أولاً: ما هو التعلم؟
للإجابة عن هذا السؤال دعنا نستقرئ الأمثلة التالية.
المثال الأول: أثناء تعلمك للحروف الهجائية كنت في البداية تتعثر في التعرف على تلك الحروف. وفي كتابتها. شيئاً فشيئاً قل عدد الحروف التي تتعثر فيها ولا تجيد كتابتها وأخيراً صرت قادراً على التعرف عليها وفي جميع أوضاعها وكذلك كتابتها. عندئذ نقول أنك تعلمت الحروف الهجائية. وأن هذا التعلم باق معك باستمرار.
المثال الثاني: عندما بدأت تتعلم السياقة كان من الصعب عليك الإمساك بمقود السيارة. والتآزر بين حركات الرجلين في الضغط على الفرامل أو دواسة الوقود وبين حركات يدك لابدال القوة. وشيئاً فشيئاً صارت الأخطاء في هذا التآزر تقل، والسيطرة على السيارة تزداد وأخيراً بدأت حركاتك مع السيارة تتأدى بشكل آلي بل أن هذا الأداء يمكن أن يتأدى وبنفس الجودة مع أي سيارة أخرى غير التي تعلمت عليها ... عندئذ تقول تعلمت قيادة السيارة.
التعلم تغير ثابت نسبياً في السلوك والعمليات المعرفية والانفعالية ناتج عن التدريب والخبرة وجهد يبذله المتعلم.
المثال الثالث: الطفل يحاول أن يمد يديه لالتقاط شيء ما، فيجد أن يده لا تتوجه إلى الشيء المراد، وحتى لو توجهت إليه لما استطاع أن يمسك بذلك الشيء ويوجهه نحو فمه. مع النمو تبدأ هذه العملية تتأدى تدريجياً، إلى أن يصير الطفل قادراً على أدائها بسهولة ويسر وآلية لقد تغير هذا الطفل وصار أقدر على أداء عملية لم يكن بإمكانه تأديتها.
من هذه الأمثلة وغيرها يمكننا التعرف على خصائص عملية التعلم التي تمت الخاصة الأولى: "التغير" فتعلم أي شيء جديد يتضمن التغير. الخاصة الثانية "الاستمرارية النسبية" فالتعلم يتضمن الاستمرارية النسبية لتأثيره على السلوك. الخاصية الثالثة: "الخبرة" فالتعلم يتعلم معايشة خبرة، مثال ذلك أن تخبر أن عليك أن تدرس جيداً حتى تحصل نتيجة جيدة في الامتحان. الخاصية الرابعة "النشاط أو الجهد" فتعلم أي سلوك أو أي شيء يتطلب نشاطاً يبذله المعلم. إذا ما جمعنا هذه الخصائص الأربعة نحصل على تعريف أولي للتعلم.
"التعلم تغير ثابت نسبياً في السلوك نتيجة جهد يبذله المتعلم عبر خبرات يمر بها".
إلا أن لهذا التعريف محددات لابد من أخذها بعين الاعتبار ضمن التعلم. مثال ذلك: التعرق في يوم حار، اصطكاك الأسنان في يوم شديد البرودة، تغير نسب أبعاد الجسم مع النمو، الإفرازات الهرمونية في المواقف الانفعالية، تزايد ضربات القلب ونسبة تدفق الدم في حالة الخوف، أداء الوليد للأفعال المنعكسة بجميع أشكالها، أداء الصراخ، والرضاعة وإصدار الأصوات في الساعات الأولى بعد مولده.
إن المدقق في هذه الأمثلة من التغيرات يمكن أن يصنفها إلى: تغيرات ناشئة عن النضج Maturation، أو خبرات مبرمجة وراثياً، أو آليات فسيولوجية لا سيطرة للمتعلم عليها.
التعلم في علم النفس لا يختلف عما وصلنا إليه من كل الأمثلة الثلاثة أعلاه. فمنذ بدايات القرن الماضي وخاصة في المنحى السلوكي (انظر الفصل الأول) أعلن علماء هذا المنحى أن التعلم "عملية تؤدي إلى تغير نسبي ونهائي في السلوك نتيجة للتدريب أو الخبرة" (Education.Yahoo.com).
التعلم عين العقل Learning is the eye of mind
(Myers, 2004)
وعليه يتميز التعلم عن التغيرات السلوكية الناتجة عن بعض العمليات من مثل النضج البيولوجي، والمرض، وينطبق هذا التعريف على المهارات الحركية كقيادة سيارة، والمهارات العقلية Intellectual skills كالقراءة، والاتجاهات والقيم كالانحيازات والتعصب. وفي السنوات الأخيرة امتد مفهوم التعلم ليشمل بعض الأعراض العصابية Neurotic Symptoms وأنماطاً من الأمراض العقلية. ومع تتالي ظهور نواتج أبحاث الدماغ وتقدم التقنيات والأدوات لدراسته (انظر الفصلين الثالث والرابع) صار ينظر إلى التعلم على أنه تفكير تارة، وتارة أخرى ينظر إلى أن التعلم تذكر".
التعلم يمكن أن يتم بطرق متعددة لعل أسهل أنواع التعلم ذاك الذي يؤشر على تناقض احتمالات أن يعطي المتعلم الاستجابة نفسها كلما تعرض لنفس المثير. أي أن المثير يفقد قدرته على حفز المتعلم على إعطاء الاستجابة. مثل هذه الحالة تعزي إلى اعتياد المتعلم Habituation على المثير (Kosslyn & Rosenberg, 2004).
لقد أمضى علماء النفس ردحاً طويلاً من الزمن وهم يدرسون التعلم. فكشفوا عن مبادئه، والعوامل المؤثرة فيه، والاستراتيجيات التي تفعله، والعمليات المعرفية والانفعالية والسلوك التي تشكل أهداف عملية المتعلم، ودور الدماغ في عملية التعلم، وكيف تتعلم الخلية العصبية، وكيف تتكون الشبكات العصبية، وكيف تتآزر مواضع الدماغ المختلفة في إحداث عملية التعلم في نظام فريد مذهل، ودور الدافعية في التعلم حتى قيل "أن لا تعلم بدون دافع"، وكيف نتعلم اللغة، ونكسب المعرفة. كيف نفكر وكيف نتذكر وكيف نعبر عن انفعالاتنا ... إلخ. لقد خصصت فصول لتناول ما كشفت عنه أبحاث التعلم، وعليه فإن موضوع التعلم سيكون متواجداً في معظم فصول هذا الكتاب (Kalat, 2004).
إن نواتج أبحاث التعلم التي تراكمت عبر ما يزيد عن (125) عاماً أفرزت العديد من نظريات التعلم. هذه النظريات تميل إلى تقاسم ثلاث فرضيات. الفرضية الأولى أن الخبرة تشكل Shapes السلوك. الفرضية الثانية: أن التعلم تكيف. الفرضية الثالثة أن التجريب المخطط له قادر على الكشف عن مبادئ التعلم. إن منظري التعلم يعتقدون أن طريقة اختبار نظرية التعلم تتمثل في التأكد من أن التوقعات المنطقية المستخلصة منها تظل صادقة عند فحصها في المختبر.
لقد سيطرت أبحاث التعلم على أجيال الباحثين عبر القرن العشرين فقد حرص علماء النفس على تطبيق نظريات التعلم في الغرفة الصفية لتجويد عملية التعلم ونواتجها، كما طبقت في العيادات لمحو الآثار السلبية المتعلمة، ووظفت لفهم عمليات التعلم السلوكي والمعرفي والانفعالي (Western, 2004).
ثانياً: نماذج التعلم Models of Learning
إن الاستقصاء العلمي لعملية التعلم والتي بدأت مع نهايات القرن التاسع عشر على يد بافلوف Pavlov في روسيا وثورندايك Thorandike في أمريكا، وما زالت مستمرة مع بدايات القرن الواحد والعشرين، قد أفرزت أربعة نماذج يمكن استخدامها في تفسير التغير في السلوك المتعلم. اثنان من هذه النماذج أكدا على تكوين العلاقة بين المثير والاستجابة والنموذج الثالث أكد على المتغير في الأبنية المعرفية الذي يتم عبر تعلم يحدث من خلال ملاحظة سلوك الآخرين أو من خلال مشاهدة الأطفال لمظاهر العنف في وسائل الإعلام. النموذج الرابع هو ذلك الذي يؤكد على أن التعلم يستند إلى مبادئ الدماغ ويتضمن نماذج التعلم بالمشكلات والتعلم بالحل الإبداعي للمشكلات (Education.Yahoo.com).
النموذجان الأول (الاشراط الكلاسيكي) والثاني الاشراط الإجرائي استند إلى النظرية السلوكية. فالعلماء السلوكيون يؤكدون على أن السلوك الملاحظ والقابل للقياس هو مجال دراساتهم وليس العمليات العقلية، إن الحوار بين هؤلاء العلماء جعل من التعلم الموضوع الرئيس لهم. إن مصطلح "السلوكي" Behaviorist قدم إلى المنظرين والباحثين عدداً من الأفكار ووجهات النظر نذكر منها: المنهجية السلوكية ومفادها أن الأحداث الملاحظة والقابلة للقياس هي التي تدرس بتعبير آخر البيئة وأفعال الفرد، ولكنهم أحياناً يستخدمون تلك الملاحظات للتدخل في الأحداث الداخلية للفرد، هذه الأحداث التي عرفت باسم المتغيرات الدخيلة Intervening Variables وهي أشياء لا نستطيع ملاحظتها مباشرة مثال ذلك:
الحرمان من الطعام | > | الجوع | > | تزايد امتصاص البروتين |
مثير | > | متغير دخيل | > | (استجابة ملاحظة) |
وبالمثل يمكن استخدام متغيرات من مثل: العطش، الرغبة الجنسية، الغضب، الخوف ... إلخ (Kalat, 2004).
إلا أن نفراً من علماء السلوكية أنكروا أن المتغير الدخيل هو المسؤول عن السلوك. فبدلاً من أن نقول أن الحرمان من الطعام يؤدي إلى الجوع والذي يؤدي بدوره إلى تناول الطعام. نقول أن الحرمان من الطعام يؤدي إلى تناول الطعام. وقد عرف هؤلاء العلماء باسم السلوكيين المتطرفين Radical Behaviorists وبذلك قدموا محاولة لتفسير السلوك تعتمد على معادلة مثير > استجابة.
