في عمق كل مؤسسةٍ تسعى نحو التميز، وفي قلب كل نظامٍ يرنو إلى الاستدامة، تتجلّى حقيقةٌ لا يمكن إغفالها وهي أن السلوك الإنساني هو المحرك الحقيقي للأداء، وأن القيم ليست شيئًا يُعلّق على الجدران أو يُدرج في الدلائل الإدارية، بل هي طاقةٌ حيةٌ تُترجم إلى أفعالٍ ومواقفٍ وقراراتٍ يوميةٍ تصنع الفرق بين الأداء الشكلي والأداء الفعّال. فالمؤسسة لا تُقاس فقط بما تُحققه من نتائج، بل بما تُعبّر عنه من مبادئ وقيمٍ في كل لحظةٍ من لحظات العمل. ومن هنا، برزت فكرة الجدارات السلوكية كإطارٍ منهجيٍّ متكاملٍ يجمع بين القيمة والسلوك، وبين المعرفة والتطبيق، وبين الإنسان والنظام. إنها ليست إضافةً تجميليةً في نماذج الأداء، بل جوهرٌ فلسفيٌّ يُعيد تعريف معنى العمل ذاته، وكيف يُمارس، ولماذا يُمارس.
الجدارات السلوكية تمثل البنية التحتية غير المرئية التي تنقل المؤسسة من عالم الأوامر إلى عالم الوعي، ومن منطق التنفيذ إلى منطق التمثيل، فهي التي تُظهر كيف يتصرّف الأفراد عندما لا يراهم أحد، وكيف يُترجمون القيم إلى سلوكٍ، والسلوك إلى نتائجٍ، والنتائج إلى ثقافةٍ مؤسسيةٍ متجذّرة. ومن خلال هذا الفهم، تصبح إدارة الأداء السلوكي ليست عملية تقييمٍ بقدر ما هي عملية تنميةٍ للوعي التنظيمي، لأن الغاية ليست مراقبة السلوك بل تمكينه وتوجيهه نحو الأهداف العليا للمؤسسة.
في هذا السياق، يتحوّل النظام الإداري من أداةٍ رقابيةٍ إلى أداةٍ تربويةٍ تُعيد تشكيل السلوك المهني، بحيث يُصبح الموظف فاعلًا واعيًا قادرًا على تمثيل قيم مؤسسته في كل ما يقوم به، لا لأنه مجبرٌ على ذلك، بل لأنه يرى في تلك القيم جزءًا من ذاته المهنية. ومن هنا يتضح أن الجدارة السلوكية ليست خاصيةً ثابتةً، بل حالةٌ ديناميكيةٌ من النضج والوعي تنمو بالتدريب والممارسة والتغذية الراجعة والتفاعل المستمر بين الفرد وبيئة العمل.
لقد أدركت المؤسسات الحديثة أن بناء الأنظمة التقنية لا يكفي ما لم يُدعّم ببناءٍ سلوكيٍّ واعٍ، وأن مؤشرات الأداء لا تكتمل ما لم يُقابلها مؤشرٌ أخلاقيٌّ يزن الطريقة قبل النتيجة. لذلك جاءت أنظمة إدارة الأداء في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لتؤكد أن السلوك جزءٌ أصيلٌ من الأداء، وأن القيم ليست إطارًا ثقافيًا فقط، بل مكوّنًا إداريًا يقاس ويُنمّى ويُكافأ عليه. ففي المملكة، نصّ الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي على أهمية الجدارات السلوكية كعنصرٍ رئيسٍ في التقييم السنوي، بينما في الإمارات جعل نظام إدارة الأداء الحكومي (EPMS) الجدارات السلوكية محورًا أساسيًا في الحوار النصف سنوي وخطة التطوير الفردي (IDP). وهكذا لم تعد الجدارات مجرد معيارٍ إداري، بل أصبحت لغةً مؤسسيةً تُستخدم في التقييم، والتوظيف، والتطوير، وبناء القيادات.
إنّ الجدارات السلوكية تُحوّل المؤسسة من كيانٍ ينفّذ التعليمات إلى كيانٍ يتصرّف بوعي، فهي التي تجعل القيم ملموسةً في سلوك العاملين، وتجعل السلوك معيارًا للتميّز لا مجرد وسيلةٍ للإنجاز. وحين تتجذر هذه الجدارات في بيئة العمل، يصبح الانضباط تلقائيًا، والالتزام ذاتيًا، والولاء نابعًا من الداخل لا من الخارج. فكل موظفٍ يدرك أن سلوكه ليس شأنًا شخصيًا بل مسؤوليةً تنظيميةً تمسّ الصورة الذهنية للمؤسسة بأكملها.
هذا المقال إذًا هو دعوةٌ لفهمٍ أعمق لمعنى الجدارة السلوكية بوصفها الجسر الذي يربط بين “أن تكون” و“أن تعمل”، بين النية والنتيجة، وبين الإنسان والنظام. سنسير فيه عبر رحلةٍ تحليليةٍ تبدأ من تعريف الجدارة السلوكية وأبعادها الفكرية، مرورًا بتطورها التاريخي، وصولًا إلى كيفية تحويلها إلى ممارسةٍ يوميةٍ تُقاس وتُنمّى وتُكافأ. إننا سنستكشف كيف تُعيد الجدارة السلوكية تشكيل مفهوم الأداء المهني ليصبح سلوكًا واعيًا يعكس النضج القيمي والإنساني للمؤسسة، وكيف يمكن لهذا التحول أن يُحدث فرقًا جذريًا في بناء ثقافة التميز والاستدامة المؤسسية.
🗂️ فهرس المقال
1️⃣ المفهوم العام للجدارات السلوكية وأبعادها الفكرية 🌍
2️⃣ التطور التاريخي والمفاهيمي للجدارات السلوكية في الفكر الإداري الحديث 🧠
3️⃣ الجدارات السلوكية كأداةٍ لربط القيم المؤسسية بالأداء اليومي 💡
4️⃣ تصنيف الجدارات السلوكية: من الجدارة الفردية إلى الجدارة القيادية 🧩
5️⃣ الجدارات السلوكية في النظام السعودي والإماراتي: قراءة تحليلية مقارنة 🏛️
6️⃣ قياس الجدارات السلوكية: من الملاحظة إلى النمذجة 📊
7️⃣ تطوير الجدارات السلوكية عبر التدريب والتغذية الراجعة والتوجيه المؤسسي 🧭
8️⃣ الجدارات السلوكية كجسرٍ بين الإنسان والنظام والتميز المؤسسي 🌿
1️⃣ المفهوم العام للجدارات السلوكية وأبعادها الفكرية 🌍
عندما نتحدث عن الجدارات السلوكية، فإننا لا نتحدث عن بندٍ إداريٍ يُضاف إلى بطاقة الوصف الوظيفي أو إلى استمارة تقييم الأداء، بل نتحدث عن جوهر الفعل الإنساني داخل المؤسسة، عن الطريقة التي يتفاعل بها الإنسان مع محيطه المهني، ويتخذ قراراته، ويعبّر عن ذاته من خلال سلوكٍ متزنٍ يعكس وعيه وانتماءه وثقافته التنظيمية. فالسلوك المهني ليس مجرد رد فعلٍ لما يحدث في بيئة العمل، بل هو انعكاسٌ للمنظومة الفكرية والقيمية التي يحملها الفرد، ولهذا جاءت فكرة “الجدارات السلوكية” لتجعل من هذا السلوك علماً قابلاً للفهم والقياس والإدارة، بعد أن كان يُعتبر سابقًا مجالًا إنسانيًا غامضًا يصعب ضبطه أو تقنينه.
تُعرّف المنظمات العالمية المتخصصة في الموارد البشرية — مثل CIPD وSHRM — الجدارة السلوكية بأنها مجموعةٌ من الأنماط السلوكية المتكررة التي تُظهرها الكفاءات البشرية في بيئة العمل، والتي تمثل ترجمةً عمليةً للقيم والمعايير المهنية والأخلاقية التي تتبناها المؤسسة. أي أن الجدارة السلوكية هي المسافة بين ما تؤمن به المؤسسة وما يفعله موظفوها فعليًا، وهي المعيار الذي يُقاس به مدى اتساق السلوك الفردي مع الثقافة المؤسسية. أما في الفكر الخليجي المعاصر لإدارة الأداء، فقد تطوّر المفهوم ليأخذ بعدًا مؤسسيًا متكاملًا؛ إذ أصبحت الجدارة السلوكية أداةً إستراتيجيةً لضمان تجسيد الهوية الوطنية والقيَمية في الأداء اليومي للموظف، وهذا ما نراه بوضوحٍ في الدليل الإرشادي للائحة الأداء الوظيفي في المملكة العربية السعودية، ونظام إدارة الأداء الحكومي في دولة الإمارات العربية المتحدة (EPMS)، اللذين ربطا بوضوحٍ بين القيم المؤسسية والسلوك الوظيفي المقاس.
إنّ الجدارة السلوكية ليست صفةً فرديةً عابرة، بل هي قدرةٌ متكررةٌ على إظهار سلوكٍ متسقٍ مع قيم المؤسسة، في مواقف متنوعةٍ ومتغيرةٍ باستمرار، بحيث يُصبح هذا السلوك عادةً تنظيميةً متجذرةً لا استجابةً مؤقتةً. فحين نرى موظفًا يتعامل بلطفٍ مع المتعاملين رغم ضغط العمل، أو مديرًا يتخذ قرارًا أخلاقيًا حتى لو خسر بعض المكاسب المادية، فإننا لا نتحدث عن موقفٍ فردي، بل عن جدارةٍ سلوكيةٍ تُعبّر عن ثقافة المؤسسة في شكلها الأصيل.
ومن هنا، فإن فهم الجدارة السلوكية يتطلب النظر إليها من أربعة أبعادٍ فكريةٍ رئيسة: البعد القيمي، البعد النفسي، البعد الاجتماعي، والبعد التنظيمي.
أولًا: البعد القيمي.
في جوهرها، تنبع الجدارة السلوكية من المنظومة القيمية التي تُؤمن بها المؤسسة وتُترجمها في أنظمتها الداخلية، فالقيم ليست مجرد شعاراتٍ مرفوعةٍ بل هي الأساس الذي يُبنى عليه كل سلوكٍ مهنيٍّ واعٍ. إنّ الموظف الذي يتحلى بالنزاهة أو الالتزام أو التعاون لا يفعل ذلك فقط لأنه مكلّف به، بل لأنه يرى في تلك القيم جزءًا من هويته المهنية. ولهذا السبب، نجد أن المؤسسات الرائدة تربط بين “الجدارات السلوكية” و”القيم الجوهرية” في خطتها الإستراتيجية، فتتحول هذه القيم إلى مؤشراتٍ سلوكيةٍ ملموسةٍ يمكن مراقبتها وتطويرها. ومن الأمثلة الواضحة لذلك ما تبنّته دولة الإمارات في منظومتها الحكومية، حين جعلت “روح الفريق، الاحترام، الابتكار، النزاهة” قيماً مؤسسيةً مترجمةً إلى جداراتٍ سلوكيةٍ تُقاس في تقييم الأداء السنوي.
ثانيًا: البعد النفسي.
الجدارة السلوكية تنطلق من فهمٍ عميقٍ للطبيعة الإنسانية؛ فهي تتعامل مع السلوك لا كمظهرٍ خارجيٍّ فحسب، بل كنتاجٍ لمجموعةٍ من العمليات العقلية والعاطفية والإدراكية التي تسبق الفعل الظاهر. ولهذا، فإن الموظف الجدير سلوكيًا هو من يمتلك قدرةً على التحكم في انفعالاته، وعلى إدارة دوافعه بطريقةٍ ناضجةٍ، وعلى اتخاذ قراراتٍ متزنةٍ رغم ضغوط البيئة. إنّ الجدارة هنا لا تُقاس بما يفعله الإنسان فحسب، بل بقدرته على اختيار الفعل الصحيح في الوقت الصحيح بناءً على وعيٍ داخليٍّ نابعٍ من قيمه. ولذلك أصبحت أدوات تقييم الجدارات السلوكية الحديثة — مثل المقابلات السلوكية (BEI) ومقاييس BARS — تركّز على تحليل الدوافع وراء السلوك أكثر من السلوك نفسه.
ثالثًا: البعد الاجتماعي.
