطباع الشخصي عبر تحديد سلوكياتٍ مرجعيةٍ لكل مستوىٍ من الأداء. أما في النظام الإماراتي، فقد أضافت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية خطوةً مؤسسيةً تُعرف بـ المعايرة Calibration، وهي اجتماعاتٌ جماعيةٌ بين المقيمين لتوحيد المعايير وتصحيح الانحرافات في الأحكام الفردية قبل اعتماد النتائج النهائية. هذه الممارسة لا تُحارب التحيّز بعد وقوعه فحسب، بل تمنعه قبل أن يبدأ.

ومن الناحية النفسية، لا يمكن القضاء على التحيّز كليًا، لأن جذوره في طبيعة الإدراك البشري. ولكن يمكن تحويله من انحيازٍ شخصيٍّ إلى وعيٍ مؤسسيٍّ منضبطٍ. وذلك عبر ثلاث آلياتٍ جوهريةٍ:
1️⃣ الوعي الإدراكي (Cognitive Awareness): بتدريب المقيمين على التعرف على أنماط التحيّز في أنفسهم، وكيف تؤثر على قراراتهم دون وعي، فيتعلّم المدير أن يسأل نفسه قبل الحكم: “هل أُقيّم السلوك أم الصورة التي كوّنتها عنه؟”.
2️⃣ التوثيق السلوكي (Behavioral Documentation): بحيث لا يُعتمد أي تقييمٍ دون دليلٍ موثقٍ على الملاحظة الفعلية، لا على الانطباع. فالسلوك الذي لا يُوثّق لا يُقيَّم.
3️⃣ المراجعة الجماعية (Peer Review): لأن التقييم حين يُعرض على أكثر من رأيٍ، يتحوّل من انطباعٍ فرديٍّ إلى رؤيةٍ مؤسسيةٍ أكثر اتزانًا.

وفي المؤسسات التي تُطبّق هذه الآليات الثلاث، يتراجع أثر التحيّز تدريجيًا حتى يصبح هامشيًا، لأن النظام نفسه يُصبح أذكى من أفراده، والعدالة تُصبح جزءًا من البنية التنظيمية لا من نوايا الأشخاص.

وهنا تظهر العلاقة الجوهرية بين العدالة المؤسسية والوعي السلوكي، فكلما ارتقى وعي القادة والمديرين بمسؤوليتهم الأخلاقية في التقييم، ارتقى وعي المؤسسة بذاتها. العدالة ليست فقط ما نفعله تجاه الآخرين، بل هي ما نفعله تجاه الحقيقة. ولهذا فإنّ التحيّز في التقييم يُعتبر خيانةً للحقيقة قبل أن يكون ظلمًا للإنسان. والمؤسسة التي تُدرّب قادتها على الإنصاف لا تُعلّمهم كيف يُقيّمون فقط، بل تُعلّمهم كيف يُفكّرون.

ومن أعمق آثار التحيّز في التقييم أنه يُعيد إنتاج نفسه في ثقافة المؤسسة. فحين يرى الموظفون أن التقييم غير عادل، يُصبحون بدورهم متحيّزين في تعاملهم، فيفقد الفريق ثقته في القيادة، وتفقد القيادة مصداقيتها أمام الموظفين، وتُصاب المؤسسة بما يُعرف في علم النفس التنظيمي بـ “الانكماش القيمي”، أي تراجع القيم الداخلية نتيجة الإحباط الجماعي. ولهذا فإن محاربة التحيّز ليست حمايةً لنظام الأداء فقط، بل حمايةٌ لروح المؤسسة كلها.

إنّ العدالة في التقييم السلوكي ليست مسألة تقنية، بل هي اختبارٌ أخلاقيٌّ للمؤسسة. فالمؤسسة التي تستطيع أن تُقيم سلوك موظفيها بعدلٍ هي مؤسسةٌ ناضجةٌ تمتلك ضميرًا إداريًا حيًا، لأنها لا تنظر إلى السلوك بعين المراقبة، بل بعين الرغبة في الإصلاح والتطوير. بينما المؤسسة التي تغفل عن تحيّزاتها، حتى دون قصد، تُرسّخ ظلمًا مؤسسيًا مقنّعًا يُهدر طاقات البشر ويشوّه الثقافة الداخلية على المدى البعيد.

وهكذا يمكن القول إنّ العدالة في التقييم ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها؛ لأنّ نظام الأداء العادل لا يُبنى من الأداة، بل من الوعي، ولا يُقاس بدقّة الأرقام، بل بصدق النوايا وعدالة التطبيق. وعندما تنجح المؤسسة في الوصول إلى هذه المرحلة من النضج، فإنها لا تُحقّق فقط توازنًا إداريًا، بل تُؤسّس لحالةٍ من النزاهة المؤسسية المستدامة، حيث يُصبح السلوك مرآةً للقيم، ويُصبح التقييم فعلًا منصفًا يُكرّس الثقة ويُحرّك الضمير، لا حكمًا جامدًا يُكرّس الهيمنة أو التفرقة.


3️⃣ نشأة نموذج BARS وتطوره في الفكر الإداري الحديث 🧠

حين نُلقي نظرةً عميقةً على تاريخ الفكر الإداري الحديث، سنجد أنّ نموذج BARS – Behaviorally Anchored Rating Scale لم يظهر صدفةً، ولم يكن مجرد أداةٍ تقنيةٍ لإدارة الأداء، بل كان ثمرةَ تطوّرٍ فكريٍّ طويلٍ في فهم السلوك الإنساني داخل المنظمات، ومحاولةً واعيةً لحلّ المعضلة الكبرى التي واجهت علم الإدارة منذ نشأته: كيف يمكن قياس ما هو إنسانيٌّ ومتغيّرٌ — كالسلوك — بمقاييسٍ علميةٍ دقيقةٍ تحفظ معناه ولا تُشوّهه؟

لقد نشأ نموذج BARS في ستينيات القرن العشرين، في مرحلةٍ كانت فيها الإدارة التقليدية تُواجه انتقاداتٍ حادةٍ بسبب اعتمادها المفرط على الأرقام والإحصاءات، وإهمالها للجوانب الإنسانية في العمل. فبعد عقودٍ من سيطرة الفكر التايلوري (نسبةً إلى فريدريك تايلور) الذي ركّز على الإنتاجية والانضباط والرقابة، بدأ علماء النفس الصناعي والإداري يبحثون عن أدواتٍ أكثر إنصافًا تُعبّر عن السلوك البشري في بيئة العمل دون أن تختزله في أرقامٍ باردة. وهكذا وُلدت فكرة المقاييس السلوكية المعيارية، التي تُقيّم الأداء من خلال وصف السلوك الفعلي بدلاً من الاعتماد على الأحكام العامة أو الانطباعات الشخصية.

في عام 1963، قدّم العالمان Smith وKendall أول صيغةٍ منهجيةٍ لهذا النموذج ضمن ما يُعرف بمشروع تقييم الأداء السلوكي في جامعة أوهايو، حيث طوّرا أداةً جديدةً تعتمد على ربط كل درجةٍ من درجات التقييم بسلوكٍ ملموسٍ يمكن ملاحظته ووصفه بدقة. لم تعد الدرجة "ممتاز" أو "ضعيف" مجرد كلماتٍ فضفاضةٍ تُترك لتقدير المقيم، بل أصبحت تعني شيئًا محددًا مثل: “يُظهر دائمًا استعدادًا لمساعدة الزملاء دون طلب”، أو “يتجنّب التعاون في المواقف التي تتطلب العمل الجماعي”. هذا التحوّل المفاهيمي من “الحكم العام” إلى “الوصف السلوكي المحدد” كان بمثابة ثورةٍ في علم إدارة الأداء، لأنه حرّر التقييم من ذاتية الإنسان وجعل العدالة ممكنةً في عالمٍ يسوده الانطباع.

لقد كان جوهر الابتكار في نموذج BARS هو الجمع بين المنهج الكمي والمنهج النوعي في تقييم الأداء. فالمنهج الكمي يُقدّم دقةً رقميةً، لكنه يفتقر إلى الفهم الإنساني، بينما المنهج النوعي يُقدّم فهماً عميقاً، لكنه يفتقر إلى الموضوعية والاتساق. أما BARS فقد وحّد المنهجين في أداةٍ واحدةٍ تُحوّل السلوكيات الملاحظة إلى مؤشراتٍ رقميةٍ ذات معنى، من خلال ما يُعرف بـ المقاييس السلوكية المرساة (Anchored Scales). في هذا السياق، تمّ تصميم مجموعةٍ من العبارات التي تصف سلوكياتٍ محددةً تمثل مستويات الأداء المختلفة (من 1 إلى 5 مثلاً)، بحيث تُصبح كل درجةٍ مرساةً (Anchor) سلوكيةً واضحةً لا مجال لتفسيرها الذاتي.

ففي جدارةٍ مثل “العمل الجماعي”، قد يكون الوصف في المستوى (1): “يتجنّب التعاون مع الآخرين ويُظهر مقاومةً لآراء الفريق”، وفي المستوى (3): “يشارك في الأنشطة الجماعية بشكلٍ متوازنٍ عند الحاجة”، وفي المستوى (5): “يُحفّز أعضاء الفريق ويخلق بيئةً تعاونيةً إيجابية”. وبهذه الطريقة، أصبح التقييم السلوكي مبنيًا على مشاهداتٍ حقيقيةٍ يمكن توثيقها ومناقشتها، لا على انطباعاتٍ غامضةٍ أو ميولٍ شخصية.

وقد أثبتت الدراسات التطبيقية في السبعينيات والثمانينيات أنّ استخدام نموذج BARS يُقلّل بشكلٍ ملحوظٍ من اختلافات التقييم بين المقيمين (Inter-rater Variability) ويُعزّز شعور الموظفين بالعدالة التنظيمية. كما ساعد على بناء لغةٍ مشتركةٍ بين القادة والموظفين في مناقشة الأداء، لأنّ السلوكيات الموصوفة أصبحت مرجعًا موضوعيًا يُستند إليه في الحوار بدلاً من الأحكام الذاتية. فحين يقول المدير: “لقد لاحظتُ أنك تتجنّب المشاركة في الاجتماعات”، يكون الحديث حول سلوكٍ واقعيٍّ لا حول صفةٍ شخصيةٍ، وهذا يُحوّل الحوار من الاتهام إلى التحسين، ومن الدفاع إلى التطوير.