وانتهى السلوكيون إلى تقديم عدد من الافتراضات نذكر منها: الفرض الأول: الحتمية Determinism الفرض الثاني: عدم فاعلية التفسيرات العقلية Ineffectiveness of Mental Explanation (الدافعية، الانفعالات، الحالة العقلية). الفرضية الثالثة: قوة البيئة في تشكيل السلوك (Kalat, 2004).
وسنتناول نماذج التعلم واحداً واحداً بشيء من التفصيل معرفين بالنموذج ومفاهيمه الأساسية وتطوره وتفسيره لعملية التعلم وتطبيقاته التربوية. وأخيراً تقييمه من حيث أدائه الأفضل للوظائف المنوطة به.
النموذج الأول: الاشراط الكلاسيكي Classical Conditioning.
ما هو الاشراط الكلاسيكي؟
للتعرف على هذا النموذج، دعنا نتأمل الأمثلة التالية:
المثال الأول:
طفل رضيع أخذته أمه يوماً إلى عيادة أحد الأطباء، وهناك، حقنه الطبيب بحقنة (مثير طبيعي) آلمته، وكان الطبيب حينها يرتدي روباً أبيض (مثير محايد). وفي يوم آخر أخذته أمه إلى صيدلية لشراء الدواء الذي وصفه له الطبيب. بمجرد رؤيته للصيدلي الذي يرتدي روباً أبيض بدأ الطفل بالصراخ. فالروب الأبيض استجر استجابة البكاء.
المثال الثاني:
في يوم ربيعي جميل اصطحب أحد الآباء طفله الرضيع في نزهة وهناك مد الطفل يده لتلمس زهرة البنفسج (مثير محايد) وتصادف في نفس اللحظة وجود نحلة عليها فلدغته (مثير طبيعي). في اليوم التالي عادت الأم من عمله وهي تحمل باقة من زهور البنفسج تناولت منها زهرة لتقديمها لطفلها ليشمها. فما أن وقع نظره عليها حتى اندفع في صراخ عال مرعوباً من منظر تلك الزهرة. فمنظر الزهرة استجر استجابة الخوف من الألم التي تأدت بشكل طبيعي للدغة النحلة.
المثال الثالث:
في تجربة على الكلاب، لاحظ بافلوف أن الكلب يفرز اللعاب (استجابة طبيعية) عندما يقدم له الطعام (مثير طبيعي). في تطويره لهذا الموقف المخبري أضاف له صوت جرس (مثير محايد) قبل أن يقدم الطعام (المثير الطبيعي). كرر هذا الموقف، وبعد ذلك أراد أن يفحص أثر صوت الجرس (مثير محايد) على الكلب دون أن يقدم له الطعام فوجد أن الكلب يفرز اللعاب فور سماعه صوت الجرس.
من خلال هذه الأمثلة الثلاثة يمكن استكشاف آلية الاشراط الكلاسيكي على النحو التالي: تقدير مثير محايد يليه مثير طبيعي وتكرار هذا التسلسل يجعل المثير المحايد قادراً على استجرار الاستجابة الطبيعية التي كانت تتأدى للمثير الطبيعي فقط. ويمكن تمثيل ذلك بالشكل التالي:
(1) الطعام > إفراز اللعاب.
(2) صوت جرس > الطعام > إفراز اللعاب.
(3) صوت الجرس > إفراز اللعاب
دراسات بافلوف:
لم يقصد بافلوف أن يبحث الاشراط الكلاسيكي، بل إن أبحاثه ركزت بداية على عملية الهضم عند الكلاب، وخلال هذه الأبحاث لاحظ ظاهرة مثيرة للاستطلاع والفضول. لقد لاحظ بافلوف أن لعاب الكلب بدأ يسيل لرؤية الطعام أو شم رائحته وقبل أن يتذوقه فعلياً. وفي بعض التجارب فإن رؤية وعاء الطعام أو سماع صوت الشخص الذي يقدم الطعام كان يؤدي إلى سيلان اللعاب.
إن هذه المثيرات أصبحت وكأنها بالنسبة للكلب مؤشرات للطعام نفسه وتعلم الكلب أن تقديم هذه المثيرات سوف يتبع بتقديم الطعام. أدرك بافلوف وبسرعة أهمية هذه الملاحظات وحول اهتمامه في البحث في هذا الاتجاه.
إن الإجراءات التي استخدمها بسيطة نسبياً، فخلال المحاولات لتطوير هذه الاستجابات الشرطية فإن المثير المحايد والذي ليس من طبيعته أن يؤثر على سيلان اللعاب كصوت الجرس مثلاً كان يقدم ويتبع مباشرة بمثير ثان من طبيعته أنه يؤدي إلى سيلان اللعاب وله في نفس الوقت تأثير قوي على سيلان اللعاب كمسحوق اللحم المجفف الذي كان يوضع مباشرة في فم الكلب.
إن مسحوق اللحم (مثير طبيعي) أو غير شرطي وذلك لقدرته على إحداث استجابة سيلان اللعاب بشكل تلقائي وطبيعي ولا يعتمد في ذلك على تعلم سابق لهذه الاستجابة. لذلك سميت الاستجابة (سيلان اللعاب) لمسحوق اللحم استجابة طبيعية لأنها لا تعتمد على التعلم السابق.
أما صوت الجرس فسمي بالمثير الشرطي لأن قدرته على توليد استجابة سيلان اللعاب تعتمد على اقترانه مع مسحوق اللحم والاستجابة لهذا المثير سميت بالاستجابة الشرطية.
لقد كان السؤال الأساس في ضوء هذه الملاحظات والتجارب: هل يمكن لصوت الجرس (مثير محايد) أن يستجر تدريجياً استجابة سيلان اللعاب نتيجة لاقترانه المتكرر مع مسحوق اللحم؟ هل يستجر الجرس هذه الاستجابة عندما يقدم لوحده؟ وكانت الإجابة على هذا السؤال بنعم، فبعد أن تكرر اقتران صوت الجرس (مثير شرطي) مع تقديم الطعام (مثير طبيعي) فإن الكلب قدم الاستجابة لصوت الجرس عندما لم يتبع بتقديم الطعام.
الاشراط الكلاسيكي: مفاهيم أساسية
الاكتساب
في معظم الحالات فإن الاشراط الكلاسيكي عملية تدريجية يكتسب من خلالها المثير الشرطي القدرة على استجرار الاستجابة الشرطية كنتيجة للاقتران المتكرر مع المثير غير الشرطي (الطبيعي) وتشير التجارب أنه كلما زاد عدد مرات الاقتران كان الاكتساب أسرع.
العامل الثاني الذي يؤثر في عملية الاكتساب يتعلق بالترتيب الزمني Temporal Arrangement لاقتران المثير الشرطي مع غير الشرطي.
ويمكن أن نميز هنا بين الأنواع الأربعة التالية:
1- الاشراط المؤجل Delayed Conditioning: حيث يتم تقديم المثير غير الشرطي أثناء ظهور المثير الشرطي الذي سبق أن قدم أولاً.
2- الاشراف المتعاقب Trace Conditioning: يقدم المثير الشرطي أولاً وبعد ذلك المثير غير الشرطي دون حدوث تداخل بين تقديم المثيرين.
3- الاشراط المتوافق Simulataneous Conditioning: في هذه الحالة يقدم المثير الشرطي والمثير غير الشرطي في نفس الوقت حيث أنهما يبدأن معاً ويختفيان معاً.
4- الاشراط الرجعي Backward Conditioning: حيث يقدم المثير غير الشرطي أولاً وبعدها يقدم المثير الشرطي.
تشير التجارب إلى أن النوع الأول الاشراط المؤجل هو أكثر الطرق فعالية لتكوين الاستجابة الشرطية ذلك لأن المثير الشرطي في هذه الحالة يعمل كمتنبئ قوي لظهور (المثير الطبيعي) غير الشرطي لاحقاً. (Santrock, 2003) و (Davis & Palladino, 2004).
العامل الثالث هو الشدة التي يقدم بها المثير الطبيعي والمثير الشرطي. وبشكل عام فإن الاستجابة الشرطية تكتسب بشكل أسرع إذا زادت شدة المثير الطبيعي أو الشرطي. لكن يجب أن نلاحظ أن العامل الهام هنا لا يتعلق بالشدة المطلقة للمثير ولكن الأمر يتعلق بالشدة النسبية أو بعبارة أخرى درجة تباين واختلاف المثير عن مثيرات أخرى متنوعة موجودة في البيئة المحيطة.
العامل الرابع يتعلق بالفترة الزمنية ما بين تقديم المثير الشرطي والمثير غير الشرطي. إن الفترة الزمنية القصيرة جداً (أقل من 0.2 ثانية) نادراً ما تؤدي إلى تكوين استجابة شرطية. في التجارب التي أجريت على الحيوانات فإن الفترة الزمنية المناسبة تراوحت ما بين (0.2 – 2) ثانية حيث أن الفترات الأطول تؤدي إلى صعوبة تمييز الحيوان للمثير الشرطي كمؤشر للأحداث أو المثيرات اللاحقة.
- التعميم Generalization والتمييز Discrimination
التعميم – في الاشراط الكلاسيكي – هو ميل المثير الجديد المشابه للمثير الشرطي الأصلي لاستجرار نفس الاستجابة الشرطية، إذا ما اقترن به. الشكل التالي يوضح التعميم.
(1) الطعام > إفراز اللعاب (استجابة طبيعية).
(2) صوت جرس > الطعام > إفراز اللعاب (استجابة شرطية)
(3) صوت الجرس > إفراز اللعاب (استجابة شرطية).
(4) صوت صافرة > صوت الجرس > إفراز اللعاب (استجابة شرطية)
(5) صوت الصافرة > إفراز اللعاب (استجابة شرطية)
وبالإمكان سلسلة مثيرات قريبة من صوت الجرس أو مرافقة له كصوت المجرب أو الروب الذي يلبسه، ويبدو أن التعميم فيه بعض الفوائد حيث أنه يمنع الكائن الحي من تعلم الاستجابة لمثير واحد بعينه. مثال تعلم قيادة السيارة يعمم على جميع أنواع السيارات. وبالمقابل هناك وجه سلبي للتعميم، فمن غير المعقول أن يعمم الطفل خوفه من النحلة إلى الصرصور إلى الناموس ... إلخ، بحيث تكثر المثيرات المخيفة المشابهة للمثير الشرطي الأول. من هنا جاء مفهوم التمييز والذي يعني عملية تعلم الاستجابة لمثير بعينه دون المثيرات الأخرى.