الجدارة السلوكية لا تتشكل في عزلة، بل تتكون داخل شبكةٍ من العلاقات المهنية والاجتماعية داخل المؤسسة، فهي تعكس قدرة الفرد على التفاعل البنّاء مع الآخرين ضمن بيئةٍ متكاملةٍ من القيم والضوابط. والسلوك المهني الجدير هو السلوك الذي يوازن بين المصلحة الشخصية والمصلحة الجماعية، ويُظهر احترامًا متبادلًا للزملاء والرؤساء والعملاء. لذلك نجد أن معظم أنظمة الأداء في الخليج جعلت من مهارات التواصل، والعمل الجماعي، وإدارة الخلافات، والتعاون التنظيمي، جزءًا أساسيًا من الجدارات السلوكية التي يُقيم على أساسها الموظفون، لأن المؤسسة لا يمكن أن تزدهر ما لم يكن سلوك أفرادها متفاعلًا بانسجامٍ مع سلوك الآخرين.
رابعًا: البعد التنظيمي.
في هذا البعد، تتحوّل الجدارة السلوكية من خاصيةٍ فرديةٍ إلى قيمةٍ تنظيميةٍ تتجسد في ثقافة العمل والسياسات الداخلية وآليات الحوكمة. فالمؤسسة التي تُكافئ السلوك الجدير وتُعزّزه تُرسّخ معايير العدالة التنظيمية والثقة المتبادلة، بينما المؤسسة التي تتغافل عن السلوك السلبي أو تكافئه ضمنيًا تضعف بنيتها الأخلاقية وتفقد ثقة موظفيها. ولهذا، نجد أن نظم إدارة الأداء الحديثة — ومنها النظام الإماراتي والسعودي — ربطت بين تقييم السلوك الفردي ومؤشرات الأداء المؤسسي، لتجعل من الجدارة السلوكية جزءًا من منظومة القياس العام للمؤسسة. فالالتزام، والتعاون، والشفافية، والمسؤولية، كلها ليست قيمًا معنويةً بل مؤشراتٌ سلوكيةٌ تنظيميةٌ قابلةٌ للرصد والمساءلة والتطوير.
وعندما تتكامل هذه الأبعاد الأربعة، يتكوّن لدينا فهمٌ شاملٌ للجدارة السلوكية بوصفها حلقة الوصل بين الإنسان والنظام، وبين القيم والنتائج. فهي ليست مجرد سلوكٍ جيدٍ في ذاته، بل سلوكٌ يخدم غايةً مؤسسيةً عليا ويُعبّر عن وعيٍ متبادلٍ بين الفرد والمؤسسة. وهنا تكمن عظمة هذا المفهوم؛ إذ يجعل المؤسسة قادرةً على توجيه طاقاتها البشرية بطريقةٍ متسقةٍ مع أهدافها الإستراتيجية دون الحاجة إلى رقابةٍ مفرطةٍ أو توجيهٍ مباشرٍ، لأن الجدارة السلوكية تُصبح بمثابة الضمير الحي الذي يُوجّه السلوك من الداخل.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن الجدارة السلوكية هي البنية الذهنية والسلوكية التي تترجم الرؤية المؤسسية إلى فعلٍ يوميٍّ متكررٍ، فهي تجعل الاستراتيجية حيةً في السلوك، وتجعل الأداء مرآةً للقيم، وتجعل المؤسسة أكثر قدرةً على تحقيق التميز المستدام لأنها لم تعد تعتمد على الأوامر أو اللوائح وحدها، بل على وعي الأفراد الذين يجسدون تلك القيم طوعًا وسلوكًا.
2️⃣ التطور التاريخي والمفاهيمي للجدارات السلوكية في الفكر الإداري الحديث 🧠
حين نُحلّل مسار تطوّر مفهوم "الجدارات السلوكية" في الفكر الإداري، نجد أننا أمام رحلةٍ فكريةٍ طويلةٍ ومعقّدةٍ بدأت من محاولاتٍ أوليةٍ لفهم الفروق الفردية في الأداء المهني، ثم تطورت لتصبح اليوم أحد الأعمدة الرئيسة في بناء المنظومات المؤسسية الحديثة. هذه الرحلة لم تكن انتقالًا شكليًا من مصطلحٍ إلى آخر، بل كانت تحوّلًا جذريًا في الطريقة التي تفهم بها المؤسسات الإنسان ودوره في العمل، إذ تغيّر السؤال من: "ماذا يفعل الموظف؟" إلى "كيف يفعل ولماذا يفعل؟" — أي من التركيز على المخرجات إلى التركيز على الدوافع والسلوكيات التي تقف وراءها.
في بدايات القرن العشرين، ومع صعود المدرسة الكلاسيكية في الإدارة بقيادة فريدريك تايلور (Frederick Taylor) في إطار “الإدارة العلمية”، كان الاهتمام موجّهًا نحو الكفاءة الإنتاجية والمهارة التقنية، أي نحو الجانب الكمي من الأداء. لم يكن للسلوك المهني مساحةٌ تُذكر في تلك المرحلة؛ فالعامل كان يُقاس بما ينجزه من وحدات إنتاجية لا بما يُظهره من قيم أو مواقف. كان التركيز على معيار الزمن والحركة، وعلى ضبط السلوك من الخارج عبر القواعد والتعليمات. ولكن سرعان ما ظهرت المدرسة الإنسانية بقيادة إلتون مايو (Elton Mayo) وتجارب هاوثورن الشهيرة، لتُحدث نقلةً نوعيةً في التفكير الإداري، إذ اكتشفت أن الإنسان ليس آلةً تُدار بالأوامر، بل كائنٌ اجتماعيٌّ تحرّكه الدوافع النفسية والانتماء والعلاقات الإنسانية. من هنا بدأ التحوّل الأول في الوعي الإداري من “العمل الميكانيكي” إلى “العمل الإنساني”.
في منتصف القرن العشرين، بدأ الاهتمام يتجه نحو محاولة تفسير "لماذا يختلف أداء الأشخاص رغم تساويهم في المؤهلات؟" وكانت الإجابة الأولى في ستينيات القرن الماضي على يد عالم السلوك التنظيمي ديفيد ماكليلاند (David McClelland) الذي وضع الأساس العلمي لما عُرف لاحقًا بمفهوم "الجدارات" (Competencies). في بحثه الشهير “Testing for Competence Rather than for Intelligence” عام 1973، دعا ماكليلاند إلى تجاوز المقاييس التقليدية للذكاء والشهادات الأكاديمية، والبحث بدلًا منها عن الصفات والسلوكيات القابلة للملاحظة التي تميز الأفراد ذوي الأداء العالي. لقد كان هذا التحول بمثابة ثورة فكرية في مجال الإدارة والموارد البشرية، إذ انتقل القياس من “القدرات المعرفية” إلى “القدرات السلوكية”، ومن “الكفاءة الفنية” إلى “الجدارة الإنسانية”.
ثم جاء الباحث ريتشارد بوياتزيس (Richard Boyatzis) في الثمانينيات ليُعمّق المفهوم أكثر من خلال كتابه “The Competent Manager”، حيث قدّم نموذجًا متكاملًا يُعرّف الجدارة بأنها "مجموعة من السمات الشخصية والسلوكية والمعرفية التي تُمكّن الفرد من تحقيق أداءٍ متميّزٍ في سياقٍ وظيفيٍّ محدد." لقد كان بوياتزيس أول من وضع الأساس النظري لما نُسميه اليوم "الجدارات السلوكية"، مؤكدًا أن الأداء المتميز لا يمكن أن يُفسّر بالمهارة الفنية وحدها، بل يحتاج إلى وعيٍ بالذات، وضبطٍ للانفعالات، وتعاطفٍ مع الآخرين، وقدرةٍ على التأثير الإيجابي. هذه العناصر التي بدت يومًا ما “ناعمةً” أو “صعبة القياس” أصبحت لاحقًا محور الاهتمام الإداري الحديث تحت مظلة "الذكاء العاطفي" الذي صاغه لاحقًا دانيال جولمان (Daniel Goleman) في التسعينيات، والذي جعل من الجدارات السلوكية أداةً لتفسير القيادة الفعالة والأداء المؤسسي العالي.
مع دخول التسعينيات، أخذت المؤسسات الكبرى — مثل CIPD البريطانية وSHRM الأمريكية — بتطوير أطرٍ معياريةٍ للجدارات السلوكية تُستخدم في التوظيف والتدريب وإدارة الأداء. لم تعد الجدارة مجرد مفهومٍ أكاديمي، بل أصبحت نظامًا مؤسسيًا يُبنى عليه التقييم والترقية والتحفيز. في هذه المرحلة، بدأت الأدبيات الإدارية تتحدث عن "النماذج الجداراتية" (Competency Models) التي تُحدّد السلوكيات المطلوبة لكل مستوى وظيفي، وتربط بين القيم المؤسسية والسلوك اليومي. وهنا تحوّل المفهوم من كونه أداةً للتشخيص إلى كونه أداةً للحوكمة المؤسسية.
أما في العالم العربي والخليجي تحديدًا، فقد بدأ الاهتمام الجاد بالجدارات السلوكية في العقدين الأخيرين، مع صعود مفاهيم الحوكمة والتميز المؤسسي والاستدامة، ومع سعي الحكومات الخليجية لبناء إداراتٍ أكثر وعيًا وإنسانية. فقد أدركت المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، أن التحول الوطني نحو رؤية 2030 لا يمكن أن يتحقق بأنظمةٍ إداريةٍ جامدةٍ، بل بإنسانٍ قادرٍ على تمثيل القيم الوطنية في سلوكه المهني. ولذلك جاءت لائحة إدارة الأداء الوظيفي لعام 1438هـ (2017م) لتُدرج "الجدارات السلوكية" كمكوّنٍ أساسيٍّ في عملية التقييم، وتربطها بخطط التطوير الفردي (IDP). كما تبنّت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية في دولة الإمارات العربية المتحدة نظامًا متكاملًا لإدارة الأداء الحكومي (EPMS) يقوم على مبدأ “القيادة بالجدارات”، حيث أصبحت الجدارات السلوكية لغةً مشتركةً بين جميع الجهات الحكومية، تُقاس وتُنمّى وتُكافأ.
هذا التحول الخليجي يُعدّ نموذجًا فريدًا لأنه لم يكتفِ باستنساخ التجارب الغربية، بل أعاد صياغتها ضمن إطارٍ ثقافيٍّ وقيميٍّ محليٍّ يعكس الهوية الوطنية والبعد الأخلاقي في الأداء. فبينما ركّزت النماذج الغربية على الكفاءة التقنية والتحفيز الفردي، ركّزت النماذج الخليجية على المسؤولية الجماعية والانتماء الوطني والقيم الإسلامية في السلوك المؤسسي. لقد أصبحت الجدارة السلوكية في هذا السياق ليست مجرد وسيلةٍ للقياس، بل وسيلةً لبناء الإنسان المسؤول أخلاقيًا واجتماعيًا، وهو ما جعلها حجر الزاوية في تطوير رأس المال البشري الخليجي.
من الناحية المفاهيمية، تطورت الجدارات السلوكية لتصبح أحد مكونات ما يُعرف اليوم بـ “نظام إدارة الأداء الشامل” (Integrated Performance Management System)، الذي يربط بين أهداف المؤسسة (KPIs)، وجدارات الأفراد (Competencies)، ونتائج الأداء المؤسسي (Organizational Results)، في منظومةٍ متكاملةٍ تضمن الاتساق بين الاستراتيجية والسلوك. وهذا ما أكّدته معايير ISO 30414 الخاصة بالإفصاح عن رأس المال البشري، التي نصّت على أن قياس الجدارات السلوكية جزءٌ من متطلبات الشفافية في إدارة الأداء والحوكمة المؤسسية.
أما على المستوى الأكاديمي، فقد تحوّلت الجدارة السلوكية إلى موضوعٍ متعدد التخصصات يجمع بين علم النفس التنظيمي، والسلوك الإداري، والقيادة، والتربية المهنية. ففي علم النفس، يُنظر إلى الجدارة السلوكية على أنها انعكاسٌ للوعي الذاتي والذكاء العاطفي والتكيف الاجتماعي، بينما في علم الإدارة تُعتبر وسيلةً لضبط الجودة البشرية وتحقيق الكفاءة المؤسسية. هذا التداخل المعرفي منح المفهوم عمقًا فلسفيًا جعله يتجاوز حدود الإدارة إلى مستوى التفكير في الإنسان بوصفه كائنًا قيميًا يُمارس العمل لا بوصفه مهمةً، بل رسالةً.
