د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

ثقافة الأداء المؤسسي: من النظام إلى السلوك Institutional Performance Culture: From System to Behavior

يركّز هذا المقال على تحويل إدارة الأداء من منظومةٍ إداريةٍ إلى ثقافةٍ حيّةٍ، تُترجم قيم المؤسسة إلى سلوكٍ يوميٍّ، وتربط الأداء بالهوية والضمير المؤسسي.

October 25, 2025 عدد المشاهدات : 93

حين تبلغ المؤسسات مستوى من الوعي يجعلها تُدرك أن الأداء ليس نظامًا إداريًا يُمارَس وفق نماذج ولوائح، بل هو ثقافةٌ تُعبّر عن ضميرها الجمعي، تكون قد انتقلت من الإدارة إلى القيادة، ومن التطبيق إلى التجسيد. فالثقافة المؤسسية للأداء ليست حالةً طارئةً تُنشأ بقرارٍ أو تُدار بمؤشرات، بل هي البنية العميقة التي تُحرّك السلوك، وتُوجّه القرارات، وتُحدّد طريقة التفكير الجماعي في المؤسسة. إنّ النظام الإداري يمكن أن يُنظّم الإجراءات، لكنه لا يستطيع أن يُغيّر السلوك ما لم تنشأ ثقافةٌ داعمةٌ له تجعل الأداء قيمةً أخلاقيةً قبل أن يكون التزامًا وظيفيًا.
في هذا السياق، يطرح هذا المقال رؤيةً تحليليةً عميقةً لكيفية الانتقال من إدارة الأداء بوصفها إطارًا تشغيليًا إلى تحويلها إلى ثقافةٍ مؤسسيةٍ تُمارَس بعفويةٍ ومسؤوليةٍ داخل كل قسمٍ ووحدةٍ وفريق عمل. وسيتناول المقال ماهية ثقافة الأداء، وعلاقتها بالهوية المؤسسية، وأثر القيادة والقيم المشتركة في تشكيلها، ودور التواصل الداخلي في نشرها، وآليات تعزيزها عبر التدريب والتحفيز والتغذية الراجعة، إضافةً إلى التحديات التي تواجه المؤسسات في ترسيخها، والنماذج العالمية التي تناولت هذا التحول الثقافي بوصفه ركيزةً للتميز المؤسسي المستدام.
إنّ غاية هذا المقال ليست أن يُعرّف الثقافة المؤسسية فحسب، بل أن يُضيء كيف تُصبح إدارة الأداء “لغةً داخليةً” تتحدث بها المؤسسة مع نفسها، فيقرؤها الموظف في السلوك اليومي أكثر مما يقرؤها في النماذج الإلكترونية. فحين تتحول ثقافة الأداء إلى ضميرٍ مؤسسيٍّ يُوجّه القرارات ويضبط السلوكيات ويُحفّز الالتزام الذاتي، تُصبح المؤسسة قادرةً على تحقيق التوازن بين النتائج والقيم، وبين الكفاءة والإنسانية، وبين النظام والروح. وهذا هو التحول الأعمق في رحلة إدارة الأداء المؤسسي: أن تنتقل من اللوائح إلى القناعات، ومن السيطرة إلى المسؤولية، ومن التقييم إلى التطوير الذاتي المستمر.


📚 الفهرس

1️⃣ 🌍 مفهوم ثقافة الأداء المؤسسي وجذورها الفكرية
2️⃣ 🧩 العلاقة بين النظام والسلوك في منظومات الأداء
3️⃣ ⚙️ دور القيادة في بناء ثقافة الأداء المؤسسي
4️⃣ 💡 القيم المشتركة والهوية المؤسسية كمرتكزات للثقافة
5️⃣ 🧠 التواصل الداخلي والتغذية الراجعة كقنوات لترسيخ الثقافة
6️⃣ 🏛 التدريب والتحفيز كأدوات لبناء ثقافة الأداء
7️⃣ 📊 التحديات المؤسسية في ترسيخ ثقافة الأداء
8️⃣ 🌿 نماذج عالمية وتجارب رائدة في بناء ثقافة الأداء المؤسسي


🌍 المحور الأول: مفهوم ثقافة الأداء المؤسسي وجذورها الفكرية

حين نُحاول أن نُعرّف ثقافة الأداء المؤسسي، فإننا لا نتحدث عن مفردةٍ تنظيميةٍ جديدةٍ أُضيفت إلى قاموس الإدارة الحديثة، بل عن البعد الخفيّ الذي يمنح الأنظمة حيويتها، والإجراءات معناها، والسياسات روحها. فالثقافة المؤسسية للأداء هي المنظومة غير المكتوبة من القيم والعادات والمعتقدات والسلوكيات التي تحدد الطريقة التي يفكر بها أفراد المؤسسة في العمل، ويتعاملون بها مع الأهداف، ويستجيبون بها للنتائج. إنها الإدراك الجمعي الذي يُوحّد نظرة المؤسسة إلى مفهوم “الإنجاز” و“الكفاءة” و“المسؤولية”، ويُحوّل هذه المفاهيم من تعليماتٍ خارجيةٍ إلى التزاماتٍ داخليةٍ نابعةٍ من القناعة الذاتية. فحين تتجذر ثقافة الأداء، تُصبح إدارة الأداء ممارسةً يوميةً تلقائيةً لا تحتاج إلى تذكيرٍ أو مراقبة، لأنها تتحول إلى ضميرٍ حيٍّ يسكن وعي المؤسسة ويُوجّه قراراتها.

إنّ كلمة “ثقافة” حين تُضاف إلى “الأداء” تُغيّر دلالته تمامًا؛ فالأداء في بعده الفنيّ الإداريّ يُشير إلى النتائج والإنتاجية والكفاءة والالتزام بالمعايير، أما حين يتلبّس بالثقافة، فإنه يُصبح مرتبطًا بالقيم والسلوكيات والمعاني التي تُشكّل الإطار الأخلاقي والإنساني لتلك النتائج. فالثقافة لا تُقاس بالمؤشرات، بل تُستشعر من الطريقة التي يتعامل بها الناس مع تلك المؤشرات. فإذا كانت الأنظمة هي العقول التي تُخطّط وتُنظّم وتُحدّد، فإن الثقافة هي القلوب التي تُلهم وتُحفّز وتُؤمن. ومن هنا فإنّ بناء ثقافة أداءٍ مؤسسيةٍ هو في الحقيقة بناءٌ لوجدان المؤسسة، لا فقط لهياكلها الإدارية، لأنّ كلّ منظمةٍ بلا ثقافة أداءٍ واضحةٍ هي جسدٌ بلا روح، مهما بلغت دقة نظامها أو حداثة أدواتها.

وتنبع الجذور الفكرية لثقافة الأداء من مدرسةٍ عريقةٍ في الفكر الإداري تُعرف بمدرسة “الثقافة التنظيمية” التي أسّسها علماء السلوك التنظيمي مثل إدغار شاين (Edgar Schein) وجيرت هوفستيد (Geert Hofstede)، والذين أثبتوا أن الأداء المؤسسي لا يتحدد فقط بعوامل البنية والهيكل، بل يتأثر بعمقٍ بثقافة المؤسسة وقيمها واتجاهاتها غير المرئية. فالثقافة هنا تُعدّ نظامًا خفيًا يحكم طريقة التفكير والتصرف واتخاذ القرار داخل المؤسسة. وقد تطوّر هذا الفهم مع الزمن حتى أصبح يُنظر إلى الثقافة بوصفها "المحرك الصامت للأداء"، و"المصدر الأعمق للميزة التنافسية"، لأنها تُؤثر في كل ما تقوم به المؤسسة من تخطيطٍ وتنفيذٍ وتقييمٍ وتحسين. فحين تتبنّى المؤسسة ثقافةً تقدّر الأداء، فإنها تبني أساسًا معرفيًا وسلوكيًا يجعل إدارة الأداء جزءًا من هويتها لا مجرد نظامٍ إداريٍّ مفروضٍ عليها.

وتُشير الدراسات الحديثة في علم النفس التنظيمي إلى أن ثقافة الأداء تتكون من مجموعة مكوناتٍ مترابطةٍ: القيم الجوهرية، والمعتقدات السائدة حول معنى النجاح والفشل، والمعايير غير المكتوبة للسلوك في العمل، وأنماط التواصل، وأساليب القيادة، وطريقة المؤسسة في التعامل مع الأخطاء والإنجازات. فكل مؤسسةٍ تحمل “ثقافة أداءٍ” حتى لو لم تُسمّها كذلك؛ فهناك مؤسساتٌ تتعامل مع الأداء كواجبٍ يجب القيام به، وأخرى تتعامل معه كقيمةٍ يجب الإبداع فيها، وأخرى ترى الأداء في ضوء الأرقام فقط، وأخرى تراه انعكاسًا للقيم والرسالة. والمؤسسة الناضجة هي التي تُدرك هذه الفروق وتعمل على بناء ثقافةٍ واعيةٍ تُوازن بين الإنجاز والقيم، وبين الكفاءة والعدالة، وبين الطموح والواقعية.

وإذا عدنا إلى الجذور الفكرية لثقافة الأداء في الفكر الإداري، نجد أن جذورها تمتد إلى نظريات الدافعية والتحفيز الإنساني، مثل نظرية ماسلو للحاجات (Maslow’s Hierarchy of Needs) ونظرية هيرزبرغ للعوامل الدافعة (Herzberg’s Motivation Theory)، التي أوضحت أن الإنسان لا يُقدّم أداءً عاليًا فقط لأنه مراقَب أو مثاب، بل لأنه يجد في الأداء معنى شخصيًا ورسالةً إنسانيةً. فالثقافة المؤسسية للأداء تُشبِع هذا البُعد المعنوي في العمل، وتجعل كل إنجازٍ يحمل في داخله شعورًا بالكرامة والجدوى والانتماء. وهذا ما يُفسّر لماذا قد تتفوق مؤسساتٌ صغيرةٌ ذات ثقافة أداءٍ إيجابيةٍ على مؤسساتٍ ضخمةٍ تمتلك أنظمةً متقدمةً ولكنها تفتقر إلى الروح الجماعية الداعمة.

ومن الزاوية الاجتماعية، فإن ثقافة الأداء المؤسسي تُعبّر عن التقاء القيم الفردية بالقيم المؤسسية في نقطةٍ وسطى تُحقّق التوازن بين الحرية والانضباط. فالموظف في المؤسسة ذات الثقافة الناضجة لا يعمل بدافع الخوف من التقييم، بل بدافع الإيمان بأن جهده يُحدث فرقًا في مسيرة المؤسسة. وحين تُصبح القيم المشتركة هي المحرّك للسلوك، فإن إدارة الأداء تتحول من رقابةٍ إلى التزامٍ ذاتيٍّ، ومن توجيهٍ خارجيٍّ إلى وعيٍ داخليٍّ.
ومن هنا يمكن القول إنّ ثقافة الأداء ليست مجرد امتدادٍ للنظام الإداري، بل هي تطوره الطبيعي، لأنها تُكمّل ما لا تستطيع اللوائح تحقيقه. فالنظام يضبط السلوك من الخارج، أما الثقافة فتوجّهه من الداخل، والنظام يُحدّد ما يجب فعله، أما الثقافة فتُجيب عن سؤال "لماذا نفعله"، والنظام يُحقّق الكفاءة، أما الثقافة فتُحقق المعنى.

وتتجلّى الجذور الفكرية لثقافة الأداء أيضًا في الفكر الإسلامي والإداري العربي، حيث يرتبط مفهوم الأداء بمفاهيم الأمانة والإتقان والإخلاص. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ﴾، وهذا الاتقان هو جوهر ثقافة الأداء المؤسسي في بعدها القيمي، لأنه يربط الأداء بالضمير والنية والرسالة، لا بالرقابة والمكافأة فحسب. فحين تتبنى المؤسسة هذا البعد الأخلاقي، تُصبح ثقافة الأداء جزءًا من هويةٍ روحيةٍ تتجاوز النظم الإدارية، وتجعل الأداء قيمةً إنسانيةً تُمارَس بحبٍّ لا بخوف، وبقناعةٍ لا بإلزام. وهذا البعد الروحيّ هو ما يميّز الثقافة المؤسسية الأصيلة في البيئات العربية والإسلامية، لأنها تُعيد ربط العمل بالقيم العليا وتُحوّل الأداء إلى عبادةٍ اجتماعيةٍ تُسهم في تحقيق الخير العام.

وفي هذا الإطار، يمكن القول إنّ ثقافة الأداء المؤسسي ليست مجرد انعكاسٍ لحالة النضج التنظيمي، بل هي مؤشرٌ على عمق الوعي المؤسسي ومدى إدراكه لوظيفته الاجتماعية. فالمؤسسة التي تُدرك أن الأداء ليس غايةً في ذاته بل وسيلةٌ لخدمة الإنسان، تُعيد صياغة مفهوم النجاح ليصبح أكثر اتزانًا وإنسانيةً. فالثقافة هي التي تُحدّد المعايير الأخلاقية التي تُقيَّم بها النتائج، وهي التي تُوازن بين السعي نحو الربحية والالتزام بالمسؤولية المجتمعية، وهي التي تُقرّر ما إذا كانت المؤسسة تسعى إلى "التميّز الحقيقي" أو "التميز المظهري".
فالثقافة هنا ليست مجرد بيئةٍ تنظيمية، بل منظومة قيمٍ تمثل البوصلة الأخلاقية التي تُوجّه المؤسسة في استخدام سلطتها ومواردها ومعارفها لتحقيق الأثر الإيجابي المستدام. ومن دون هذه البوصلة، قد تُحقّق المؤسسة أرقامًا مبهرةً لكنها تفقد معناها الأخلاقي والإنساني، فيتحول الأداء إلى طقسٍ إداريٍّ بلا روح.