من الأمثلة على التعميم تعلم نظرية هندسية ثم استخدامها لحل الكثير من الأسئلة ذات العلاقة. واستنباط نفس النتائج من تطبيق قاعدة عامة على مواقف ظرفية. فقاعدة "كل إنسان فان" تطبق على جميع البشر. أما من الأمثلة على التمييز الامتحانات الموضوعية حيث يطلب من المفحوص اختيار الإجابة الأنسب أو الإجابة الصحيحة من بين أربعة احتمالات مثلاً.
- المحو Extinction والاستعادة Spontaneous Recovery
يقصد بالمحور التدريجي إضعاف الاستجابة الشرطية بتغييب المثير غير الشرطي (الطبيعي)، ليصبح المثير الشرطي أضعف من أن يستجر الاستجابة الطبيعية. عكس المحو عملية "الاستعادة التدريجية" بها يمكن استعادة الاستجابة الشرطية دونما حاجة لتقديم المثير الطبيعي. فصوت الجرس يكفي لتتأدى استجابة إفراز اللعاب (Santrock, 2003).
الاشراط الكلاسيكي بعد بافلوف:
إن فهمنا للاشراط الكلاسيكي قد تغير بشكل كبير منذ تجارب بافلوف فنحن الآن نعرف أن الاشراط ليس عملية آلية أو أتوماتيكية تربط ببساطة بين مثير شرطي واستجابة شرطية. إن علماء النفس في الوقت الحاضر يعطون اهتماماً وتركيزاً أكبر على المعلومات التي يقدمها المثير الشرطي للفرد الذي يتعرض لهذا المثير.
ففي نظرية المترتبات Contingency Theory تبلور أحد المبادئ من البحوث المستمرة يفيد: كلما كان المثير الشرطي أقدر وأفضل في التنبؤ بظهور الاستجابة الشرطية فإن الاشراط يكون أقوى، الدراسة على الاشراط الكلاسيكي التي توضح ذلك أجريت على مجموعتين من الفئران بالنسبة للمجموعة الأولى فإن المثير الشرطي (لحن) كان يتبع دوماً بمثير غير شرطي (صدمة) سميت هذه المجموعة Contingent لأن الصدمة كانت ملازمة وتتبع اللحن دوماً.
في المجموعة الثانية كانت الفئران تسمع اللحن بعد أو قبل تقديم الصدمة وسميت هذه noncontingent لأن الصدمة لم تكن ملازمة للحن. ولأن اللحن كان متنئاً فعالاً بالاستجابة الشرطية في حالة المجموعة الأولى فإن الاشراط الكلاسيكي كان أقوى وكان أضعف عند المجموعة الثانية لأن المثير الشرطي لم يسبق غير الشرطي دوماً (Davis & Palladino, 2004)
تورد أبيات الاشراط الكلاسيكي الأحدث المثال التالي:
افترض أنك ذهبت مع مجموعة من الأصدقاء إلى أحد المطاعم وكان جو المكان وتنظيمه مريحاً واستمتع بوجبة شهية ولكن ما إن عدت إلى البيت بدأت تشعر بألم حاد في معدتك منعك من النوم ومررت بخبرة مؤلمة حملت معها الكثير من المعاناة والألم. إن هذه الأحداث لا تبدو كما يشير وصفها أنها تتضمن تعلماً ولكن في حقيقة الأمر فإن الاشراط الكلاسيكي أخذ مكانه خلال هذه الأحداث. إنك سوف تتجنب هذا النوع من الطعام في المرات القادمة ولكن لماذا؟ كما يبدو فإن الدماغ البشري لا يكون حساساً بنفس الدرجة إلى كل أنواع المثيرات. إن بعض أنواع المثيرات تكون أكثر أهمية للبقاء من مثيرات أخرى وعمليات التطور هيأت الدماغ لتحديد بعض أنماط من الارتباط السببي بسهولة أكثر من غيرها.
هل حالة الشعور بالغثيان عند تناول طعام غير مألوف لها علاقة بعملية التعلم؟ إن مفهوم التنبؤ يفيد في تفسير ما حدث عندما يشعر الحيوان أو الإنسان بالمرض أو الألم لتناول طعام لم يتذوقه من قبل فإن الطعام أو المذاق (مثير شرطي) يصبح عاملاً متنبئاً بظهور الإعياء أو المرض.
يطور الفرد كرهاً شديداً لذاك الطعام أو المذاق الذي ارتبط مع المرض. لقد أوضح John Garcia (1960) أنه عند استخدام مذاق جديد غير مألوف كمثير شرطي وكان المرض أو الغثيان استجابة غير شرطية. فإن الجرذان طورت كرهاً شديداً لذاك المذاق وهو ما عرف لاحقاً بـ Gracia effect. يحدث الاشراط الكلاسيكي للحن الطعام بأوضح صورة عندما يسمع اللحن قبل تقديم الطعام بنصف دقيقة ولكن الكره الشديد لمذاق الطعام يظهر عندما يظهر المرض بعد مضي ساعة من تناول ذاك الطعام، عندما قدم Garcia نتائج تجاربه لأول مرة قوبلت بشيء من الشك لأنها بدت وكأنها لا تتبع مبادئ الاشراط الكلاسيكي. إن طول الفترة الزمنية بين تقديم المثير الشرطي والمثير غير الشرطي كانت عاملاً يتناقض مع ما توصل إليه الباحثون من تجارب عديدة في مختبراتهم حول الاشراط الكلاسيكي. ولذلك رفضت المجلات المعتمدة في البحوث العملية نشر ما توصل إليه ولكن يرجع الفضل إلى تصميمه في أن أصبحت أبحاثه فيما بعد مقبولة وشكلت مرجعاً في توضيح أن التطور الوراثي للحيوان يضع حدوداً لما يمكن أن يتم تعلمه.
لابد من الإشارة إلى نقطتين هامتين حول الكراهية للمذاق:
1- لابد أن يكون المذاق غريباً وغير مألوف لكي يرتبط مع حالة المرض.
2- يمكن أن تكون المدة الزمنية بين المثير الشرطي والمثير غير الشرطي طويلة إلى حد ما ومع ذلك فإن اشراطاً قوياً لابد وأن يحدث.
في حالة الكائن الإنساني يبدو أن العضوية لديها استعداد بيولوجي لتعلم استجابات شرطية معينة أكثر من استجابات أخرى. في حالة الفرد الإنساني فإن الطعم أو المذاق والمرض يشكلان اقتراناً طبيعياً وكذلك اقتران لحن أو ضوء مع تقديم صدمة كهربائية. لوحظ في المقابل أن اقتران اللحن أو الضوء مع المرض أو المذاق فإن العلاقة الشرطية المتكونة تكون ضعيفة.
وأن أنواع الذكاء ماهي إلا أساليب تعلم، وأن بعض الذكاءات من مثل، الذكاء الانفعالي والذكاء الأخلاقي ما هي إلا نواتج عمليات التعلم الهادفة إلى تحقيق التكيف الناجح من خلال إحداث التغير النوعي في العمليات الانفعالية أو الأحكام الأخلاقية (Santrock, 2003).
نشاط رقم (1) |
عرف التعلم. وميز بين التعلم بالملاحظة والتعلم بالاقتران. |
تفكير ناقد |
كيف تتعلم؟ فكر في سلوك اندمجت فيه وصف لنا كيف تعلمته. هل عرفت أن تميز بين التعلم بالملاحظة والتعلم بالاقتران: |
إن لم تستطيع فإليك البداية. التعلم بالملاحظة Obervational Learning هو ذاك التعلم الذي يتم من خلال مراقبة المتعلم لما يقوم به الآخرون من حوله. والتعلم بالاقتران Associative Learning هو ذاك التعلم الناتج عن اقتران أو ارتباط حدثين معاً بحيث إذا ما ظهر الحدث الأول تلاه في الظهور الحدث الثاني. مثال: رؤية البرق يليها سماع الرعد.
يذهب بعض علماء علم النفس المعرفي وعلم الأعصاب المعرفي إلى أن دماغ الإنسان مفطور على التعلم، وعلى استمرارية هذا التعلم من المهد إلى اللحد، لماذا يعتبر التعلم مهماً؟
أن تتعلم يعني أن تستكشف، والحاجة إلى الاستكشاف تستمر معنا طول حياتنا، التعلم يساعدنا على البقاء من خلال عملية التكيف لمواجهة ما يعترضنا من تحديات. التعلم يساعدنا على تحقيق أحلامنا، التعلم يكمن وراء معظم سلوكاتنا: ماذا تأكل وكيف؟ كيف نلبس وماذا نلبس؟ كيف نعرف وكيف نفهم وكيف نطبق ما نفهم؟ كيف نعيش في مجتمع وننصاع إلى معاييره وثقافته. هل يمكننا تجنب تعلم ما يضر، وتعلم ما ينفع؟ بالتعلم نحل ما يواجهنا من مشكلات بحلول مبدعة. بالتعلم نختار أساليب حياتنا، بالتعلم ننقد ونقيم وننحاز. بالتعلم نحقق وجودنا.
تطبيقات الاشراط الكلاسيكي:
يمكن توظيف نموذج الاشراط الكلاسيكي في مواقف علاجية. ففي حالة الفوبيا (Phobia) الخوف المرضي غير المنطقي يمكن تفسيره بهذا النموذج وذلك بالبحث عن المثير الشرطي الذي كان محايداً ولا علاقة له بالخوف وصار قادراً على استجرار نفس الاستجابة. فإذا كان من المنطقي أن يخاف الطفل من الظلمة أو الصراصير أو الفئران فإنه من غير المنطقي أن يخاف من صوت قرع الباب مثلاً أو سماع صوت سيارة مارة في الطريق، أو رؤية امرأة غريبة ... إلخ.
هذا من حيث التفسير، أما من حيث العلاج فيعتمد على إطفاء استجابة الخوف بتقديم المثير الشرطي دون إقرانه بالمثير الطبيعي المثير للخوف، أو إقران مثير جديد مع المثير الشرطي المثير لاستجابة الخوف وفي نفس الوقت ظهور هذا المثير الجديد يقدم للطفل شيئاً يحبه (حلوى، حليب، بسكويت). على أساس أن يتعلم الطفل أن هذا المثير الذي ينبغي أن يخيفه يحبه فيقدم له الحلوى مثلاً.