لقد كان هذا التطور المفاهيمي والتاريخي للجدارات السلوكية بمثابة إعلانٍ عن ميلاد مرحلةٍ جديدةٍ في الفكر الإداري؛ مرحلةٍ تُعيد الاعتبار للسلوك بوصفه جوهر الأداء، وللقيم بوصفها لغة الإدارة، وللإنسان بوصفه رأس المال الحقيقي للمؤسسة. وبهذا أصبحت الجدارة السلوكية ليست فرعًا من فروع الموارد البشرية، بل فلسفةً شاملةً لإدارة الإنسان في العمل، وركيزةً لبناء مؤسساتٍ أكثر إنسانيةً وعدلًا واستدامة.
3️⃣ الجدارات السلوكية كأداةٍ لربط القيم المؤسسية بالأداء اليومي 💡
في عمق كل مؤسسةٍ ناجحةٍ، هناك خيطٌ غير مرئيٍّ يربط بين ما تعلنه من قيمٍ وما يمارسه أفرادها من سلوكٍ يوميٍّ في واقع العمل، ذلك الخيط هو ما تُجسِّده “الجدارات السلوكية” بوصفها الآلية الأكثر فاعليةً لترجمة القيم المجردة إلى ممارساتٍ ملموسةٍ يمكن ملاحظتها وقياسها وتطويرها. فالقيم — مهما كانت نبيلة — تبقى بلا أثرٍ ما لم تُترجم إلى سلوكٍ يعبّر عنها، والجدارات السلوكية هي الأداة التي تجعل هذه الترجمة ممكنةً ومنضبطةً في الوقت ذاته، إذ تُحوِّل المعتقدات المؤسسية إلى أنماطٍ متكررةٍ من الأداء المهني تُصبح بمرور الوقت جزءًا من الهوية المؤسسية ذاتها.
القيم المؤسسية تمثّل البنية الأخلاقية والمعيارية للمؤسسة، فهي تعبّر عن رؤيتها لما هو صحيحٌ وعادلٌ ومرغوبٌ في بيئة العمل، وهي التي تُحدّد الطريقة التي يجب أن يتصرّف بها الأفراد في مواجهة المواقف المختلفة. غير أن القيم في ذاتها ليست كافيةً لتحقيق التحوّل في الأداء؛ فهي تحتاج إلى جسرٍ يربطها بالسلوك الفعلي، وهذا الجسر هو الجدارة السلوكية. فحين تنصّ المؤسسة على أن من قيمها “الاحترام، الشفافية، المسؤولية، الإبداع، وروح الفريق”، فإن الجدارات السلوكية تجعل هذه الكلمات أفعالًا قابلةً للملاحظة، فتُعرّف “الاحترام” مثلًا بأنه “القدرة على الإصغاء للآخرين وتقدير وجهات نظرهم في بيئة العمل”، وتُعرّف “الشفافية” بأنها “مشاركة المعلومات بوضوحٍ وصدقٍ مع الزملاء والرؤساء”، وهكذا تُصبح القيمة سلوكًا يمكن رصده وتقييمه وتنميته.
هذا الربط بين القيم والسلوك لا يُعدّ مجرد خطوةٍ إداريةٍ بل تحولًا ثقافيًا عميقًا، لأنه يُعيد صياغة مفهوم الأداء من كونه نشاطًا تقنيًا إلى كونه ممارسةً أخلاقيةً تحمل في طياتها معنى الالتزام والوعي والمسؤولية. فالأداء لا يكون متميزًا فقط عندما يُحقّق الهدف، بل عندما يُحقّقه بطريقةٍ منسجمةٍ مع قيم المؤسسة. وهنا تظهر أهمية الجدارات السلوكية كأداةٍ للحوكمة الأخلاقية، إذ تجعل من القيم إطارًا سلوكيًا يحكم طريقة الإنجاز لا نتائجه فحسب.
إنّ العلاقة بين القيم والسلوك علاقةٌ عضويةٌ تشبه العلاقة بين الروح والجسد، فالقيم هي المبدأ الذي يمنح السلوك معناه، والسلوك هو الوسيلة التي تُظهر القيم في الواقع، والجدارات السلوكية هي المنظومة التي تنظّم هذا التفاعل وتُبقيه متوازنًا. ومن هنا يمكن القول إن المؤسسة التي تُهمل بناء الجدارات السلوكية تُفرّغ قيمها من محتواها العملي، لأن القيم التي لا تُمارس تُصبح شعاراتٍ، والشعارات التي لا تُقاس تفقد قدرتها على الإلهام. أما المؤسسة التي تربط بين القيم والجدارات، فإنها تجعل الثقافة التنظيمية نظامًا حيًا يوجّه قرارات الأفراد من الداخل، دون الحاجة إلى رقابةٍ دائمةٍ أو أوامرٍ متكررة.
ولأن هذا الربط يتطلّب وضوحًا في التوقعات، جاءت النماذج الحديثة لإدارة الأداء — ومنها النظام السعودي والإماراتي — لتُحدّد لكل جدارةٍ سلوكيةٍ مستوياتٍ واضحةٍ تُعبّر عن مدى نضج الموظف في تجسيد القيم المؤسسية. ففي النظام الإماراتي لإدارة الأداء الحكومي (EPMS) مثلًا، تُترجم القيم الوطنية — كالابتكار والتميز والخدمة العامة — إلى جداراتٍ سلوكيةٍ مثل “روح المبادرة”، “الالتزام بالتميز”، و“التركيز على المتعاملين”، ويُقيَّم الموظف بناءً على مدى قدرته على تجسيد هذه السلوكيات في أدائه اليومي. وفي الدليل الإرشادي السعودي للأداء الوظيفي، تُحدّد الجدارات السلوكية من خلال “إطار الكفاءات” الذي يربط بين قيم العمل الحكومي — كالشفافية والنزاهة والمواطنة — وبين السلوكيات المتوقعة من الموظف في بيئة العمل، بحيث يُصبح تقييم السلوك جزءًا لا يتجزأ من تقييم الأداء العام.
ولعلّ أبرز ما يميّز الجدارات السلوكية في هذا السياق هو قدرتها على خلق لغةٍ مشتركةٍ بين جميع مستويات المؤسسة؛ فهي توفّر قاموسًا قيميًا-سلوكيًا يفهمه الجميع: المدير، والموظف، وفريق العمل، بل وحتى المتعاملون مع المؤسسة من الخارج. فحين تقول المؤسسة إنها تُقدّر “التعاون”، فإن كل موظفٍ يعرف ما يعنيه ذلك عمليًا، وكيف يُترجم إلى سلوكٍ متوقّعٍ في الاجتماعات أو في إدارة المشاريع أو في التواصل اليومي. هذه اللغة المشتركة تُقلّل الغموض في التوقعات، وتُعزّز العدالة في التقييم، وتُقوّي الإحساس بالانتماء لأن الجميع يتحرك ضمن منظومةٍ واحدةٍ من القيم والسلوكيات.
وإذا نظرنا إلى الجدارات السلوكية من زاوية التطبيق العملي، نجد أنها تمثّل أيضًا وسيلةً استراتيجيةً لصناعة “الثقافة المؤسسية” التي تحدّد طريقة العمل، وتُميّز المؤسسة عن غيرها. فالثقافة لا تُبنى بالتصريحات، بل بالممارسات المتكررة التي يراها الموظفون ويعيشونها يوميًا. حين تُكافئ المؤسسة السلوك الجدير، فإنها تُرسل رسالةً ضمنيةً بأن هذا هو النمط المرغوب، وحين تتجاهل السلوك السلبي، فإنها تُشرعن تكراره. وهكذا، تُصبح الجدارات السلوكية أداةً لإدارة الثقافة لا مجرد أداةٍ لتقييم الأفراد.
إنّ ربط القيم بالسلوك عبر الجدارات السلوكية يُحقّق ما يُعرف في الفكر الإداري بـ “الاتساق التنظيمي” (Organizational Alignment)، أي أن جميع مكونات المؤسسة — من القيم إلى السياسات إلى الأداء — تعمل بتناغمٍ وانسجامٍ نحو الاتجاه نفسه. وهذا الاتساق يُولّد طاقةً إيجابيةً جماعيةً تُعرف في أدبيات القيادة بـ “الزخم الثقافي” (Cultural Momentum)، وهي الحالة التي تتحرك فيها المؤسسة من الداخل بقوةٍ نابعةٍ من اقتناع أفرادها، لا من أوامر قيادتها.
ومن الناحية القيادية، فإن القائد الجداراتي لا يُلقّن القيم، بل يُجسّدها سلوكًا، لأن القيادة بالقدوة هي أقوى أدوات بناء الجدارات السلوكية في الفريق. فحين يرى الموظفون قائدهم يمارس الاحترام والشفافية والمسؤولية في قراراته، فإنهم يتعلّمون بالاقتداء أكثر مما يتعلّمون بالتوجيه. ولهذا تؤكّد الأدبيات الإدارية — من CIPD إلى EFQM — أن الجدارة السلوكية تبدأ من القمة، وأن سلوك القيادة هو المرجع الأول الذي يحدّد مدى عمق التزام المؤسسة بقيمها.
ويمكن القول إن الجدارات السلوكية تمثّل اليوم القلب النابض لعمليات الحوكمة المؤسسية الحديثة، لأنها تُحقّق توازنًا دقيقًا بين البعد الأخلاقي والبعد الإداري للأداء. فهي تضمن أن الطريق إلى تحقيق الأهداف لا يقلّ أهميةً عن الأهداف نفسها، وتمنح المؤسسة القدرة على قياس "كيف" تحقق النجاح وليس فقط "كم" حققته من نتائج. وهذا التحول هو ما جعل الجدارات السلوكية عنصرًا محوريًا في معايير التميز العالمية مثل EFQM، التي ترى أن التميز يبدأ من القيم وينتهي بالسلوك الذي يُعبّر عنها باستمرار.
وفي المحصلة، يمكن القول إن الجدارات السلوكية هي الآلية التي تُعيد الحياة إلى القيم المؤسسية، وتجعلها قابلةً للقياس والتطوير، وتحوّلها من شعاراتٍ نظريةٍ إلى ممارساتٍ يوميةٍ حيّةٍ. إنها الجسر الذي يربط بين الفكر والعمل، بين المبادئ والنتائج، وبين الإنسان والنظام. فالمؤسسة التي تتبنى هذا النهج لا تحتاج إلى حملاتٍ إعلاميةٍ لتُثبت التزامها بالقيم، لأن سلوك موظفيها يُصبح الدليل الحي على ذلك، ولأن الأداء فيها يُقاس ليس فقط بما أُنجز، بل بالطريقة التي أُنجز بها.
4️⃣ تصنيف الجدارات السلوكية: من الجدارة الفردية إلى الجدارة القيادية 🧩
عندما ننتقل من الحديث عن مفهوم الجدارة السلوكية إلى تصنيفها، نجد أنفسنا أمام بناءٍ هرميٍّ معرفيٍّ وسلوكيٍّ يُشبه في تعقيده البنية التشريحية للكائن الحي؛ فكما تتكامل أجهزة الجسد لتصنع الحياة، تتكامل أنواع الجدارات السلوكية لتصنع الأداء المؤسسي المتكامل. فالسلوك المهني ليس وحدةً واحدةً يمكن قياسها بمعزلٍ عن غيرها، بل هو شبكةٌ من القدرات المتداخلة التي تمتد من المستوى الفردي إلى المستوى القيادي فالمؤسسي، بحيث تتفاعل فيما بينها لتولّد ثقافة الأداء الشامل. ومن هنا جاء تصنيف الجدارات السلوكية ليُعيد تنظيم هذا التداخل، وليقدّم إطارًا منهجيًا يساعد المؤسسة على فهم أنماط السلوك المطلوبة في كل مستوى، وعلى بناء برامج تطويرٍ تتناسب مع طبيعة الأدوار والمسؤوليات.