وهكذا يتضح أنّ مفهوم ثقافة الأداء المؤسسي هو خلاصة التقاء ثلاثة عوالم فكريةٍ كبرى: عالم الإدارة بالأنظمة، وعالم السلوك بالتحفيز، وعالم القيم بالضمير. وعندما تتكامل هذه العوالم الثلاثة داخل المؤسسة، تتكوّن “الهوية السلوكية للأداء”، وهي أعمق من أي نظامٍ أو هيكلٍ أو سياسةٍ، لأنها تُعبّر عن الشخصية الحقيقية للمؤسسة. فالثقافة لا تُصنع في القاعات المغلقة، بل تُتَرجَم في طريقة الحديث، وفي أسلوب التعامل، وفي ردود الأفعال، وفي القرارات اليومية. إنها الوعي الجمعي الذي يُشكّل الطريقة التي ترى بها المؤسسة ذاتها والعالم من حولها. ولذلك فإنّ المؤسسات التي تُدرك هذا العمق تبدأ من بناء الثقافة قبل بناء النظام، لأنها تعلم أن النظام يمكن أن يُطبّق بالقوة، لكن الثقافة لا تُبنى إلا بالإيمان.


🧩 المحور الثاني: العلاقة بين النظام والسلوك في منظومات الأداء

حين نُحلّل العلاقة بين النظام والسلوك في منظومات الأداء المؤسسي، نجد أنفسنا أمام جدليةٍ عميقةٍ تتجاوز الحدود التقليدية للإدارة إلى أفقٍ فلسفيٍّ وإنسانيٍّ أوسع، لأن هذه العلاقة هي التي تُحدّد طبيعة المؤسسة: هل هي مؤسسةٌ تُدار بالأنظمة فقط أم تُقاد بالوعي؟ وهل تُراقب الأداء كعمليةٍ تشغيليةٍ أم تُحتضنه كقيمةٍ سلوكيةٍ؟ فالنظام هو الإطار الرسمي الذي يُحدّد القواعد والإجراءات والمقاييس، أما السلوك فهو التجسيد العملي لهذا النظام في الواقع اليومي من خلال ما يقوم به الأفراد من أفعالٍ وممارساتٍ تعبّر عن إدراكهم للمسؤولية وفهمهم للأداء. ومن هنا، فإن العلاقة بين النظام والسلوك ليست علاقة تضادٍ، بل علاقة تكاملٍ يقوم فيها الأول بوضع الحدود، والثاني بإضفاء الحياة داخل تلك الحدود.

إنّ النظام الإداري، مهما بلغت دقته، لا يستطيع أن يُنتج أداءً فعّالًا ما لم يُترجم إلى سلوكٍ بشريٍّ واعٍ. فالنظام يُعبّر عن “ما ينبغي أن يكون”، بينما السلوك يُجسّد “ما هو كائنٌ بالفعل”. وكلما اقترب الواقع السلوكي من النموذج النظري للنظام، اقتربت المؤسسة من النضج. غير أن هذه المطابقة لا تتحقق بالأوامر أو الرقابة وحدها، بل بالثقافة التي تُحوّل النظام إلى قناعةٍ داخليةٍ تُمارَس بعفويةٍ ومسؤولية. فالسلوك في بيئة العمل ليس مجرد تنفيذٍ آليٍّ للتعليمات، بل هو انعكاسٌ للقيم التي يحملها الأفراد ومدى اقتناعهم بمعنى الأداء ذاته. لذلك يمكن القول إن النظام يُحدّد الاتجاه، أما السلوك فهو الذي يُقرّر السرعة والفاعلية والاستدامة.

ولكي نفهم هذه العلاقة بعمقٍ أكبر، يمكننا أن نُشبّه النظام بالعصب الهيكلي للجسم المؤسسي، والسلوك بالروح التي تُحرّكه. فالنظام يضمن التنظيم، والسلوك يضمن الحيوية، وبدون أحدهما يختلّ الآخر. فالمؤسسة التي تمتلك نظامًا قويًا دون سلوكٍ داعمٍ تُصبح مؤسسةً بيروقراطيةً جامدةً لا تنبض بالحياة، بينما المؤسسة التي تعتمد على الحماس السلوكي دون نظامٍ منضبطٍ تُصبح فوضويةً تفتقر إلى الاتساق. فالنضج المؤسسي يتحقق حين يُكمّل النظامُ السلوكَ، وحين تتحول القواعد إلى عاداتٍ إيجابيةٍ، والإجراءات إلى ممارساتٍ واعيةٍ، والمعايير إلى ضميرٍ مهنيٍّ يُوجّه الفعل دون حاجةٍ إلى مراقبةٍ دائمة. إنّ هذا التزاوج بين النظام والسلوك هو ما يُحوّل إدارة الأداء من وظيفةٍ إلى ثقافة، ومن إجراءاتٍ إلى قيمٍ راسخةٍ في الوجدان المؤسسي.

ومن الجدير بالذكر أن الفكر الإداري الحديث يُفرّق بين “إدارة النظام” و“قيادة السلوك”. فالأولى تُعنى بتصميم العمليات والسياسات والإجراءات التي تضبط الأداء، بينما الثانية تُركّز على تحفيز الأفراد وتشكيل وعيهم الجمعي بما يجعلهم يتبنون تلك السياسات طوعًا لا كرهًا. فالمدير يُنظّم النظام، والقائد يُلهِم السلوك، وكلاهما ضروريان لتحقيق التوازن المؤسسي. وحين تتكامل الإدارة والقيادة في تحقيق هذا الانسجام، تُصبح المؤسسة كيانًا يعمل بوحيٍ من داخله، لا بحاجةٍ إلى أوامرٍ مستمرةٍ أو تدخلاتٍ متكررة. فالسلوك هنا هو التجسيد الحيّ للأنظمة، والأنظمة هي الحاضن الذي يحمي السلوك من الانحراف أو التشتت.

وتكمن خطورة الفصل بين النظام والسلوك في أن ذلك يؤدي إلى خلق فجوةٍ بين ما يُعلن وما يُمارس، أو ما يُعرف في علم الإدارة بـ “الفجوة الثقافية المؤسسية”. فحين تصوغ المؤسسة أنظمةً مثاليةً ولكن موظفيها لا يتبنونها سلوكيًا، فإن الأداء يتحوّل إلى تمثيلٍ إداريٍّ خالٍ من الجوهر. عندها تظهر مؤشرات الأداء جميلةً على الورق لكنها لا تُعبّر عن حقيقة الواقع، وتُصبح التقارير أدواتٍ للتجميل لا للتحليل. أما حين تُبنى الأنظمة على فهمٍ عميقٍ للسلوك البشري وتُصمّم لتتفاعل مع طبيعة الناس ودوافعهم، فإنها تُصبح أنظمةً حيّةً تُطوّر نفسها من خلال ممارسة الأفراد لها. فالنظام الذي لا يُترجم إلى سلوكٍ هو نظامٌ ناقص، والسلوك الذي لا يستند إلى نظامٍ هو سلوكٌ غير مستدام، والمزج بينهما هو السبيل إلى بناء الأداء المؤسسي الحقيقي.

وقد أثبتت التجارب التنظيمية أن المؤسسات الأكثر نجاحًا هي تلك التي تُدرك أن السلوك لا يمكن فرضه باللوائح، بل يُغرس بالقدوة وبالممارسة وبالتكرار. فالسلوك المؤسسي هو محصلة التفاعل اليومي بين القيم الشخصية للأفراد والقيم التنظيمية للمؤسسة. فحين يُلاحظ الموظف أن القادة أنفسهم يلتزمون بالأنظمة، ويتحدثون بلغة الأداء، ويتعاملون مع المعايير بعدالةٍ وشفافيةٍ، يُصبح النظام بالنسبة له رمزًا للثقة لا أداةً للسيطرة. وهنا يتحوّل الالتزام إلى ثقافةٍ، والانضباط إلى سلوكٍ طبيعيٍّ، وتُصبح إدارة الأداء عمليةً ذاتيةً لا تحتاج إلى رقابةٍ مستمرةٍ أو توجيهٍ خارجيٍّ دائم. فالثقافة المؤسسية تنشأ من التكرار الواعي للسلوك المنسجم مع القيم، وكلما زادت درجة هذا الانسجام، ازداد رسوخ النظام في وجدان المؤسسة.

وإذا تأملنا من منظورٍ أعمق، وجدنا أن العلاقة بين النظام والسلوك هي علاقة دائريةٌ متبادلة؛ فالنظام يُشكّل السلوك من خلال التوجيه والتقنين، والسلوك يُغذي النظام من خلال الممارسة والتجربة. فكلما طُبّق النظام، وُلدت خبرةٌ جديدةٌ تُثريه، وكلما نُقّح النظام بناءً على الممارسة، أصبح أكثر نضجًا وواقعيةً. فالمؤسسات التي تُراجع أنظمتها بناءً على السلوك الواقعي تُطوّر نظامًا أكثر ملاءمةً لطبيعتها وثقافتها، بينما المؤسسات التي تُصرّ على تطبيق أنظمةٍ جامدةٍ دون مراعاةٍ للسلوك البشري تفقد مرونتها وقدرتها على التطوير. ولذلك فإنّ التكامل بين النظام والسلوك ليس مجرد توافقٍ إداريٍّ، بل هو شرطٌ أساسيٌّ لاستدامة الأداء وتحقيق التميز المؤسسي.

ومن الزاوية الأخلاقية، فإنّ السلوك هو المعيار الحقيقي لاختبار مصداقية النظام. فالنظام الذي لا يُترجم إلى سلوكٍ عادلٍ وشفافٍ هو نظامٌ لا أخلاقيٌّ مهما كانت نصوصه جميلة. والعكس صحيح، فالسلوك العشوائي الذي يتجاوز النظام يُفقد المؤسسة العدالة ويُهدد استقرارها. فالحوكمة الرشيدة لا تتحقق بالأنظمة وحدها، بل بترسخ السلوك المؤسسي الذي يجعل احترام الأنظمة جزءًا من الهوية المهنية. وهذا ما يميز المؤسسات الناضجة: أنها لا تحتاج إلى تذكيرٍ دائمٍ باللوائح لأن السلوك الجمعي أصبح مرآةً تعكس روح النظام، ولا تحتاج إلى محاسبةٍ صارمةٍ لأن الالتزام أصبح جزءًا من القناعة الذاتية. فحين يُصبح السلوك هو التجسيد الطبيعي للنظام، تتحول المؤسسة من إدارةٍ للأداء إلى ثقافةٍ للأداء، ومن التحكم في الأفعال إلى قيادة القناعات.

وفي الإطار التطبيقي، يمكن للمؤسسات التي ترغب في تحقيق هذا التكامل أن تبدأ بتصميم أنظمتها بناءً على فهمٍ عميقٍ للسلوك الإنساني، وأن تُدرّب قياداتها على قراءة الدوافع النفسية التي تحكم تصرفات العاملين، وأن تُعزّز بيئة الثقة التي تسمح بالسلوك الإيجابي دون خوفٍ أو مقاومة. كما يجب أن تربط بين النظام والسلوك عبر آلياتٍ واضحةٍ مثل التقدير الفوري للسلوكيات الإيجابية، وتحويل القيم المؤسسية إلى ممارساتٍ ملموسةٍ تُقاس وتُكافأ. فالثقافة لا تُبنى بالشعارات، بل بالسلوك المتكرر الذي تُكافئه القيادة وتشجّعه حتى يُصبح عادةً مؤسسية. وعندما تُصبح هذه العادات جزءًا من الحياة اليومية في بيئة العمل، تتوارى الحدود بين النظام والسلوك، وتُولد حالةٌ من الانسجام المؤسسي التي تُشكّل قلب ثقافة الأداء.

إنّ هذه العلاقة التكاملية بين النظام والسلوك هي ما يُعبّر عن النضج المؤسسي الحقيقي. فالنظام يُوفّر الاتساق، والسلوك يُضيف المعنى، وحين يلتقيان، تُصبح المؤسسة كيانًا متوازنًا قادرًا على الاستمرار والإبداع في آنٍ واحد. فالنظام من دون سلوكٍ يُنتج مؤشراتٍ بلا حياة، والسلوك من دون نظامٍ يُنتج حماسًا بلا اتجاه، أما اتحادهما فيُنتج أداءً ناضجًا مستدامًا يحمل في طيّاته الوعي والمسؤولية والإتقان. وهكذا نُدرك أن ثقافة الأداء ليست مرحلةً بعد النظام، بل هي جوهره المتحقق في الواقع، وصورته الحيّة التي تُجسّد القيم وتُعبّر عن ضمير المؤسسة في كل فعلٍ وسلوكٍ وقرار.