وبالمثل يمكن للاشراط الكلاسيكي تفسير الانفعالات السارة لأحداث أو أشياء من حولنا من مثل: رؤية القمر بدراً، منظر قوس قزح، يوم ربيعي مشمس، أغنية محبوبة ... إلخ، إذ يمكن للمكان التي تمت فيه مثل هذه الأحداث أن تستجر الاستجابة الانفعالية السارة كالاسترخاء والشعور بالمتعة.
وبالمثل يمكن الاستفادة من "الاستعادة التدريجية" للاستجابة الشرطية المتعلمة بعد أن تكون قد ضعفت سواء بفعل الاعتياد على المثير الشرطي، أو بفعل ضعف ذلك المثير. وهذه الاستعادة نلجأ إليها عندما تكون الاستجابة الشرطية مرغوب فيها كأن يصر الطفل على الذهاب إلى المسجد للصلاة يوم الجمعة. ويلاحظ عليه الأهل أن حماسه للذهاب بدأ يضعف عندئذ لابد من البحث عن المثير الشرطي وإقرانه بالمثير الطبيعي حتى يستعيد الطفل حماسه للصلاة في المسجد.
نافذة رقم (1) |
من العقل إلى الدماغ لقد أكدت البحوث توقعات بافلوف والتي مفادها أن الاشراط الكلاسيكي يغير من فعل الخلايا العصبية التي تربط ما بين المثير والاستجابة. |
فالدراسات التي تمحورت حول الأسس الخلوية للتعلم لدى "محار البحر" (Marine Snail)، وهي عضوية بسيطة يمكن ملاحظة خلاياها العصبية بواسطة الميكروسكوب، أفادت بأن التعلم الذي يحدث عبر تزايد وتناقص كمية الناقلات العصبية التي تطلقها الخلية العصبية في أزرارها النهائية (انظر الفصل الرابع). فالتعلم عادة ما يغير من التركيب الخلوي، ويحول الأحداث البيئية إلى تغيرات فيزيقية في الجهاز العصبي (Western, 1996, P. 184).
نشاط رقم (2) |
1- ما هو الاشراط الكلاسيكي، وكيف استكشف؟ 2- كيف يمكن محول الاستجابة الشرطية؟ 3- هات أمثلة من الحياة اليومية للاشراط الكلاسيكي. 4- ناقش دور الاشراط الكلاسيكي في الخوف المرضي لدى الإنسان. |
تفكير ناقد |
فكر في تعلق وجدته أو وجده أحد آخر نحو موضوع ما في البيئة المحيطة (الأم، مشاهدة السيرك، الانترنت ... إلخ). فسر كيف يمكن للاشراط الكلاسيكي أن يساهم في الترابطات السارة. |
النموذج الثاني: الاشراط الإجرائي Operant Conditioning
ما هو الاشراط الإجرائي؟
للإجابة على هذا السؤال دعنا نستقرئ الأمثلة التالية:
المثال الأول:
لاحظ أحد المعلمين أن مشاركة أحد في الأنشطة الصفية ضعيفة، فهو بالكاد يحاول الإجابة على سؤال يوجه له، ويفضل التزام الصمت ونادراً ما يبدي أي رأي أو يقدم أية مشورة أو اقتراح. قرر هذا المعلم أن يعتني بأحمد فراح يكلفه بمهمات بسيطة ويخصص له مكافأة كلما أنجز المهمة فتارة يشكره وتاره يعطيه درجات إضافية، وأخرى يطلب من زملائه أن يصفقوا له. فلاحظ أن أحمد قد بدأ يتغير وصار يشارك في الأنشطة الصفية.
المثال الثاني:
لاحظت إحدى الأمهات إعجاب ابنها بمعلمته في الروضة، فكثيراً ما يمدحها ويثني عليها ويكرر "أنا أحبها". حاولت الأم أن تبحث عن أسباب هذا الإعجاب وطاعة المعلمة، فوجدت أن هذه المعلمة تشجع طفلها بمنحه نجوماً أو توجه له مديحاً، أو تقربه منها كلما بدى تعاوناً ومشاركة في الحصة.
المثال الثالث:
وجد من خلال الدراسات التي أجريت على الحمام في المختبر أن الحمامة قد تعلمت أن تنقر في مكان معين كلما أرادت أن يعطيها المجرب حبة قمح.
إن تأمل هذه الأمثلة يتيح لنا فرصة استخلاص مفهوم الاشراط الإجرائي (الوسيلي Instrumental)، والذي يمكن التعبير عنه بالشكل التالي:
مثير > استجابة > النتائج (تعزيز، عقاب)
أي أن النتائج المترتبة عن الاستجابة هي التي تشجع الكائن الحي على أداء تلك الاستجابة كلما ظهر المثير الأصلي، بتعبير آخر فإن الاشراط الإجرائي عملية بموجبها يترابط السلوك بنتائجه.
دراسات ثورندايك:
في نفس الوقت الذي كان فيه بافلوف يجري دراسته حول الاشراط الكلاسيكي، كان ثورانديك يجري دراساته حول قطة جائعة موضوعة في صندوق. وحتى تخرج منه لابد من ضرب الباب بيدها. فتحصل على الطعام. فعلى القطعة أن تتعلم كيف يفتح الباب، لاحظ ثورانديك أن القطة تبدأ بالقيام بحركات عشوائية بالضرب بيدها في أماكن مختلفة من القفص. بالصدفة تحدث الضربة في المكان المطلوب لفتح باب القفص فتخرج لتحصل على الطعام، عندما تعاد إلى القفص مرة أخرى لوحظ أن عدد الضربات الفاشلة تقل تدريجياً وبتكرار نفس الموقف تعلمت القطة الضربة الناجحة مباشرة دونما حاجة لضربات فاشلة.
قانون الأثر: الكائن الحي ميال إلى تكرار الاستجابة التي تترك لديه أثراً طيباً.
من هذا الموقف التجريبي طور ثورانديك "قانون الأثر" Low of effect ومفاده أن العضوية تميل إلى تكرار السلوك الذي يترك لديها أثراً طيباً. بتعبير آخر فإن السلوكات التي تتبع بنتائج إيجابية تتقوى أكثر ويصير القيام بها مباشرة بعد المثير، وعلى العكس فإن هذه السلوكات تضعف إذا تلاها نتائج سالبة (عقاب). فنوعية النتائج المترتبة على السلوك هي التي تقرر قوة الرابطة بين (المثير > الاستجابة). لذا عرفت نظرية ثورانديك باسم نظرية "المثير – الاستجابة" لأن سلوك العضوية يعزي إلى الرابطة بين المثير والاستجابة. (Santrock, 2003).
دراسات سكنر:
انطلقت دراسات سكنر مما انتهى إليه ثورانديك، أي من قانون الأثر، حيث طور ما عرف باسم "صندوق سكنر" للكشف عن مبادئ ضبط السلوك، بموجب هذه المبادئ استطاع أن يعلم الحمامة أن تنقر في مكان معين (رافعة) إذا ما أرادت الحصول على حبة القمح. وأن تدور حول نفسها أو تسير في خط مستقيم نحو الرافعة.
التعزيز Reinforcment : عملية بموجبها تقود النتائج إلى تزايد الرغبة في تكرار السلوك من جديد.
وبالمثل علم الفأر أن يضرب على رافعة للحصول على الطعام. (Myers, 2004)، أفرزت هذه الدراسات عدداً من المفاهيم منها التعزيز، والعقاب، والتشكيل Shaping، وسنتناول هذه المفاهيم بشيء من التفصيل (Myers, 2004).
التعزيز:
التعزيز هو العملية التي بموجبها يكتسب المثير أو الحدث قوة تزيد من احتمالية تكرار السلوك الذي يليه. لقد طور العلماء السلوكيون عدداً من مبادئ التعزيز منها:
أ- مبدأ التعزيز الإيجابي والسلبي:
إن المعزز الإيجابي مثير مرغوب يتبع السلوك ويزيد من احتمال تكراره كالطعام الذي قدم للقطة في تجارب ثوراندايك، يعمل الطعام كمعزز إيجابي للإنسان والحيوان وكذلك فإن الألعاب والنقود والجوائز والأشياء غير المحسوسة كالمديح والاهتمام تعمل كمعززات إيجابية، في بعض الحالات فإن الصراخ على الطفل الذي يعرض سلوكاً غير مقبول يعتبر معززاً إيجابياً إذا كان ذلك هو الطريقة الوحيدة التي يعبر بها الأب أو الأم عن الاهتمام بالطفل ومن الأمثلة على التعزيز الإيجابي:
- العمولة التي يحصل عليها الفرد الذي يعمل في مجال المبيعات.
- السماح للطفل بمشاهدة برامج التلفزيون بعد أن يقوم بترتيب غرفته ولذلك فإنه يقوم بترتيبها كل يوم.
- مدح الطالب الذي يحصل على علامة عالية مما يدفعه إلى بذل مزيد من الجهد في دراسته.
التعزيز السلبي:- إنهاء أو سحب مثير غير مرغوب بعد القيام بالسلوك المناسب وهو يعمل أيضاً على زيادة تكرار السلوك. إن ضغط الفأر داخل صندوق سكنر على القاطع بحيث يتوقف سريان التيار الكهربائي مثال على التعزيز السلبي.
إن المعلم الذي يستخدم الإقصاء مع الطالب المشاغب إنما يستخدم التعزيز السلبي مع الطالب إذا كان الطالب يرى في الإقصاء كفترة استراحة وتحرر من إتمام المهام مع الطلبة في غرفة الصف، إن المعلم في هذه الحالة ودون أن يقصد يعزز سلبياً السلوك المعطل.
يبكي الطفل ليحصل على ما يريد، يستجيب الأب لهذا البكاء ويتوقف الطفل عن البكاء ما الذي حدث؟ المثير المنفر (البكاء) تم التخلص منه وبالتالي فإن الطفل قد تم تعزيزه سلبياً من خلال سلوك الأب ومن المحتمل أن يستجيب الأب بنفس الطريقة في المرة القادمة.
إن مبدأ التعزيز السلبي هو الذي يفسر عندما يستخدم الفرد المسكن للتخلص من الصداع، إن المسكن قد قام بتعزيز سلبي وأدى إلى التخلص من الموقف المزعج.