ومن اللافت أنّ نموذج BARS لم يُولَد فقط من رحم علم الإدارة، بل من تقاطعٍ بين علم النفس الإداري، وعلم القياس النفسي (Psychometrics)، وعلم السلوك التنظيمي (Organizational Behavior). فقد استندت فكرته إلى مبادئ المدرسة السلوكية التي ترى أنّ السلوك القابل للملاحظة هو المعيار الوحيد للحكم على الأداء، لأن النوايا لا تُقاس إلا بما ينتج عنها من فعلٍ واقعيٍّ. وفي الوقت ذاته، استعار من علم القياس النفسي منهجية بناء المقاييس التي تقوم على الصدق (Validity) والثبات (Reliability) والتوحيد (Standardization). وهكذا أصبح نموذج BARS تطبيقًا عمليًا لفلسفةٍ متكاملةٍ تربط بين علم الإنسان وعلم الأرقام، وتحوّل الإدارة من فنٍّ غامضٍ إلى علمٍ دقيقٍ لا يفقد إنسانيته.

مع مرور الوقت، تطوّر النموذج وأُعيدت صياغته بما يتناسب مع متطلبات بيئات العمل الحديثة. فبعد أن كان يُستخدم أساسًا في تقييم الموظفين في القطاعات الصناعية والإنتاجية، أصبح يُطبَّق في جميع المجالات: التعليم، الصحة، الأمن، والخدمات الحكومية. وفي كل مرةٍ كان يُعاد تصميم المقاييس بما يعكس القيم والسلوكيات الجوهرية في البيئة المحلية. ففي المؤسسات الحكومية الخليجية — خصوصًا السعودية والإمارات — تمّ تبنّي روح نموذج BARS وتكييفه ليتماشى مع القيم الوطنية والثقافة الإسلامية التي تُركّز على العدالة، والاحترام، والمسؤولية، والنزاهة، وخدمة المجتمع.

ومن الجدير بالذكر أنّ النظام الإماراتي لإدارة الأداء الحكومي (EPMS) قد أخذ بهذه المنهجية ضمنيًا، حين حدّد لكل جدارةٍ سلوكيةٍ مجموعةً من المؤشرات الوصفية التي تُعرّف السلوك المرغوب وغير المرغوب في كل مستوىٍ وظيفيٍّ. فمثلًا، في جدارة “التركيز على المتعاملين”، نجد في دليل الأداء الإماراتي أوصافًا دقيقةً مثل: “يستمع باهتمامٍ إلى المتعاملين ويُبادر بحلّ مشكلاتهم” (مستوى عالٍ)، مقابل “يُظهر ردود فعلٍ دفاعيةٍ تجاه الملاحظات” (مستوى منخفض). هذه اللغة الوصفية هي جوهر نموذج BARS، لأنها تجعل التقييم قائمًا على الشاهد السلوكي لا على التقدير الشخصي.

أما في المملكة العربية السعودية، فقد تجسّد هذا النموذج في الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي حين دعا إلى اعتماد “معايير سلوكية محددةٍ وقابلةٍ للملاحظة والقياس”، وأوصى بتدريب المقيمين على “التحليل السلوكي للأداء” لا على التقدير العام. ومن هنا، يمكن القول إنّ الفكر الجداراتي الحديث في الخليج قد تجاوز مرحلة “استيراد النموذج” إلى مرحلة “إعادة توطينه ثقافيًا”، بحيث أصبح نموذج BARS يتحدث بلغة العدالة التنظيمية المستمدة من قيمنا الإسلامية والعربية، لا من مدارس الغرب وحدها.

ولعلّ أعمق ما يُميّز هذا النموذج هو أنه لا يُقدّم التقييم بوصفه حكمًا على الماضي، بل حوارًا نحو المستقبل. فهو لا يقول للموظف “أنت مخطئ”، بل يقول “هذا السلوك يمكن تطويره إلى المستوى الأعلى من الأداء”. ولذلك فإنّ المؤسسات التي تتبنّى نموذج BARS لا تُركّز على التصنيف بل على التحسين، ولا تستخدم الأداة لتصنيف الأفراد، بل لتوجيههم نحو النمو. ولهذا يُقال إنّ BARS ليس مقياسًا للسلوك، بل مرآةٌ للنضج المؤسسي.

وفي ضوء هذا التاريخ، يمكننا أن نُدرك أن نموذج BARS لم يكن مجرد اختراعٍ إداريٍّ، بل نقطة تحوّلٍ فلسفيةٍ في طريقة فهم الإدارة للسلوك الإنساني. فهو أول نموذجٍ جعل العدالة ممكنةً في عالمٍ يضجّ بالاختلاف، وأول نموذجٍ جمع بين الإنسان والنظام في معادلةٍ واحدةٍ تُنصف الطرفين. لقد أعاد تعريف التقييم كعمليةٍ تعليميةٍ أكثر منها محاسبية، وجعل من الملاحظة السلوكية علمًا قائمًا بذاته، ومن الحوار الإداري أداةً للوعي، ومن العدالة هدفًا يوميًا لا مبدأً مثاليًا بعيد المنال.

وبهذا المعنى، يمكن القول إنّ كل نظامٍ حديثٍ في إدارة الأداء — سواء في الخليج أو في العالم — حين يُطبّق معايير السلوك الموصوفة، فإنه يسير على خطى هذا النموذج دون أن يُدرك بالضرورة جذوره الفلسفية. فـ BARS لم يُغيّر فقط طريقة القياس، بل غيّر طريقة التفكير، إذ نقلنا من “منطق النتيجة” إلى “منطق السلوك”، ومن “ثقافة الحكم” إلى “ثقافة التعلم”، ومن “الإدارة بالأوامر” إلى “الإدارة بالوعي”.


4️⃣ تطبيق نموذج BARS في بيئة العمل الخليجية 🇸🇦🇦🇪

حين نتناول تطبيق نموذج BARS (Behaviorally Anchored Rating Scale) في بيئة العمل الخليجية، فنحن لا نتحدث عن مجرد تبنٍّ تقنيٍّ لأداةٍ تقييمٍ عالميةٍ، بل عن عملية مواءمةٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ عميقةٍ بين نموذجٍ إداريٍّ غربيٍّ وبيئةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ ذات منظومةٍ قيميةٍ خاصةٍ في فهم السلوك والعدالة والمساءلة. إنّ التحدي الأكبر لم يكن في استخدام النموذج ذاته، بل في جعله يتناغم مع الهوية المؤسسية الخليجية التي ترى الإنسان ليس كوسيلةٍ للإنتاج فقط، بل كقيمةٍ بحد ذاته، وتعتبر السلوك المهني امتدادًا للقيم الأخلاقية لا انفصالًا عنها. ومن هنا كان نجاح التجربتين السعودية والإماراتية في تكييف نموذج BARS ليُصبح أداةً للعدالة والوعي، لا مجرد مقياسٍ للأداء.

لقد شكّل صدور الدليل الإرشادي للائحة إدارة الأداء الوظيفي في المملكة العربية السعودية (1438هـ) نقطة انطلاقٍ مهمةٍ في هذا الاتجاه. إذ نصّ الدليل بوضوحٍ على أن تقييم الموظف لا يُبنى فقط على مؤشرات الإنجاز الكمية، بل على السلوكيات الوظيفية التي تُظهر التزامه بالقيم المؤسسية والمهنية. وهذه هي روح نموذج BARS في أصفى صورها: تحويل السلوك إلى لغةٍ قابلةٍ للملاحظة والقياس دون أن تُفرغه من قيمته الإنسانية. ففي النسخة السعودية من التطبيق، تمّ تحديد “الجدارات السلوكية” مثل الالتزام، الانضباط، التعاون، وتحمل المسؤولية، كمجالاتٍ أساسيةٍ للتقييم، ثم أُرفقت بمعاييرٍ وصفيةٍ لكل مستوىٍ من الأداء، تُظهر الفرق بين السلوك المقبول والمتميز والمتدني.

فعلى سبيل المثال، في جدارة “الالتزام” وُضعت أوصافٌ محددةٌ مثل:

  • مستوى متميز: يلتزم بجميع الأنظمة والتعليمات بدقةٍ، ويُعتبر قدوةً للآخرين في الانضباط والسلوك المهني.

  • مستوى جيد: يلتزم غالبًا بالأنظمة والتعليمات ويُظهر وعيًا بأهميتها.

  • مستوى يحتاج إلى تحسين: يتجاهل بعض التعليمات أو يتأخر في تنفيذها دون مبرراتٍ مقبولة.

هذه اللغة الوصفية تُجسّد جوهر BARS لأنها تربط كل درجةٍ من التقييم بسلوكٍ فعليٍّ يمكن ملاحظته والتحقق منه، بدلًا من إطلاق أحكامٍ عامةٍ مثل “موظف ملتزم” أو “غير ملتزم” التي تفتح الباب أمام الانطباعات الشخصية.

أما في النظام الإماراتي لإدارة الأداء الحكومي (EPMS)، فقد تمّ الانتقال إلى مستوىً أعلى من النضج في تطبيق الفلسفة ذاتها. إذ أدرجت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية نموذجًا تفصيليًا للجدارات السلوكية الأساسية، يشمل ست جداراتٍ هي: التركيز على المتعاملين، العمل الجماعي، التواصل الفعّال، التفكير التحليلي، التعلّم المستمر، والالتزام بالتميز. ولكلٍّ منها سلوكياتٌ مرصوفةٌ (Anchored) تُحدّد بدقةٍ ما يُتوقّع من الموظف في كل مستوىٍ وظيفيٍّ، من الموظف التنفيذي إلى القيادي. على سبيل المثال، في جدارة “التواصل الفعّال”، يُحدَّد المستوى المتميز بعبارةٍ مثل: “يتواصل بوضوحٍ ويُكيّف أسلوبه وفق المتلقي، ويُسهم في بناء فهمٍ مشتركٍ داخل الفريق”، بينما يُعبَّر عن المستوى المنخفض بـ “ينقل المعلومات دون التأكد من وضوحها، ويتجنّب الحوار في المواقف الحساسة”. هذه الصياغة ليست جملًا إنشائيةً، بل هي أدوات قياسٍ سلوكيةٍ دقيقةٍ تُتيح العدالة وتُقلّل التحيّز.

وقد حرص النظام الإماراتي على أن لا يبقى هذا التقييم حبرًا على ورق، بل أدمجه في نظامٍ إلكترونيٍّ ذكيٍّ يُتيح للمدير والموظف تسجيل الملاحظات السلوكية في الوقت الفعلي خلال دورة الأداء، بحيث يتم جمع أدلةٍ واقعيةٍ تُوثّق السلوك على مدار العام. فحين يُظهر الموظف تعاونًا مميزًا في مشروعٍ ما، يُمكن للمدير أن يُسجّل ذلك فورًا في النظام، لتُصبح الملاحظة جزءًا من سجل الأداء التراكمي. هذا الأسلوب ينسجم تمامًا مع روح نموذج BARS الذي يُركّز على الملاحظة الواقعية المستمرة لا على الحكم المفاجئ في نهاية العام.