⚙️ المحور الثالث: دور القيادة في بناء ثقافة الأداء المؤسسي

تُعد القيادة حجر الزاوية في بناء ثقافة الأداء المؤسسي، لأنها تمثل القوة الرمزية والعملية التي تمنح الأنظمة معناها، وتحوّل القيم من شعاراتٍ مكتوبةٍ إلى سلوكياتٍ معيشةٍ تُرى في الواقع اليومي للمؤسسة. فالثقافة لا تُزرع بالأوامر، بل تُبنى بالقدوة، ولا تُفرض بالقوانين، بل تُترسّخ بالممارسة، والقيادة هي التي تملك القدرة على تحويل النظام الإداري إلى حالةٍ وجدانيةٍ يعيشها الأفراد ويؤمنون بها. فحين يتحدث القائد بلغة الأداء، ويفكر بمعاييره، ويتصرف بقيمه، يصبح هو النموذج الحي الذي يُجسّد الثقافة قبل أن يُعلّمها، ويُصبح سلوكه اليومي أكثر تأثيرًا من أي تدريبٍ أو تعميمٍ أو سياسةٍ مكتوبةٍ.

إنّ القيادة الواعية لا تكتفي بتطبيق أنظمة إدارة الأداء، بل تُعيد تعريفها في ضوء فلسفتها الإنسانية والأخلاقية. فالقائد في بيئة الأداء الناضجة لا يرى التقييم وسيلةً للمحاسبة، بل أداةً للتطوير، ولا يتعامل مع الأهداف بوصفها أرقامًا جامدةً، بل بوصفها تعبيرًا عن الرؤية الكبرى التي تسعى المؤسسة لتحقيقها. إنّ القائد الواعي يُدرك أن ثقافة الأداء لا تنشأ إلا في بيئةٍ آمنةٍ يشعر فيها الأفراد أن أداءهم يُقدّر بعدالةٍ، وأن أخطاءهم تُعامَل كتجارب تعلّمٍ لا كعقوباتٍ، وأن مساهماتهم مهما صغرت لها وزنها وقيمتها. فالثقة هي التربة التي تُزرع فيها ثقافة الأداء، والقيادة هي التي تُهيّئ هذه التربة وتُغذيها بالرعاية والمتابعة والدعم والتحفيز.

وتُشير الدراسات الحديثة إلى أن القيادة هي العامل الأكثر تأثيرًا في تشكيل ثقافة الأداء بنسبةٍ تتجاوز 70%، لأن الناس بطبيعتهم لا يتبعون الأنظمة بقدر ما يتبعون الأشخاص الذين يجسدونها. فحين يرى الموظفون أن قائدهم يعيش القيم التي ينادي بها، وأنه يُعامل الأداء كقيمةٍ إنسانيةٍ لا كمجرد التزامٍ وظيفي، فإنهم يُعيدون تعريف علاقتهم بالعمل، فيتحول الالتزام من واجبٍ إلى انتماء، ومن تنفيذٍ إلى إبداع. فالقائد هنا لا يوجّه الناس بما يقول، بل بما يكون، لأنه يُجسّد النموذج الذي يُقتدى به. وهكذا تُصبح القيادة جسراً يربط بين النظام والسلوك، وبين التخطيط والتنفيذ، وبين الفكر والممارسة، فتتحول منظومة الأداء من تعليماتٍ إلى ثقافةٍ راسخةٍ في الوجدان الجمعي للمؤسسة.

ولعل أعظم ما يُميز القائد في بيئة الأداء المؤسسي هو قدرته على الجمع بين الصرامة والرحمة، وبين التقييم والتحفيز، وبين الرقابة والتمكين. فهو يُدرك أن إدارة الأداء لا تقوم على المراقبة الدقيقة للأرقام فقط، بل على قراءة الإنسان الكامن خلف تلك الأرقام. فالقائد الواعي لا يسأل فقط “ماذا أنجزت؟” بل يسأل “كيف أنجزت؟” و“ما الذي تحتاجه لتنجز أكثر؟” و“كيف يمكن للمؤسسة أن تدعمك لتنجح؟”. هذه الأسئلة تُحوّل الحوار حول الأداء من مساءلةٍ إلى شراكة، ومن خوفٍ إلى ثقة، ومن تقاريرٍ إلى علاقاتٍ إنسانيةٍ ناضجةٍ تقوم على التقدير والتطوير. فالقائد الذي يفتح باب الحوار الصادق حول الأداء يُسهم في بناء ثقافةٍ قائمةٍ على الشفافية والتعلّم، ويُحوّل عملية التقييم إلى تجربةٍ تحفيزيةٍ تُنمّي الوعي والقدرة والمسؤولية.

وتتمثل إحدى أعظم مهارات القائد في هذا السياق في قدرته على النمذجة الثقافية، أي أن يكون هو النموذج الذي يُحتذى به في الالتزام والانضباط والاتساق بين القول والفعل. فالثقافة تُنقل بالملاحظة أكثر مما تُنقل بالتعليم، والعين تتعلم قبل الأذن، ولذلك فإن سلوك القائد هو اللغة الأكثر صدقًا التي تكتب بها المؤسسة قيمها في أذهان موظفيها. فعندما يلتزم القائد بالوقت، ويتحدث بلغة الإنجاز، ويُظهر احترامًا حقيقيًا للمعايير، فإنه يُعلّم من حوله دون أن يتكلم. وعندما يُمارس العدل في تقييم الأداء، ويُقدّر الجهد كما يُكافئ النتائج، فإنه يُرسّخ العدالة كقيمةٍ ثقافيةٍ في بيئة العمل. وعندما يُظهر الشجاعة في الاعتراف بالأخطاء، فإنه يُطلق ثقافة التعلّم من الخطأ بدلاً من ثقافة الإخفاء والخوف. وهكذا يُصبح القائد صانعًا للثقافة لا مجرد منفّذٍ للأنظمة.

ومن المنظور الإستراتيجي، فإن القيادة في ثقافة الأداء تُمارَس على ثلاثة مستوياتٍ متكاملة: القيادة الفكرية، والقيادة التنفيذية، والقيادة التحفيزية.
ففي المستوى الفكري، تُقدّم القيادة الرؤية وتُوضّح الغاية الكبرى للأداء وتربطه بالرسالة المؤسسية. فالموظفون لا يتحفزون بالأوامر بقدر ما يتحفزون بالرؤية التي تمنح العمل معنى.
وفي المستوى التنفيذي، تُحوّل القيادة الرؤية إلى أهدافٍ واضحةٍ وسياساتٍ وإجراءاتٍ تُحدّد الأدوار والمسؤوليات بدقة، وتُتابع الأداء بناءً على بياناتٍ ومؤشراتٍ لا على الانطباعات الشخصية.
أما في المستوى التحفيزي، فتمارس القيادة دورها في إحياء القيم وتعزيز روح الفريق وتقدير الجهد وتشجيع الابتكار وإشراك الموظفين في صياغة الحلول. فالثقافة لا تُبنى بالهيكلة، بل بالتفاعل اليومي بين القائد وفريقه. وكلما كانت القيادة أكثر حضورًا وإنصاتًا وعدلاً وشفافيةً، كانت الثقافة أكثر نضجًا وعمقًا واستدامةً.

وتلعب القيادة دورًا أساسيًا أيضًا في تحويل مفهوم “إدارة الأداء” إلى “تمكين الأداء”، أي نقل النظام من كونه وسيلةً للقياس إلى كونه أداةً للإلهام والتحسين. فالقائد المُلهم لا يكتفي بتفسير الأرقام، بل يبحث عن القصص التي تقف وراءها، ويُحوّلها إلى فرصٍ للتعلّم والتطوير. وهو لا يُصدر الأحكام من برجٍ إداريٍّ عالٍ، بل ينزل إلى الميدان ليُصغي ويُفكّر ويُشارك، لأن الأداء الحقيقي لا يُدار من المكاتب، بل يُبنى في مواقع العمل اليومية. فالقائد الذي يُشارك فريقه النجاحات والإخفاقات يُرسّخ ثقافة الثقة والتكامل، ويُحوّل الأداء من مسؤوليةٍ فرديةٍ إلى مسؤوليةٍ جماعيةٍ، فيشعر كل فردٍ أنه جزءٌ من منظومةٍ أكبر تُقدّر جهده وتحتفي بإنجازه.

وفي الفكر الإداري الحديث، تُعرف هذه الممارسة القيادية باسم القيادة التحويلية (Transformational Leadership)، وهي القيادة التي تُركّز على تحفيز الأفراد من الداخل، وتغيير طريقة تفكيرهم في العمل، وتعزيز شعورهم بالانتماء والرسالة. وقد أثبتت الأبحاث أن القيادة التحويلية تُعد من أقوى العوامل في بناء ثقافة الأداء، لأنها لا تفرض الانضباط، بل تُلهم الالتزام. فالقائد التحويلي يُحفّز موظفيه على تجاوز مصالحهم الفردية لصالح الأهداف العليا للمؤسسة، ويُعيد تعريف معنى النجاح ليصبح جماعيًا لا شخصيًا. وهو بذلك يُعيد صياغة العلاقة بين النظام والسلوك داخل المؤسسة، لتُصبح علاقة وعيٍ ومسؤوليةٍ وشراكةٍ حقيقيةٍ تُجسّد روح الأداء المؤسسي الناضج.

ولأن القيادة هي مرآة المؤسسة، فإن ثقافة الأداء تبدأ من قمة الهرم التنظيمي ولا يمكن أن تُزرع في القاعدة قبل أن تُمارَس في القمة. فالموظفون يتعلمون من أسلوب القائد في إدارة الأداء أكثر مما يتعلمون من سياسات الموارد البشرية. فإذا رأوا قائدهم يُقدّر الأداء ويُثمن الجهد ويُعامل الناس بالعدل، تبنوا تلك القيم وتصرّفوا بها. أما إذا رأوه يتجاهل الأداء أو يُكافئ الولاء أكثر من الكفاءة، فإن ثقافة الأداء تنهار مهما كانت الأنظمة مثالية. ولذلك يُقال إن “الثقافة تسير على أقدام القادة”، لأنهم من يمنحها الحياة والاتجاه، فإذا اهتزت خطواتهم اهتزت معها منظومة الأداء بأكملها.

وفي النهاية، يمكن القول إنّ القيادة في بناء ثقافة الأداء المؤسسي ليست وظيفةً، بل رسالةٌ تتطلّب وعيًا عميقًا بطبيعة الإنسان والنظام على حدٍّ سواء. فهي توازن بين الحزم والتفهّم، وبين التحفيز والمساءلة، وبين الهدف والغاية، وبين النتائج والقيم. والقائد الذي يُدرك هذا التوازن يُصبح معلمًا في القيادة المؤسسية، لأنه لا يُدير الناس فقط، بل يُوقظ فيهم المعنى، ولا يُتابع الأرقام فقط، بل يُحرّك القلوب والعقول نحو رؤيةٍ مشتركةٍ تُحوّل الأداء إلى ثقافةٍ متجذّرةٍ في وعي المؤسسة. وهكذا يُصبح القائد محور التحول من “نظامٍ يُدار” إلى “ثقافةٍ تُقَاد”، ومن “إدارةٍ تراقب” إلى “قيادةٍ تُلهم”، ومن “أداءٍ يُقاس” إلى “أداءٍ يُعاش”.


💡 المحور الرابع: القيم المشتركة والهوية المؤسسية كمرتكزات للثقافة

حين نتحدث عن ثقافة الأداء المؤسسي، فإننا نتحدث في جوهر الأمر عن منظومةٍ من القيم والمعاني التي تُشكّل الضمير الجمعي للمؤسسة، وتُحدّد طبيعة علاقتها بالعمل والإنسان والمجتمع. فالقيم المشتركة هي بمثابة “الدستور غير المكتوب” الذي يُوجّه السلوك ويُفسّر القرارات ويُحدّد ما يُعدّ صحيحًا أو خاطئًا، مقبولًا أو مرفوضًا، جديرًا بالثناء أو مستحقًا للمساءلة. أما الهوية المؤسسية فهي التعبير الكلي عن تلك القيم حين تتحوّل إلى سلوكٍ وسِماتٍ وصورٍ وأداءٍ يعكس روح المؤسسة ويُميّزها عن غيرها. إنّ القيم هي القلب، والهوية هي الوجه، وبين القلب والوجه تُبنى ملامح الثقافة التي تمنح المؤسسة شخصيتها الأخلاقية والوظيفية معًا.

القيم المشتركة ليست شعاراتٍ تُكتب على الجدران، ولا كلماتٍ تُدرج في كتيّبات التعريف، بل هي المعايير التي يسترشد بها الموظفون في كل قرارٍ يتخذونه، حتى حين لا تكون هناك تعليماتٌ صريحةٌ أو مراقبةٌ مباشرة. فهي التي تجعل الموظف يختار النزاهة حتى لو لم يُطالَب بها، ويُتقن عمله حتى لو لم يُراقَب عليه، ويُقدّم المبادرة لأنه يؤمن أن نجاح المؤسسة يعني نجاحه. لذلك، تُعدّ القيم المشتركة حجر الأساس في بناء ثقافة الأداء، لأنها تُحوّل الالتزام من فعلٍ خارجيٍّ إلى قناعةٍ داخليةٍ، وتُحوّل الرقابة من أداةٍ خارجيةٍ إلى رقابةٍ ذاتيةٍ مصدرها الضمير المهني. ومن هنا فإنّ أي نظامٍ لإدارة الأداء يفقد قيمه يُصبح جسدًا بلا روح، وأي ثقافةٍ أداءٍ بلا قيمٍ تُصبح أداةً بلا معنى.