لقد اختلفت المدارس الإدارية في طريقة تصنيف الجدارات السلوكية، لكن أغلبها اتفقت على أن التصنيف يجب أن يُراعي تدرّج السلوك من البسيط إلى المركّب، ومن الفردي إلى الجماعي، ومن الإجرائي إلى الاستراتيجي. ومن أشهر النماذج التي رسّخت هذا التدرّج النموذج الصادر عن CIPD الذي يقسم الجدارات إلى أربع طبقاتٍ رئيسة: الجدارات الأساسية (Core Competencies)، والجدارات الوظيفية (Functional Competencies)، والجدارات الإدارية (Managerial Competencies)، والجدارات القيادية (Leadership Competencies). هذا التصنيف يعبّر عن رؤيةٍ متكاملةٍ للأداء الإنساني داخل المؤسسة، حيث يبدأ التميز من السلوك الفردي، ثم يتطور إلى مهارات التعامل مع الآخرين، ثم إلى القدرات الإشرافية، وأخيرًا إلى السلوك القيادي الذي يوجّه الثقافة التنظيمية بأكملها.
أولًا: الجدارة الفردية (Individual Behavioral Competencies).
وهي الجدارات التي تعبّر عن السلوكيات الشخصية التي تُظهر احترافية الفرد في أداء مهامه اليومية، وتشمل الالتزام، الانضباط، المبادرة، الإتقان، والمسؤولية الذاتية. وتُعدّ هذه الجدارات حجر الأساس لكل أداءٍ فعّال، لأنها تعبّر عن العلاقة بين الموظف وذاته، وعن مدى وعيه بمسؤولياته تجاه العمل. في المؤسسات التي تتبنى نظام إدارة الأداء، يُنظر إلى هذه الجدارات باعتبارها خط الدفاع الأول ضد الفوضى الإدارية، لأنها تُحدّد ما إذا كان الفرد قادرًا على تنظيم ذاته قبل أن ينخرط في العمل الجماعي. ولهذا تُقاس الجدارة الفردية عادةً من خلال مؤشراتٍ مثل الالتزام بالحضور والانضباط الزمني، جودة المخرجات، القدرة على التعلّم الذاتي، واستجابة الموظف للتغذية الراجعة. إنها الجدارة التي تصنع “الذات المهنية”، أي أن الإنسان في هذه المرحلة يتعلم كيف يكون مسؤولًا عن سلوكه دون الحاجة إلى إشرافٍ دائم.
ثانيًا: الجدارة التفاعلية (Interpersonal Behavioral Competencies).
وهي الجدارات التي تعبّر عن قدرة الفرد على العمل بفاعليةٍ ضمن فريق، وعلى التواصل والتعاون وبناء العلاقات المهنية القائمة على الاحترام والثقة المتبادلة. إنّ الموظف الذي يمتلك جداراتٍ تفاعليةً عاليةً هو الذي يُجيد الإصغاء، ويستطيع فهم وجهات النظر المختلفة، ويُعبّر عن آرائه بطريقةٍ بنّاءةٍ، ويُحافظ على التوازن بين الحزم والمرونة في علاقاته المهنية. وتُعتبر هذه الجدارات العمود الفقري للثقافة المؤسسية التعاونية، لأنها تُحوّل الأفراد من وحداتٍ منعزلةٍ إلى منظومةٍ منسجمةٍ تسعى لتحقيق الهدف المشترك. وفي هذا السياق، تؤكد الأدبيات الإدارية الحديثة — مثل إطار الجدارات الصادر عن SHRM — أن المؤسسات ذات الأداء العالي هي التي تُدرّب موظفيها على مهارات التواصل الفعّال، وإدارة الخلافات، وحل المشكلات ضمن روح الفريق. فالسلوك التفاعلي الإيجابي لا يُحسّن بيئة العمل فحسب، بل يُعزّز الإنتاجية ويُخفّف من مقاومة التغيير، لأنه يبني الثقة كعملةٍ تنظيميةٍ لا تُشترى ولا تُفرض.
ثالثًا: الجدارة التنظيمية (Organizational Behavioral Competencies).
في هذا المستوى، ينتقل السلوك من التركيز على العلاقات إلى التركيز على النظام. فالجدارة التنظيمية هي قدرة الموظف على فهم بيئة العمل بوصفها منظومةً متكاملةً من الأدوار والسياسات والإجراءات، والتصرّف بما يتّسق مع متطلباتها ومعاييرها. وهي تشمل الالتزام بالقوانين، احترام التسلسل الإداري، حماية المعلومات، الالتزام بأخلاقيات المهنة، والمساهمة في تطبيق نظم الجودة والتحسين المستمر. الموظف الجدير تنظيمياً هو الذي يدرك أن عمله جزءٌ من سلسلةٍ أكبر، وأن نجاحه الشخصي مرتبطٌ بسلامة النظام ككل. ولهذا تُعدّ هذه الجدارة من أكثر الجدارات تأثيرًا في مؤشرات الأداء المؤسسي، لأنها تمثّل الوعي الهيكلي الذي يجعل الأفراد يعملون بانسجامٍ مع النظام لا ضده. وفي التجارب الخليجية الحديثة، ربطت اللائحة السعودية للأداء الوظيفي هذه الجدارة بمفهوم “الالتزام المؤسسي”، وجعلت الالتزام بالأنظمة معيارًا سلوكيًا يُقاس في التقييم السنوي، لأن الأداء بلا انضباطٍ نظاميٍّ يُفقد المؤسسة اتساقها الداخلي.
رابعًا: الجدارة القيادية (Leadership Behavioral Competencies).
وهي قمة هرم الجدارات السلوكية، وتشمل السلوكيات التي تُمكّن القائد من إلهام الآخرين، وبناء الرؤية، واتخاذ القرارات الحكيمة، وتحفيز الأداء بروحٍ من العدالة والتمكين. القائد الجداراتي لا يُوجّه الناس بالأوامر بل بالقيم، ولا يفرض الانضباط بالرقابة بل بالقدوة، لأنه يدرك أن السلوك يُعلَّم بالمشاهدة أكثر مما يُعلَّم بالتلقين. ولهذا فإن المؤسسات التي تتبنى القيادة السلوكية تضع على رأس أولوياتها تطوير الجدارات القيادية في المستويات الإشرافية والمتوسطة، باعتبارها المسؤول الأول عن نقل الثقافة المؤسسية إلى أرض الواقع. ومن أبرز النماذج التي جسّدت هذا المفهوم نموذج “القيادة بالجدارات” المعتمد في النظام الإماراتي، والذي يُقيّم القادة بناءً على سلوكياتٍ محددةٍ مثل “القدرة على تحفيز الفريق”، “القيادة بالقدوة”، “اتخاذ القرار المسؤول”، و“تمكين الموظفين”. هذا النموذج جعل من الجدارة القيادية محورًا للحكم على فاعلية القائد، لأن القيادة في النهاية ليست منصبًا بل سلوكًا.
خامسًا: الجدارة المؤسسية التكاملية (Institutional Behavioral Competencies).
وهي المستوى الذي تتجاوز فيه الجدارة حدود الفرد والفريق والقائد لتُصبح جزءًا من هوية المؤسسة نفسها. هنا لا تُقاس الجدارة بسلوك الأشخاص فقط، بل بكيفية تفاعل النظام بأكمله مع بيئته الداخلية والخارجية. المؤسسة الجداراتية هي التي تُجسّد القيم في كل تفاصيلها الإجرائية، من طريقة استقبال المتعاملين إلى أسلوب اتخاذ القرارات العليا، وهي التي تجعل الأداء السلوكي ثقافةً عامةً لا استثناءً فرديًا. ويُعدّ هذا المستوى ذروة النضج في تطبيق الجدارات، لأنه يعني أن السلوك الجدير أصبح جزءًا من الحمض النووي التنظيمي للمؤسسة. وقد تجلّى هذا المستوى بوضوحٍ في النماذج الخليجية التي دمجت بين الجدارات والقيم الوطنية؛ ففي المملكة العربية السعودية، تُعتبر “المواطنة المؤسسية” إحدى الجدارات العليا التي تُقاس على مستوى الأجهزة الحكومية، وفي الإمارات تُقاس الجدارة المؤسسية من خلال مؤشر “الهوية الحكومية” الذي يُعنى بمدى تجسيد الموظفين للقيم الوطنية في سلوكهم اليومي.
إنّ هذا التصنيف الهرمي للجدارات السلوكية لا يُراد منه فصل المستويات عن بعضها، بل توضيح التداخل بينها، لأن الجدارة الحقيقية هي التي تنتقل من الذات إلى الفريق إلى النظام إلى القيادة دون انقطاع. فالموظف الذي لا يُتقن إدارة ذاته لا يمكن أن يُدير فريقًا بفاعلية، والقائد الذي لا يجسّد القيم في سلوكه لا يمكن أن يخلق ثقافةً مؤسسيةً قائمةً على الجدارة. لذلك تؤكد الممارسات العالمية — ومنها نموذج EFQM للتميز — أن تطوير الجدارات يجب أن يتم بطريقةٍ تكامليةٍ تُراعي هذا الترابط، بحيث يُصمَّم كل برنامجٍ تدريبيٍّ أو خطة تطويرٍ فرديةٍ لتعزيز التوازن بين المستويات الأربعة.
وعندما تُبنى الجدارة السلوكية بهذه الصورة التكاملية، تُصبح المؤسسة أكثر قدرةً على تحقيق الاتساق الداخلي، لأن السلوك في جميع المستويات يتجه نحو الهدف نفسه ويعكس القيم ذاتها. إنّ هذا التصنيف ليس مجرد إطارٍ تحليليٍّ، بل هو خريطةٌ عمليةٌ لتطوير الإنسان في العمل، تبدأ من الذات وتنتهي بالمؤسسة، وتمرّ عبر وعيٍ متدرّجٍ يجعل من السلوك لغةً مؤسسيةً تُوحّد الجميع في اتجاهٍ واحدٍ نحو التميز والاستدامة.
5️⃣ الجدارات السلوكية في النظام السعودي والإماراتي: قراءة تحليلية مقارنة 🏛️
حين نتأمل التجارب الخليجية المعاصرة في إدارة الأداء، نجد أن النظامين السعودي والإماراتي قدّما نموذجين رائدين في تحويل مفهوم “الجدارات السلوكية” من فكرةٍ نظريةٍ إلى ممارسةٍ مؤسسيةٍ منهجيةٍ، حتى أصبحت هذه الجدارات اليوم العمود الفقري لكل ما يتصل بقياس الأداء، وإدارة الكفاءات، وبناء القيادات، وتحقيق الاتساق بين الفرد والمؤسسة والدولة. وما يميّز هذين النموذجين أنهما لم يكتفيا باستيراد المفهوم من الأدبيات الإدارية الغربية، بل أعادا صياغته في إطارٍ ثقافيٍّ وقيميٍّ عربيٍّ وإسلاميٍّ يعكس الهوية الوطنية، ويستجيب في الوقت ذاته لمتطلبات الحوكمة والتميز المؤسسي الحديث.
في المملكة العربية السعودية، برزت الجدارات السلوكية بوصفها محورًا رئيسًا في الدليل الإرشادي للائحة إدارة الأداء الوظيفي لعام 1438هـ (2017م) الذي أصدرته وزارة الخدمة المدنية (وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية حاليًا). فقد نصّ الدليل بوضوحٍ على أن تقييم الموظف لا يُبنى فقط على ما حقّقه من نتائجٍ كميةٍ بل على سلوكه في أداء عمله، باعتبار أن السلوك هو المؤشر الحقيقي على وعي الموظف بقيم المرفق العام وانتمائه المؤسسي. ومن هنا جاءت فكرة "الجدارات السلوكية" لتكون الإطار الذي يُقاس به مدى التزام الموظف بالقيم الوطنية والمهنية. وحدّد الدليل أربعة محاور رئيسة تُترجم هذا الالتزام: الانضباط، الالتزام، التعاون، والإنتاجية، وهي جداراتٌ سلوكيةٌ متشابكةٌ تُظهر كيف يتصرّف الموظف تحت ضغط العمل، وكيف يحافظ على جودة الأداء مع الالتزام بالأنظمة والقيم المؤسسية.
وتوسّعت المملكة في هذا المفهوم عبر إطلاق إطار الكفاءات التخصصية والسلوكية الموحد للقطاع الحكومي (2020)، الذي يُعدّ من أكثر الوثائق التنظيمية تطورًا في المنطقة. فقد قسّم الإطار الجدارات إلى نوعين: “الجدارات التخصصية” المرتبطة بطبيعة الوظيفة، و“الجدارات السلوكية” التي تعبّر عن قيم الخدمة العامة وجودة السلوك التنظيمي. وأكّد الإطار أن الجدارة السلوكية لا تقتصر على الموظفين التنفيذيين بل تشمل جميع المستويات الوظيفية حتى القيادية العليا، لأن القيادة في جوهرها هي ممارسةٌ سلوكيةٌ تتطلب الاتزان والقدوة والمسؤولية الأخلاقية. كما نصّ الإطار على أن الجدارات السلوكية تُستخدم في جميع مراحل دورة الأداء: من التوظيف والاختيار، مرورًا بالحوار النصف سنوي، ووصولًا إلى التقييم السنوي، بحيث تُصبح هذه الجدارات خيطًا ناظمًا يربط بين جميع عمليات الموارد البشرية.