يشار إلى التعزيز السلبي في بعض الأحيان على أساس ظروف أو عوامل الهروب، لأن الفرد يتعلم أن يقوم بسلوك يقلل أو يوقف مثيراً منفراً، فإغلاق النوافذ ووضع القطن في الأذن هروباً من الضجة هو تعزيز سلبي، ومن الأمثلة على التعزيز السلبي:
- لعب الموسيقى لإنهاء حالة الضجر.
- تنظيف الغرفة للتخلص من تعليقات الزميل المقيم معك.
- إيقاف ساعة المنبه.
تفكير ناقد |
هل يمكن للمعزز الإيجابي أن يشجع على السلوك غير الأخلاقي؟ خذ سلوك الغش مثلاً وبين كيف يتعلمه بعض الطلبة على الرغم من معرفتهم أنه خطأ. حلل هذا السلوك من منظور الاشراط الإجرائي. |
ب- مبدأ التعزيز الأولي والثانوي
إن المعزز الأولي هو الحدث أو المثير الذي يملك إمكانية تعزيز السلوك بدون خبرة تعلم سابقة، فالطعام معزز للشخص الجائع، وكذلك الماء لمن يشعر بالعطش، والنوم يشبع الحاجات البيولوجية. أما المعزز الثانوي فقد اكتسب قيمته التعزيزية لاقترانه بمغرز أولي ولان الفرد يتعلم أن هذه المثيرات أصبحت مغرزات يمكن تسميتها مغرزات شرطية، وأفضل مثال على المعززات الثانوية هو النقود أنها لا تمتلك قيمة ذاتية ولكن يتعلم الأفراد أنها يمكن أن تستبدل بمعززات أولية فمن خلال النقود يحصل الفرد على الطعام والمأوى (Davis & Palladino, 2004).
تأخذ المغرزات الثانوية قيمتها خلال الخبرات التي يتعرض لها الفرد. هناك عدد هائل من المعززات الثانوية في حياة الأفراد. ففي المواقف الاجتماعية: التربيت على الظهر، المديح أو الإطراء، والتواصل البصري أمثلة على تلك المغرزات (Santrock, 2003).
- جداول التعزيز:
تعتبر جداول التعزيز عاملاً حاسماً بالنسبة للسلوك المتعلم ويقصد بها النمط أو الطريقة المتبعة في تقديم التعزيز فبعد أن يتم تشكيل السلوك المطلوب يمكن أن يقدم التعزيز وفق خطة أو طريقة معينة. وتصنف الجداول عادة إلى نوعين:
- التعزيز المستمر.
- التعزيز المقتطع.
التعزيز المستمر: فيه يقدم التعزيز بعد كل استجابة فعلى سبيل المثال يحصل الفأر على الطعام في صندوق سكنر في كل مرة يضغط فيها على الرافعة، ويحصل البائع على عمولة لكل سيارة يبيعها، هذا النوع من التعزيز ينتج أو يؤدي إلى سرعة عالية من الاستجابة، ولكن عندما يفقد المعزز فعاليته فإن الاستجابة تنخفض بسرعة، فالفأر غير الجائع تصبح هذه المعززات المستمرة غير فعالة ويكون استخدام التعزيز المستمر مفيداً عند تعلم الاستجابات الجديدة.
التعزيز المتقطع أو التعزيز الجزئي ويهدف بشكل عام إلى المحافظة على السلوك المتعلم ويقسم إلى:
1- جداول النسبة 2- جداول الزمن
جداول النسبة: في هذه الجداول فإن عدد الاستجابات يقرر أو يحدد حصول العضوية على التعزيز أم لا. في بعض الحالات يحدد عدد من الاستجابات التي يجب أن تظهر حتى يقدم التعزيز. مثال ذلك فإن على الحمامة أن تقوم باستجابة الضغط على الرافعة خمس مرات قبل أن يقدم لها الطعام. عندما يكون عدد الاستجابات المطلوب لتقديم التعزيز محدداً فإن هذا الجدول يسمى جدول "النسبة الثابتة". ويمكن أن يقدم التعزيز بعد عدد غير ثابت من الاستجابات كأن تعزز الاستجابة السابعة والثانية عشرة والخامسة والعشرين ويسمى هذا الجدول بجدول "النسبة المتغيرة".
في كلا النوعين من جداول النسبة فإن على العضوية التي تقدم عدداً كبيراً من الاستجابات فكلما قدمت عدداً أكبر من الاستجابات فإنها تحصل على عدد أكبر من التعزيزات ولكن لوحظ أن معدل الاستجابات يكون الأعلى في حالة جدول النسبة المتغيرة.
عند استخدام جدول النسبة الثابتة لوحظت ظاهرة التوقف لفترة قصيرة بعد التعزيز هذا التوقف لا يظهر في جداول النسبة المتغيرة. في حالة استخدام جدول نسبة ثابتة فإن المعزز يعمل كمؤشر لأخذ استراحة قصيرة. إذا كنت تستجيب وفق جدول نسبة ثابتة فكأنك تقول بعد خمس استجابات أخرى سوف أحصل على التعزيز ويمكنني أن آخذ فترة راحة قصيرة قبل أن أبدأ في الاستجابة من جديد.
افرض أنك كنت تقوم بعمل وضع أوراق في مغلف وتحصل على دينار عندما تعبأ 200 مغلف فلكي تحصل على مبلغ أكبر فإنك تعمل بأقصى جهدك وعندما تكمل مجموعة من 200 مغلف تأخذ استراحة قصيرة وتعد كم مجموعة قد أكملت.
إن مدة التوقف بعد التعزيز لا تكون بنفس الطول في كل جداول النسبة الثابتة حيث إذا كان عدد الاستجابات المطلوبة للحصول على التعزيز أكبر كلما كانت فترة التوقف أطول. كذلك كلما استغرق تقديم الاستجابات وقتاً أطول كلما كانت فترة التوقف أطول. لكن برهة التوقف لا تظهر عند استخدام جداول النسبة المتغيرة لأن الفرد لا يستطيع أن يتنبأ متى سيقدم التعزيز.
النوع الثاني يسمى "جداول الزمن" ويعتمد على مرور الزمن قبل تقديم التعزيز، ففي جدول الزمن الثابت فإن فترة محددة يجب أن تمر قبل تقديم التعزيز. إن الاستجابات التي تتم قبل انتهاء المدة المحددة لا تعزز في هذا النوع من الجداول. يسعى الأفراد إلى تقدير الزمن الذي مر ويقومون بمعظم الاستجابات في نهاية المدة المحددة عند اقتراب موعد التعزيز. تميل العضوية عند تطبيق هذا النوع من الجداول إلى القيام بما يسمى الاستجابات المتوقعة Anticipatory respones في جدول الفترة الزمنية المتغيرة لا تستطيع أو العضوية أن تعرف بدقة طول الفترة التي ستمر قبل تقديم التعزيز ولأن التعزيز يمكن أن يقدم في أي وقت فإن الفرد يحاول أن يحافظ على مستوى ثابت ولكن ليس مرتفعاً للاستجابة.
إن معدل الوقت الذي يجب أن يمر قبل الحصول على التعزيز يؤثر على مستوى الا ستجابة فكلما كانت الفترة أطول قل معدل أو مستوى الاستجابة. لوحظ في التجارب أن الحمامة التي كانت تعزز كل دقيقتين، كررت الاستجابة ما بين 60 – 100 في الدقيقة بينما عندما كانت تعزز كل 7 دقائق كررت الاستجابة ما بين 20 – 70 في الدقيقة (Davis & Palladino, 2004).
أي هذه الجداول أكثر فعالية؟
للإجابة على هذا السؤال يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:
1- كلما كان الجدول المطبق أقرب إلى التعزيز المستمر كان التعلم أسرع.
2- تعمل جداول التعزيز المتقطع على المحافظة على السلوك المتعلم.
3- يختلف مستوى السلوك باختلاف الجداول المستخدمة.
أ- تتصف الاستجابة التي تعزز من خلال جدول النسبة الثابتة بمعدل عال وتوقف بعد التعزيز.
ب- يكون معدل الاستجابة أعلى في جداول النسبة المتغيرة مقارنة مع الجداول الأخرى.
ج- سرعة الاستجابة أقل عند استخدام جداول الزمن.
د- عند استخدام جداول الفترة الزمنية الثابتة تكون سرعة الاستجابة بطيئة وتتزايد مع اقتراب موعد التعزيز.
هـ- عند استخدام جداول الفترة الزمنية المتغيرة تكون سرعة الاستجابة بطيئة ولكنها مستقرة.
(4) مبدأ التعميم والتمييز والأمحاء:
كانت هذه من مبادئ الاشراط الكلاسيكي وظلت كذلك في الاشراط الإجرائي وبنفس المعاني التي سبق وأن عرضت. (Baron, 1996).
العقاب:
يعتبر العقاب حدثاً غير سار يتبع السلوك ويقلل من احتمال إعادة ظهور السلوك، وبعكس التعزيز بنوعيه الذي يزيد من احتمال ظهور السلوك. ومع أن هناك خلط بين العقاب والتعزيز السلبي إلا أنهما مختلفان يقلل العقاب من احتمال ظهور السلوك فإن التعزيز السلبي يزيد الاحتمال من خلال أبعاد النتائج السلبية للسلوك. (Kosslyn & Rosenberg, 2004).
وحتى يؤدي العقاب وظيفته بفعالية:
1- على المعاقب أن يطبق العقاب فور وقوع المخالفة السلوكية.
2- أن يكون العقاب قوياً لدرجة كافية، دون أن يحدث العقاب تلفاً أو ضرراً بليغاً بالمعاقب.
3- ينبغي تطبيق العقاب فور وقوع السلوك غير المرغوب فيه وبشكل مستمر.
التشكيل Shaping:
إذا كان السلوك المراد تعليمه يحتاج إلى وقت طويل حتى يتعلمه الطفل من مثل الطباعة على الآلة الكاتبة، القراءة، الكتابة، فإن تعلم مثل هذا السلوك بالاشراط الإجرائي يتم بتعزيز كل أداء يعتبر خطوة في الطريق إلى تعلم السلوك النهائي. فعندما يتعرف على الحروف يعزز، وعندما يتعرف على الكلمات، يعزز وعندما يفهم المعنى يعزز، وهكذا، حتى يصل إلى إتقان مهارة القراءة, وهكذا في الكتابة فإن الإمساك السليم بالقلم، والخربشة، ورسم خطوط منحنية، ورسم خطوط مستقيمة والرسم على السطر .. كلها خطوات في الطريق إلى تعلم الكتابة كل خطوة منها تعزز وهكذا يتشكل السلوك النهائي خطوة خطوة. نفس الشيء حدث مع حمامة سكنر عندما كانت تبدأ النقر في أرضية الصندوق حيث تعزز كل نقرة تقرب الحمامة من الرافعة التي عليها أن تنقر عليها لتحصل على حبة القمح.