وتُظهر الخبرات المؤسسية أن المؤسسات التي تتبنى قيمًا واضحةً ومعلنةً تُحقق انسجامًا داخليًا ينعكس على جودة الأداء وفعاليته واستدامته. فحين يعرف كل موظفٍ “لماذا نفعل ما نفعل”، و“ما الذي نُقدّسه في عملنا”، و“ما الحدود التي لا يجوز تجاوزها مهما كانت المغريات”، تتكوّن ثقافةٌ متماسكةٌ تُوجّه الأفراد تلقائيًا نحو القرارات الصحيحة. والقيم لا تُصنع في الاجتماعات، بل تُبنى بالممارسة اليومية، وتُرسّخ بالمواقف الصادقة، وتُختبر في لحظات التحدي. فالقيمة التي لا تُختبر لا تُثبت، والمؤسسة التي تُراجع قيمها في الأزمات تُثبت صدقها. وهكذا تُصبح القيم المشتركة هي البوصلة التي تمنع الانحراف مهما تغيّرت الظروف أو تبدّلت القيادات.

أما الهوية المؤسسية، فهي الصورة الكلية التي تنعكس فيها تلك القيم حين تتجسّد في السلوك والممارسات والرموز والعلاقات الداخلية والخارجية. إنها ليست الشعار أو اللون أو التصميم البصري فحسب، بل هي الطريقة التي تُفكّر بها المؤسسة، والطريقة التي تُعبّر بها عن نفسها أمام موظفيها وعملائها وشركائها ومجتمعها. فالهوية المؤسسية هي “الثقافة وهي تتحدث”، وهي الوجه الخارجي للضمير الداخلي. وحين تكون القيم راسخةً ومتّسقةً، تُصبح الهوية واضحةً ومُقنِعةً، لأن الناس لا يثقون بما تقوله المؤسسة عن نفسها، بل بما تُظهره في سلوكها. ومن هنا، فإنّ كل تفاعلٍ يوميٍّ داخل المؤسسة هو ممارسةٌ لهويتها، وكل قرارٍ هو مرآةٌ لقيمها، وكل أداءٍ هو رسالةٌ تُخاطب بها العالم.

وفي هذا السياق، نجد أن العلاقة بين القيم والهوية علاقة تكاملٍ لا انفصال. فالقيم تُغذّي الهوية بالمضمون، والهوية تُغذّي القيم بالاستمرارية. فحين تمتلك المؤسسة قيمًا قويةً بلا هويةٍ واضحةٍ، تُصبح قيمها حبيسة الوثائق، وحين تمتلك هويةً بصريةً جذابةً بلا قيمٍ أخلاقيةٍ راسخةٍ، تُصبح هويتها واجهةً خاويةً بلا صدق. فالهوية الحقيقية لا تُبنى بالألوان، بل بالثقة، ولا تُعرَّف بالشعارات، بل بالسمعة والسلوك. إنّ هوية المؤسسة هي ما يُقال عنها حين لا تكون حاضرة، وهي الانطباع الذي يتركه أداؤها في نفوس الآخرين. ولذلك فإنّ بناء الهوية يبدأ من بناء القيم، واستدامتها تعتمد على حيوية تلك القيم في الممارسة الواقعية.

وتُشكّل القيم المشتركة إطارًا حاكمًا يربط بين النظام والسلوك داخل منظومة الأداء. فهي التي تُحوّل المعايير الإدارية إلى التزاماتٍ أخلاقيةٍ، وتمنح القرارات الإدارية معناها الإنساني. فعندما تُقرّر المؤسسة مكافأة الموظف المتميز، فإن القيمة الحاكمة هي العدالة والتقدير، وعندما تُحاسب المقصّر، فإن القيمة الحاكمة هي النزاهة والمسؤولية، وعندما تُصمّم سياساتها، فإن القيمة الحاكمة هي الشفافية والإنصاف. وهكذا تُصبح القيم هي القوانين العليا التي تحكم التفاصيل اليومية وتمنع الانحراف. فالثقافة التي تستند إلى القيم تُنتج سلوكًا متّزنًا لا يحتاج إلى رقابةٍ مفرطةٍ، لأن الموظفين يتصرفون وفق ما “يجب” لا وفق ما “يُطلب”، ويعملون بدافع الإيمان لا بدافع الخوف.

وقد أكّدت مدارس الإدارة القيمية (Values-Based Management) أنّ القيم ليست عنصرًا تجميليًا في المؤسسة، بل هي موردٌ استراتيجيٌّ يحدّد قدرتها على المنافسة والاستمرار. فالمؤسسات التي تبني ثقافتها على قيمٍ واضحةٍ تُحقّق ولاءً أعلى من الموظفين، وثقةً أكبر من العملاء، واستقرارًا أقوى في الأزمات. لأن القيم المشتركة تُوحّد التوجّه حين تتعدّد الآراء، وتُوفّر الإلهام حين تضعف الدوافع، وتُشكّل المعيار الأخلاقي حين تتعقّد القرارات. وهكذا تُصبح القيم المشتركة ليست فقط مبدأً أخلاقيًا، بل أيضًا أداةً عمليةً لإدارة الأداء وتحقيق الاتساق بين ما يُقال وما يُفعل، وبين الرؤية والسلوك، وبين التخطيط والتنفيذ.

ومن المنظور الإنساني، فإنّ القيم المشتركة تُشكّل أيضًا الرابط العاطفي الذي يُعيد للإنسان إنسانيته داخل المؤسسة. فهي التي تُحوّل العمل من مهمةٍ إلى رسالة، ومن وظيفةٍ إلى معنى، ومن جهدٍ إلى إسهامٍ في بناء شيءٍ أكبر من الذات. فحين يشعر الموظف أن أداءه جزءٌ من قصةٍ جماعيةٍ تخدم غايةً نبيلةً، فإن ولاءه يتجاوز حدود العقد الوظيفي ليصبح ولاءً قيميًا وأخلاقيًا. وهذا هو جوهر ثقافة الأداء المؤسسي: أن يتحول الأداء من التزامٍ إلى انتماء، ومن واجبٍ إلى شغف، ومن أمرٍ خارجيٍّ إلى نداءٍ داخليٍّ. وكلما ازدادت القيم وضوحًا واتساقًا، ازدادت الهوية المؤسسية عمقًا وثباتًا، وأصبحت الثقافة أكثر رسوخًا في سلوك الأفراد والجماعات.

ولأن القيم تُعبّر عن “من نحن”، والهوية تُعبّر عن “كيف نبدو”، فإن الانسجام بينهما هو الذي يُنتج المصداقية المؤسسية. فحين تتطابق القيم المعلنة مع الممارسات الواقعية، تنشأ الثقة، وحين تتناقض، تنهار الثقافة. فالموظفون لا يرفضون الأنظمة الصارمة، بل يرفضون ازدواجية المعايير. والناس لا يحتاجون إلى مؤسساتٍ مثاليةٍ، بل إلى مؤسساتٍ صادقةٍ في تطبيق قيمها. لذلك، تُعدّ المصداقية حجر الأساس في بناء الهوية القيمية للمؤسسة. فالمؤسسة التي تقول ما تفعل، وتفعل ما تقول، تُصبح ثقافتها نموذجًا يُحتذى، ويُصبح أداؤها امتدادًا طبيعيًا لتلك القيم. ومن هنا تنبع “الهوية المؤسسية الأخلاقية”، وهي أرقى أشكال النضج الثقافي والإداري التي تجعل الأداء تجسيدًا للقيم، لا انفصالًا عنها.

وتُظهر التجارب القيادية الكبرى أن بناء القيم والهوية لا يتحقق بالصدفة، بل بالتصميم الواعي. فالمؤسسات الناجحة تبدأ بتحديد قيمها العليا في وثيقةٍ تأسيسيةٍ تُراجع دوريًا، وتُترجم هذه القيم إلى سلوكياتٍ محددةٍ قابلةٍ للقياس، وتُدرجها في نظام إدارة الأداء ليُكافأ من يُجسّدها سلوكًا لا من يرددها قولًا. كما تُربط مؤشرات الأداء بالقيم المحورية للمؤسسة، بحيث يُصبح الاتساق القيمي جزءًا من معايير التقييم. فالموظف لا يُقاس فقط بما أنجز، بل بكيفية إنجازه. فالقيمة هنا ليست مبدأً نظريًا، بل معيارًا عمليًا يُقاس ويُعاش. وبهذه الطريقة تُصبح القيم المشتركة قلب نظام الأداء، وتُصبح الهوية المؤسسية تجسيدًا حيًا له، فتتحقق المعادلة التي تربط بين النظام والسلوك والثقافة في وحدةٍ واحدةٍ متناغمة.

وفي النهاية، يمكن القول إنّ القيم المشتركة والهوية المؤسسية هما “الذاكرة الأخلاقية” للمؤسسة، التي تحفظها من التفكك حين تتغيّر الأنظمة، وتحميها من الانحراف حين تتبدّل المصالح. فالنظام قد يُستبدل، والسياسات قد تُعدّل، لكن القيم حين تترسّخ تُصبح راسخةً في وعي الأفراد وسلوكهم، تُوجّههم حتى دون نصوصٍ مكتوبةٍ أو توجيهاتٍ صريحةٍ. وهكذا تتحول ثقافة الأداء إلى منظومةٍ حيّةٍ تجمع بين الفكر والأخلاق، وبين العقل والقلب، وبين الكفاءة والمعنى. فالمؤسسة التي تعرف قيمها وتعيش هويتها لا تخشى المستقبل، لأنها تمتلك بوصلةً داخليةً تهديها في كل الظروف، وتجعلها قادرةً على الأداء بثباتٍ وإبداعٍ ومسؤوليةٍ مستدامة.


🧠 المحور الخامس: التواصل الداخلي والتغذية الراجعة كقنوات لترسيخ الثقافة

لا يمكن لثقافة الأداء المؤسسي أن تُبنى في عزلةٍ عن التواصل، ولا يمكن أن تستمرّ دون تغذيةٍ راجعةٍ تُعيد تشكيلها وتغذيتها بالمعرفة والخبرة. فالثقافة — مهما كانت متينةً في أصلها — تحتاج إلى لغةٍ تُعبّر عنها، وصوتٍ يُنقلها، ونظامٍ يُنظّم تدفقها بين الأفراد والمستويات الإدارية. والتواصل الداخلي هو هذا الشريان الذي يحمل “أوكسجين الثقافة” إلى كل أجزاء المؤسسة، بينما تمثّل التغذية الراجعة الدورة الدموية التي تُعيد الحيوية إليها من خلال التعلم المستمر والتقييم الذاتي والتصحيح التفاعلي. فبدون هاتين القناتين، تتحوّل الثقافة إلى فكرةٍ ساكنةٍ لا تنمو، وإلى شعارٍ جميلٍ لا يُمارَس، تمامًا كما يفقد الجسد الحياة حين يتوقف الدم عن الجريان.

في بيئة الأداء المؤسسي الناضجة، يُنظر إلى التواصل الداخلي لا بوصفه وسيلةً إعلاميةً لنقل التعليمات، بل كأداةٍ استراتيجيةٍ لبناء الفهم المشترك وتوحيد الاتجاهات وتحفيز الانتماء. فالمؤسسة التي تتحدث مع نفسها بوضوحٍ تصنع لنفسها عقلًا جمعيًا منسجمًا، والمجتمعات المؤسسية التي تُحسن الإصغاء إلى صوتها الداخلي تُصبح أكثر قدرةً على التكيف والتطور. فالتواصل الفعّال هو الذي يُحوّل الرؤية إلى وعيٍ جماعيٍّ، ويُحوّل الأهداف إلى لغةٍ يتحدثها الجميع، ويُحوّل إدارة الأداء من ممارسةٍ فنيةٍ إلى ثقافةٍ فكريةٍ تُنظّم السلوك اليومي وتُوجّه القرارات في كل المستويات.

ويتميّز التواصل المؤسسي الناضج بأنه تواصُلٌ ذو اتجاهين، لا يعتمد على البثّ من الأعلى إلى الأسفل فقط، بل يُشرك الجميع في صناعة المعنى. فالثقافة لا تُفرض من القمة، بل تُبنى بالحوار، والتغذية الراجعة هي الطريق الذي يسلكه هذا الحوار ليصبح متبادلًا وفاعلًا. حين يُعبّر الموظفون عن آرائهم، ويُشاركون ملاحظاتهم، ويشعرون أن صوتهم مسموعٌ وله أثر، فإنهم لا يُسهمون فقط في تحسين العمليات، بل في بناء الثقة المؤسسية التي تُغذي ثقافة الأداء. فكل تفاعلٍ إيجابيٍّ داخل المؤسسة هو لبنةٌ في جدار الثقافة، وكل لحظة إنصاتٍ صادقٍ من القيادة هي رصيدٌ في بنك الولاء والانتماء.

والتغذية الراجعة — بوصفها إحدى أهم أدوات التواصل الداخلي — هي المرآة التي ترى من خلالها المؤسسة نفسها بصدقٍ وموضوعية. فهي التي تُعيد تعريف الأداء في ضوء الخبرة الواقعية، وتُحوّل الأخطاء إلى فرصٍ للتعلّم، وتُساعد في تصحيح المسار قبل أن تتضخم الفجوات. فالمؤسسة التي تمتلك نظامًا واعيًا للتغذية الراجعة تمتلك نظامًا عصبيًا حسّاسًا يُنبّهها مبكرًا إلى مواضع الخلل، ويدفعها إلى التحسين المستمر. أما المؤسسة التي تُهمل التغذية الراجعة، فإنها تعيش في “غرفة الصدى”، تسمع صوتها فقط وتُصدّق روايتها الخاصة، حتى تفاجأ بأن الثقافة التي كانت تظنها راسخةٌ قد تآكلت في الصمت.