وتتميّز التجربة السعودية بأنها جعلت من الجدارات السلوكية أداةً لقياس القيمة الوطنية لا مجرد الأداء الفردي، إذ تُترجم هذه الجدارات مفهوم “المواطنة المؤسسية” إلى سلوكٍ يُمارس داخل المرفق العام. فالموظف الذي يتعامل بنزاهة، ويُظهر احترامًا للأنظمة، ويُقدّر وقت المراجع، ويُحافظ على سرية المعلومات، هو في الواقع يُجسّد روح الانتماء الوطني قبل أن يُنجز مهامه الإدارية. ولذلك أصبحت الجدارة السلوكية في النموذج السعودي ليست فقط معيارًا للتقييم بل وسيلةً لغرس القيم في السلوك الوظيفي، أي أنها تجمع بين الوظيفة التربوية والرقابية في آنٍ واحدٍ، مما يجعلها أداةً للتنمية قبل أن تكون أداةً للحكم.
أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد بلغت منظومة الجدارات السلوكية مستوىً متقدمًا من النضج المنهجي، إذ تبنّت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية (FAHR) نموذجًا شاملًا لإدارة الأداء الحكومي يُعرف بـ نظام إدارة الأداء الإلكتروني (EPMS)، والذي يقوم على فكرة “القيادة بالجدارات” (Leadership by Competencies). هذا النظام — الذي بدأ تطبيقه رسميًا في عام 2012 وتطوّر في دوراته اللاحقة — جعل الجدارات السلوكية محورًا مركزيًا في جميع مراحل دورة الأداء السنوية، بدءًا من تحديد الأهداف الفردية، ومرورًا بالحوار النصف سنوي، ووصولًا إلى التقييم السنوي وخطة التطوير الفردي (IDP).
في النظام الإماراتي، لا يُقاس الأداء فقط بالنتائج، بل تُقيّم الطريقة التي تم بها تحقيق هذه النتائج من خلال سلوك الموظف في بيئة العمل. فقد تم تحديد نموذج للجدارات السلوكية الأساسية يشمل ست جداراتٍ رئيسةٍ هي: التركيز على المتعاملين، العمل بروح الفريق، التواصل الفعّال، التفكير التحليلي والإبداعي، التعلّم المستمر، والالتزام بالتميز. ولكل جدارةٍ مستوياتٌ سلوكيةٌ محددةٌ تُبيّن ما يُتوقّع من الموظف في كل مستوى وظيفي — من الموظف المبتدئ إلى القائد التنفيذي — بحيث يمكن قياس التدرّج في النضج السلوكي بشكلٍ موضوعي. وهذه الجدارات لا تُعتبر مفاهيم أخلاقية فحسب، بل تُترجم إلى مؤشراتٍ أداءٍ سلوكيةٍ تُسجّل إلكترونيًا وتُستخدم في قرارات الترقية والتحفيز.
ما يميّز النموذج الإماراتي هو دمج الجدارات السلوكية في منظومةٍ متكاملةٍ تشمل التدريب، والتمكين، والتحفيز، والتميز المؤسسي. فكل تقييمٍ سلوكيٍّ يُنتج خطة تطويرٍ فرديةٍ (IDP) تُحدّد الفجوات السلوكية وتقترح برامج تدريبٍ مناسبةٍ لسدّها، مما يجعل النظام حلقةً متكاملةً من القياس والتحسين المستمر. كما أن النظام الإماراتي ربط الجدارات السلوكية بشكلٍ وثيقٍ بمنظومة جائزة الشيخ محمد بن راشد للتميز الحكومي، بحيث تُعتبر الجدارة السلوكية مكونًا رئيسًا في معايير التميز، خاصةً في محور القيادة والموارد البشرية، وهذا يعني أن الأداء السلوكي أصبح جزءًا من الثقافة الوطنية للتميز في الإمارات.
وعلى مستوى التطبيق العملي، يُظهر النموذج الإماراتي مرونةً كبيرةً في توظيف الجدارات السلوكية عبر الأدوات الرقمية، إذ تُدار العملية كاملةً عبر منصةٍ إلكترونيةٍ موحدةٍ تتيح للموظف والمدير تبادل التغذية الراجعة في الوقت الحقيقي، وتوثيق الملاحظات السلوكية بشكلٍ دوريٍّ بدلًا من الانتظار حتى نهاية العام. هذه الممارسة أسهمت في تعزيز الشفافية والعدالة، وجعلت السلوك المهني موضوعًا للحوار والتطوير المستمر بدلًا من كونه مصدرًا للتوتر أو الحكم.
وإذا عقدنا مقارنةً تحليليةً بين النظامين السعودي والإماراتي، نجد أن كليهما يشتركان في الرؤية الجوهرية ذاتها وهي أن السلوك يُعبّر عن القيم وأن الأداء الحقيقي لا يُقاس بالأرقام فقط، لكنهما يختلفان في زاوية التركيز والمنهج التطبيقي. فالنموذج السعودي يُركّز على الجدارات السلوكية بوصفها انعكاسًا للقيم الوطنية والمهنية ويمنحها بُعدًا تربويًا أخلاقيًا يعزّز الانضباط والالتزام والمسؤولية في الخدمة العامة، بينما النموذج الإماراتي يُركّز على الجدارات السلوكية بوصفها أداةً للتميز المؤسسي والتحسين المستمر ويمنحها بُعدًا ديناميكيًا قائمًا على التمكين والابتكار والقيادة بالقدوة.
الاختلاف الآخر بين النموذجين يتمثّل في البنية التقنية والتنظيمية؛ فالنظام الإماراتي يعتمد على منظومةٍ رقميةٍ موحدةٍ ذات إدارةٍ مركزيةٍ عاليةٍ، بينما ما يزال النظام السعودي في مرحلة الانتقال نحو التكامل الرقمي الكامل، وإن كان قد خطا خطواتٍ كبيرةً في هذا الاتجاه عبر منصة “مسار” التي توحّد إجراءات إدارة الأداء في الأجهزة الحكومية. كذلك يُلاحظ أن النموذج الإماراتي يميل إلى صياغة الجدارات بصيغةٍ إيجابيةٍ تركّز على السلوك المرغوب (مثل “التعاون”، “الابتكار”)، بينما يُعبّر النموذج السعودي عنها أحيانًا بصيغةٍ تنظيميةٍ أكثر انضباطًا (مثل “الالتزام”، “الانضباط”)، وهذا يعكس اختلافًا في المدرسة الإدارية بين “التمكين القيمي” و“الرقابة القيمية”، وكلاهما يُكمل الآخر في بناء السلوك المؤسسي المتوازن.
وفي النهاية، فإن كِلا النظامين يُشكّلان معًا ركيزتين متكاملتين لبناء نموذجٍ خليجيٍّ متقدّمٍ في إدارة الأداء، يقوم على جعل الجدارات السلوكية لغةً موحّدةً للتعامل بين الإنسان والمؤسسة، وبين الفرد والدولة. لقد قدّمت السعودية نموذج الجدارة باعتبارها التزامًا ومسؤوليةً وطنية، وقدّمت الإمارات نموذجها باعتبارها ثقافةً للتميز والتحفيز، وبين النموذجين يتجلّى التكامل الذي يصنع ما يمكن أن نُسمّيه بـ “الهوية السلوكية الخليجية في إدارة الأداء”؛ هويةٌ تُجسّد القيم في الممارسة، وتُحوّل العمل الإداري إلى رسالةٍ أخلاقيةٍ وإنسانيةٍ تسعى للتميز المستدام.
6️⃣ قياس الجدارات السلوكية: من الملاحظة إلى النمذجة 📊
يُعدّ قياس الجدارات السلوكية من أدقّ وأعمق مراحل إدارة الأداء، لأنه يتعامل مع ظاهرةٍ إنسانيةٍ متحركةٍ وغير ملموسةٍ بطبيعتها، وهي السلوك الإنساني في سياقه العملي. فبينما يمكن قياس الإنتاجية بالأرقام، والجودة بالمؤشرات، فإن السلوك لا يُقاس إلا بالفهم العميق، والتحليل المنهجي، والقدرة على تحويل الظواهر السلوكية إلى أنماطٍ قابلةٍ للرصد والمقارنة. لذلك، كان هذا الجانب هو ما يميز المؤسسات الناضجة إداريًا عن غيرها، لأنه يكشف مستوى وعيها بعمق العلاقة بين الأداء والإنسان، وبين النتائج والقيم.
إنّ السلوك في جوهره ليس حدثًا عابرًا، بل هو استجابةٌ لموقفٍ، وهذه الاستجابة تتكرّر وتتبلور لتُصبح نمطًا متكررًا يُعبّر عن الجدارة. ومن هنا، فإن قياس الجدارات السلوكية ليس عملية جمع بياناتٍ آنية، بل هو تحليلٌ متراكمٌ للسلوك عبر الزمن يهدف إلى اكتشاف الاتجاهات الثابتة التي تُظهر كيف يفكّر الموظف ويتصرّف في المواقف المختلفة. فالموظف الذي يتصرّف باحترامٍ وتعاونٍ في موقفٍ واحدٍ قد يكون مجتهدًا، أما الذي يُكرّر هذا السلوك في المواقف كلها فهو “جديرٌ سلوكيًا”، لأن الجدارة تُقاس بالثبات والاستمرارية والوعي لا بالصدفة أو الانفعال اللحظي.
ولأن السلوك ظاهرةٌ معقدةٌ متعددة الأبعاد، فإن قياسه يتطلّب أدواتٍ علميةٍ ومنهجياتٍ دقيقةٍ تجمع بين الملاحظة، والتحليل، والنمذجة. وقد تطوّر هذا المجال بشكلٍ كبيرٍ خلال العقود الأخيرة، حتى أصبحت المؤسسات الحديثة تستخدم نماذج تقييمٍ سلوكيٍّ متقدّمةٍ تستند إلى معايير عالميةٍ مثل BARS (Behaviorally Anchored Rating Scale) و360° Feedback وBEI (Behavioral Event Interviews)، إضافةً إلى نظم التقييم الإلكتروني التي تُحوّل الملاحظات السلوكية إلى بياناتٍ رقميةٍ قابلةٍ للتحليل والتنبؤ.
أولًا: الملاحظة المنظمة كأساسٍ للقياس السلوكي.
تُعتبر الملاحظة المنظمة (Structured Observation) نقطة البداية في قياس الجدارات السلوكية، لأنها تُتيح للمقيم أن يراقب السلوك الفعلي للموظف في سياق العمل، دون الاكتفاء بالتصورات أو الانطباعات. وهي تختلف عن الملاحظة العفوية لأنها تقوم على معايير محددةٍ مسبقًا، تُحدّد السلوكيات المرغوبة وغير المرغوبة لكل جدارةٍ، بحيث يُسجّل المقيم ما يراه فعليًا من تصرفاتٍ، ثم يُقارنها بالمستويات المرجعية الموضوعة في الإطار الجداراتي للمؤسسة. هذه الطريقة تضمن موضوعيةً أكبر، لأنها تُقلّل من التحيّز الشخصي، وتجعل الحكم مبنيًا على أدلةٍ سلوكيةٍ ملموسةٍ.
في المؤسسات الحكومية السعودية والإماراتية، تُستخدم هذه المنهجية بشكلٍ رسميٍّ في الحوار النصف سنوي بين المدير والموظف، حيث يتم استعراض أمثلةٍ محددةٍ من السلوك الفعلي خلال الفترة الماضية، ومناقشتها بطريقةٍ بنّاءةٍ لتحديد نقاط القوة وفرص التحسين. فمثلًا، عند تقييم جدارة “العمل الجماعي”، لا يُسأل الموظف عما إذا كان “يتعاون”، بل يُطلب من المقيم أن يذكر مواقف محددةٍ أظهر فيها الموظف تعاونًا أو عزوفًا عنه، ليكون التقييم مبنيًا على وقائعٍ لا انطباعات. وهذا النهج يُحوّل القياس من “حكمٍ” إلى “حوار”، ومن “نقدٍ” إلى “تغذيةٍ راجعةٍ بنّاءةٍ”.