ومن زاويةٍ أخرى، كان للتطبيق الخليجي ميزةٌ إضافيةٌ لا نجدها في معظم البيئات الغربية، وهي دمج القيم الأخلاقية والدينية في صياغة السلوكيات المرصوفة. فبينما يركّز النموذج الغربي على الكفاءة والإنتاجية فقط، نجد في التطبيق السعودي والإماراتي حضورًا واضحًا لمفاهيم مثل الأمانة، النزاهة، الإخلاص، العدالة، واحترام الآخرين. فالسلوك هنا ليس مجرد “فعلٍ إداريٍّ”، بل “تعبيرٌ قيميٌّ” يعكس هوية المؤسسة ورسالتها الأخلاقية. ولعلّ هذا ما يجعل تطبيق BARS في الخليج نموذجًا فريدًا على مستوى العالم، لأنه استطاع أن يُعيد تعريف مفهوم السلوك المهني ليشمل البعد القيمي والروحي، لا فقط المهاري.

وتبرز هذه الفلسفة بوضوحٍ في نماذج مثل “إطار الكفاءات التخصصية والسلوكية للقطاع الحكومي السعودي”، الذي يربط بين الجدارات السلوكية ومحاور الرؤية الوطنية 2030. فحين تُقيَّم جدارة مثل “الالتزام والمسؤولية”، فإنها لا تُقاس فقط بمؤشرات الانضباط، بل أيضًا بمدى تجسيد الموظف لقيم المواطنة والعمل بروح الفريق والمسؤولية المجتمعية. أي أن التقييم السلوكي أصبح أداةً لقياس الانتماء والولاء المؤسسي، وهو ما يتجاوز بكثير المفهوم التقليدي للقياس.

ومن الناحية التنظيمية، لم يُطبّق النموذج الخليجي بوصفه “نسخةً جاهزةً”، بل خضع لتكييفٍ مؤسسيٍّ دقيقٍ ضمن سياقات الحوكمة الوطنية. ففي الإمارات، ارتبطت مؤشرات السلوك في نموذج BARS بالمحاور القيادية في جائزة محمد بن راشد للتميز الحكومي، وأصبحت الجدارات السلوكية جزءًا من منظومة التقييم المؤسسي الوطني. أما في السعودية، فقد أُدرجت المعايير السلوكية ضمن منصة “مسار” التي توحّد إجراءات إدارة الأداء في الخدمة المدنية، مما جعل السلوك جزءًا من البيانات المؤسسية القابلة للتحليل على مستوى الدولة. وهكذا تحوّل نموذج BARS من أداةٍ إداريةٍ إلى نظامٍ وطنيٍّ للعدالة السلوكية.

لكن نجاح هذا التطبيق لم يكن نتيجة الأدوات وحدها، بل بفضل تغييرٍ ثقافيٍّ عميقٍ في طريقة التفكير الإداري. فلكي يُطبّق نموذج BARS بفاعلية، يجب أن يتحوّل المدير من “مُقيِّمٍ” إلى “ملاحظٍ”، ومن “حاكمٍ” إلى “مدرّبٍ”. أي أن دوره لم يعد إصدار الأحكام، بل جمع الأدلة وتقديم التغذية الراجعة وتوجيه السلوك. وهذا ما تبنّته الأنظمة الخليجية عبر تدريب القادة على مهارات “الحوار التطويري” و“الملاحظة المنظمة” و“التقييم البنّاء”. فالعدالة السلوكية لا تتحقق بالأداة، بل بالوعي الذي يستخدمها.

وفي المؤسسات التي نضج فيها التطبيق، مثل الوزارات الاتحادية الإماراتية وبعض الهيئات السعودية الرائدة، أصبح نموذج BARS يُستخدم أيضًا في برامج تطوير القيادات، لا فقط في تقييم الأداء العام. ففي الإمارات مثلًا، تُقيّم القيادات العليا وفق مؤشراتٍ سلوكيةٍ محددةٍ مثل “القدرة على الإلهام”، “القيادة بالقدوة”، و“تمكين الآخرين”، وهي مؤشراتٌ تستند إلى أوصافٍ سلوكيةٍ دقيقةٍ مأخوذةٍ من النموذج ذاته. وهكذا لم يعد النموذج أداةً إداريةً فقط، بل منهجًا قياديًا لبناء ثقافة السلوك الواعي.

ولعلّ أهم ما يُميّز التجربة الخليجية في هذا السياق هو إدراكها أنّ العدالة في القياس لا تتحقق بالمطابقة العمياء للنماذج الغربية، بل بإعادة صياغتها في ضوء قيمنا وثقافتنا. فبينما ينطلق النموذج الغربي من منطق الفردية والكفاءة الذاتية، ينطلق النموذج الخليجي من منطق الجماعية والمسؤولية الاجتماعية. ولهذا فإنّ السلوك المرغوب في الخليج ليس فقط ما يُحقّق الهدف الفردي، بل ما يُعزّز الانسجام الجماعي ويحفظ كرامة العلاقة الإنسانية. فالقائد هنا لا يُقيَّم فقط على قدرته على “الإنجاز”، بل أيضًا على قدرته على “الاحتواء”، والموظف لا يُكافأ فقط على “النتائج”، بل على “النية والسلوك” الذي أفضى إليها.

إنّ تطبيق نموذج BARS في بيئة العمل الخليجية لم يكن مجرّد تبنٍّ لأداةٍ حديثةٍ، بل كان تجسيدًا لمرحلة نضجٍ إداريٍّ وفكريٍّ في المنطقة. فهو يُعبّر عن وعيٍ مؤسسيٍّ جديدٍ يرى أن الأداء الحقيقي لا يُقاس فقط بما يُنجز، بل بالطريقة التي يُنجز بها، وأن العدالة لا تتحقق إلا حين تكون القيم جزءًا من التقييم، والسلوك جزءًا من الاستراتيجية. وهكذا أصبح النموذج في الخليج ليس فقط أداةً للقياس، بل أداةً لصياغة هويةٍ سلوكيةٍ وطنيةٍ، تجعل من العدالة ثقافةً، ومن القيم نظامًا، ومن الأداء مرآةً للإنسان.


5️⃣ بناء مؤشرات السلوك الإيجابي وربطها بالأداء الفردي 🌱

حين نصل إلى الحديث عن “مؤشرات السلوك الإيجابي”، فنحن لا نغادر ميدان القياس الإداري إلى الميدان الأخلاقي فقط، بل نتحرك في المساحة الدقيقة التي يلتقي فيها العلم بالقيم، والمنهج بالوعي، والنظام بالضمير. فالسلوك الإيجابي ليس مجرّد مظهرٍ أخلاقيٍّ حسنٍ أو تصرفٍ لطيفٍ في بيئة العمل، بل هو التعبير العملي عن النضج المهني، والقدرة على ترجمة القيم المؤسسية إلى أفعالٍ يوميةٍ ثابتةٍ تُحدث فرقًا ملموسًا في جودة الأداء. ومن هنا، كان بناء مؤشراتٍ دقيقةٍ لهذا السلوك الإيجابي هو الخطوة التي جعلت العدالة السلوكية ممكنةً، وربطت بين الروح والقانون، والنية والممارسة، والقيمة والنتيجة.

إنّ السلوك الإيجابي في الفكر الإداري الحديث لا يُنظر إليه كصفةٍ فرديةٍ عابرةٍ، بل كمنظومةٍ من الأنماط الإدراكية والوجدانية والمهارية التي تُسهم في تحقيق الأهداف المؤسسية بطريقةٍ أخلاقيةٍ ومتوازنةٍ. لذلك كان لابد من تطوير مؤشراتٍ سلوكيةٍ قابلةٍ للقياس تُعبّر عن هذه الأنماط وتُحوّلها من مفاهيم عامةٍ إلى ممارساتٍ ملاحظةٍ تُقاس وتُطوَّر. وهنا يكمن التحدي المنهجي: كيف يمكن ترجمة سلوكٍ مثل “الاحترام” أو “التعاون” أو “المسؤولية” إلى مؤشراتٍ كميةٍ دون أن نُفقِده جوهره الإنساني؟ الإجابة جاءت من خلال فلسفة “التوصيف السلوكي المرصوف” التي تمثل جوهر نموذج BARS، إذ تُحوّل القيمة إلى سلسلةٍ من السلوكيات المحددة التي يمكن ملاحظتها في بيئة العمل اليومية.

ولكي نُدرك أهمية بناء مؤشرات السلوك الإيجابي، ينبغي أن نتأمل أولًا كيف تُبنى هذه المؤشرات علميًا. فكل مؤشرٍ سلوكيٍّ هو في حقيقته ترجمةٌ عمليةٌ لمعيارٍ قيميٍّ، يُحدّد بوضوحٍ ما يُتوقّع من الموظف أن يفعله أو يقوله في موقفٍ محددٍ، بحيث يُصبح السلوك قابلاً للرصد دون أن يفقد معناه الأخلاقي. فمثلًا، إذا كانت الجدارة المستهدفة هي “العمل الجماعي”، فإن المؤشرات قد تشمل سلوكياتٍ مثل “يُبادر بمشاركة المعرفة مع الزملاء”، أو “يُظهر دعمًا فعّالًا لأعضاء الفريق عند الحاجة”، أو “يتقبّل الملاحظات البنّاءة بروحٍ إيجابيةٍ”. كل واحدةٍ من هذه العبارات هي مؤشرٌ يُمكن قياسه بالملاحظة المباشرة أو بالتغذية الراجعة، وبالتالي يُحوّل القيمة إلى سلوكٍ ملموسٍ قابلٍ للتحسين.

ولأن السلوك الإيجابي يتداخل مع العوامل النفسية والاجتماعية والتنظيمية، فقد تبنّت الأنظمة الخليجية — خصوصًا في السعودية والإمارات — نموذجًا متكاملًا في بناء مؤشرات السلوك، يجمع بين التحليل الوصفي للسلوك المرغوب، والتدرّج في المستويات السلوكية، والتوثيق في نظام الأداء الإلكتروني. ففي النظام الإماراتي لإدارة الأداء الحكومي (EPMS)، نجد أن لكل جدارةٍ سلوكيةٍ مجموعةً من المؤشرات الوصفية التي تتدرّج من “الأساسي” إلى “المتقدم” إلى “القيادي”، بحيث يُمكن قياس نضج الموظف السلوكي عبر الزمن. فعلى سبيل المثال، في جدارة “التعلّم المستمر”، نجد المؤشر في المستوى الأساسي هو “يُشارك في الدورات التدريبية التي يُرشّح إليها”، وفي المستوى المتقدم “يُبادر بالبحث عن فرص تعلّمٍ ذاتيٍّ جديدةٍ ويُشارك الآخرين معارفه”، وفي المستوى القيادي “يُشجّع فرق العمل على التعلّم الجماعي ويخلق بيئةً تشجع التجريب والابتكار”. هذا التدرّج ليس مجرد تفصيلٍ شكليٍّ، بل هو مؤشرٌ زمنيٌّ للنضج السلوكي، يربط بين التطور الفردي والتميّز المؤسسي.