ولكي تُسهم التغذية الراجعة في ترسيخ ثقافة الأداء، يجب أن تتسم بثلاث سماتٍ رئيسيةٍ: الصدق، والبناء، والاتصال بالقيم.
فالصدق يجعلها مفيدةً، والبناء يجعلها مقبولةً، والارتباط بالقيم يجعلها نبيلةً. فحين تُقدّم المؤسسة التغذية الراجعة بروحٍ بنّاءةٍ تُركّز على التطوير لا على اللوم، يشعر الموظفون بالأمان النفسي الذي يدفعهم إلى التفاعل والمبادرة. وعندما تُقدَّم في ضوء القيم المؤسسية — كالنزاهة، والاحترام، والمسؤولية — فإنها تُعزّز تلك القيم وتُترجمها إلى ممارسةٍ حقيقية. فالتغذية الراجعة ليست مجرد أداةٍ للتقييم، بل هي لحظةُ حوارٍ صادقٍ تُعيد المؤسسة فيها اكتشاف ذاتها من خلال أبنائها، وهي المرآة الأخلاقية التي تُوازن بين طموح النتائج وإنسانية الأداء.

ومن المنظور الإداري، يُمكن القول إن التواصل الداخلي والتغذية الراجعة هما الأداتان اللتان تُحوّلان “إدارة الأداء” إلى “ثقافة أداء”. فالنظام يُحدّد الأهداف ويقيس النتائج، أما التواصل فيُنشئ المعنى المشترك الذي يُوحّد الجميع حول تلك الأهداف، والتغذية الراجعة تُعيد التوازن بين الواقع والمأمول، فتبقي الأداء في حالةٍ من الحركة المستمرة نحو التحسّن. ومن دون هذه الحركة الاتصالية، تتحول الأنظمة إلى بيروقراطياتٍ صامتةٍ تفقد القدرة على التطوير. لذلك فإنّ بناء قنواتٍ مؤسسيةٍ فعّالةٍ للحوار والتغذية الراجعة يُعد من أبرز مقاييس نضج ثقافة الأداء، لأنه يكشف مدى شفافية المؤسسة وقدرتها على الإصغاء لنفسها ولمن يعمل فيها.

وقد أثبتت الأبحاث الحديثة في علم النفس التنظيمي أنّ التواصل الداخلي الإيجابي يُضاعف من دافعية العاملين بنسبةٍ تصل إلى 40%، وأن المؤسسات التي تُوفّر قنواتٍ مفتوحةٍ للتغذية الراجعة تُحقّق تحسنًا ملحوظًا في مؤشرات الرضا والالتزام الوظيفي. لأن الإنسان حين يشعر أن صوته يُسمع، فإنه يُعطي أكثر، وحين يُقدَّر رأيه، يُخلص في أدائه، وحين يُعامل كشريكٍ في القرار، يتحول إلى حاملٍ للثقافة لا مجرد متلقٍ لها. فالثقافة المؤسسية ليست ما تكتبه الإدارة، بل ما يقوله الناس في غيابها، والتغذية الراجعة هي الوسيلة التي تجعل صوت المؤسسة الداخلي صادقًا ومتوازنًا.

ومن الزاوية السلوكية، يُمكن النظر إلى التواصل والتغذية الراجعة كأداتين لضبط التوازن بين الاتجاهين النفسيين في المؤسسة: اتجاه الفهم واتجاه التحفيز. فالتواصل يُغذّي الفهم ويُوضّح المقاصد ويمنع سوء التأويل، بينما التغذية الراجعة تُغذّي التحفيز وتُشعر الأفراد بأن جهدهم مُعترفٌ به. فالموظف الذي لا يفهم التوجه المؤسسي يُخطئ الطريق، والموظف الذي لا يسمع ملاحظاتٍ بنّاءةٍ يفقد البوصلة، والمؤسسة التي لا تستمع تفقد حيويتها، مثلما يفقد الجسد توازنه إذا تعطّل جهازه العصبي. ولذلك فإن بناء منظومةٍ مؤسسيةٍ فعّالةٍ للتواصل والتغذية الراجعة هو شرطٌ أساسيٌّ لترسيخ ثقافة الأداء المستدامة.

ومن الناحية العملية، يُمكن ترجمة هذا المفهوم إلى مجموعةٍ من السياسات والإجراءات المترابطة: إنشاء إدارةٍ متخصصةٍ للتواصل الداخلي تكون حلقة وصلٍ بين القيادة والموظفين؛ تنظيم لقاءاتٍ دوريةٍ مفتوحةٍ للحوار حول الأداء؛ استخدام المنصات الرقمية الداخلية لتبادل الأفكار والمقترحات؛ تخصيص قنواتٍ آمنةٍ لتلقّي الملاحظات بسريةٍ وعدالة؛ وتضمين مؤشرات التواصل والتغذية الراجعة ضمن نظام إدارة الأداء نفسه بحيث يُقاس القائد بقدر ما يُنصت ويُحفّز ويُشارك، لا بقدر ما يُصدر من تعاميم. فالثقافة لا تُبنى بالقرارات فقط، بل بالحوار المستمر الذي يُحافظ على حرارة الفكرة داخل المؤسسة ويمنعها من التجمّد الإداري.

ولأن الثقافة كائنٌ حيٌّ يتنفس التواصل، فإنّ الحفاظ على قنواته يُشبه الحفاظ على الصحة التنظيمية. فحين يتوقف التواصل، يبدأ الصمت بالتمدد، ويُصبح الصمت بيئةً خصبةً للشائعات وسوء الفهم وتآكل الثقة. لذلك تُعدّ الشفافية في الاتصال أحد أهم المؤشرات الدالة على قوة ثقافة الأداء. فكلما كانت المعلومة متاحةً والنية واضحةً، كلما شعر الأفراد بأنهم جزءٌ من الحقيقة لا ضحايا لها. وكلما كانت التغذية الراجعة عادلةً ومتبادلةً، كلما تحولت المؤسسة إلى بيئةٍ ناضجةٍ تُعلّم نفسها وتُطوّر ذاتها دون خوفٍ أو مقاومة. وهكذا تتحول منظومة الاتصال الداخلية إلى “مدرسةٍ مستمرةٍ للتعلم المؤسسي”، تُصقل السلوكيات، وتُغذّي القيم، وتُكرّس ثقافة الأداء كعادةٍ يوميةٍ لا كسياسةٍ إداريةٍ عابرة.

وفي النهاية، يمكن القول إنّ التواصل الداخلي والتغذية الراجعة هما القلب النابض لثقافة الأداء المؤسسي. فالتواصل يُشكّل اللغة التي تعبّر بها المؤسسة عن نفسها، والتغذية الراجعة تُشكّل الوعي الذي تُصحّح به مسارها. وعندما يتكامل الاثنان في بيئةٍ منفتحةٍ يسودها الاحترام والثقة، تُصبح المؤسسة كيانًا يُحاور ذاته باستمرار، يتعلّم من تجاربه، ويُطوّر أنظمته وسلوكياته، ويُعيد إنتاج ثقافته بوعيٍ متجددٍ في كل دورةٍ من دورات الأداء. وهكذا تتحول إدارة الأداء إلى عمليةٍ تواصلٍ إنسانيٍّ راقٍ تُعبّر فيها المؤسسة عن نضجها الداخلي بقدر ما تُعبّر عن كفاءتها التشغيلية، ويُصبح الأداء حديثًا مستمرًا بين الإنسان والنظام، بين القيم والنتائج، وبين الحاضر والمستقبل.


🏛 المحور السادس: التدريب والتحفيز كأدوات لبناء ثقافة الأداء

لا تنشأ ثقافة الأداء المؤسسي من فراغ، ولا تترسّخ بالخطابات أو اللوائح، بل تُبنى عبر مسارين متكاملين: التدريب الذي يُنمّي الوعي والقدرات، والتحفيز الذي يُغذّي الدافعية ويُنعش الالتزام. فالتدريب هو أداة التنوير، والتحفيز هو أداة التمكين، وبين التنوير والتمكين تولد الثقافة وتترعرع. فالثقافة لا تُفرض بالقوة، بل تُزرع بالتعلّم، ولا تُستدام بالخوف، بل تُغذّى بالرغبة، ولا تُنتقل بالتلقين، بل بالتجربة والممارسة. لذلك فإنّ أي مؤسسةٍ تطمح لبناء ثقافة أداءٍ حقيقيةٍ، لا بد أن تجعل التدريب والتحفيز جناحين متلازمين يرفعان الأداء إلى مستوى الوعي والسلوك المستدام.

إنّ التدريب في بيئة الأداء المؤسسي لا يُعد نشاطًا منفصلًا عن النظام الإداري، بل هو العملية التي تُحوّل القيم إلى مهارات، والسياسات إلى ممارسات، والمعايير إلى سلوكٍ يوميٍّ. فالتدريب ليس هدفًا في ذاته، بل هو وسيلة لتمكين الأفراد من فهم فلسفة الأداء وتطبيقها بوعيٍ وإتقان. ومن هنا يُصبح التدريب فعلًا ثقافيًا قبل أن يكون فنيًا، لأنه يُشكّل “العقل الجمعي للأداء” الذي يُوحّد طريقة التفكير بين الموظفين ويُنشئ بينهم لغةً مشتركةً تُعبّر عن روح المؤسسة. فالموظف حين يتدرب لا يتعلم فقط كيف يُنجز المهام، بل يتعلم كيف يُفكر في الأداء بوصفه قيمةً ورسالةً ومسؤوليةً جماعيةً. فالتدريب يُبذر بذور الثقافة في العقول، ويُنمّيها بالتكرار والممارسة حتى تتحول إلى سلوكٍ تلقائيٍّ واعٍ.

ويتجاوز التدريب الفعّال حدود القاعات والحقائب إلى أن يُصبح نمطًا إداريًا دائمًا للتعلّم المؤسسي. فالمؤسسة التي تؤمن بثقافة الأداء لا تعتبر التدريب حدثًا دوريًا، بل أسلوب حياةٍ تنظيميةٍ تُبنى على التعلّم المستمر. فهي تُحوّل كل موقفٍ وظيفيٍّ إلى فرصةٍ للتدريب، وكل خطأٍ إلى درسٍ، وكل إنجازٍ إلى حالةٍ دراسيةٍ تُستثمر لتطوير الآخرين. وهكذا يُصبح التعلم عمليةً تراكميةً تُغذي الأداء وتُعيد بناءه باستمرار. فالتدريب هنا ليس مجرد نقل معرفة، بل إعادة صياغة الوعي المؤسسي ليُصبح أكثر إدراكًا للغايات والمعايير والأثر. والمؤسسة التي تتبنّى هذا المفهوم تتحول من “مؤسسةٍ تُدرب” إلى “مؤسسةٍ تتعلم”، ومن “نظامٍ يُدار بالأداء” إلى “نظامٍ يُنمو بالمعرفة”.

ومن الناحية السلوكية، يُسهم التدريب في بناء ثقافة الأداء من خلال ثلاث مراحل أساسيةٍ:
1️⃣ مرحلة الوعي التي تُعزّز إدراك الأفراد لمعنى الأداء المؤسسي وأبعاده الفكرية والقيمية، وتُعرّفهم بدورهم في تحقيق أهداف المؤسسة.
2️⃣ مرحلة التمكين التي تُزوّدهم بالمهارات والأدوات اللازمة لتطبيق معايير الأداء بكفاءةٍ وثقةٍ.
3️⃣ مرحلة التوطين الثقافي التي تُساعدهم على تحويل ما تعلّموه إلى ممارساتٍ يوميةٍ تُجسّد القيم المؤسسية في سلوكهم.
وهكذا يُصبح التدريب جسرًا بين الفكر والسلوك، بين المعرفة والفعل، بين الوعي الفردي والهوية الجماعية، فيتكوّن من خلاله نسيجٌ ثقافيٌّ موحّدٌ يجعل الأداء لغةً مشتركةً بين جميع العاملين مهما اختلفت وظائفهم.

أما التحفيز فهو الجانب العاطفي في بناء الثقافة، لأنه يُمثّل الطاقة التي تُحرّك السلوك وتُبقي جذوة الالتزام متقدةً في النفوس. فالثقافة لا تعيش في بيئةٍ باردةٍ تخلو من التقدير، ولا تنمو في مؤسسةٍ تتجاهل إنجازات أبنائها. والتحفيز لا يعني المكافأة المادية فحسب، بل يشمل الاعتراف، والثناء، والتقدير الرمزي، وفرص النمو، والإحساس بالانتماء، وإتاحة المشاركة في صنع القرار. فكلّما شعر الموظف أن جهده يُرى ويُقدّر، وأن مساهمته تُحدث فرقًا، ازداد انتماؤه وتضاعف عطاؤه. فالتحفيز يُكمّل التدريب، لأنه يُعيد شحن الطاقة بعد كل دورةٍ من دورات التعلم، ويُحوّل الفهم إلى حماسٍ، والإدراك إلى التزامٍ.