ثانيًا: مقياس السلوك المعياري (BARS).
يُعدّ هذا النموذج من أكثر الأدوات العلمية دقةً في قياس الجدارات السلوكية، لأنه يجمع بين الكمّ والكيف، أي بين التقييم الرقمي والوصف السلوكي. يقوم المقياس على تحديد مجموعةٍ من السلوكيات المعيارية التي تُعبّر عن مستويات الأداء المختلفة في كل جدارةٍ. فعلى سبيل المثال، تُعرّف الجدارة “التواصل الفعّال” في مقياس BARS بخمس درجاتٍ تصف كلٌّ منها سلوكًا واقعيًا:
- 
	الدرجة 1: يُظهر سلوكًا دفاعيًا، ولا يُصغي للآخرين. 
- 
	الدرجة 2: يُشارك المعلومات دون التأكد من فهمها. 
- 
	الدرجة 3: يُعبّر بوضوحٍ، ويُظهر احترامًا للرأي المخالف. 
- 
	الدرجة 4: يُكيّف أسلوبه وفق الموقف. 
- 
	الدرجة 5: يُلهم الآخرين عبر تواصله ويؤثر إيجابيًا فيهم. 
 هذه المنهجية تمنح القياس موضوعيةً عاليةً لأنها تُحدّد السلوك المتوقع بدقةٍ، وتُقلّل مساحة التقدير الشخصي. وقد اعتمدت كثيرٌ من الوزارات والهيئات الخليجية هذا النموذج، لأنه يربط بين الجدارة والسلوك المرصود فعليًا، ويُقدّم لغةً معياريةً موحّدةً لجميع المقيمين.
ثالثًا: التغذية الراجعة 360 درجة (360° Feedback).
تمثّل هذه الأداة واحدةً من أكثر الأساليب شمولًا وعدالةً في تقييم الجدارات السلوكية، لأنها تُقيّم الفرد من زوايا متعددةٍ: رئيسه المباشر، زملاؤه، مرؤوسوه، وحتى المتعاملون معه في بعض الحالات، إضافةً إلى تقييم الذات. هذا التعدد في مصادر التقييم يُنتج صورةً ثلاثية الأبعاد عن السلوك الفعلي للموظف، ويُقلّل من تحيّز مصدرٍ واحدٍ. فالموظف قد يُظهر سلوكًا إيجابيًا أمام مديره فقط، لكن تقييم زملائه ومرؤوسيه قد يُظهر جانبًا آخر من أدائه اليومي. كما أن المقارنة بين تقييم الذات وتقييم الآخرين تكشف درجة الوعي الذاتي، وهي جدارةٌ سلوكيةٌ بحد ذاتها. وتُستخدم هذه الأداة على نطاقٍ واسعٍ في المؤسسات الإماراتية، خصوصًا في تقييم القيادات، لأنها تُبرز مدى تأثير القائد في الآخرين وليس فقط قدرته على إنجاز المهام.
رابعًا: المقابلات الجداراتية السلوكية (BEI).
هذا الأسلوب يعتمد على المقابلات المتعمقة التي تهدف إلى استكشاف كيفية تصرف الموظف في مواقفٍ حقيقيةٍ سابقةٍ. تُطرح عليه أسئلةٌ محددةٌ مثل: “احكِ لي عن موقفٍ واجهت فيه تحديًا في العمل، ماذا فعلت؟ ولماذا اخترت هذا التصرف؟ وما النتيجة؟” ثم تُحلَّل الإجابات لاستخلاص السلوكيات الأساسية التي قادت إلى النتيجة. هذه الطريقة تكشف ليس فقط عن السلوك الظاهر، بل عن المنظومة العقلية والوجدانية التي تُحرّكه، أي أنها تقيس الجدارة من جذورها. ولذلك تُستخدم عادةً في اختيار القادة أو في تقييم الكفاءات الحرجة التي تتطلب وعيًا ذاتيًا مرتفعًا. وقد استخدمت الإمارات والسعودية هذا الأسلوب في برامج القيادات العليا، ضمن مبادرات بناء القيادات الوطنية.
خامسًا: النمذجة السلوكية والتحليل الرقمي.
مع تطوّر الذكاء الاصطناعي والتحليلات المتقدمة، بدأت المؤسسات تستخدم أدواتٍ رقميةٍ لتحليل السلوك بناءً على البيانات التفاعلية، مثل تحليل البريد الإلكتروني، أو مراقبة أنماط التواصل والتفاعل على المنصات الداخلية، بهدف فهم الثقافة السلوكية السائدة. هذه النماذج لا تُستخدم للمراقبة، بل لتقديم تحليلاتٍ تنبؤيةٍ حول مستوى التعاون أو الروح المعنوية أو ثقافة الثقة داخل الفرق. وهي تتماشى مع معايير ISO 30414 التي تشجع على قياس رأس المال البشري بشكلٍ كميٍّ ونوعيٍّ معًا.
سادسًا: المعايرة المؤسسية لضمان العدالة.
لكي يكون القياس السلوكي عادلًا، لا بد من وجود عمليةٍ مؤسسيةٍ تُعرف بالمعايرة (Calibration)، وهي جلساتٌ دوريةٌ يجتمع فيها المقيمون لمناقشة نتائج التقييمات السلوكية ومقارنتها لتصحيح التفاوتات في المعايير الشخصية. فبعض المديرين قد يُقيمون موظفيهم بسخاءٍ، وآخرون بتشدّدٍ، والمعايرة تضمن أن الجدارة السلوكية تُقاس بمعيارٍ واحدٍ عبر المؤسسة كلها. وهذا الإجراء أصبح ممارسةً إلزاميةً في الوزارات الإماراتية الكبرى مثل وزارة الموارد البشرية والتوطين، وفي بعض الأجهزة السعودية التي تطبّق لائحة الأداء.
إنّ أهمية قياس الجدارات السلوكية لا تكمن فقط في الحصول على نتائجٍ رقميةٍ، بل في ما تتيحه من تغذيةٍ راجعةٍ تنمويةٍ تُسهم في بناء ثقافة التعلّم المستمر. فالتقييم ليس غايةً، بل وسيلةٌ لفتح حوارٍ بنّاءٍ بين المدير والموظف حول كيفية تحسين السلوك المهني. وكلما كان القياس دقيقًا وموضوعيًا، كان التطوير أكثر فاعليةً وعدالةً. إنّ المؤسسة التي تُحسن قياس الجدارات السلوكية هي في الواقع تُحسن فهم الإنسان نفسه، لأنها تُدرك أن السلوك هو البوصلة التي تُظهر الاتجاه الحقيقي للأداء، وأن الأرقام بلا سلوكٍ ناضجٍ تبقى ناقصة المعنى.
7️⃣ تطوير الجدارات السلوكية عبر التدريب والتغذية الراجعة والتوجيه المؤسسي 🧭
إذا كان قياس الجدارات السلوكية هو أداةُ الفهم، فإن تطويرها هو أداةُ البناء، وهو المرحلة التي تتحوّل فيها البيانات إلى وعي، والوعي إلى ممارسة، والممارسة إلى ثقافةٍ مؤسسيةٍ حيةٍ. فالمؤسسات الرائدة لا تكتفي بتشخيص الجدارات السلوكية، بل تسعى إلى تطويرها على نحوٍ منهجيٍّ مستدامٍ، يجعلها جزءًا من الرحلة المهنية للموظف، لا حدثًا عابرًا في دورة الأداء. إنّ تطوير الجدارة السلوكية هو عمليةٌ تعليميةٌ مستمرةٌ، تُعيد تشكيل السلوك من الداخل، وتربط بين التدريب والتغذية الراجعة والتوجيه المهني في منظومةٍ واحدةٍ متكاملةٍ تهدف إلى تحقيق النضج المهني والاتزان السلوكي.
إنّ تطوير الجدارة السلوكية يختلف جوهريًا عن تطوير المهارة الفنية. فالمهارة تُنمّى بالتكرار والممارسة، أما الجدارة فتُبنى بالوعي، بالتجربة، وبالتفاعل مع الآخرين. ولهذا فإنّ المنهج الجداراتي في التدريب يقوم على مبدأ “التعلّم السلوكي التفاعلي”، الذي لا يهدف إلى نقل المعرفة فقط، بل إلى إحداث تغييرٍ في طريقة التفكير واتخاذ القرار والتفاعل مع المواقف. فالموظف الذي يتلقى تدريبًا على مهارةٍ مثل “إدارة الوقت” قد يتعلّم أدوات التنظيم، لكن الموظف الذي يتدرّب على “الالتزام والمسؤولية” يكتسب وعيًا جديدًا تجاه قيمة الوقت ومعناه في الأداء، وهذا هو جوهر الجدارة السلوكية.
أولًا: التدريب الجداراتي (Competency-Based Training).
في المؤسسات الحديثة، يُصمَّم التدريب بناءً على الفجوات السلوكية المكتشفة من خلال تقييم الأداء، بحيث لا يكون التدريب عامًا أو عشوائيًا، بل موجّهًا لتطوير سلوكياتٍ محددةٍ تتعلق بالجدارات الأساسية للمؤسسة. فعلى سبيل المثال، إذا أظهرت نتائج التقييم ضعفًا في جدارة “التواصل الفعّال”، فإنّ خطة التدريب الفردية (IDP) ستتضمن برنامجًا خاصًا في “الاستماع النشط، والذكاء العاطفي في الحوار، وإدارة النقاشات المهنية”، لأنّ هذه المهارات تُعتبر اللبنات العملية للجدارة. هذا النوع من التدريب يجعل التطوير السلوكي قابلًا للقياس والتحقق، لأنه يُحوّل الجدارة إلى وحداتٍ تدريبيةٍ واضحةٍ تُعالج جانبًا محددًا من السلوك.
ويتميّز التدريب الجداراتي بأنه تفاعليٌّ بالضرورة، إذ لا يمكن تنمية السلوك في بيئةٍ نظريةٍ جامدةٍ، بل عبر الممارسة والتغذية الراجعة المستمرة. ولهذا تُستخدم في هذه البرامج أساليب مثل تمثيل الأدوار (Role Play)، ودراسات الحالة (Case Studies)، والعصف الذهني الجماعي، والمحاكاة الواقعية لمواقف العمل. ومن خلال هذه الأنشطة، يُتاح للموظف أن يختبر سلوكه في مواقفٍ قريبةٍ من الواقع، وأن يُعيد تشكيل استجاباته على نحوٍ أكثر وعيًا واتزانًا.
ثانيًا: التغذية الراجعة (Feedback) كأداةٍ للتحوّل السلوكي.
لا يمكن تطوير الجدارة السلوكية دون نظامٍ فعّالٍ للتغذية الراجعة، لأن السلوك لا يتغيّر إلا حين يُدرِك صاحبه أثره. فالتغذية الراجعة تُشكّل المرآة التي يرى فيها الموظف نفسه كما يراه الآخرون، وهي الأداة التي تُحوّل الملاحظة إلى وعيٍ، والوعي إلى تعديلٍ للسلوك. ولكن ليست كل تغذيةٍ راجعةٍ فعالة؛ فالتغذية الراجعة الناقدة أو المنحازة قد تُنتج مقاومةً بدلًا من التغيير، بينما التغذية الراجعة البنّاءة القائمة على الاحترام والثقة تُحفّز النموّ الذاتي.
ولهذا فإن المؤسسات الجداراتية الحديثة — مثل الوزارات والهيئات الإماراتية التي تطبّق نظام EPMS — تبنّت مفهوم “الحوار التطويري المستمر” بدلًا من “المراجعة السنوية”، بحيث يُصبح التواصل حول السلوك عمليةً مستمرةً لا مؤقتة. ويُشجَّع المدير على أن يُقدّم ملاحظاته السلوكية أولًا بأول بطريقةٍ بنّاءةٍ، تُركّز على الفعل لا على الشخص، وعلى المستقبل لا على الماضي، وعلى الحلول لا على الأخطاء. فبدلًا من أن يقول المدير لموظفه “أنت لا تتعاون”، يمكنه أن يقول “سيُساعد الفريق أكثر إذا شاركتهم المعلومة منذ البداية”. هذه الطريقة تُحوّل النقد إلى توجيه، وتُعيد بناء الثقة التي تجعل التطوير ممكنًا.