أما في المملكة العربية السعودية، فقد جاء “إطار الكفاءات السلوكية والتخصصية للقطاع الحكومي” ليُكرّس فكرة المؤشرات السلوكية بشكلٍ مؤسسيٍّ شاملٍ. إذ حدد الإطار لكل جدارةٍ مجموعةً من السلوكيات المرجعية التي تُعبّر عن الأداء الفعّال في الوظائف الحكومية. فمثلًا، في جدارة “المسؤولية”، نجد سلوكياتٍ مثل “يتحمّل نتائج قراراته دون تبريرٍ أو إلقاءٍ للّوم”، و“يُظهر التزامًا واضحًا بإنجاز المهام وفق المواعيد المحددة”، و“يُواجه الصعوبات بمثابرةٍ دون فقدانٍ للحافز”. هذه العبارات ليست توصيفاتٍ لغويةً فحسب، بل هي مؤشرات سلوكية معيارية تُستخدم لتقييم الأداء السنوي ومتابعة التطور في خطط التنمية الفردية (IDP).

إنّ بناء مؤشرات السلوك الإيجابي لا يهدف إلى مراقبة الأفراد بقدر ما يهدف إلى تحويل العدالة إلى ممارسةٍ يوميةٍ. فحين يعرف كل موظفٍ ما يُتوقّع منه بوضوحٍ، وحين يفهم مديره المعيار الذي يُقيّمه عليه، تختفي المنطقة الرمادية التي تتسلّل منها التحيّزات والانطباعات. فالمؤشر السلوكي هنا يعمل كـ “لغةٍ مشتركةٍ” بين المقيم والمُقيَّم، تُوحّد الفهم وتُقلّل سوء التأويل. وهذا ما عبّر عنه أحد خبراء الإدارة بقوله: “حين تُصبح السلوكيات محددةً ومُتّفقًا عليها، يتحوّل التقييم من حُكمٍ إلى حوار.”

ولعلّ القيمة الأهم لمؤشرات السلوك الإيجابي هي أنها تُحوّل المفاهيم القيمية إلى مسارٍ تنمويٍّ قابلٍ للتحسين. فالموظف الذي يُقيَّم مثلًا بدرجةٍ متوسطةٍ في “التعاون”، لن يُقال له فقط “كن أكثر تعاونًا”، بل ستُقدَّم له خطة تطويرٍ واضحةٍ تُحدّد السلوكيات التي يحتاج إلى ممارستها ليصل إلى المستوى الأعلى: مثل “المبادرة بدعم الزملاء عند الحاجة”، أو “التفاعل البنّاء في الاجتماعات”. وهنا يُصبح التقييم وسيلةً للتعلّم لا للحكم، والتقويم فرصةً للنمو لا للعقاب.

ومن الأبعاد العميقة لبناء مؤشرات السلوك الإيجابي أيضًا أنه يُحوّل المؤسسة إلى منظومة تعلّمٍ أخلاقيٍّ. فحين تُقاس القيم وتُكافأ، تُصبح جزءًا من السلوك الجمعي، وحين يُهمل قياسها، تذبل تدريجيًا من الوعي المؤسسي. ومن هنا، فإنّ إدراج المؤشرات السلوكية في أنظمة الأداء الإلكترونية — مثل منصة “مسار” في السعودية أو نظام “EPMS” في الإمارات — لم يكن مجرد تحديثٍ تقنيٍّ، بل كان خطوةً استراتيجيةً نحو بناء “ذاكرةٍ سلوكيةٍ مؤسسيةٍ” تُوثّق القيم في الممارسة. فكل سلوكٍ إيجابيٍّ يُسجّل اليوم هو لبنةٌ في بناء ثقافة المؤسسة غدًا.

ومن المنظور النفسي التنظيمي، تُسهم مؤشرات السلوك الإيجابي في تعزيز ما يُعرف بـ التحفيز الداخلي (Intrinsic Motivation)، لأن الموظف حين يرى أنّ المؤسسة تُكافئ القيم والسلوكيات، لا فقط الأرقام والنتائج، يُصبح أكثر ارتباطًا برسالتها وأقوى التزامًا تجاهها. إنّ العدالة هنا لا تُشعره فقط بالإنصاف، بل تُعيد تعريف معنى العمل ذاته: فليس الهدف أن تُنجز أكثر، بل أن تُنجز بطريقةٍ تعبّر عن قيمك ووعيك ومسؤوليتك.

إنّ بناء مؤشرات السلوك الإيجابي وربطها بالأداء الفردي يُمثّل نضجًا مؤسسيًا يُحوّل مفهوم الأداء من “الإنجاز” إلى “الإنجاز الواعي”، ومن “النتيجة” إلى “القيمة”، ومن “السرعة” إلى “الاتساق”. إنه يخلق جسرًا بين الأخلاق والإنتاج، ويجعل السلوك الإيجابي معيارًا للتقدم لا زينةً للخطاب. والمؤسسة التي تُدرك هذا البعد لا تُقيّم موظفيها فقط بما يفعلونه، بل بمن يكونون حين يفعلون، لأن السلوك هو الصورة الحقيقية للإنسان في الممارسة، وهو المقياس الذي يُظهر مدى عمق الانتماء للقيم المؤسسية.

وهكذا، فإنّ بناء المؤشرات السلوكية ليس مجرد مهمةٍ فنيةٍ لإدارة الموارد البشرية، بل هو مشروعٌ ثقافيٌّ وقيَميٌّ يُعيد هندسة الضمير المؤسسي، ويجعل العدالة حقيقةً تُمارس كل يوم، لا مبدأً يُكتب في اللوائح. فحين تُقاس القيم، تُصبح حيةً، وحين تُترك دون قياس، تتحول إلى شعاراتٍ. ولذلك فإنّ المؤسسة التي تُحسن بناء مؤشرات السلوك الإيجابي تُحسن في الواقع بناء إنسانها، وتُربّي في موظفيها الوعي الذي يجعلهم لا ينتظرون المراقبة، لأنهم يُديرون أنفسهم بالقيم قبل بالقوانين.


6️⃣ العدالة التنظيمية والتسلسل المنهجي في المراجعة السلوكية 🏛️

حين نتأمل مفهوم العدالة التنظيمية في سياق إدارة الأداء الوظيفي، فإننا لا نتحدث عن مجرد قيمةٍ أخلاقيةٍ أو مبدأٍ إداريٍّ مستحب، بل عن بنيةٍ منهجيةٍ متكاملةٍ تُشكّل العمود الفقري لكل نظامٍ ناجحٍ في تقييم الأداء وتحسينه. فالعدالة هنا ليست حالةً شعوريةً مؤقتةً يعيشها الموظف حين يشعر بالإنصاف، بل هي نظامٌ موضوعيٌّ يُمارَس بانتظامٍ في كل خطوةٍ من خطوات العملية التقييمية، بدءًا من الملاحظة السلوكية وانتهاءً باعتماد التقارير النهائية واتخاذ قرارات التطوير. ومن هنا تأتي أهمية التسلسل المنهجي في المراجعة السلوكية، الذي يُحوّل العدالة من قيمةٍ مجرّدةٍ إلى ممارسةٍ علميةٍ قابلةٍ للقياس والتحقق، ويضمن أن تكون كل درجةٍ في التقييم ناتجةً عن تحليلٍ موضوعيٍّ وسلسلةٍ من المراجعات المتتابعة التي تُقلّل الأخطاء وتُعزّز الثقة.

إن العدالة التنظيمية في إدارة الأداء ليست مفهوماً واحداً، بل تتوزع على ثلاثة أبعادٍ رئيسيةٍ متكاملةٍ:
1️⃣ العدالة التوزيعية (Distributive Justice): وهي التي تتعلق بإنصاف النتائج؛ أي مدى عدالة القرارات النهائية المتعلقة بالتقييم والمكافآت والترقيات.
2️⃣ العدالة الإجرائية (Procedural Justice): وهي التي تُعنى بإنصاف الآليات المستخدمة في التقييم؛ أي مدى شفافية الإجراءات وثبات المعايير وإتاحة فرص الاعتراض والمراجعة.
3️⃣ العدالة التفاعلية (Interactional Justice): وهي التي تُركّز على أسلوب التواصل الإنساني بين المقيم والمُقيَّم، ومدى احترام الكرامة المهنية أثناء الحوار ومناقشة النتائج.

ولا تتحقق العدالة التنظيمية الحقيقية إلا عندما تتكامل هذه الأبعاد الثلاثة في دورةٍ منهجيةٍ واحدةٍ، لأن الخلل في أحدها يُفسد البنية كلها. فإذا كانت النتائج عادلة ولكن الإجراءات غير شفافة، ضاعت الثقة، وإذا كانت الإجراءات منصفة ولكن التواصل مهينٌ أو متعالٍ، انكسر الاحترام، وإذا غابت العدالة في توزيع الفرص، انهارت الدافعية. ولهذا كانت العدالة التنظيمية في جوهرها توازنًا دقيقًا بين النظام والإنسان، وبين الأداة والممارسة، وبين القانون والضمير.

ولكي تتحقق العدالة بهذا المعنى العميق، فإن المراجعة السلوكية يجب أن تخضع لتسلسلٍ منهجيٍّ واضحٍ ومضبوطٍ لا يُترك للاجتهاد الفردي. فكل عملية تقييمٍ تمرّ — وفق أفضل الممارسات العالمية (CIPD، SHRM، ISO 30414، EFQM) — عبر أربع مراحل رئيسيةٍ تشكّل ما يمكن تسميته بـ “سلسلة العدالة المؤسسية”:

🔹 المرحلة الأولى: الملاحظة السلوكية (Behavioral Observation)
وهي المرحلة التي تبدأ منذ اليوم الأول لدورة الأداء، حيث يقوم المدير بجمع الأدلة السلوكية الواقعية من خلال المتابعة اليومية والمواقف العملية الفعلية. العدالة في هذه المرحلة تعني أن تكون الملاحظات شاملةً وغير انتقائية، فلا يُسجَّل السلوك الإيجابي ويُهمل السلبي أو العكس، ولا تُبنى الملاحظة على حادثةٍ واحدةٍ بل على نمطٍ متكرّرٍ يعبّر عن الاتجاه العام للأداء. فكلما كان جمع البيانات موضوعيًا ومتنوعًا عبر الزمن، كلما ازدادت مصداقية التقييم لاحقًا. ولهذا نصّت اللائحة السعودية للأداء الوظيفي على ضرورة التوثيق المستمر للملاحظات السلوكية في سجلاتٍ رسميةٍ، بينما اعتمد النظام الإماراتي على خاصية التسجيل الفوري في منصة الأداء الإلكتروني، مما يجعل السلوك جزءًا من السجل المؤسسي لا ذاكرة الأفراد.