ويُعتبر التحفيز في ثقافة الأداء المؤسسي أداةً استراتيجيةً لتجسيد القيم. فحين تُكافئ المؤسسة السلوكيات التي تعبّر عن قيمها، تُرسل رسالةً خفيةً تُخبر الجميع بما تعتبره مهمًا حقًا. فالثقافة تُبنى بما يُكافأ عليه الأفراد أكثر مما تُبنى بما يُقال لهم. فإذا كوفئ الموظف على المبادرة، ترسّخت ثقافة الابتكار؛ وإذا كوفئ على الدقة، ترسّخت ثقافة الجودة؛ وإذا كوفئ على الالتزام، ترسّخت ثقافة المسؤولية. فكل نظام تحفيزٍ هو في الحقيقة نظامٌ لتشكيل السلوك الجماعي، لأنه يُحدّد ما يُعتبر إنجازًا، وما يُعدّ قيمةً تستحق الاحتفاء. ومن هنا فإن تصميم أنظمة التحفيز يجب أن يُبنى على خريطة القيم المؤسسية، بحيث لا تُكافأ النتائج فقط، بل تُكافأ الطرق التي تحقّقت بها تلك النتائج.

وقد أثبتت التجارب التنظيمية أن الجمع بين التدريب والتحفيز يُضاعف فعالية ثقافة الأداء، لأن التدريب يُنمّي الفهم والتحفيز يُثبّت الممارسة. فالمؤسسة التي تُدرّب موظفيها ولا تُحفّزهم تُنتج معرفةً بلا دافعية، والمؤسسة التي تُحفّزهم دون أن تُدرّبهم تُنتج حماسًا بلا اتجاه. أما التي تجمع بين الاثنين، فإنها تُنتج أداءً ناضجًا مستدامًا يجمع بين الكفاءة والرغبة. فالتدريب يُحرّك العقل، والتحفيز يُحرّك القلب، والمزيج بينهما يُحرّك المؤسسة بأكملها نحو ثقافة الأداء المتكاملة التي تتغذّى بالوعي والطاقة في آنٍ واحد.

ومن الزاوية المؤسسية، يجب أن يُصمَّم التدريب والتحفيز كجزءٍ من نظام إدارة الأداء نفسه لا كأنشطةٍ منفصلةٍ عنه. فكل تقييمٍ للأداء يجب أن يُتبَع بخطة تدريبٍ تُسدّ بها فجوات الجدارات، وأن تُربط نتائج الأداء بمكافآتٍ عادلةٍ تُحفّز على الاستمرار في التحسن. كما يجب أن تُعتمد برامج تدريبٍ قياديةٍ تُركّز على بناء الوعي الثقافي لدى المديرين ليُصبحوا هم أنفسهم مروّجين لثقافة الأداء داخل فرقهم. فالتدريب هنا لا يُنقل من الأعلى إلى الأسفل فقط، بل يُنتقل أفقيًا وعموديًا عبر الحوار والملاحظة والممارسة المشتركة. أما التحفيز فيجب أن يُبنى على العدالة والشفافية وأن يتنوّع بين المادي والمعنوي ليُلبي حاجات الأفراد المختلفة ويُبقي الدافعية متجددةً ومتوازنةً.

ومن الناحية القيمية، يُعتبر التدريب والتحفيز من الوسائل الأخلاقية التي تُعبّر عن احترام المؤسسة لإنسانية موظفيها. فحين تُدرّبهم فهي تُعلن إيمانها بقدرتهم على التطور، وحين تُحفّزهم فهي تُقدّر إنجازاتهم وتُشعرهم بأنهم ذوو قيمة. فالثقافة التي تنشأ في بيئةٍ يشعر فيها الإنسان أنه محترمٌ ومُقدَّرٌ تُصبح ثقافةً قويةً ومنتجةً. فالأداء ليس مجرد إنتاجٍ رقميٍّ، بل تعبيرٌ عن الإحساس بالكرامة والانتماء. والمؤسسة التي تزرع في موظفيها الشعور بالاحترام والثقة تُحصد منهم التزامًا لا يُشترى بالمكافآت وحدها، بل يُغذّى بالحب والانتماء والإيمان بالرسالة.

وفي نهاية هذا المحور، يمكن القول إنّ التدريب والتحفيز هما وجهان لعملةٍ واحدةٍ في بناء ثقافة الأداء المؤسسي. فالتدريب يخلق المعرفة والسلوك، والتحفيز يُبقي السلوك حيًّا ومثمرًا. وحين يُدار الاثنان بتكاملٍ واستمراريةٍ، تُصبح المؤسسة بيئةً تربويةً تُنمي الإنسان قبل أن تُقيّم أداءه، وتُكافئ القيم قبل الأرقام، وتبني الولاء من الداخل قبل النتائج من الخارج. فالمؤسسة التي تتعلم وتُحفّز في آنٍ واحدٍ تُحوّل الأداء إلى رحلةٍ إنسانيةٍ ممتعةٍ تُعبّر عن النضج، وتُجسّد الإتقان، وتُجدد الثقافة باستمرار، لتظلّ قادرةً على الإبداع والتميز مهما تغيّرت الظروف وتبدّلت الأنظمة.


📊 المحور السابع: التحديات المؤسسية في ترسيخ ثقافة الأداء

إنّ بناء ثقافة الأداء المؤسسي ليس مهمةً تقنيةً تُنجز بتعميمٍ إداريٍّ أو قرارٍ تنظيميٍّ، بل هو عمليةٌ تحوليةٌ عميقةٌ تمسّ بنية التفكير والسلوك والعلاقات داخل المؤسسة. ولهذا، فإنّ طريق ترسيخ هذه الثقافة محفوفٌ بتحدياتٍ معقدةٍ ومتعددةٍ، بعضها ظاهرٌ في شكل مقاومةٍ أو قصورٍ في الفهم، وبعضها خفيٌّ يسكن في الأعماق النفسية والتنظيمية للمؤسسة، ويتطلّب وعيًا قياديًا وقدرةً عاليةً على إدارة التغيير. فالثقافة لا تُغرس في بيئةٍ راكدةٍ، بل تُزرع وسط الحراك، وتنمو بالصراع مع العادات القديمة، وتتجذّر حين تنتصر القيم على الجمود الإداري.

ومن أبرز التحديات التي تواجه المؤسسات في ترسيخ ثقافة الأداء، التحدي الإدراكي، وهو الفجوة بين ما تفهمه القيادة وما يُدركه الموظفون حول مفهوم إدارة الأداء. فكثيرٌ من المؤسسات تُطلق أنظمة إدارة الأداء دون أن تُهيّئ وعي الأفراد بها، فينظر إليها الموظفون كوسيلةٍ للرقابة أو المحاسبة، لا كأداةٍ للتطوير والتحفيز. وعندما يُختزل الأداء في التقييم السنوي، يُصبح النظام عبئًا إداريًا لا مصدرًا للنمو. فالثقافة لا تُبنى بالقوانين، بل بالمعنى، والمعنى لا يُولد إلا من الفهم. لذلك فإنّ أول معركةٍ في بناء ثقافة الأداء هي معركة الوعي، وأول خطوةٍ في ترسيخها هي توحيد الإدراك حول غاياتها الإنسانية والتنظيمية.

أما التحدي الثاني فيكمن في المقاومة الثقافية، وهي ظاهرةٌ طبيعيةٌ في أي عملية تغييرٍ تمسّ القيم والعادات الراسخة. فالموظفون الذين اعتادوا على بيئةٍ خاليةٍ من المحاسبة يشعرون بالتهديد حين تُطرح فكرة إدارة الأداء، كما قد يشعر القادة الذين اعتادوا إدارة الناس بالحدس لا بالبيانات بفقدان السيطرة حين يُصبح الأداء شفافًا ومقاسًا. وهذه المقاومة لا تُعالج بالقوة أو الإقناع الخطابي، بل تُدار بالحوار والمشاركة والتدرّج، لأن الناس لا يرفضون التغيير في جوهره، بل يرفضون التغيير الذي لا يفهمونه أو لا يثقون في نواياه. ومن هنا تأتي أهمية القيادة الواعية التي تُحوّل الخوف إلى فضول، والمقاومة إلى التزامٍ، والشك إلى ثقةٍ عبر ممارساتٍ متواصلةٍ تُظهر مصداقية النظام وعدالته.

ويبرز أيضًا التحدي الثالث، وهو ضعف العدالة التنظيمية، الذي يُعدّ من أخطر العوامل المهددة لثقافة الأداء. فحين يشعر الموظفون أن النظام لا يُطبّق بعدالة، أو أن المكافآت لا تتناسب مع الجهود، أو أن المحسوبيات تتغلّب على الكفاءة، فإنّ ثقافة الأداء تنهار مهما بلغت مثالية الأنظمة. لأن العدالة هي العمود الفقري لأي ثقافةٍ مؤسسيةٍ، وإذا انكسر هذا العمود، فقدت المؤسسة توازنها الأخلاقي وانسجامها الداخلي. فالثقافة التي تُبنى على الظلم لا تُثمر إلا اللامبالاة، والمؤسسة التي لا تُكافئ الأداء الحقيقي تُرسل رسالةً خفيةً بأن الالتزام لا جدوى منه. ولهذا، فإنّ تحقيق العدالة في التقييم والمكافأة والمساءلة هو شرطٌ لا يمكن تجاوزه في ترسيخ ثقافة الأداء المستدامة.

ويأتي بعد ذلك التحدي الرابع، وهو التناقض بين القول والفعل، أو ما يُعرف في علم السلوك المؤسسي بـ “الفجوة بين الثقافة المعلنة والثقافة الممارسة”. فكثيرٌ من المؤسسات ترفع شعاراتٍ جميلةً عن الأداء والتميز والجودة، لكنها تُمارس على الأرض سلوكياتٍ تُناقض تلك الشعارات، كالإهمال في المتابعة، أو التجاوز في المعايير، أو تجاهل الموظفين المتميزين. وعندما يرى الناس هذا التناقض، تتآكل الثقة وتفقد الكلمات معناها. فالثقافة لا تُبنى بما يُقال في الاجتماعات، بل بما يُفعَل في الميدان. والمصداقية هي الوقود الذي يُبقي ثقافة الأداء مشتعلةً، وكلّما اتسعت الفجوة بين المعلن والممارس، خمدت الروح وتحوّل الأداء إلى طقوسٍ شكليةٍ لا روح فيها.

أما التحدي الخامس فهو ضعف القيادة الوسيطة، أي الفجوة بين القيادات العليا التي تُطلق الرؤى والسياسات، وبين القيادات التنفيذية التي تتولى التطبيق الفعلي. فالقادة الوسيطيون — كمديري الإدارات ورؤساء الأقسام — هم العمود الفقري في نقل ثقافة الأداء إلى أرض الواقع. فإذا لم يكونوا مؤمنين بالنظام، أو لم يتلقوا التدريب الكافي لفهمه وتطبيقه بعدالةٍ، فإنّ الرسالة الثقافية تنقطع، ويتحوّل النظام إلى ممارسةٍ شكليةٍ. فالثقافة تحتاج إلى وسطاء مؤمنين بها، لا ناقلين محايدين لها، والقائد الوسيط هو حامل الرسالة الذي يُترجم السياسات إلى سلوكٍ ويجعل الأداء تجربةً إنسانيةً إيجابيةً لا مهمةً إداريةً مجهدةً.

ومن التحديات الجوهرية أيضًا التحدي التقني والمعرفي، والمتمثل في ضعف استخدام أدوات القياس الحديثة أو سوء فهم مؤشرات الأداء (KPIs). فكثيرٌ من المؤسسات تعتمد على مؤشراتٍ غير دقيقةٍ أو غير مرتبطةٍ بالنتائج الحقيقية، مما يؤدي إلى تشويه مفهوم الأداء نفسه. فحين تُقاس الكمية دون الجودة، يُكافأ النشاط لا الأثر، وحين تُقاس الجهود دون النتائج، تُضيع البوصلة، وحين تُستخدم البيانات دون تحليلٍ نقديٍّ، تتحوّل المؤشرات إلى غايةٍ لا وسيلة. لذلك فإنّ بناء ثقافة الأداء يتطلّب وعيًا عميقًا بأنّ الأداة لا تُغني عن الفهم، وأنّ التقنية لا تُعوض عن الفكر، وأنّ الأنظمة الذكية تحتاج إلى عقولٍ ذكيةٍ تديرها وتُفسّرها بوعيٍ مؤسسيٍّ ناضجٍ.

ويُضاف إلى ذلك التحدي النفسي والسلوكي، وهو من أعمق التحديات في ترسيخ ثقافة الأداء. فالثقافة لا تُبنى في العقول فقط، بل في النفوس أيضًا، ولا تُغرس بالقواعد فقط، بل بالعلاقات الإنسانية التي تُحيط بها. فالخوف من الفشل، والقلق من التقييم، وفقدان الأمان الوظيفي، كلها مشاعر تُشكّل مقاومةً صامتةً ضد ثقافة الأداء. ولذلك، فإنّ بناء بيئةٍ آمنةٍ نفسيًا يُعد شرطًا أساسيًا لترسيخ هذه الثقافة. فحين يشعر الموظف أن التقييم يُراد به تطويره لا محاسبته، وأن الحوار حول الأداء فرصةٌ لا تهديد، يتحوّل النظام من مصدر قلقٍ إلى مصدر ثقةٍ وتحفيزٍ، وتتحول المؤسسة من ساحةٍ للمنافسة السلبية إلى ساحةٍ للتعلّم والنمو المشترك.