إنّ التغذية الراجعة في المؤسسات الجداراتية ليست حدثًا إداريًا، بل ثقافةٌ قائمةٌ على مبدأ “وثق ثم اثق”، أي التوثيق أولًا للحفاظ على العدالة، ثم الثقة المتبادلة لضمان الفاعلية. ولذلك تُسجّل الملاحظات السلوكية في أنظمة الأداء الإلكترونية — مثل منصة “مسار” في السعودية أو نظام EPMS في الإمارات — ليُصبح التطوير عمليةً مستمرةً قائمةً على البيانات لا على الانطباعات. وهكذا يتحوّل القياس إلى مرجعٍ للتعلّم، وتتحوّل التغذية الراجعة إلى أداةٍ لبناء وعيٍ سلوكيٍّ ناضجٍ لدى الجميع.
ثالثًا: التوجيه المؤسسي (Coaching and Mentoring).
يُعدّ التوجيه أحد أعظم أدوات تطوير الجدارات السلوكية، لأنه يُوفّر علاقةً إنسانيةً تربط بين الخبرة والوعي، بين القائد والموظف، بين القدوة والمقتدي. فالقائد الذي يمارس التوجيه لا يقدّم التعليمات، بل يُساعد موظفيه على اكتشاف إمكاناتهم، وفهم سلوكهم، وتصحيح مسارهم بوعيٍ ذاتيٍّ. التوجيه هنا ليس رقابةً ولا محاسبةً، بل حوارٌ مستمرٌ حول السلوك والنتائج والمعاني. ولهذا يُقال إنّ القائد في المؤسسة الجداراتية هو “مرشدٌ سلوكيٌّ” أكثر منه “رئيسٌ إداريٌّ”.
في النماذج الخليجية الحديثة، أصبح التوجيه المؤسسي جزءًا أصيلًا من إدارة الأداء. ففي الإمارات، تُخصّص مؤسسات الحكومة جلسات “توجيهٍ وتغذيةٍ راجعةٍ” خلال الدورة السنوية للأداء، يكون فيها القائد بمثابة مدرّبٍ داخليٍّ يُساعد موظفيه على بناء خطط التطوير السلوكي. وفي السعودية، تُشجّع اللائحة على مبدأ “الاجتماع الدوري للحوار حول الأداء” كإطارٍ لتبادل التوجيه البنّاء. هذه الجلسات ليست مجرّد إجراءاتٍ شكلية، بل هي مساحاتٌ لتعلّمٍ حقيقيٍّ تُحوّل العلاقات الإدارية إلى علاقاتٍ تنمويةٍ تُغرس فيها قيم الثقة والتمكين.
رابعًا: الدمج بين التدريب والتغذية الراجعة والتوجيه في منظومةٍ واحدة.
المنهج الجداراتي الحديث لم يعد يفصل بين التدريب والتقييم والتطوير، بل يوحّدها في دورةٍ واحدةٍ مستمرةٍ تُعرف بـ “دورة التطوير الجداراتي” (Competency Development Cycle). تبدأ الدورة بتقييم الأداء لتحديد الفجوات السلوكية، ثم تُصمَّم برامج التدريب لمعالجة تلك الفجوات، وبعدها تُستخدم التغذية الراجعة والتوجيه لمتابعة التحوّل السلوكي حتى يترسّخ في الواقع. وعندما يُلاحظ المدير تغيّرًا إيجابيًا في السلوك، يُوثّق هذا التقدّم في نظام الأداء ليُصبح دليلًا على نموّ الجدارة. هذه الدورة تُحوّل المؤسسة إلى نظامٍ تعلّميٍّ حيٍّ يتغذّى على ذاته، ويُطوّر سلوك أفراده بشكلٍ متصلٍ ومستدامٍ.
خامسًا: الثقافة المؤسسية الداعمة للتطوير السلوكي.
لا يمكن لأي برنامجٍ تدريبيٍّ أو توجيهيٍّ أن يُحقّق أثرًا ما لم يكن محاطًا بثقافةٍ مؤسسيةٍ تشجّع على التعلّم والتغذية الراجعة والمساءلة البنّاءة. فالمؤسسة التي تُخيف موظفيها من الخطأ لا يمكن أن تُنمّي فيهم وعيًا سلوكيًا، لأن الوعي لا ينمو إلا في بيئةٍ آمنةٍ تُتيح للإنسان أن يجرّب ويتأمل ويتعلّم. ولهذا تُشدّد النماذج العالمية مثل EFQM على بناء بيئة “التعلّم التنظيمي” التي تجعل كل تجربةٍ فرصةً للتحسين، وتُحوّل الخطأ إلى مصدرٍ للمعرفة. إنّ تطوير الجدارة السلوكية يحتاج إلى ثقافةٍ تشجع على الصراحة، وتحترم الإنسان، وتُقدّر الجهد، وتؤمن بأن السلوك الإيجابي لا يُفرض بل يُغذّى.
وفي ضوء هذه المنظومة التكاملية، يمكن القول إنّ تطوير الجدارات السلوكية ليس مشروعًا تدريبيًا مؤقتًا، بل هو رحلةٌ طويلةٌ من الوعي والتحوّل يعيشها الفرد داخل المؤسسة، تبدأ بالتقييم، وتنضج بالتغذية الراجعة، وتستمر بالتوجيه، وتُترجم إلى ممارساتٍ تُصبح جزءًا من شخصيته المهنية. وكلما دعمت المؤسسة هذه الرحلة بالقدوة القيادية والثقافة التعليمية، اقتربت من تحقيق ما يمكن أن نُسميه “التمكين السلوكي”، أي الحالة التي يُصبح فيها السلوك الإيجابي تلقائيًا نابعًا من الداخل لا مفروضًا من الخارج.
وفي النهاية، فإنّ المؤسسة التي تُدير تطوير الجدارات السلوكية بهذه الطريقة المتكاملة تُدير في الحقيقة بناء الإنسان ذاته، لأنها تُعيد تشكيل علاقته بعمله، وبقيمه، وبزملائه، وبذاته. فهي لا تُعلّمه فقط كيف يُنجز، بل تُعلّمه كيف يُنجز بوعيٍ وأخلاقٍ ومسؤولية. وهذه هي الغاية العليا لكل منظومةٍ تسعى إلى التميز والاستدامة: أن تجعل السلوك مرآةً للقيمة، والقيمة طريقًا نحو الأداء المتوازن الذي يخدم الإنسان والمؤسسة والمجتمع في آنٍ واحد.
8️⃣ الجدارات السلوكية كجسرٍ بين الإنسان والنظام والتميز المؤسسي 🌿
في نهاية هذه الرحلة الفكرية الممتدة عبر مفهوم الجدارات السلوكية، من تعريفها وتطورها وتصنيفها وقياسها وتطويرها، نصل إلى لحظة التأمل الكبرى التي يُفترض فيها أن نعيد النظر في العلاقة بين الإنسان والنظام، بين القيمة والسلوك، وبين الفرد والمؤسسة. فالسؤال الجوهري الذي يواجه كل منظمةٍ ناضجةٍ في القرن الحادي والعشرين ليس كيف ترفع مؤشرات الأداء فقط، بل كيف تُحوّل الأداء إلى ثقافةٍ حيةٍ تربط بين الأخلاق والمهنية، وبين الفاعلية والوعي، وبين التميز والإتقان. وهنا تتجلّى الجدارات السلوكية كجسرٍ معرفيٍّ وإنسانيٍّ يصل بين عالمين مختلفين ظاهريًا ومتحدين جوهريًا: عالم الإنسان بما فيه من عواطفٍ ودوافعٍ وقيمٍ، وعالم النظام بما فيه من لوائح وإجراءات ومؤشرات.
لقد أثبتت التجربة الإدارية الحديثة أن الأداء المؤسسي لا يمكن أن يُبنى على النظام وحده، كما لا يمكن أن يُبنى على الإنسان وحده. فالنظام بلا سلوكٍ إنسانيٍّ واعٍ يتحوّل إلى بيروقراطيةٍ جامدةٍ، والإنسان بلا نظامٍ منضبطٍ يتحوّل إلى فوضى عاطفيةٍ غير منتجةٍ. ومن هنا جاء مفهوم الجدارة السلوكية ليكون لغة التوازن بين النظام والإنسان، فهو يجعل القيم متجسدةً في السلوك، ويجعل اللوائح ممتدةً في الوعي، ويُحوّل الالتزام من إكراهٍ خارجيٍّ إلى انضباطٍ داخليٍّ. إنّ الموظف الجدير سلوكيًا لا يحتاج إلى من يذكّره بالواجب، لأنه يرى في أداء الواجب قيمةً في ذاته، وهذا هو الفرق بين المؤسسة التي تُدار باللوائح والمؤسسة التي تُدار بالقيم.
في هذا السياق، تُعتبر الجدارات السلوكية هي “نظام القيم العملي”، أي المنظومة التي تترجم المبادئ الأخلاقية والمهنية إلى أفعالٍ ملموسةٍ قابلةٍ للقياس والتطوير. فهي تجعل العدالة التنظيمية واقعًا، لأنها تُوحّد معايير التقييم على الجميع دون تمييزٍ أو تحيّزٍ. وتجعل القيادة بالقدوة ممكنةً، لأنها تُعرّف السلوك القيادي بمعايير محددةٍ لا بالتصورات الشخصية. وتجعل ثقافة المؤسسة شفافةً، لأنها تُحوّل القيم المعلنة إلى ممارساتٍ يوميةٍ تُرى وتُقاس. ومن هنا، فإنّ الجدارة السلوكية ليست فقط مكوّنًا من مكونات الأداء، بل هي الروح التي تمنح النظام حياةً والمعايير معنىً.
وإذا نظرنا إلى العلاقة بين الجدارات السلوكية والتميز المؤسسي، نجد أنها علاقة جوهرية لا تكميلية. فكل نموذجٍ عالميٍّ في التميز — من EFQM الأوروبي إلى Baldrige الأمريكي إلى KAFAA الخليجي — يجعل السلوك المؤسسي جزءًا من معايير القيادة والموارد البشرية والثقافة التنظيمية. لأن التميز لا يُقاس فقط بما تُحققه المؤسسة من نتائجٍ ماليةٍ أو إنتاجيةٍ، بل بما تُحققه من نضجٍ سلوكيٍّ في التعامل مع الإنسان والمجتمع والبيئة. ولهذا تُعتبر الجدارات السلوكية هي المعيار الخفيّ الذي يُحدّد مستوى نضج المؤسسة، حتى لو لم يُذكر في التقارير. فالمؤسسة التي تتعامل باحترامٍ وعدالةٍ مع موظفيها وشركائها، وتُقدّر الإنسان كغايةٍ قبل أن يكون وسيلةً، تُجسّد التميز الحقيقي وإن لم تنل جائزةً رسمية.
إنّ إدماج الجدارات السلوكية في منظومة الأداء المؤسسي يُحدث أثرًا عميقًا يتجاوز حدود العمل الإداري، لأنه يُعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمؤسسة على أساسٍ من الثقة والمسؤولية المتبادلة. فعندما يشعر الموظف أن سلوكه الإيجابي يُقدَّر ويُقاس ويُكافأ بعدلٍ، فإنه يتحوّل من مُنفّذٍ إلى شريكٍ، ومن موظفٍ ينتظر التوجيه إلى عضوٍ فاعلٍ في منظومة التطوير المستمر. وفي المقابل، عندما تُدرك المؤسسة أن سلوكها كمنظومةٍ يُراقب ويُقيّم بقدر ما يُراقب سلوك الأفراد، فإنها تُصبح أكثر حرصًا على العدالة والشفافية والتكامل. وهكذا تُصبح الجدارة السلوكية عقدًا أخلاقيًا غير مكتوبٍ بين الطرفين، يُنظّم التفاعل دون الحاجة إلى فرضٍ أو تهديدٍ، لأنه يقوم على الوعي المتبادل لا على السيطرة.