🔹 المرحلة الثانية: التحليل السلوكي (Behavioral Analysis)
وهي المرحلة التي يُترجم فيها السلوك الملاحظ إلى معنى إداريٍّ قابلٍ للقياس. هنا تبدأ العدالة الإجرائية في الظهور، لأنّ المدير يجب أن يُحلّل السلوك وفق المعايير المحددة مسبقًا لا وفق انطباعه الخاص. فإذا لاحظ سلوكًا مثل “يتردد في اتخاذ القرار”، فلا يجوز أن يُقيّمه بأنه “ضعيف الشخصية”، لأنّ التوصيف الأخير انطباعيٌّ وغير مهني. بل يجب أن يُربط السلوك بجدارةٍ محددةٍ مثل “اتخاذ القرار”، ويُحدَّد مستواه بدقةٍ وفق المؤشرات المرجعية في نموذج BARS. هذا التحليل المنهجي هو الذي يمنع التسرّع في الأحكام ويجعل العدالة علمًا لا شعورًا.

🔹 المرحلة الثالثة: المراجعة المؤسسية (Institutional Calibration)
وهي المرحلة التي يتم فيها توحيد المعايير بين المقيمين المختلفين عبر اجتماعات المراجعة الجماعية أو ما يُعرف في الأنظمة الحديثة بـ “لجان المعايرة”. العدالة في هذه المرحلة تعني المساواة بين الموظفين في مختلف الإدارات والوحدات، بحيث لا يُكافأ موظف في إدارةٍ على سلوكٍ يُعاقَب عليه موظفٌ آخر في إدارةٍ مختلفة. ومن أبرز تطبيقات هذه المرحلة في الخليج النظام الإماراتي الذي أقرّ رسميًا لجان مراجعة الأداء قبل اعتماد الدرجات النهائية، لضمان العدالة الأفقية على مستوى المؤسسة. كما أُدرجت في بعض المؤسسات السعودية الكبرى مثل وزارة الموارد البشرية والقطاع المالي لجانٌ مماثلةٌ لمراجعة تقييمات المديرين واعتمادها بعد التحقق من سلامة الأدلة ومعقولية الأحكام.

🔹 المرحلة الرابعة: التواصل والتغذية الراجعة (Feedback and Dialogue)
وهي ذروة العدالة التفاعلية، لأن العدالة لا تكتمل إلا بالحوار. فحتى لو كان التقييم علميًا ومنصفًا، فإن طريقة عرضه على الموظف قد تُحوّل الإنصاف إلى ظلمٍ إذا اتسمت بالتعالي أو الغموض أو الانفعال. ولهذا تُعدّ مقابلة التغذية الراجعة لحظةً محوريةً في بناء الثقة، حيث يتم شرح النتائج بوضوحٍ، وتقديم الأدلة السلوكية الواقعية، والاستماع إلى وجهة نظر الموظف، ثم الاتفاق على خطة تطويرٍ واقعيةٍ (IDP). العدالة هنا ليست أن “يقتنع” الموظف بالنتيجة بالضرورة، بل أن “يفهم” كيف تم الوصول إليها، وأن يشعر أنّ صوته مسموعٌ وأن رأيه يُحترم.

إنّ هذا التسلسل المنهجي في المراجعة السلوكية يجعل العدالة التنظيمية نظامًا دائريًا مستمرًا لا لحظةً عابرةً في نهاية دورة الأداء. فكل مرحلةٍ تُغذّي المرحلة التالية وتُراجع التي قبلها، مما يخلق دائرةً مغلقةً من التحسين المستمر. وهذه المنهجية تتسق تمامًا مع مبادئ ISO 30414 في إدارة رأس المال البشري، التي تُلزم المؤسسات بتوثيق خطوات التقييم والمراجعة وإثبات معايير العدالة في التقارير السنوية للحوكمة. كما تنسجم مع نموذج EFQM الذي يعتبر العدالة جزءًا من منظومة التميّز المؤسسي، ويُدرجها ضمن معايير القيادة والثقافة والقيم.

وفي السياق الخليجي، أصبحت العدالة التنظيمية أحد المقاييس الرسمية في تقييم النضج المؤسسي. ففي جائزة الملك عبد العزيز للجودة، يُقاس مدى التزام المؤسسة بمبدأ العدالة في تقييم الأداء وممارسات التطوير، بينما تُدرج الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الإماراتية معيار “العدالة والشفافية” ضمن تقييمها للجهات الحكومية الاتحادية. هذا الاعتراف المؤسسي بالعدالة كمؤشر أداءٍ يُمثّل نضجًا حضاريًا يُحوّل القيم إلى مقاييسٍ قابلةٍ للمتابعة والتطوير.

ومن الناحية النفسية والسلوكية، تُعتبر العدالة التنظيمية أقوى محفّزٍ داخليٍّ للأداء المستدام. فالموظف الذي يشعر بأن نظام التقييم عادلٌ يتعامل مع العمل بوصفه عقدًا أخلاقيًا لا علاقةً نفعيةً فقط، لأنه يرى في المؤسسة مرآةً لقيمه، لا مجرد جهةٍ تُصدر أوامر. ومن هنا، فإن العدالة لا تُنتج فقط أداءً أعلى، بل تُنتج ولاءً أعمق، لأن الإنسان لا يُخلص لمنظمةٍ تُكافئه، بل لمنظمةٍ تُنصفه.

وفي المقابل، فإن غياب التسلسل المنهجي في المراجعة السلوكية يُحوّل العدالة إلى شعارٍ شكليٍّ. فحين لا تُوثَّق الملاحظات، ولا تُراجع الأحكام، ولا تُفسَّر النتائج، يُصبح التقييم أداةً للهيمنة أو المجاملة أو الانتقام، وتفقد المؤسسة شرعيتها الأخلاقية أمام موظفيها. ولهذا فإنّ العدالة التنظيمية ليست ترفًا إداريًا، بل شرطًا لسلامة الثقافة المؤسسية واستدامة الثقة الداخلية.

إنّ المراجعة السلوكية المنهجية ليست فقط ضمانةً للعدالة، بل أيضًا أداةً للتعلّم التنظيمي. فكل مراجعةٍ تُنتج معرفةً جديدةً حول أنماط السلوك الفعّال وغير الفعّال، وحول مدى انسجام قيم المؤسسة مع ممارساتها الواقعية. فحين تُحلّل لجان المراجعة البيانات السلوكية، يمكنها أن تُلاحظ مثلاً أن “التحفيز الذاتي” منخفضٌ في وحدةٍ معينةٍ بسبب ضعف القيادة، أو أن “روح الفريق” مرتفعةٌ في إدارةٍ أخرى بسبب تماسك القيم. وهكذا تتحوّل العدالة من هدفٍ أخلاقيٍّ إلى أداةٍ معرفيةٍ لتشخيص الثقافة التنظيمية وتوجيهها.

وبذلك، يمكن القول إن العدالة التنظيمية ليست فقط فضيلةً إداريةً، بل بنيةٌ معرفيةٌ تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والنظام. فهي تجعل من المراجعة السلوكية عملية وعيٍ مستمرٍّ، ومن التقييم حوارًا بين الحقيقة والاحتمال، ومن الأداء قصةً يكتبها الجميع بعدلٍ واحدٍ. فحين تُمارس العدالة بهذا العمق، تُصبح المؤسسة نموذجًا مصغّرًا للمجتمع الذي نحلم به: مجتمعٌ لا يُفرّق بين الناس إلا بالسلوك والإنجاز، لا بالمكانة أو الانطباع، ويجعل من العدالة طريقًا للتقدم لا شعارًا للزينة.


7️⃣ المواءمة بين الأداء الفردي والأداء المؤسسي من خلال العدالة السلوكية والتكامل القيمي ⚙️

إنّ الربط بين الأداء الفردي والأداء المؤسسي هو ذروة النضج في منظومات إدارة الأداء، لأنه يمثّل لحظة الانتقال من التفكير الجزئي إلى التفكير الكلّي، ومن تقييم الأفراد إلى فهم المنظومة. ففي حين كانت الأنظمة التقليدية تركّز على قياس إنجازات الأفراد بمعزلٍ عن السياق العام، جاءت فلسفة العدالة السلوكية لتعيد ترتيب العلاقة بين “الإنسان” و“النظام”، ولتؤكّد أنّ الأداء الفردي لا يمكن أن يُفهم أو يُحكم عليه خارج الإطار القيمي والمؤسسي الذي ينتمي إليه. فالموظف ليس وحدة إنتاجٍ مستقلةٍ، بل هو خليةٌ ضمن نسيجٍ متكاملٍ من القيم، والسلوك الفردي لا يُصبح إيجابيًا إلا حين يخدم الهدف المشترك، كما أنّ الأداء المؤسسي لا يمكن أن يرتقي إلا حين تُنصف العدالة السلوك الإنساني وتُوجّه طاقاته نحو الاتجاه الصحيح.

في هذا السياق، تُصبح العدالة السلوكية هي الجسر الذي يُحقق هذه المواءمة الدقيقة بين الفرد والمؤسسة. فهي لا تنظر إلى الأداء من زاوية “النتائج فقط”، كما لا تكتفي بالحكم على “النيات”، بل توازن بين السلوك والمخرجات، وبين القيم والمعايير، وبين التحفيز والمساءلة. فالعدالة هنا ليست مساواةً حسابيةً بين جميع الأفراد، بل اتساقٌ عادلٌ بين ما يُطلب وما يُمنح، بين ما يُنجز وما يُقدَّر، وبين ما يقدّمه الموظف من سلوكٍ وقيمةٍ وما تتلقاه المؤسسة كأثرٍ ملموسٍ في أدائها العام. ولهذا فإنّ العدالة السلوكية تُعدّ أداة المواءمة الأكثر ذكاءً لأنها تُحوّل الأداء الفردي إلى قيمةٍ مؤسسيةٍ مضافةٍ وليس مجرد رقمٍ في التقارير السنوية.