ومن التحديات كذلك التحدي الاتصالي، والمتمثل في ضعف التواصل الداخلي الذي يُفقد النظام روحه. فالثقافة، كما تناولنا سابقًا، تحتاج إلى قنواتٍ حيةٍ من الحوار والتغذية الراجعة، وحين تُغلق هذه القنوات، تُصبح المؤسسة كجسدٍ بلا صوتٍ أو سمعٍ. فيغيب الفهم المشترك، وتُفسّر السياسات بشكلٍ متناقضٍ، وتُنتج الشائعات ثقافةً موازيةً تُناقض القيم الرسمية. ولهذا فإنّ غياب الاتصال الداخلي الشفاف يُعد من أكثر العوامل التي تُضعف ثقافة الأداء، لأنه يُفقد الأفراد الإحساس بالانتماء ويُضعف ثقتهم بالنظام، ويجعلهم يعيشون حالةً من الانفصال النفسي بين ما يُطلب منهم وما يؤمنون به.

ولا يمكن إغفال التحدي الزمني، وهو الميل إلى استعجال النتائج في بناء الثقافة. فالثقافة المؤسسية لا تُزرع بين ليلةٍ وضحاها، بل تحتاج إلى صبرٍ طويلٍ وتكرارٍ واعٍ واستمراريةٍ في السلوك. فبناء ثقافة الأداء يُشبه زراعة شجرةٍ تحتاج إلى عنايةٍ مستمرةٍ حتى تُثمر. والمؤسسات التي تتعامل مع الثقافة كبرنامجٍ قصير المدى تُحبط جهودها سريعًا، لأن الثقافة لا تُقاس بالمؤشرات الشهرية، بل تُقاس بمدى تغيّر السلوكيات على المدى الطويل. ولذلك فإنّ القيادة التي تُدير الثقافة يجب أن تكون قيادةً استراتيجيةً تؤمن بالتحوّل التدريجي، وتحتفي بالتحسين البطيء الثابت أكثر مما تبحث عن الانتصارات السريعة الزائلة.

وأخيرًا، يبقى التحدي الأكبر هو التحدي القيمي، وهو السؤال الأخلاقي العميق: هل المؤسسة تريد فعلاً ثقافة أداءٍ نزيهةٍ شفافةٍ تقوم على العدالة والتميّز؟ أم تريد نظامًا يُجمّل الصورة ويُرضي التقارير؟ لأنّ الثقافة لا تُبنى بالخطاب، بل بالنية والممارسة. فحين تكون الغاية صادقةً، تُبنى الثقافة على الإيمان، وحين تكون الغاية دعائيةً، تُبنى على الزيف، وسرعان ما تنهار. فالثقافة هي مرآة النوايا قبل أن تكون انعكاس الأفعال. ولهذا، فإنّ بناء ثقافة الأداء يتطلب أولاً صدقًا مؤسسيًا عميقًا في الرغبة في التطوير، والتزامًا حقيقيًا بالقيم التي تُعلنها المؤسسة، وإرادةً قياديةً مستمرةً في مواجهة العوائق حتى تُصبح القيم أقوى من المبرّرات، والأداء أسمى من الأعذار.

وهكذا نُدرك أن التحديات التي تواجه ترسيخ ثقافة الأداء ليست عقباتٍ تُثني، بل هي محكّاتٌ تُنضج التجربة وتُظهر معدن القيادة المؤسسية الواعية. فالمؤسسة التي تتعامل مع هذه التحديات بعقلٍ منفتحٍ وروحٍ متعلّمةٍ تُحوّل كل عائقٍ إلى درسٍ، وكل مقاومةٍ إلى فرصةٍ، وكل أزمةٍ إلى نقطة تحوّلٍ جديدةٍ في طريقها نحو النضج الثقافي والإداري. فالثقافة التي تُولد من رحم الصعوبات هي التي تبقى، والمؤسسة التي تُثابر في بناء وعيها حتى وسط العواصف هي التي تستحق أن تُسمّى مؤسسةً ناضجةً تعي أن الأداء ليس أرقامًا تُكتب، بل قيمًا تُعاش.


🌿 المحور الثامن: النماذج العالمية والتجارب الرائدة في بناء ثقافة الأداء المؤسسي

لقد أدركت المنظمات العالمية الكبرى، في القطاعين العام والخاص، أن إدارة الأداء ليست مجرد أداةٍ تقنيةٍ لقياس النتائج، بل هي فلسفةٌ ثقافيةٌ تُوجّه السلوك وتُشكّل الهوية التنظيمية. ومن هذا الإدراك نشأت مدارسٌ فكريةٌ متعددةٌ في بناء ثقافة الأداء، اختلفت في أدواتها ومقارباتها لكنها التقت جميعًا عند جوهرٍ واحدٍ: أن الأداء لا يُدار بالأنظمة فقط، بل يُقاد بالقيم، ولا يُقاس بالأرقام فقط، بل يُقاس بالتعلّم والالتزام والوعي المؤسسي.
وسنستعرض في هذا المحور عددًا من النماذج العالمية التي أثرت الفكر الإداري الحديث وأسهمت في تحويل إدارة الأداء إلى ثقافةٍ مؤسسيةٍ مستدامةٍ، لنستخلص منها المبادئ القابلة للتوطين في بيئاتنا الإدارية العربية.

يُعد نموذج التميز الأوروبي EFQM Excellence Model من أبرز هذه النماذج وأكثرها تأثيرًا في تطوير ثقافة الأداء المؤسسي على مستوى العالم. فقد انطلق هذا النموذج من رؤيةٍ شموليةٍ تعتبر المؤسسة كائنًا حيًّا يتفاعل بين القيادة والاستراتيجية والموارد والعمليات والنتائج. لكنه لم يُقدّم الأداء كمؤشراتٍ جامدةٍ، بل كمنظومةٍ ثقافيةٍ تُبنى على "التحسين المستمر" و"القيادة بالقيم" و"التركيز على أصحاب المصلحة".
ويتميّز نموذج EFQM بأنه لا يفصل بين السلوك والنتائج، بل يرى أن جودة الأداء هي انعكاسٌ مباشرٌ لثقافة المؤسسة، وأن التميز الحقيقي لا يتحقق إلا عندما تتحول المعايير إلى سلوكٍ يوميٍّ يعيشه الجميع. لذلك اعتمد النموذج مبدأ “التمكين” بدل “الرقابة”، و”المساءلة المشتركة” بدل “المحاسبة الفردية”، واعتبر أن كل موظفٍ هو شريكٌ في بناء الأداء لا متلقٍ له.
فالثقافة في هذا النموذج ليست ناتجًا ثانويًا للنظام، بل هي مدخل النظام نفسه، ومن خلالها تُقاس نضج المؤسسة وقدرتها على التعلم والتطور والاستدامة.

أما نموذج بطاقة الأداء المتوازن Balanced Scorecard (BSC) الذي ابتكره كابلان ونورتون، فقد أحدث ثورةً في التفكير الإداري حين ربط بين الأهداف الاستراتيجية والمؤشرات التشغيلية عبر أربع زواياٍ مترابطة: المالية، والعملاء، والعمليات الداخلية، والتعلم والنمو. لكنه لم يقف عند حدود القياس، بل تجاوزها إلى بناء ثقافةٍ استراتيجيةٍ تجعل الأداء مسؤوليةً جماعيةً.
ففي المؤسسات التي تبنّت هذا النموذج بعمقٍ، تحوّلت بطاقة الأداء من أداةٍ للمراقبة إلى لغةٍ موحّدةٍ للفهم المشترك، وأصبح الحوار حول الأداء جزءًا من الحياة اليومية للإدارة. فالقيمة الحقيقية لهذا النموذج ليست في الجداول والأرقام، بل في الطريقة التي يُغيّر بها ثقافة التفكير الاستراتيجي داخل المؤسسة، حيث يتعلّم الجميع أن الأداء ليس نهاية العمل، بل هو وسيلةٌ مستمرةٌ لتعلّمٍ أعمقٍ وتكاملٍ أكبر بين الجهود الفردية والجماعية.

ومن النماذج المهمة أيضًا نموذج النضج المؤسسي CMMI – Capability Maturity Model Integration الذي نشأ في بيئات تطوير البرمجيات، لكنه أصبح اليوم يُستخدم في مختلف القطاعات لتقييم نضج العمليات والإجراءات والثقافات المؤسسية.
يُقسّم هذا النموذج النضج إلى خمس مراحلٍ تبدأ من “العمليات العشوائية” وتنتهي بـ “التحسين المستمر”، ويركّز على الانتقال من الإدارة بردّ الفعل إلى الإدارة بالتعلّم والتطوير.
وقد قدّم هذا النموذج مفهومًا عميقًا لثقافة الأداء يتمثل في أن النضج ليس في تعدد العمليات، بل في قدرة المؤسسة على التعلم من تجربتها وتحويل المعرفة الضمنية إلى معرفةٍ تنظيميةٍ. فالثقافة هنا تُقاس بقدرة المؤسسة على “إعادة إنتاج النجاح” و”تصحيح الفشل” بطريقةٍ مؤسسيةٍ لا فرديةٍ.
وهذا المفهوم يلتقي تمامًا مع فلسفة الثقافة المؤسسية للأداء، حيث يُصبح التعلم الداخلي هو الضمان الحقيقي للاستدامة، وتُصبح المرونة المؤسسية مؤشّرًا على الوعي أكثر مما هي على القوة.

وفي بيئة الإدارة الحكومية الحديثة، يُعد نظام إدارة الأداء في حكومة الإمارات العربية المتحدة (EPMS) من أبرز التجارب العربية الرائدة التي جسّدت الانتقال من النظام إلى الثقافة. فقد بُني النظام على فلسفة “القيادة بالنتائج” و”التمكين بالثقة” و”المساءلة بالشفافية”، وتمّ تصميمه ليُعزّز قيم الكفاءة والمسؤولية والابتكار في القطاع الحكومي.
ولم يُركّز النظام الإماراتي على التقييم السنوي فقط، بل جعل الأداء عمليةً حواريةً مستمرةً بين القائد وموظفيه، وأدخل عناصر السلوك والقيم المؤسسية في التقييم ليُصبح الأداء انعكاسًا لهوية الموظف لا فقط لإنجازاته.
كما ربط النظام بين الأداء الفردي والأداء المؤسسي وبينهما وبين رؤية الدولة، بحيث أصبحت ثقافة الأداء أداةً للتكامل الوطني في تحقيق الأهداف الاستراتيجية. وتُظهر هذه التجربة أن الثقافة حين تُبنى على قيمٍ واضحةٍ وتُدار بقيادةٍ ملهمةٍ، تتحول إدارة الأداء إلى عنصرٍ من عناصر التميّز الوطني.

وفي المملكة العربية السعودية، تُعد تجربة تطوير نظام إدارة الأداء الوظيفي في القطاع الحكومي مثالًا بارزًا على التحوّل من النماذج الإدارية التقليدية إلى النماذج القائمة على الكفاءة والنتائج. فقد اتجهت اللائحة التنفيذية الجديدة إلى بناء ثقافةٍ قائمةٍ على العدالة والشفافية وتحفيز الكفاءات وربط الأداء بالأهداف الاستراتيجية للمؤسسات الحكومية.
وما يميز هذه التجربة هو تركيزها على نشر الوعي بالثقافة الجديدة للأداء من خلال التدريب والتواصل والحوكمة الرقمية، مما جعل الأداء يتحوّل تدريجيًا من عمليةٍ تقييميةٍ سنويةٍ إلى ثقافةٍ سلوكيةٍ يوميةٍ تُمارَس عبر القيم المؤسسية الوطنية التي تتمثل في الإتقان والنزاهة والمسؤولية والعمل بروح الفريق.
وهو ما يتناغم تمامًا مع رؤية السعودية 2030 التي جعلت الأداء المؤسسي أحد أعمدة التحول الإداري في بناء الدولة العصرية الفعّالة.

وفي القطاع الخاص، تُعتبر تجربة شركة جوجل (Google) نموذجًا فريدًا في بناء ثقافة الأداء القائم على الثقة والابتكار. فبدل أن تفرض الشركة أنظمة تقييمٍ تقليدية، تبنّت فلسفة “إدارة الأهداف والنتائج الرئيسية (OKRs)”، التي تقوم على تحديد أهدافٍ طموحةٍ قابلةٍ للقياس، وإتاحة حريةٍ واسعةٍ في تحقيقها.
وهذه الفلسفة نقلت الأداء من الرقابة إلى الشغف، وجعلت كل موظفٍ مسؤولًا عن مساهمته في الأهداف الكبرى للمؤسسة. كما تعتمد جوجل على ثقافة “التغذية الراجعة المفتوحة”، حيث يُشارك الجميع في تقييم بعضهم البعض، مما خلق بيئةً من الشفافية والمسؤولية الذاتية تُجسّد ثقافة الأداء الناضجة التي تُحفّز على الابتكار والتعلّم المستمر.
وهو ما يُظهر أن المؤسسات العظيمة لا تُبنى باللوائح، بل بالثقة، وأن الأداء لا يُقاس بالكم فقط، بل بنوعية الأفكار التي يُنتجها الإنسان حين يشعر بالحرية والمسؤولية معًا.