التشكيل عملية مكافأة تقدم على كل خطوة نحو السلوك المرغوب فيه.
بنفس الطريقة يمكن تشكيل سلوك الأطفال مع الآخرين، وتشكيل سلوكهم في الحمام، وتشكيل سلوك الأطفال في الصف المدرسي ... إلخ. (Santrock, 2003).
نشاط رقم (3) |
1- عرف التشكيل. 2- بين كيف تشكل بعض سلوكات الطفل الرضيع. 3- بين كيف تشكل سلوك الطفل في الغرفة الصفية. |
التسلسل Chaining:
تقوم فكرة السلسلة في الاشراط الإجرائي على تجميع سلوكات فرعية يمتلكها الطفل في شكل تتابعي بحيث تشكل في النهاية سلوكاً أكبر تعقيداً مثال ذلك: الطفل ذو الثلاث سنوات قادر على أداء السلوكات الفرعية التالية: فتح صنبور الماء في المغسلة، الإمساك بالصابون، غسل اليدين، غسل الفم، غسل الوجه، تنشيف الوجه. يعلم الطفل على ترتيب هذه الأفعال بحيث تشكل سلسلة من أفعال متتالية تهيئ في مجموعها الطفل للذهاب إلى المدرسة مثلاً.
تختلف السلسلة عن التشكيل من حيث أنه في الحالة الأولى السلوكات الفرعية موجودة. ولكن في حالة التشكيل هذه السلوكات غير موجودة ويعلم الطفل على كل منها (Wester, 1996).
تفكير ناقد |
تقنية "السلسلة" في الاشراط الإجرائي تعلم الطفل الترتيب المنطقي للأحداث. اضرب أمثلة. |
مبدأ بريماك The Premack Principle
تخيل أنك معلم رياضة في إحدى المدارس الثانوية وأن طلبتك يحبون لعبة كرة القدم ولكنهم أقل حماسة للمشاركة في حملة نظافة المدرسة. فكيف تفعل من حماسهم بهدف المشاركة الجادة في تلك الحملة؟ يمكن ذلك باستخدام مبدأ بريماك المنسوب إلى صاحبه ديفيد بريماك (1965).
يؤكد بريماك أن الانخراط في نشاط مرغوب فيه (لعبة كرة القدم يمكن أن يكون معززاً للانخراط في نشاط أقل مرغوبية) المشاركة في حملة النظافة.
من الأمثلة على تطبيق هذا المبدأ اتفاق الأم مع ابنها أن تسمح له بممارسة ألعاب الكمبيوتر بعد أن ينهي واجباته المدرسية. أو أن تقول له كل طعامك أولاً وبعد ذلك تأكل الحلوى في هذين المثالين: ممارسة ألعاب الكمبيوتر نشاط مرغوب فيه، إنجاز الواجبات المدرسية أقل مرغوبية، أكل الطعام أقل مرغوبية، أكل الحلوى مرغوب فيه أكثر (Davis & Palladino, 2004).
نافذة رقم (2) |
تعديل السلوك Behaviour Modification كيف تطور برنامجاً للضبط الذاتي؟ 1- عرف المشكلة 2- التزم بالتعبير 3- اجمع بيانات عن نفسك 4- صمم برنامجاً للضبط الذاتي 5- قيم مخرجات لبرنامجك (Santrock, 2003). |
تحديث فهم سكنر
قبل تسعة أيام من وفاته، وقف سكنر (1990) أمام الجمعية الأمريكية لعلم النفس ملمحاً بوجود عمليات خاصة ودعامات بيولوجية للسلوك، ومع ذلك فإن الكثيرين من علماء النفس انتقدوه لتقليله من أهمية هذه العليات وتلك الاستعدادات. ومع ذلك فقد وجه في خطابه ذاك آخر نقد لعلم المعرفة Cognitive Science حيث اعتبره ارتداد إلى "استبطانية" بدايات القرن العشرين.
لقد مات وهو ما زال يقاوم المعتقد المتنامي بأن العمليات المعرفية، والأفكار، والإدراكات، والتوقعات يجب أن تأخذ موقعها في علم النفس وحتى في الاشراط بنوعيه الكلاسيكي والإجرائي. لقد ظل يعتبر هذه العمليات سلوكات ينطبق عليه مبادئ السلوك الأخرى.
ففي الاشراط الإجرائي يبدو وكأن العضوية تتوقع المكافأة (التعزيز الإيجابي) بعد أن تؤدي الاستجابة. وأن إعادة تلك الاستجابة سيستجر المكافأة من جديد. وفي دراسات الفئران في المتاهة بدأ وكأنها تطور خارطة معرفية Cognitive ذلك التعلم الذي يظهر فقط عندما توجد بعض المحفزات لإخراجه. فالتعلم يمكن أن يتم في غياب التعزيز أو العقاب. والتعلم أكثر من مجرد ارتباطات بين الاستجابة ونتائجها. (Myers, 2004).
إضافة إلى ذلك، يمكن تلمس دور الدافعية في الاشراطيين فالكلب الجائع، والقطعة الجائعة، والحمامة الجائعة تتحرك للمثير الطبيعي (الطعام) ولو كانت هذه العضويات غير جائعة لتغير ربما الوضع.
كذلك ثمة تلمس لفكرة الاستعداد Predisposition الذي تحدده الجينات من جهة والبيولوجيا من جهة أخرى. فالعضوية التي لا تملك الاستعداد لتعلم سلوك ما لن تتعلمه مهما تلقت من تدريبات مبنية على الاشراط الكلاسيكي أو الإجرائي.
إن نتائج الدراسات التي أجريت حديثاً قد أكدت على حقيقة مفادها أنه بمقدار ما نعرف ونفهم كيف يعمل الدماغ بمقدار ما نلقي أضواء معتبرة على العمليات الأساسية للدماغ. فالأبحاث الحديثة تقترح – على سبيل المثال – أن هناك نوعين من النواقل العصبية (انظر الفصل الرابع) هما الاستيل كولين والدوبامين يلعبان دوراً حاسماً في مجالات التعلم المختلفة. وحيث أن التعلم ليس عملية واحدة يمكننا القول أن التعلم يتضمن على الأقل مجالين رئيسيين:
الأول: أننا نتعلم كيف نميز الوضعية الأنسب لأداء الاستجابة وهنا يلعب الهيبوكامبس دوراً هاماً. وأن الناقل العصبي الاستيل كولين ضروري لعمل الهيبوكامبس وأن السكوبولامين يعيق ذلك الناقل لا نستطيع تعلم أي المثيرات يمكن تجميعها مع بعضها البعض لتشكل مجموعة لإعطاء الاستجابة الأنسب.
المجال الثاني: نتعلم الترابط ما بين "الاستجابة – ونتائجها". والتي تشكل مفتاح الاشراط الإجرائي. إن أجزاء مختلفة من الدماغ تنتج الدوبامين ولكن جزءاً واحداً يقع خلف الاميجدالا يلعب دوراً مهماً لجعل المكافأة أكثر فاعلية. عندما تمكن الباحثون من منع مستقبلات الدوبامين لدى حيوانات التجربة فشلت تلك الحيوانات في الاستجابة للتعزيز الإيجابي أو السلبي.
خلاصة القول أن الناقلات العصبية هامة جداً لجميع مجالات التعلم وتثبت أن العلم ليس نشاطاً وحيداً (Kosslyn & Rosenberg, 2004). وهكذا مهدت محاولات تحديث مفاهيم سكنر لظهور النموذجين الثالث والرابع.
النموذج الثالث: التعلم المعرفي والاجتماعي:
ما هو نموذج التعلم المعرفي الاجتماعي؟
للتعرف على هذا النموذج دعنا نستقرئ الأمثلة التالية:
المثال الأول:
عاد مالك إلى الأردن في السنة ما قبل الأخيرة من دراسته الثانوية بعد غياب طويل بعيداً عن الوطن في ذات يوم أخبرني أن معلم التربية الإسلامية يود زيارته. وأضاف: هذا المعلم يتمتع بقدرة عالية على الإقناع والحوار الديني الهادئ. ومخاطبة عقلي دون أن ينس عاطفتي الدينية. لقد أثر في كثيراً. فتساءلت بيني وبين نفسي كيف وصل هذا المعلم إلى عقل ابني؟ ما سر إعجابه بذلك المعلم دون غيره من المعلمين؟ ترى ماذا ترك لديه؟ ماذا تعلم منه؟
المثال الثاني:
لبنى فتاة في التاسعة من عمرها. تكاد تكون صورة طبق الأصل عن أمها في كلامها، في لباسها. في هواياتها في رغبتها في التزين، ترى ما الذي جعلها هكذا؟ هل هي العوامل الجينية التي اكسبتها من أمها؟ كيف تعلمت كل هذا؟
المثال الثالث:
أسامة عمره ست سنوات ومحمد عمره أربع سنوات يحرصان على متابعة أفلام الكرتون في المحطة الفضائية (ART). لقد حفظا الكثير من المسلسلات حتى أنهما يكملان الجمل والأحداث أحياناً. ترى ما الذي يتعلمانه من هذه المسلسلات؟ وكيف يتعلمانه؟ ولماذا يتعلمان هذا السلوك بالذات؟
إن المتأمل لهذه الأمثلة وغيرها قد يجد من الصعب أن يفسر ما تم فيها من تعلم بالاشراط الكلاسيكي أو الاشراط الإجرائي إذن لابد من نموذج آخر في التعلم. تعال نبحث عن المشتركات في هذه الأمثلة الثلاثة:
1- وجود قدوة أو نموذج. ففي المثال الأول معلم التربية الإسلامية، وفي المثال الثاني الأم وفي المثال الثالث أبطال الأفلام الكرتونية.