لقد تجاوزت المؤسسات المتقدمة اليوم مرحلة “إدارة السلوك” إلى مرحلة “تمكين السلوك”، أي أنها لم تعد تُعامل السلوك كعنصرٍ يجب ضبطه، بل كقيمةٍ يجب تمكينها. فالسلوك الإيجابي لا يُخلق بالتعليمات، بل بالثقة، ولا يُستدام بالرقابة، بل بالقدوة. ولهذا فإنّ دور القيادة في عصر الجدارات السلوكية لم يعد فقط في وضع الأهداف أو مراقبة المؤشرات، بل في بناء بيئةٍ تُحرّك الدوافع الأخلاقية لدى الأفراد وتُتيح لهم ممارسة قيم المؤسسة بحريةٍ ومسؤوليةٍ. القائد الجداراتي هو الذي يُحوّل كل موقفٍ يوميٍّ إلى درسٍ سلوكيٍّ في المهنية والإنسانية، ويجعل كل تفاعلٍ فرصةً لترسيخ ثقافة التميز بالجدارة.
ومن منظورٍ فلسفيٍّ أعمق، يمكن القول إنّ الجدارات السلوكية تمثّل التحوّل من الإدارة إلى القيادة، ومن المراقبة إلى الوعي، ومن النظام المغلق إلى النظام الحيّ. فهي تجعل المؤسسة كائنًا اجتماعيًا يتعلّم ويتكيّف وينضج، لا آلةً ميكانيكيةً تُنتج الأوامر والنتائج. والمؤسسات التي بلغت هذا المستوى من النضج تدرك أن السلوك ليس مجرّد وسيلةٍ لتحقيق الهدف، بل هو في ذاته هدفٌ حضاريٌّ يعكس إنسانية العمل وكرامة الإنسان. فالجدارة السلوكية في جوهرها ليست سلوكًا إداريًا فحسب، بل هي أخلاقٌ مُقنَّنةٌ، ووعيٌ مؤسسيٌّ مُنظَّمٌ، يضمن أن تبقى القيم فاعلةً حتى داخل أكثر الأنظمة تعقيدًا.
وختامًا، حين نضع الجدارات السلوكية في موقعها الطبيعي كجسرٍ بين الإنسان والنظام، فإننا نعيد تعريف الأداء ذاته، لا بوصفه مجموعةً من المؤشرات، بل منظومةً من القيم المتجسدة في السلوك. فالمؤسسة التي تُقيم أداءها بالأرقام فقط قد تعرف كم أنجزت، لكنها لا تعرف كيف أنجزت، ولا لماذا. أما المؤسسة الجداراتية، فهي تعرف أن المعنى أهم من العدد، وأن الطريقة جزءٌ من النتيجة، وأنّ التميز الحقيقي لا يتحقق إلا حين يتطابق سلوك الإنسان مع قيم المؤسسة، ويتناغم النظام مع ضمير العاملين فيه. وعندها فقط يُصبح الأداء المؤسسي حالةَ وعيٍ جماعيةٍ لا مجرد عمليةٍ إداريةٍ، ويُصبح الإنسان محورًا للنظام لا تابعًا له، ويُصبح النظام حارسًا للقيم لا سجنًا للسلوك، ويُولد التميز المؤسسي بوصفه ثمرةَ وعيٍ إنسانيٍّ راقٍ لا مجرد حصيلةِ جهدٍ تنظيميٍّ متقن.
🔶 الخاتمة:
الجدارات السلوكية بوصفها وعيًا مؤسسيًا متجسدًا، وطريقًا للتحول من الأداء الموجّه إلى الأداء الواعي
حين نصل إلى نهاية هذه الرحلة العلمية والتحليلية حول "الجدارات السلوكية في الأداء: من القيم إلى الممارسة اليومية"، نجد أنفسنا أمام حقيقةٍ محوريةٍ تتجاوز نطاق الموارد البشرية لتبلغ عمق الفلسفة الإدارية ذاتها، وهي أن السلوك ليس عنصرًا تابعًا للأداء بل هو صورته الحقيقية. إنّ الجدارة السلوكية ليست برنامجًا تدريبيًا يُدرّس، ولا بندًا في استمارة التقييم يُملأ، بل هي منظومة الوعي التي تُعبّر من خلالها المؤسسة عن إنسانيتها، وتترجم قيمها إلى فعلٍ يوميٍّ منضبطٍ بالمعنى قبل أن يُضبط بالإجراء.
لقد أثبتت التجارب الخليجية والسعودية والإماراتية، ومعها الممارسات العالمية الرصينة في مؤسسات مثل CIPD وSHRM وEFQM وISO 30414، أن التميز المؤسسي لا يتحقق فقط من خلال الأنظمة أو الهياكل، بل من خلال السلوك الجمعي الواعي الذي يُعبّر عن قيم المؤسسة في واقعها العملي. فكل وثيقةٍ تنظيميةٍ مهما بلغت دقتها تبقى نصًّا جامدًا ما لم يُفعّلها الإنسان في سلوكه. وكل استراتيجيةٍ مهما كانت متقنةً تبقى حلمًا على الورق ما لم تجد من يترجمها إلى سلوكٍ مهنيٍّ نزيهٍ ومتوازنٍ ومسؤولٍ. وهنا تكمن القيمة الحقيقية للجدارة السلوكية: إنها اللحظة التي يتحوّل فيها الفكر إلى ممارسة، والقيم إلى فعلٍ، والمبادئ إلى أثر.
إنّ الجدارة السلوكية تُعيد تعريف الأداء المؤسسي من جذوره، لأنها لا تكتفي بقياس ما يُنجز، بل تُحلل كيف يُنجز ولماذا يُنجز. فهي تبحث في الدافع لا في النتيجة، وفي النية كما في الوسيلة، وفي الطريقة بقدر ما في المخرجات. فالموظف الذي يُنجز عمله بدقةٍ لكن دون روح التعاون، أو الذي يُحقّق أهدافه على حساب زملائه أو قيم المؤسسة، لا يمكن اعتباره ناجحًا مهما كانت نتائجه الكمية. الأداء الواعي هو الذي يدمج بين الكفاءة والضمير، بين النتائج والسلوك، بين العقل والقيم، وهنا تتجلّى الجدارة السلوكية كالمعيار الأعلى للأداء الإنساني في عالم الإدارة.
لقد أظهرت التجارب الميدانية أن تطوير الجدارات السلوكية يغيّر طبيعة المؤسسة بأكملها. فحين تُصبح السلوكيات الواعية هي اللغة المشتركة داخل المؤسسة، يتحوّل العمل من مجرد تنفيذٍ للأوامر إلى حالةٍ من الانسجام والالتزام الذاتي، ويُصبح كل موظفٍ قائدًا على مستوى سلوكه، وكل قائدٍ قدوةً في تصرفاته. وتبدأ الثقافة المؤسسية بالتكوّن لا عبر الشعارات أو الدورات النظرية، بل عبر الممارسة اليومية التي تُكرّس قيم الاحترام، والمساءلة، والنزاهة، والتعاون، والإتقان. وعندما تُصبح هذه السلوكيات مألوفةً في الحياة اليومية للمؤسسة، تُولد هويةٌ سلوكيةٌ جديدةٌ تُميّزها في سلوك موظفيها حتى خارج بيئة العمل.
والأمر اللافت في المنهج الجداراتي أنه يُحوّل العلاقة بين الإنسان والنظام من علاقةٍ رقابيةٍ إلى علاقةٍ تشاركيةٍ، قائمةٍ على الثقة لا الخوف، وعلى التمكين لا التحكم. فالنظام هنا لا يُراقب السلوك ليُعاقب، بل يُلاحظه ليُنمّي. والموظف لا يُخفي سلوكه عن النظام، بل يُفصح عنه ليتعلم ويتطور. وهذه النقلة من "الرقابة" إلى "الثقة" هي ما يُشكّل جوهر التحول المؤسسي نحو الوعي. فعندما تُصبح الجدارة السلوكية هي اللغة التي يتحدث بها الجميع، تُلغى الحاجة إلى كثيرٍ من الإجراءات الرقابية، لأن الضمير المؤسسي قد أصبح هو الحارس الداخلي للسلوك.
وفي هذا المستوى من النضج، تُصبح المؤسسة "كائنًا واعيًا" أكثر منها "منظمةً"، لأن كل أجزائها — من الفرد إلى الفريق إلى النظام — تعمل بانسجامٍ فطريٍّ نحو الهدف ذاته، دون أن تفقد إنسانيتها أو مرونتها. وهذا ما يُسميه علماء السلوك التنظيمي بـ الوعي المؤسسي الجمعي، وهو الحالة التي لا يُصبح فيها السلوك مجرد استجابةٍ للقواعد، بل تعبيرًا عن إيمانٍ مشتركٍ بقيمة ما يُفعل ولماذا يُفعل. فالموظف في هذه المرحلة لا يلتزم فقط لأنه يُراقَب، بل لأنه يرى في الالتزام جزءًا من هويته المهنية، وهذا هو أرقى أشكال الجدارة السلوكية.
إنّ المؤسسات التي بلغت هذا النضج تدرك أن الجدارات السلوكية ليست فرعًا من فروع إدارة الموارد البشرية، بل هي جوهر القيادة والتحفيز والثقافة المؤسسية. فالقيادة الحقيقية لا تُقاس بعدد الأتباع، بل بعدد السلوكيات التي ألهمتها. والتحفيز الحقيقي لا يتحقق بالمكافأة وحدها، بل بالإحساس الداخلي بالمعنى والانتماء. والتميز المؤسسي لا يُقاس بالجوائز والشهادات، بل بمستوى النبل والوعي الذي يُعبّر عنه سلوك العاملين في كل لحظةٍ من لحظات العمل.
ومن هنا، يمكن القول إنّ الجدارة السلوكية تمثل نقطة الالتقاء بين الأخلاق والإدارة، وبين الوعي والإجراء، وبين الإنسان والنظام. فهي تُعيد التوازن إلى المعادلة الإدارية الحديثة التي كثيرًا ما مالت نحو الأرقام على حساب القيم، أو نحو القيم على حساب النتائج. والجدارة السلوكية تُذكّرنا أن الطريق إلى التميز المؤسسي لا يبدأ من الأنظمة ولا من المؤشرات، بل من الإنسان الذي يحمل تلك القيم ويُجسّدها في فعله. فكل تحوّلٍ مؤسسيٍّ حقيقيٍّ يبدأ بتحوّلٍ سلوكيٍّ داخليٍّ، وكل نظامٍ ناجحٍ يبدأ بإنسانٍ جديرٍ يحمل الضمير قبل المهارة، والمسؤولية قبل الصلاحية، والإيمان قبل الأجر.
وفي ضوء هذه الرؤية المتكاملة، يمكننا أن نؤكد أن بناء منظومةٍ للجدارات السلوكية ليس مجرد مشروعٍ إداريٍّ، بل هو مشروعٌ حضاريٌّ يسعى إلى ترسيخ ثقافة الوعي والانتماء والإتقان في العمل العام. إنها الخطوة الأولى نحو بناء مؤسساتٍ عربيةٍ قادرةٍ على الجمع بين الجدارة والهوية، بين الحداثة والقيم، بين الكفاءة والرحمة، بين الأداء والإحسان. إنها الطريق نحو التحول من الإدارة التقليدية إلى القيادة الواعية، ومن الرقابة إلى الثقة، ومن الانضباط القسري إلى الالتزام الذاتي.
فالجدارة السلوكية في النهاية ليست فقط ما نفعله، بل كيف نفعله، ولماذا نفعله. إنها المرآة التي تعكس نضجنا الأخلاقي قبل احترافيتنا، وتُظهر قيمنا العملية قبل مهاراتنا التقنية. وكل مؤسسةٍ تجعل من هذه المرآة جزءًا من نظامها اليومي، تُصبح أكثر قدرةً على النمو دون أن تفقد هويتها، وعلى التميز دون أن تتعالى، وعلى التطور دون أن تنفصل عن جذورها. وهذه هي ذروة النجاح المؤسسي في عالمٍ يتغيّر بسرعةٍ، ولكنه لا يزال يحتاج إلى إنسانٍ يُدير التغيير بوعيٍ ومسؤوليةٍ ونُبلٍ.
🧾 التوثيق
📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات، ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.
✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد:
د. محمد بن علي العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية، بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.
📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية،
ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z
🌐 تصفّح المزيد من المقالات عبر الموقع:
👉 www.mohammedaameri.com
🔖 #إدارة_الأداء_الوظيفي #الجدارات_السلوكية #Competency_Management #د_محمد_العامري #مهارات_النجاح #التميز_المؤسسي #القيادة_بالجدارات #تحفيز_الأداء #حوكمة_الأداء #CIPD #SHRM #EFQM #ISO30414 #Continuous_Improvement #HR_Development #IDP #Behavioral_Competencies #Performance_Culture