أما في اليابان، فتُقدّم فلسفة الكايزن (Kaizen) نموذجًا مدهشًا لبناء ثقافة الأداء من خلال التحسين المستمر. فالكايزن لا يعتمد على مبادراتٍ ضخمةٍ أو تغييراتٍ جذريةٍ، بل على آلاف التحسينات الصغيرة اليومية التي يُقدّمها الموظفون طوعًا بدافع الإتقان والمسؤولية الجماعية.
إنها ثقافة الأداء في أنقى صورها، لأنها تُحوّل كل فردٍ إلى قائدٍ في موقعه، وكل لحظة عملٍ إلى فرصةٍ للإبداع والتحسين. فالكايزن ليست أداةً، بل أسلوب حياةٍ مؤسسيةٍ يُعلّم الناس أن الأداء مسؤوليةٌ أخلاقيةٌ لا واجبٌ إداريٌّ فقط، وأن الجودة ليست معيارًا خارجيًا بل قناعةٌ داخلية.
وهذه الفلسفة، حين تُوطّن في بيئاتنا العربية، يمكن أن تُعيد تعريف الأداء بوصفه رحلةً مستمرةً نحو الإتقان لا محطةً نهائيةً للحكم أو المقارنة.

وإذا جمعنا بين هذه النماذج — الأوروبية، والأمريكية، والآسيوية، والعربية — نجد أن القاسم المشترك بينها جميعًا هو تحويل الأداء إلى ثقافةٍ لا إلى عملية، وجعل الإنسان محور النظام لا أداةً فيه، وربط القيم بالنتائج بحيث يُصبح الأداء تعبيرًا عن الضمير المؤسسي لا عن الامتثال الشكلي. فالنضج الحقيقي في إدارة الأداء لا يُقاس بعدد المؤشرات، بل بعمق الثقافة التي تُحرّك تلك المؤشرات، والاستدامة لا تتحقق بكثرة الأنظمة، بل بقوة القيم التي تُغذيها.

وهنا تظهر القيمة الحقيقية لهذه النماذج بالنسبة للمؤسسات العربية: ليست في استنساخها، بل في استلهام فلسفتها وتوطينها بما يتفق مع بيئتنا الثقافية والإدارية والاجتماعية. فكل تجربةٍ ناجحةٍ هي مصدر إلهامٍ، لكن نجاحها الحقيقي يتحقق حين تُترجم إلى ممارسةٍ تتناغم مع هوية المؤسسة وقيم المجتمع.
وهذا ما يُميّز القيادة الواعية: أنها لا تُقلّد، بل تُبدع؛ ولا تُتبع النماذج كما هي، بل تُعيد تفسيرها في ضوء رسالتها ورؤيتها وأصالتها. فالثقافة المؤسسية لا تُستورد، بل تُبنى محليًا بروحٍ عالميةٍ، تجمع بين العقل المنهجي الغربي والضمير الإنساني العربي الإسلامي، لتُقدّم نموذجًا أصيلًا يُجسّد الإتقان كما أراده الخالق: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ﴾.

وفي ختام هذا المحور، نستطيع أن نقول إنّ التجارب العالمية في بناء ثقافة الأداء لا تُعلّمنا فقط “كيف نُدير الأداء”، بل “كيف نفكر فيه”، فهي تُذكّرنا أن الثقافة هي الأصل، والنظام هو الأداة، والإنسان هو الغاية. وأنّ المؤسسات التي تفهم هذه المعادلة هي وحدها التي تستطيع أن تُحوّل الأداء من مهمةٍ إلى معنى، ومن واجبٍ إلى وعي، ومن رقمٍ إلى روحٍ تسكن كل قرارٍ وكل إنجازٍ وكل سلوكٍ في منظومتها المؤسسية.


🪞 الخاتمة التحليلية

حين نصل إلى نهاية رحلة التفكير في ثقافة الأداء المؤسسي، ندرك أننا لا نقف عند خاتمةٍ بقدر ما نقف عند بدايةٍ جديدةٍ في وعي المؤسسة بذاتها. فالثقافة ليست نقطة النهاية في مسار إدارة الأداء، بل هي لحظة الميلاد الحقيقية للنظام حين يُصبح حيًّا، يُفكّر ويتعلّم ويتفاعل مع بيئته بوعيٍ ذاتيٍّ ومسؤوليةٍ أخلاقيةٍ. وإذا كانت إدارة الأداء في مراحلها الأولى تُركّز على الأنظمة والمعايير والمقاييس، فإنها في مرحلة الثقافة تتجاوز كل ذلك لتلامس الإنسان، وتعيد ترتيب العلاقة بينه وبين العمل، بين المؤسسة وقيمها، بين القيادة ورسالتها، وبين النظام وضميره الأخلاقي. فالثقافة هنا ليست ما تمتلكه المؤسسة من شعاراتٍ أو سياساتٍ أو لوائح، بل ما يسكن في ضميرها الجمعي، ويظهر في تصرفاتها اليومية، ويتجلى في الطريقة التي تُمارس بها مسؤولياتها وتُحقق أهدافها وتتعامل بها مع الإنسان.

لقد أظهرت المحاور السابقة أن ثقافة الأداء المؤسسي هي الخيط الذهبي الذي يربط بين الفكر والإدارة، وبين القيم والسلوك، وبين النظام والنتائج. فهي ليست إضافةً تجميليةً إلى نظام إدارة الأداء، بل هي تحوّلٌ نوعيٌّ يُعيد تعريف جوهر هذا النظام. فعندما تُصبح ثقافة الأداء جزءًا من الهوية المؤسسية، لا يعود الأداء مجرّد التزامٍ تنظيميٍّ، بل يتحول إلى نمط حياةٍ داخل المؤسسة. فالأنظمة تُوجّه، والسياسات تُنظّم، لكن الثقافة تُلهم، ومن دون الإلهام تفقد الأنظمة معناها، وتتحول الإجراءات إلى طقوسٍ بيروقراطيةٍ لا تُثمر سوى الامتثال الظاهري. أمّا حين تُلهم الثقافة، فإنها تُحوّل الامتثال إلى التزامٍ، والالتزام إلى إبداعٍ، والإبداع إلى استدامةٍ حقيقيةٍ للأداء المؤسسي.

وفي ضوء ما استعرضناه من أدوارٍ قياديةٍ، وقيمٍ مشتركةٍ، وآليات تواصلٍ، وبرامج تدريبٍ وتحفيزٍ، وتجاربٍ عالميةٍ رائدةٍ، تتضح لنا معالم الطريق نحو بناء ثقافة الأداء: إنه طريقٌ يبدأ بالوعي وينتهي بالاتساق، ويُبنى على قاعدةٍ من العدالة والثقة والتعلّم المستمر. فالثقافة لا تُلقّن، بل تُمارس، ولا تُكتب، بل تُعاش، ولا تُفرض، بل تُحتضن. وهي حين تُحتضن، تُصبح القوة الخفية التي تُحرّك الأفراد وتوجّه القرارات وتُبقي المؤسسة متزنةً في مواجهة التغيّر. فالثقافة القوية لا تخشى التبدلات الخارجية، لأنها تمتلك توازنها الداخلي، والمؤسسة التي تمتلك هذا التوازن تُصبح قادرةً على التجدد الدائم دون أن تفقد هويتها أو بوصلتها.

ويمكن القول إنّ التحول من النظام إلى الثقافة في إدارة الأداء يشبه الانتقال من التعلم بالكتاب إلى التعلم بالحياة. فالنظام يُعلّم “كيف”، بينما الثقافة تُعلّم “لماذا”. والنظام يُنظّم السلوك، بينما الثقافة تُنيره بالمعنى. والنظام يُقاس بالانضباط، بينما الثقافة تُقاس بالإتقان. وعندما تجتمع هذه الأبعاد، تُولد المؤسسة الناضجة التي لا تكتفي بتحقيق الأهداف، بل تخلق بيئةً يشعر فيها كل فردٍ أن أداءه جزءٌ من رسالةٍ أوسع من ذاته، وأن جهده يُسهم في بناء قيمةٍ حقيقيةٍ للمجتمع الذي ينتمي إليه. فالثقافة المؤسسية الواعية تجعل الأداء فعلًا أخلاقيًا بقدر ما هو إنجازٌ وظيفيٌّ، وتجعل الجودة موقفًا ذهنيًا بقدر ما هي معيارٌ إداريٌّ، وتجعل الالتزام سلوكًا فطريًا بقدر ما هو واجبٌ تنظيميٌّ.

وتُبرز الخاتمة هنا فكرةً جوهريةً مفادها أن الثقافة هي أعلى درجات النضج في إدارة الأداء، لأنها اللحظة التي يُصبح فيها النظام ذاتيّ التشغيل بفضل وعي أفراده، فلا يحتاج إلى رقابةٍ خارجيةٍ مستمرةٍ، لأن الضمير المهني أصبح هو المراقب. فالثقافة هي ما تفعله المؤسسة حين لا يراها أحد، وهي ما يبقى حين تُنسى السياسات، وهي المعيار الذي يُقاس به صدق المؤسسة في التزامها بالقيم. فحين تُصبح العدالة عادةً، والإتقان طبيعةً، والتعاون فطرةً، والاحترام سلوكًا يوميًا، يمكن القول إنّ ثقافة الأداء قد اكتملت، وإنّ المؤسسة بلغت من النضج ما يجعلها قادرةً على الاستدامة في الأداء والأثر معًا.

كما تُظهر التجارب أن الثقافة المؤسسية الواعية تُسهم في بناء ما يمكن تسميته بـ “العقل الجمعي للأداء”، وهو الحالة التي يتوحد فيها وعي الأفراد حول رؤيةٍ واحدةٍ فيفكرون ويعملون كما لو كانوا عقلًا واحدًا. وهذا العقل الجمعي هو الذي يُفسّر لماذا تتفوق مؤسساتٌ صغيرةٌ ذات ثقافةٍ قويةٍ على مؤسساتٍ عملاقةٍ ذات أنظمةٍ ضخمةٍ ولكنها تفتقر إلى الانسجام الداخلي. فالثقافة لا تُقاس بحجم المؤسسة، بل بنضجها القيمي، ولا تُحدّدها مواردها، بل إرادتها، ولا تُرسم في الهياكل، بل تُكتب في السلوك اليومي للعاملين فيها. والمؤسسة التي تمتلك هذا الوعي تُصبح نموذجًا في القيادة بالقدوة، وفي التميّز الهادئ الذي يصنع الأثر دون صخبٍ أو استعراض.

وهكذا يمكن القول إنّ ثقافة الأداء هي أعلى درجات التحوّل الإداري، لأنها تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والنظام، وتُحوّل إدارة الأداء من علمٍ إلى فنٍّ، ومن نظامٍ إلى ضمير، ومن وظيفةٍ إلى رسالة. إنها المرحلة التي تتحد فيها التقنية مع الأخلاق، والعقل مع القلب، والنتائج مع القيم، لتُنتج إنسانًا مؤسسيًا جديدًا يعمل بعقله وضميره معًا. فالمؤسسة التي تبلغ هذه المرحلة لا تحتاج إلى أن ترفع شعارات الجودة أو التميّز، لأن أداءها نفسه يُصبح الشعار، وسلوكها اليومي يُصبح الرسالة، وثقافتها تُصبح هويتها التي تُعرّفها وتُميزها في كل ساحةٍ من ساحات العمل الإنساني والإداري.

إنّ بناء ثقافة الأداء المؤسسي هو في جوهره بناءٌ لإنسانٍ جديدٍ داخل المؤسسة: إنسانٍ واعٍ بمهامه، مؤمنٍ برسالته، صادقٍ في عطائه، منسجمٍ مع قيمه، يرى في الأداء وسيلةً لتحقيق ذاته وخدمة الآخرين في آنٍ واحد. وهذا هو ذروة النضج التي تنشدها كل مؤسسةٍ تبحث عن الاستدامة الحقيقية: أن يتحول النظام إلى وعي، والإجراء إلى قناعة، والوظيفة إلى معنى، والإدارة إلى قيادةٍ تتنفس القيم وتمارسها دون تكلّفٍ أو تصنّع. وحين تصل المؤسسة إلى هذه المرحلة، فإنها لا تُصبح ناجحةً فحسب، بل تُصبح مُلهمةً، لأن الأداء فيها يُقاس بالأثر الذي تتركه في الإنسان قبل الرقم الذي تُسجّله في التقرير.

وهكذا نختتم هذا المقال بفكرةٍ جامعةٍ: أن ثقافة الأداء المؤسسي ليست مرحلةً من مراحل التطور الإداري فحسب، بل هي قمّته وغايتُه، لأنها تُحوّل الأداء من نظامٍ يُدار إلى وعيٍ يُقود، ومن نتائجٍ تُسجَّل إلى قيمٍ تُعاش، ومن إدارةٍ للأرقام إلى قيادةٍ للضمير. فالثقافة هي الحياة التي تسري في جسد المؤسسة، وإذا غابت مات النظام مهما كانت أدواته متقدمةً، أما إذا حاضرت، فإنها تُحيي المؤسسة بكل ما فيها من طاقاتٍ وقدراتٍ، لتُصبح الأداء نفسه فعلًا من أفعال الإيمان والإتقان.


✍🏻 التوثيق للمحتوى

📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات،
ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.

✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد:
د. محمد العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية،
بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.

📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية،
ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:

🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z


🔖 #إدارة_الأداء_المؤسسي #ثقافة_الأداء #التحول_المعرفي #القيادة_الواعية #مهارات_النجاح #د_محمد_العامري #التميز_المؤسسي #التطوير_المؤسسي #التفكير_التصميمي #Design_Thinking #Institutional_Performance #Organizational_Culture #Leadership #Performance_Management #Institutional_Excellence #Values_and_Behavior

تحميل محتوى الصفحة رجوع