2- عملية ملاحظة واعية من طرف المتعلم. ملاحظة تصرفات النموذج وخصائصه الجسمية والمعرفية والانفعالية والسلوكية. الملاحظة ليست مجرد تلقي مثيرات سمعية أو بصرية من النموذج، إنما تمهد لعملية معالجة ما يتجمع لدى المتعلم من معلومات عن النموذج تحمل معارف لابد من فهمها بعد تحليلها وتقويمها، وتحمل انفعالات مناسبة (رضا، إعجاب، قبول أو العكس رفض وعدم الرضا). وأخيراً اتخاذ قرار بالميل نحو أو الميل عن النموذج.
3- تقليد سلوك النموذج الذي حاز على إعجاب المتعلم وقناعاته فمالك أعجب بطريقة المعلم في الحوار الديني ولبنى تشربت سلوك أمها وأسامة ومحمد تذوقا أبطال المسلسلات الكرتونية وحفظا أسماءها وكثيراً من تصرفاتها. إنهم جميعاً اكتسبوا أو تعلموا أشياء كثيرة.
4- التعزيز غير غائب عن هذه المواقف الثلاثة. قد لا يكون مباشراً على طريقة الاشراط الإجرائي ولكنه ملحوظ لدى المتعلم يتمثل في رضا واستحسان النموذج وتشجيعه والافتخار به، وقد يكون تعزيزاً ذاتياً أي أن المتعلم يعزز ذاته على أدائه لسلوك النموذج.
لا شك أننا أمام مواقف تعلمية مغايرة بشكل ملحوظ عن تلك التي عهدناها في النموذجين الأول والثاني اللذين ركزا على اكتساب السلوك الملاحظ والقابل للقياس.
فالنموذج الأول ركز على اكتساب الاستجابة الشرطية. بينما ركز الثاني على اكتساب الاستجابة المعززة. بينما يركز هذا النموذج على وجود الآخر المتميز من جهة، وجمع المعلومات من خلال الملاحظة الموقفية، ومعالجة هذه المعلومات وتخزينها في البناء المعرفي لتصير محكات مرجعية لسلوك المتعلم. من هنا تعددت مسميات هذا النموذج التعلمي فعرف بداية باسم التعلم الاجتماعي، والتعلم بالملاحظة، والتعلم بالتقليد وأخيراً التعلم المعرفي والاجتماعي. فكيف درس علماء التعلم هذا النموذج؟
- أن ترى يعني أن تعرف.
- وأن تعرف يعني أن تتخذ قراراً.
- وأن تتخذ قراراً يعني أن تمارس السلوك النموذج.
التعلم بالملاحظة:
هناك العديد من أنماط السلوك التي يتعلمها الفرد ولا تفسر عن طريق الاشراك الكلاسيكي أو الإجرائي. لقد طور البرت باندورا Albert Bandura نظرية التعلم الاجتماعي لتفسير هذه الأنماط السلوكية، إن الفرد يتعلم أنماط السلوك هذه والتي تظهر في سياق اجتماعي من خلال مراقبة الآخرين.
التعلم بالملاحظة يتضمن عمليات: الانتباه، التخزين، مخرجات حركية، تعزيز دافعية (باندورا، 1986) في (Bamn, 1998)
إن التعلم عن طريق الملاحظة يزود الفرد بطريقة السلوك في البيت والمجتمع، فنحن نتعلم عن طريق الملاحظة كيف نسلك في المواقف الاجتماعية المتنوعة التي نواجهها.
ركز باندورا على عملية النمذجة حيث يتعلم الفرد سلوكاً جديداً من خلال مراقبة الآخرين بحيث يعمل هؤلاء الآخرون كنماذج يعرضون سلوكاً يمكن أن يقلد. من خلال النمذجة فإنك تراقب السلوك ومن ثم فإن هذا السؤال بكامله أو جزءاً منه يمكن أن تتعلمه وتكرره أو تعدل فيه.
في إحدى دراسات باندورا المشهورة قسم الأطفال إلى ثلاث مجموعات: شاهدت المجموعة الأولى راشداً يضرب لعبة، والمجموعة الثانية كان الراشد يتجاهل وجود اللعبة، والمجموعة الثالثة لم تشاهد راشداً على الإطلاق. بعد ذلك تعرضت مجموعات الأطفال الثلاثة إلى موقف إحباط من درجة بسيطة من خلال إبقاء المجموعات في غرفة فيها ألعاب وعدم السماح للأطفال باللعب بهذه الألعاب وفي المرحلة اللاحقة وضع الأطفال في غرفة أخرى احتوت ألعاب متنوعة من بينها اللعبة التي شوهدت في بداية التجربة، ولوحظ أن الأطفال الذين سبق أن شاهدوا الراشد يضرب اللعبة عرضوا سلوكاً عدوانياً كالذي سبق أن شاهدوه.
حديثاً اكتشف علماء علم الأعصاب مرآة الخلايا العصبية Mirrr Nervous الكائنة في الفص الأمامي الملاصق لمناطق الحركة في القشرة الدماغية هذا الكشف يزودنا بالقاعدة العصبية للتعلم بالملاحظة (Myers, 2004).
افعل كما تراني أفعل.
توصلت دراسات مشابهة إلى نفس النتائج وأشارت إلى أن مراقبة سلوك العدوان الذي يعرضه الفرد بشكل حي أدت إلى تأثير أقوى من مراقبة فيلم يعرض فيه فرد سلوكاً عدوانياً. وكذلك شريط فيديو يعرض فرداً إنسانياً له تأثير أكبر من أفلام الكرتون التي تعرض نفس سلوك العدوان.
يرى عايرز أن النماذج تكون ذات أثر فعال عندما تتسق أقوالهم مع أفعالهم (Myers, 2004)
التعلم بالنموذج: إن التعلم بالنموذج له فوائد، أو يمتاز عن أنواع التعلم الأخرى لأنك في هذه الحالة لست بحاجة إلى أن تمر بكل الخطوات التي تتطلبها عملية التعلم وتتجه مباشرة إلى الناتج النهائي.
التلفاز علمني أن أفعل ذلك.
إن التعلم عن طريق الملاحظة يمكن أن يؤدي إلى تعلم مرغوب فيه وغير مرغوب فيه أيضاً.
إن النماذج قد تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر، والملاحظ يتعلم كلا الأمرين يقول أو يردد ما يقوله النموذج ويسلك مثله في نفس الوقت إذا كان الفرد محاطاً بنماذج إيجابية فإن لديه الفرصة لكي يتعلم أنماطاً سلوكية إيجابية ولكن إذا لم تتوفر مثل هذه الفرصة فإنه ستجد صعوبة في أن يتعلم مهارات معينة، إذا كان الراشدون في حياة الطفل يعبرون عن الغضب بشدة ويسلكون بطريقة غير لائقة فإن من الصعب على الطفل أن يتعلم كيف يسيطر على الغضب ويتعامل مع مواقف الإحباط. وفي جانب أكثر إيجابية قام باندورا بإجراء تجربة على أطفال في مرحلة ما قبل المدرسة يخافون من الكلاب، حيث راقبوا سلوك أطفال آخرين ليس لديهم هذا الخوف، وخلال ثماني جلسات مرتبة فإن النموذج في كل مناسبة متتابعة كان يلعب مع الكلب ويقترب منه أكثر ولمدة أطول. لوحظ أن أطفال المجموعة التجريبية أصبحوا أقل خوفاً من الكلاب من المجموعة الضابطة.
بدأ التعلم بالنموذج على يد باندورا تحت اسم التعلم الاجتماعي أو التعلم بالملاحظة، أو التعلم بالتقليد، اضاف ولتر Walter الاسم هذا النموذج كلمة معرفي فصار يعرف باسم التعلم المعرفي والاجتماعي. (الريماوي، 2003)
إن كلاً من النمذجة والاشراط الإجرائي يتدخلان في عملية التعلم فأنت تتعلم من خلال مراقبة الآخرين ولكن فيما إذا كنت ستمارس هذا السلوك أم لا يعتمد جزئياً على النتائج المترتبة على القيام بالسلوك. تشير الدراسات أن هناك عدة خصائص للنموذج تجعل التعلم عن طريق الملاحظة أكثر فعالية فأنت كلما ركزت الانتباه تعلمت أكثر، وسوف تركز الانتباه على النموذج إذا كان خبيراً وذا كفاءة وجذاباً، وله مركز مرموق وتأثير أو نفوذ اجتماعي.
إننا نتعلم من النماذج من خلال ملاحظاتنا أي السلوكات تعزز وأيها تعاقب ومن ثم نكون قادرين أن نتنبأ حول ردود الفعل التي يولدها السلوك، ومن هنا نجد أن الآباء وبسبب هذا النوع من التعلم يهتمون بمقدار الوقت ونوعية البرامج التلفزيونية التي يشاهدها الأبناء. في دراسة استمرت لمدة عام كامل حول العدوان في برامج التلفزيون وجد أن 57% من البرامج تضمنت العنف وأن في 73% منها لم يظهر أي عقاب لهذا العدوان.
نشاط رقم (4) |
1- عرف التعلم بالملاحظة ولخص العمليات التي تتشارك في إنجازه. 2- ما هي أهم النماذج في حياتك؟ ماذا تعلمت منها؟ وكيف تم ذلك؟ |
نافذة رقم (3) |
التعلم المعرفي والاجتماعي يتضمن: 1- اكتساب المعرفة التي يمكن أن تستخدم في التخطيط والتقويم وأشكال التفكير الأخرى وليس بالضرورة أن يصدر عن كل هذا سلوكات فورية. 2- التعلم الكامن الذي يحدث بدون إشارات سلوكية وبدون تعلم بالاستبصار ينبثق فجأة غير أن هناك عمليات معالجة للمعلومات المسترجعة من الذاكرة وتلك الجديدة وراء هذا الموضوع من التعلم. |
نافذة رقم (4) |
- السلوك القصدي Purposive Learning كما تصوره تولمان Tolman (1932) يعني أن السلوك يتوجه نحو هدف. - التعلم المتوقع Expectancy learning والمعلومات يتضمن الخرائط المعرفية التي سبق وأن أشرنا إليها لدى الفئران في المتاهة. - التعلم الكامن Latent Learning تعلم غير معزز لا يظهر فوراً على شكل سلوك. - التعلم بالاستبصار Insight learning طور هذا المفهوم علماء مدرسة الجشطلت من خلال تجاربهم على الشمبانزي، ويعني إدراك العلاقات الرابطة بين عناصر الموقف. |
تفكير ناقد |
ما هي توقعاتك المهنية المستقبلية، كيف تؤثر هذه التوقعات على سلوكك الدراسي. |
النموذج الرابع: التعلم المستند إلى الدماغ:
ما هو نموذج التعلم المستند إلى الدماغ؟ للإجابة على هذا السؤال نورد بداية الحقائق التي توصل لها علماء علم الأعصاب وذات العلاقة بالتعلم:
1- يعتقد علماء الأعصاب أن الدراسة المباشرة للدماغ هي الطريق الوحيد لفهم أسباب السلوك. فهم متجاوزون للتفسير السلوكي الذي يذهب إلى أن السلوك نتاج عوامل بيئية خارجية فقط (مثيرات، معززات)، ومتجاوزون للنظريات المعرفية القائمة على افتراضات نظرية للعمليات المعرفية (انتباه، إدراك، معالجة، تذكر ... إلخ). على أمل تحديد الجذور النيورولوجية لتلك العمليات باعتبارها الوظائف العقلية للدماغ.