ولكي تتحقق هذه المواءمة في الواقع العملي، يجب أن تُبنى المنظومة المؤسسية على ما يمكن تسميته بـ سلسلة التكامل القيمي للأداء، وهي سلسلةٌ من خمس حلقاتٍ مترابطةٍ تمثّل رحلة الانتقال من السلوك الفردي إلى الأثر المؤسسي.
الحلقة الأولى هي القيمة المؤسسية (Institutional Value)، وهي التي تُحدّد الإطار الأخلاقي والرسالي الذي تعمل ضمنه المؤسسة، مثل العدالة، النزاهة، التميز، الخدمة، والابتكار. هذه القيم هي “الروح” التي تنبض في جسد النظام.
والحلقة الثانية هي الجدارة السلوكية (Behavioral Competency)، وهي الترجمة العملية للقيمة في سلوك الأفراد، أي كيف تُترجم العدالة إلى إنصافٍ في التعامل، والنزاهة إلى التزامٍ بالقوانين، والتميز إلى مبادرةٍ في العمل.
أما الحلقة الثالثة فهي المؤشرات السلوكية (Behavioral Indicators)، التي تُحوّل الجدارة إلى ممارساتٍ قابلةٍ للملاحظة والتقييم، وهي التي تُظهر مدى التزام الموظف بالقيم في الواقع لا في الشعارات.
وتأتي الحلقة الرابعة وهي مؤشرات الأداء الفردي (Individual KPIs)، التي تقيس أثر السلوك على الإنجاز، فالسلوك الإيجابي يجب أن يُترجم إلى نتائج قابلةٍ للقياس.
وأخيرًا الحلقة الخامسة وهي الأداء المؤسسي (Organizational Performance)، الذي يُمثّل المجموع الكلي للأداء الفردي حين يعمل الجميع في اتجاهٍ واحدٍ منسجمٍ مع القيم المشتركة.

وعندما تكتمل هذه الحلقات الخمس في منظومةٍ واحدةٍ، يتحقق التكامل القيمي الذي يجعل الأداء الفردي مرآةً للأداء المؤسسي. فكل سلوكٍ إيجابيٍّ يُمارسه الموظف يُضيف لبنةً في بناء الثقة المؤسسية، وكل تصرفٍ منصفٍ من المدير يُعيد توزيع العدالة في نسيج الثقافة التنظيمية. وهنا تُصبح العدالة السلوكية ليست فقط نظامًا للقياس، بل محركًا ثقافيًا يُعيد تشكيل العقل الجمعي للمؤسسة.

إنّ تحقيق المواءمة بين الأداء الفردي والأداء المؤسسي يتطلب أن تُدرِك المؤسسة أنّ السلوك الإنساني لا يمكن عزله عن البيئة التنظيمية التي وُضع فيها. فالسلوك ليس معادلةً فرديةً فحسب، بل هو ناتجُ تفاعلٍ بين القيم الفردية والأنظمة المؤسسية. فإذا كانت المؤسسة تُكافئ القيم الصحيحة، سيظهر السلوك الصحيح تلقائيًا، وإذا كانت تُكافئ النتائج فقط دون النظر إلى الوسائل، فستنتشر الانتهازية على حساب العدالة. لذلك تُعتبر العدالة السلوكية بمثابة آلية الضبط القيمي للأداء المؤسسي، لأنها تضمن أن تتحرك كل القوى في الاتجاه نفسه: الإنسان والنظام، الرغبة والواجب، الفرد والمجموعة.

وقد أثبتت التجارب الخليجية في هذا المجال — ولا سيما في السعودية والإمارات — أنّ نجاح المواءمة بين الأداءين الفردي والمؤسسي مرتبطٌ بوجود إطارٍ وطنيٍّ للجدارات السلوكية يُحدّد القيم التي يجب أن يتجسّد فيها السلوك المهني. ففي المملكة، جاء “إطار الكفاءات السلوكية والتخصصية للقطاع الحكومي” ليكون مرجعًا موحّدًا للجدارات التي تُقاس عبر جميع الجهات الحكومية، مما مكّن من ربط أداء الأفراد بأهداف “رؤية السعودية 2030” بشكلٍ مباشرٍ. أما في الإمارات، فقد أدرج النظام الاتحادي لإدارة الأداء الحكومي (EPMS) الجدارات السلوكية ضمن منظومة “رؤية الإمارات 2071”، بحيث تُصبح كل ممارسةٍ سلوكيةٍ للموظف جزءًا من البناء الوطني نحو الريادة العالمية. وهذه المواءمة بين الجدارة والسلوك والرؤية تُعبّر عن أعلى درجات التكامل القيمي.

ومن الجانب المنهجي، تعتمد هذه المواءمة على مبدأ “التتالي الهرمي للأداء” (Cascade of Performance)، وهو المبدأ الذي يجعل كل هدفٍ فرديٍّ مستمدًا من هدفٍ مؤسسيٍّ أعلى، وكل هدفٍ مؤسسيٍّ من هدفٍ استراتيجيٍّ وطنيٍّ أوسع. غير أن العدالة السلوكية تُضيف بعدًا جديدًا لهذا التتالي، إذ تُطالب بأن تتسلسل القيم أيضًا لا الأهداف فقط، بحيث يكون لكل مستوىٍ من مستويات المؤسسة قيمٌ وسلوكياتٌ تتسق مع تلك الموجودة في المستويات الأعلى. فالقيم العليا مثل العدالة والنزاهة تُترجم في مستوى القادة إلى الإنصاف في القرارات، وفي مستوى الموظفين إلى الالتزام في العمل، وفي مستوى الفرق إلى التعاون والتكامل. وهكذا يُصبح السلوك هو الخيط الذهبي الذي يربط بين جميع مستويات الأداء المؤسسي.

وتُشير دراسات EFQM وCIPD إلى أنّ المؤسسات التي تنجح في تحقيق هذا التكامل القيمي والسلوكي بين الأداء الفردي والمؤسسي تتمتع بثلاث مزايا استراتيجية كبرى:
1️⃣ الاستدامة (Sustainability): لأن السلوك الإيجابي المتكرر يخلق ثقافةً ذاتية التنظيم تستمر حتى مع تغيّر القادة والأنظمة.
2️⃣ المرونة (Resilience): لأن العدالة السلوكية تمنح المؤسسة قدرةً على مواجهة الأزمات دون انهيار الثقة الداخلية.
3️⃣ الابتكار (Innovation): لأن الموظفين الذين يشعرون بالعدالة يُبدعون أكثر، لأنهم يعملون في بيئةٍ تُقدّر الجهد لا الانتماء الشخصي.

وفي ضوء هذه الحقائق، تُصبح العدالة السلوكية ليست مجرد آليةٍ إداريةٍ، بل منظومة قيادةٍ بالوعي. فالقائد العادل لا يُصدر أحكامًا فقط، بل يُنشئ توازنًا دقيقًا بين الطموح الفردي والهدف الجماعي، بين الحرية والانضباط، بين المبادرة والمسؤولية. وحين تنجح المؤسسة في بناء هذا التوازن، تُصبح قادرةً على تحويل كل موظفٍ إلى شريكٍ في النجاح، لأن كل واحدٍ منهم يرى نفسه في مرآة العدالة لا في ظلّ السلطة.

ولعلّ أجمل ما في هذا النوع من المواءمة أنه يُعيد تعريف النجاح المؤسسي ذاته. فالنجاح لم يعد يعني تحقيق الأهداف فحسب، بل تحقيقها بطريقةٍ عادلةٍ ومتّسقةٍ مع القيم. فالمؤسسة العادلة لا تفرح فقط بالنتائج، بل تفخر بالطريقة التي وصلت بها إليها، لأنها تعرف أن الأداء الذي يتناقض مع القيم هو في حقيقته فشلٌ مؤجل. ومن هنا، تُصبح العدالة السلوكية ليست فقط ضمانةً للاستقامة، بل أداةً استراتيجيةً للتميّز المؤسسي.

إنّ المواءمة بين الأداء الفردي والمؤسسي من خلال العدالة السلوكية والتكامل القيمي هي أرقى صور النضج الإداري، لأنها تُحوّل المؤسسة إلى كيانٍ عضويٍّ نابضٍ بالقيم، يتغذّى من سلوك أفراده ويُغذّيهم بالثقة والتحفيز والمعنى. إنها لحظة الانسجام الكبرى التي يلتقي فيها الإنسان بالنظام دون تناقض، وحينها فقط يُصبح الأداء عملًا إنسانيًا راقيًا، والعدالة فلسفةً للقيادة، والمؤسسة كيانًا أخلاقيًا قبل أن تكون آلةً تنظيمية.


8️⃣ استشراف مستقبل القياس السلوكي في ظل التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي 🤖

حين نطلّ على أفق المستقبل القريب في ميدان إدارة الأداء، يتّضح أن العالم الإداري يشهد تحولًا جذريًا لا يقلّ أهمية عن الثورة الصناعية أو الرقمية نفسها، وهو ما يمكن أن نُسميه بـ الثورة السلوكية الرقمية (Digital Behavioral Revolution)، حيث لم يعد تقييم السلوك يعتمد فقط على الملاحظة البشرية أو المقابلات الدورية، بل أصبح جزءًا من منظومةٍ ذكيةٍ تتكامل فيها الخوارزميات مع التحليل النفسي والسلوكي في إطارٍ من العدالة المؤسسية والحوكمة الأخلاقية. ومع هذا التحول، يبرز سؤالٌ محوريٌّ يُعيد تشكيل فلسفة إدارة الأداء برمّتها: كيف يمكن أن نضمن أن تظلّ العدالة السلوكية إنسانيةً في عالمٍ تُديره الآلات، وأن يبقى الوعي المهني قائدًا للذكاء الاصطناعي لا تابعًا له؟

لقد كان القياس السلوكي في الماضي القريب يعتمد على أدواتٍ تقليديةٍ مثل المقابلات الفردية والنماذج الورقية والاستبانات الذاتية، وكلها أدواتٌ تعتمد على التفاعل البشري المباشر وما يحمله من انطباعاتٍ وتحيّزاتٍ. أما اليوم، فقد أصبح الذكاء الاصطناعي (AI) قادرًا على تحليل أنماط السلوك المهني بدقةٍ مذهلةٍ، من خلال تتبّع البيانات الرقمية المتولّدة يوميًا عن الموظفين عبر أنظمة الموارد البشرية (HRMS) ومنصات التواصل المؤسسي وتطبيقات المهام وسجلات الأداء الفعلية. فكل تفاعلٍ إلكترونيٍّ، من إرسال بريدٍ رسميٍّ إلى المشاركة في اجتماعٍ افتراضيٍّ أو الرد على ملاحظاتٍ داخل منصةٍ رقميةٍ، أصبح يُنتج “بصمة سلوكية” تُغذّي النظام بالمعلومات الدقيقة حول نمط التواصل، والتعاون، والاستجابة، والقيادة، واحترام الوقت، وغيرها من مؤشرات السلوك الإيجابي أو السلبي.

وفي هذا السياق، ظهرت أنظمةٌ متقدّمةٌ تُعرف باسم Behavioral Analytics Platforms، وهي منصّاتٌ تجمع بين علم البيانات (Data Science) وعلم النفس التنظيمي (Organizational Psychology) لقياس السلوك المهني بطريقةٍ كميةٍ ونوعيةٍ في آنٍ واحد. تُحلّل هذه الأنظمة مثلًا سرعة استجابة الموظف لزملائه، ونبرة الخطاب في المراسلات، وعدد المرات التي يقدّم فيها مقترحاتٍ أو ملاحظاتٍ بنّاءة، وتستنتج منها مستوى التعاون والانخراط التنظيمي والذكاء العاطفي. هذه الأدوات لا تُلغِي دور المدير أو المقيم، بل تُقدّم له مرآةً رقميةً تُكمل ما تعجز العين البشرية عن ملاحظته على مدار العام.

غير أنّ هذا التحول الرقمي يفرض على المؤسسات تحدّيًا مزدوجًا: كيف توازن بين الدقة التقنية والعدالة الأخلاقية؟ فبينما تُوفّر الأنظمة الذكية بياناتٍ ضخمةً وموضوعيةً، إلا أنّها قد تُسقط السياق الإنساني الذي يُعطي للسلوك معناه. فقد يُظهر التحليل الرقمي مثلًا أن موظفًا يُقلّل تفاعله في الاجتماعات، فيُصنَّف “منعزلًا”، بينما في الحقيقة قد يكون أكثر إنتاجيةً في العمل الفردي، أو يمرّ بظروفٍ مؤقتةٍ لا تظهر في البيانات. لذلك فإنّ مستقبل القياس السلوكي لا يقوم على استبدال الإنسان بالآلة، بل على تحالفٍ معرفيٍّ بين الذكاءين: الإنساني والاصطناعي. فالآلة تُقدّم الرؤية الرقمية، والإنسان يُقدّم التفسير القيمي، والعدالة تُولد حين يلتقي التحليل بالوعي.

وقد بدأت دول الخليج، بخبرتها المتقدمة في التحول الرقمي، تخطو خطواتٍ جريئةً في هذا الاتجاه، من خلال دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في أنظمة إدارة الأداء مع الحفاظ على البعد الإنساني في التقييم. ففي المملكة العربية السعودية، تعمل منصة “مسار” التابعة لوزارة الموارد البشرية على تطوير مؤشراتٍ تحليليةٍ للسلوك التنظيمي تُستخلص من بيانات الأداء الفعلية ومن سجلات التدريب والمشاركة في فرق العمل. أما في الإمارات العربية المتحدة، فقد أطلقت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية مشروع “التحليل الذكي للأداء الحكومي”، الذي يستخدم الخوارزميات التنبؤية (Predictive Algorithms) لتوقّع اتجاهات السلوك المستقبلي للموظفين وتحديد الاحتياجات التدريبية بناءً على أنماط الأداء والسلوك السابقة، مع ضمان عدم استخدام هذه البيانات في قراراتٍ عقابيةٍ بل تطويريةٍ فقط، وهو ما يُجسّد مبدأ العدالة السلوكية في أبهى صوره.

ومن منظورٍ عالمي، تشير تقارير CIPD وSHRM إلى أنّ المستقبل القريب سيشهد ولادة ما يُعرف بـ AI-Powered Performance Coaching Systems، أي أنظمة التدريب الممكَّنة بالذكاء الاصطناعي، والتي لا تكتفي بقياس السلوك، بل تُقدّم تغذيةً راجعةً فوريةً (Real-Time Feedback) تُساعد الموظف على تعديل سلوكه فورًا أثناء العمل، مثل تطبيقاتٍ تقيس توازن نبرة الصوت في الاجتماعات الافتراضية أو مستوى التركيز في أداء المهام عبر الكاميرات الذكية، ثم تُقدّم اقتراحاتٍ فوريةً لتحسين التواصل والقيادة والانتباه. هذه الأنظمة ستجعل من إدارة الأداء عمليةً مستمرةً لحظةً بلحظة، لا دورةً سنويةً متقطعةً.

لكن هذا التطور المذهل لا يخلو من المخاطر، وأخطرها هو ما يُعرف بـ تحيّز الخوارزمية (Algorithmic Bias)، حيث تنعكس تحيّزات مبرمجي النظام أو طبيعة البيانات المستخدمة في تدريب الذكاء الاصطناعي على نتائج القياس، فتُنتج ظلمًا رقميًا بدل العدالة الرقمية. فلو كانت البيانات التاريخية للنظام تتضمن تحيّزًا جندريًا أو ثقافيًا، فسيُعيد الذكاء الاصطناعي إنتاج هذا التحيّز تلقائيًا. ولهذا بدأت المؤسسات الرائدة — ومنها بعض الجهات الخليجية — بتأسيس وحداتٍ مستقلةٍ لما يُعرف بـ حوكمة الذكاء الاصطناعي (AI Governance)، تضمن أن تكون خوارزميات التقييم خاضعةً للمراجعة الأخلاقية والقانونية المستمرة، وأن يُدرَّب الذكاء الاصطناعي على مبادئ العدالة السلوكية والإنصاف الثقافي.

وفي المستقبل القريب، سيتحوّل القياس السلوكي إلى نظامٍ بيئيٍّ ذكيٍّ متكاملٍ (Smart Behavioral Ecosystem)، تُسهم فيه أدوات الذكاء الاصطناعي، وتحليلات البيانات، وأجهزة الاستشعار، ومنصات الواقع المعزّز، لتكوين صورةٍ شاملةٍ وديناميكيةٍ عن السلوك المؤسسي. ومع ذلك، ستبقى العدالة السلوكية هي جوهر هذا النظام، لأنها وحدها القادرة على ضبط الاتجاه الأخلاقي للتكنولوجيا. فحين تُراقب المؤسسة سلوك موظفيها بالذكاء الاصطناعي، عليها أن تُراقب أولًا “سلوك النظام نفسه” في كيفية جمعه وتحليله واستخدامه للبيانات. العدالة هنا لا تُطبَّق فقط على الإنسان، بل أيضًا على الخوارزمية.

ومن هنا تظهر الحاجة إلى تطوير إطارٍ جديدٍ يمكن تسميته بـ “حوكمة السلوك الذكي” (Smart Behavioral Governance)، وهو الإطار الذي يجمع بين علم السلوك التنظيمي الكلاسيكي ومبادئ الذكاء الاصطناعي التفسيري (Explainable AI). هذا الإطار سيضمن أن تُفسَّر قرارات التقييم بوضوحٍ، وأن يُتاح للموظف حق معرفة كيف توصّل النظام إلى تقييمه، مما يُعيد إليه الإحساس بالسيطرة والإنصاف. فالعدالة في عصر الذكاء الاصطناعي ليست أن يكون الحكم دقيقًا فحسب، بل أن يكون مفهومًا وقابلًا للمساءلة.

ومن الجانب الإنساني العميق، فإن مستقبل القياس السلوكي الرقمي سيُعيد طرح السؤال الأقدم في الفلسفة الإدارية: ما الذي يجعل الإنسان متفوّقًا في العمل؟ أهي قدرته على الإنجاز أم وعيه بالقيمة؟ وهنا تأتي الإجابة الحديثة لتقول: إنّ التفوق الإنساني يكمن في الوعي بالسلوك لا في أدائه فقط، لأن السلوك الواعي هو الذي يُنتج الأداء العادل والمستدام. ولذلك فإنّ المستقبل لن يُلغِي دور المدير، بل سيُحوّله إلى “مفسّرٍ أخلاقيٍّ للبيانات”، يُوازن بين ما تقوله الأرقام وما تعنيه القيم، ويُعيد العدالة إلى مركز المشهد بعد أن كادت تضيع بين التقارير والتحليلات.

إنّ التحول الرقمي في إدارة الأداء لا ينبغي أن يُخيفنا، بل يجب أن يُلهمنا لتطوير مفهومٍ جديدٍ للعدالة المؤسسية، عدالةٍ تجمع بين ذكاء الخوارزمية وحكمة الإنسان، بين دقة البيانات ونقاء النية، بين سرعة التكنولوجيا وعمق القيم. ففي النهاية، كل نظامٍ ذكيٍّ مهما بلغ من التقدّم لن يكون أكثر عدلًا من الإنسان الذي صنعه، إلا إذا زرعنا فيه وعيًا أخلاقيًا يُعلّمه أن العدالة ليست معادلةً حسابيةً، بل موقفٌ من الحياة.

وهكذا، حين ننظر إلى المستقبل، نُدرك أنّ القياس السلوكي لن يُصبح أكثر آليةً بل أكثر إنسانيةً، لأن التكنولوجيا ستُحرّر الإنسان من الأعمال الميكانيكية لتترك له مهمة الحكم الأخلاقي والاختيار الواعي. فالمؤسسة التي تُحسن استخدام الذكاء الاصطناعي في قياس السلوك لن تُصبح أكثر سيطرةً على موظفيها، بل أكثر فهمًا لهم. وحين يتحوّل القياس إلى وعيٍ والعدالة إلى نظامٍ، سنكون قد دخلنا مرحلة “الإدارة بالضمير الرقمي”، حيث يُصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا في العدالة لا بديلًا عنها، ويُصبح السلوك الإنساني معيارًا يُطوّر الخوارزمية كما تُطوّر الخوارزمية الإنسان.


الخاتمة 🏁

حين نُعيد النظر في الرحلة التي قطعناها عبر هذا المقال، من جذور القياس السلوكي العادل إلى آفاقه المستقبلية في ظل التحول الرقمي، نجد أنفسنا أمام لوحةٍ فكريةٍ عميقةٍ تُعيد تعريف معنى “العدالة” في بيئة العمل الحديثة. لم تعد العدالة مجرد قيمةٍ أخلاقيةٍ يُتغنّى بها في أدبيات الإدارة، بل تحوّلت إلى بنيةٍ مؤسسيةٍ معرفيةٍ واعيةٍ تُشكّل قلب نظام الأداء نفسه. فكل محورٍ من المحاور الثمانية السابقة لم يكن فصلًا منفصلًا في قصةٍ تنظيميةٍ، بل كان خيطًا متينًا في نسيجٍ متكاملٍ يُبرز أن السلوك الإنساني، حين يُقاس بالوعي لا بالتحيّز، يُصبح أساس العدالة، وأن العدالة حين تُدار بالمنهج لا بالعاطفة تُصبح أداةً للتميّز المؤسسي المستدام.

لقد تعلّمنا من استقراء التجارب الخليجية، السعودية والإماراتية، أنّ العدالة في إدارة الأداء ليست نتاج أدواتٍ متطورةٍ أو منصاتٍ رقميةٍ فحسب، بل ثمرةُ نضجٍ ثقافيٍّ مؤسسيٍّ يُدرك أنّ السلوك هو اللغة التي يتحدث بها الوعي المهني، وأنّ الجدارات ليست مفرداتٍ إداريةً جامدةً بل منظومة قيمٍ تُترجم في الممارسة اليومية. فالمدير العادل لا يُنصف الآخرين لأنه مجرّد مقيّمٍ موضوعي، بل لأنه يمتلك وعيًا أخلاقيًا يُدرك أن العدالة ليست قرارًا بل مسؤولية، وأنّ الظلم الإداري لا يُقاس بكمية الأخطاء بل بمدى تجاهل النظام لها. وهنا يُصبح القياس السلوكي العادل هو الأداة التي تُعيد للعدالة صوتها، وللإنسان مكانته داخل المؤسسة.

إنّ العدالة السلوكية، كما تجلّت في نموذج BARS، لم تُغيّر فقط آليات التقييم، بل غيّرت فلسفة الإدارة ذاتها، لأنها حوّلت التقييم من “حكمٍ على الناس” إلى “حوارٍ مع الإنسان”. فحين يُصبح التقييم فعلًا تشاركيًا بين المدير والموظف، قائمًا على الأدلة السلوكية والملاحظات الواقعية والتغذية الراجعة المستمرة، تتحوّل المؤسسة إلى كيانٍ متعلّمٍ يعرف كيف يُصلح ذاته، لأن العدالة حين تُمارس بالوعي تُولّد التطوير الذاتي المستدام.

لقد أثبتت الممارسة أن العدالة التنظيمية ليست فقط شرطًا للثقة، بل محفّزًا جوهريًا للإبداع والالتزام والانتماء. فالموظف لا يُعطي كل ما لديه حين يُراقَب، بل حين يُنصف. ولا يُبدع لأنّه خاضعٌ للمساءلة، بل لأنّه شريكٌ في العدالة. والبيئة العادلة لا تُقلّل الصراعات فقط، بل تُحرّر الطاقات، لأن الناس حين يشعرون بأنّهم يُعاملون بإنصافٍ يُعيدون تعريف معنى الجهد، فيتحوّل العمل من واجبٍ إلى رسالة، ومن وظيفةٍ إلى التزامٍ أخلاقيٍّ تجاه المؤسسة والمجتمع.

وإذا كانت العدالة هي القيمة التي تجمع بين الإنسان والنظام، فإنّ التسلسل المنهجي للمراجعة السلوكية هو الجسر الذي يربط بين العدالة والإتقان. فحين تُوثّق الملاحظات بدقةٍ، وتُراجع الأحكام مؤسسيًا، ويُناقش التقييم بالحوار، تُصبح كل درجةٍ في التقرير شهادةً على نزاهة المؤسسة. وحين يُصبح النظام عادلًا، تتوحّد لغة الثقة، فيعرف الموظف أنّ جهده لن يُهدر، ويعرف المدير أنّ سلطته ليست مطلقة، ويعرف النظام أنّ وجوده مرتبطٌ بقدرته على تحقيق الإنصاف.

أما المواءمة بين الأداء الفردي والأداء المؤسسي فهي المظهر الأوضح لنضج العدالة. ففي المؤسسة العادلة لا يُكافأ الفرد بمعزلٍ عن الأثر، ولا يُقاس النجاح بمؤشراتٍ صمّاء، بل يُربط السلوك الفردي بالقيم المؤسسية، وتُصبح الجدارات السلوكية هي الرابط الذي يُترجم الرؤية إلى ممارسةٍ، والممارسة إلى نتائج، والنتائج إلى ثقافةٍ. فكل تصرّفٍ منصفٍ، وكل تفاعلٍ إيجابيٍّ، وكل مبادرةٍ قيميةٍ تُضيف إلى الرصيد الجمعي للمؤسسة. ومن هنا تنبثق القوة الحقيقية للعدالة، فهي لا تُنظّم فقط الأداء، بل تُنظّم الوعي الجماعي.

ثم يأتي المستقبل ليُضيف بعدًا جديدًا إلى هذا البناء؛ فحين تدخل العدالة السلوكية فضاء الذكاء الاصطناعي، تُصبح الإدارة أمام تحدٍّ غير مسبوق: كيف نحافظ على إنسانية القياس في عالمٍ رقميٍّ يزداد تجريدًا؟ وهنا تُصبح الحوكمة الأخلاقية للذكاء الاصطناعي ضرورةً لا ترفًا، لأن العدالة الرقمية لا تُقاس فقط بمدى دقة الخوارزميات، بل بمدى شفافية استخدامها وإنصافها للإنسان الذي تُقيّمه. فالمؤسسة التي تُحسن توظيف الذكاء الاصطناعي لا لتُراقب موظفيها بل لتفهمهم، هي المؤسسة التي تُعيد تعريف الذكاء ذاته كأداةٍ للرحمة قبل أن يكون أداةً للرقابة. وهكذا، تتجاوز العدالة السلوكية مفهومها الإداري لتُصبح فلسفةً حضاريةً تُعيد التوازن بين العقل البشري والعقل الآلي، وبين القيم والأرقام، وبين الروح والنظام.

إنّ ما يميّز العدالة السلوكية في التجربة الخليجية، أنها لم تُستورد كنموذجٍ إداريٍّ جامد، بل أُعيدت صياغتها وفق منظومةٍ قيميةٍ مستمدةٍ من الثقافة الإسلامية والعربية التي ترى في الإنسان خليفةً في الأرض، مسؤولًا أمام الله والناس عن فعله وسلوكه وعدله. فالعدالة في هذه البيئة ليست مجرد معيارٍ تنظيميٍّ، بل عبادةٌ تُمارس من موقع العمل، وإيمانٌ بأن الإنصاف قيمةٌ ربانيةٌ لا تُجزَّأ. ومن هنا اكتسبت العدالة السلوكية في الخليج بُعدها الفريد: فهي ليست فقط نظامًا إداريًا، بل ضميرٌ مؤسسيٌّ حيٌّ يسري في تفاصيل الحياة المهنية، ويجعل العمل عبادةً، والإتقان خُلُقًا، والقياس وسيلةً للارتقاء بالإنسان لا لمحاكمته.

وفي ضوء هذا الوعي، يمكننا القول إنّ مستقبل إدارة الأداء سيتحوّل من “نظامٍ لتقييم الموظفين” إلى “نظامٍ لتطوير الإنسان”، ومن “ممارسةٍ للرقابة” إلى “رحلةٍ للوعي”، ومن “مجموعةٍ من المؤشرات” إلى “ثقافةٍ من القيم”. فالمؤسسة العادلة في القرن الحادي والعشرين لن تُعرَف بحجم أرباحها أو سرعة نموّها، بل بمدى نزاهتها في إدارة سلوكها الداخلي، لأن العدالة ليست فقط ما يُقدّم للموظف، بل ما تُقدّمه المؤسسة لضميرها المهني.

وهكذا تُغلق دائرة المعنى الكبرى: العدالة السلوكية هي الإطار الأخلاقي والإداري الذي يجعل الأداء المؤسسي قابلًا للاستدامة. إنها النقطة التي يلتقي فيها الفكر الإداري الحديث مع الحكمة الإنسانية القديمة، والنظام مع الضمير، والرقمنة مع القيم. إنها ليست فقط فلسفة قياس، بل فلسفة حياة مؤسسيةٍ راقيةٍ تُعيد الاعتبار للإنسان بوصفه قلب العملية الإدارية وغايتها، لا مجرد وسيلةٍ لتحقيق أهدافها.

وفي النهاية، حين تُطبّق العدالة السلوكية بهذا الوعي، تُصبح المؤسسة ليست فقط مكانًا للعمل، بل مدرسةً في الإنصاف، ومختبرًا للأخلاق، ومثالًا حيًا على أنّ التقدم الحقيقي لا يُقاس بالنتائج وحدها، بل بالقيمة التي نحافظ عليها ونحن نحقق تلك النتائج. ومن هنا تبدأ قصة التميز المؤسسي الحقيقي، حيث يُصبح الأداء مرآة العدالة، وتُصبح العدالة طريق التميز، ويُصبح الإنسان بوعيه وعدله هو النظام الأعلى الذي تنتمي إليه كل النظم.


✍🏻 التوثيق

📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات، ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.

✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد:
د. محمد بن علي العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية، بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.

قدّم خلال مسيرته المهنية مئات البرامج التدريبية المتخصصة في القيادة وإدارة الأداء وبناء الجدارات والتخطيط الاستراتيجي وتطوير الموارد البشرية، وأسهم في تأسيس وتطوير أنظمة الأداء في العديد من الجهات الحكومية والخاصة على المستويين الخليجي والعربي. ويُعدّ هذا المقال جزءًا من المشروع العلمي التطبيقي الموسوم بـ «سلسلة إدارة الأداء الوظيفي: نحو نموذجٍ عربيٍّ متكاملٍ للعدالة السلوكية والتميز المؤسسي»، الذي يسعى إلى بناء مرجعيةٍ عربيةٍ علميةٍ متخصصةٍ في إدارة الأداء، مستندةٍ إلى الممارسات العالمية (CIPD – SHRM – ISO 30414 – EFQM) ومتكاملةٍ مع التجارب الخليجية الرسمية في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية، ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z

🌐 تصفّح المزيد من المقالات عبر الموقع الرسمي:
👉 www.mohammedaameri.com


🔖 #إدارة_الأداء_الوظيفي #القياس_السلوكي #العدالة_التنظيمية #الجدارات_السلوكية #BARS #Performance_Management #Behavioral_Indicators #Competency_Frameworks #د_محمد_العامري #مهارات_النجاح #التطوير_المؤسسي #حوكمة_الأداء #التحول_الرقمي #الذكاء_الاصطناعي #EFQM #CIPD #SHRM #ISO30414 #IDP #رؤية_السعودية_2030 #رؤية_الإمارات_2071 #التميز_المؤسسي #Continuous_Improvement #Organizational_Justice #Human_Capital_Development #Behavioral_Governance

تحميل محتوى الصفحة رجوع