2- الجهاز العصبي هو القاعدة الفيزيقية لعملية التعلم الإنساني. فالدماغ ليس حاسوباً، إنه جهاز ذاتي التنظيم، يدرس تركيباً ووظيفة بتقنيات لم تكن متوفرة من قبل (انظر الفصل الثالث).
3- الدماغ يتغير عبر دورة الحياة وفقاً لما يتعرض له الفرد من خبرات. فكلما أتيحت الفرصة للدماغ لممارسة وظائفه العقلية كلما غيرنا في تركيبه وطورنا أنماطاً مختلفة من الترابطات يسهل تكرارها.
4- الخلية العصبية تتعلم، الدماغ قادر على صنع شبكات عصبية تبعاً لتعقد التعلم بما يؤثر على قدرة الدماغ على التكيف مع البيئة. إن الشبكات التي تعزز من خلال إعادة تشغيلها تبقى وتتقوى في حين أن الشبكات التي لا يتكرر تشغيلها تضمحل. وعليه فإن الخبرات التي يمر بها الطفل في عامه الأول كفيلة بتكوين شبكات عصيبة تجعل دماغه يقترب من الحالة التي يصل إليها في سن الرشد (Chugani, 1998) المشار إليه في الموقع (npin.org).
5- الوصلات بين الخلايا العصبية التي تعرف باسم الشجيرات Synapsis تشكل ممرات عصبية أو خرائط التعلم Learning Maps. معظم هذه الممرات العصبية تتواجد بنهاية السنة الثالثة من العمر.
6- للخبرات الحسية في السنوات المبكرة الأولى من عمر الطفل تأثير كبير في تطور الدماغ ومن ثم في السلوك والتعلم (Hast & Risley, 1995) المشار إليه في موقع (npin.org).
7- إن طبيعة التعلق بين الرضيع ومن حوله تؤثر في تطور دماغه. فالعلاقات المضطربة داخل الأسرة تدفع بدماغ الطفل إلى استهلاك كمية أكبر من الجلوكوز لمواجهة الضغوط النفسية بدلاً من استخدامه في الأنشطة المعرفية، وأن تكرار التعرض لتلك الضغوط يدفع بالدماغ إلى أن يطور مواقع مستقبلات الاستثارة لبعض المواد الكيميائية، وهذه المواقع ترتبط بالاندفاعية والعدوانية (Robenstein, 1998) و(Kotulak, 1996) المشار إليهما في (npin.org).
8- يولد الأطفال بكثافة أقل للشجيرات مقارنة مما سيكون عليه الحال في مرحلة الرشد. بعد شهور من الميلاد يتسارع تكون هذه الشجيرات ليصل إلى 50% أكثر من الراشد وذلك في سن أربع سنوات. إن توقيت هذه العملية يختلف في الدماغ من منطقة إلى أخرى. فمثلاً تنامي عدد الشجيرات في منطقة الإبصار تسير بسرعة ابتداء من الشهر الثاني وتتضاعف سرعتها في العمر من (8 – 10) شهور ثم تنخفض في سن عشر سنوات. مناطق الدماغ الخاصة بالانتباه والذاكرة قصيرة المدى، والتخطيط والكائنة في القشرة الدماغية تبدأ فيها هذه العملية متأخرة.
9- مناطق الدماغ تتطور في خطوات متتالية يمكن التنبؤ بها وبنتائجها بما يمكن من تحديد الوقت الأنسب لتعلم المهارات الحركية (من الميلاد إلى سن أربع سنوات)، ومهارات الحركات الدقيقة (ما بين الثالثة والتاسعة)، والموسيقى من السادسة إلى التاسعة (Fes.tam.edu) المشار إليه في (الريماوي، 2003).
10- حدد علماء الأعصاب الشبكة العصبية (Neural net) التي تعمل إبان التعلم بالتقليد (Imitation) والشبكة الخاصة بتمييز الذات عن الآخر إبان عملية التعاطف Empathy. الشبكة الأولى تقع في منطقة التلفيفة الصدغية العليا Superior Temporal Gyrus والثانية في القشرة السفلى اليمنى في النصفين الكرويين. ومن المعتقد أن هذه المنطقة تلعب دوراً في عملية العزو.
11- القشرة الجديدة Neocortex تنشط أثناء عملية التعلم خاصة الأشكال العليا من التعلم.
12- تطور الفص الأمامي Frontal lope فيما بين (10 – 14 سنة) يمكن للطفل من إتمام عمليات حل المشكلات والتفكير الناقد والتنظيم.
13- الدماغ قادر بالفطرة على: استكشاف الأنماط، التذكر، إعادة التنظيم الذاتي، التعلم، تحليل البيانات، التأمل الذاتي، الإبداع، والابتكار.
14- من مبادئ الدماغ ذات العلاقة بالتعلم نذكر: (انظر الفصل الرابع)
- يتضمن التعلم كلاً من الانتباه المركز والإدراك الطرفي.
- يتضمن التعلم عمليات واعية وعمليات غير واعية.
- يدعم التعلم المعقد بالتحدي ويكف بالتهديد.
- التعلم فطري.
- لدينا على الأقل طريقتان لتنظيم الذاكرة المكانية، ولدينا مجموعة أنظمة التعلم.
- التعلم يشغل الأجهزة الفسيولوجية كلها.
إن ما نعرفه من حقائق عن الدماغ تركيباً ووظيفة غيض من فيض (انظر الفصل الرابع). وما يهمنا هنا هو تلك الحقائق ذات العلاقة بالنمو والتعلم. وأن هذه المعلومات التي نعرفها قابلة للتعديل والتطوير في ضوء نواتج الأبحاث الجديدة في مجال الدماغ. وعليه فإن الاختصاصيين في علوم النفس والتربية بحاجة ماسة لمتابعة أبحاث الدماغ وتعديل أدواتهم التربوية والتعليمية والعلاجية والإرشادية وفقاً لما يكشف عنه علماء علم الأعصاب.
فالتعلم المستند إلى الدماغ نظرية في التعلم تستند على الدماغ تركيباً ووظيفة. إن هذا التعلم سيظل مستمراً طالما لم يمنع الدماغ من أداء عملياته الطبيعية لسبب من الأسباب (انظر الفصل الثالث).
غالباً ما يقال أن كل فرد قادر على التعلم ولكن الأصح أن نقول أن كل فرد يمارس عملية التعلم، نظراً لأن كل فرد يولد بدماغ يتعلم بالفطرة. إن التعليم التقليدي غالباً ما يقمع التعلم بعدم تشجيعه أو تجاهله, أو معاقبته عمليات التعلم الطبيعية للدماغ.
ثمة ثلاث تكنيكات تعليمية ترتبط بالتعلم المستند إلى الدماغ هي:
1- الغمر Orchestrated Immersion تخليق بيئات التعلم التي تعمل على غمر الطلبة في الخبرة التربوية.
2- الاسترخاء Relaxes Alertnes محاولة إزالة الخوف لدى المتعلمين أثناء مجابهتم للتحديات القوية الصادرة عن البيئة.
3- المعالجة النشطة Active Processing السماح للمتعلم بتذوق وتمتين المعلومات بالمعالجة النشطة لها.
في المجال التربوي، يمكن لهذا النموذج التعلمي اقتراح ما يلي:
1- في مجال المنهاج، يجب على المعلمين تصميم تعلم يتمركز حول اهتمامات الطالب، وجعل التعلم ضمن سياق Contextual
2- في مجال التعليم، على المعلمين أن يدعوا الطلبة يتعلمون في فريق، ويستخدمون التعلم الشمولي Peripheral learning. على المعلمين أن يديروا التعلم حول مشكلات حقيقية، ويشجعون الطلبة على التعلم من خلال جلسات خارج الغرفة الصفية وخارج البناء المدرسي.
3- في مجال التقييم، حيث أن جميع الطلبة يتعلمون، فإن تقييمهم يجب أن يسمح لهم لفهم أساليب تعلمهم وتفضيلاتهم، مما يتيح لهم لمراقبة وتطوير عمليات تعلمهم (www.Fundastanding.com).
نكتفي بهذا القدر من الحديث عن نموذج التعلم المستند إلى الدماغ والتي نأمل أن نثير لدى المبتدئين في علم النفس الفضول والرغبة في متابعة ما يستجد في هذا المجال.
الخلاصة:
1- التعلم تغير ثابت نسبياً في السلوك والعمليات المعرفية والعمليات الانفعالية ناتج عن التدريب والخبرة وجهد يبذله المتعلم.
2- نموذج التعلم يعمل عمل نظرية التعلم سواء من حيث التفسير أو التنبؤ أو الضبط. كشفت دراسات التعلم عن أربعة نماذج رئيسة للتعلم: الاشراط الكلاسيكي، الاشراط الإجرائي، المعرفي والاجتماعي، والنموذج الدماغي. النموذجان الأول والثاني يريان أن السلوك هو محور الاهتمام بينما يرى النموذجان الثالث والرابع أن على السيكولوجيين الاهتمام بالإضافة إلى السلوك العمليات المعرفية والانفعالية وأسسها النيورولوجية.
3- الاشراط الكلاسيكي: يتعلم الكائن الحي أداء الاستجابة الطبيعية التي كانت تتأدى لمثير طبيعي، لمثير محايد يعرف باسم المثير الشرطي وتعرف الاستجابة الطبيعية عندها بالاستجابة الشرطية، ويمكن للعضوية أن تعمم تلك الاستجابة إلى عدد أكبر من المثيرات المصاحبة، ويمكنه اقتصار الاستجابة على مثير واحد. أفادت الدراسات بعد بافلوف بأنه كلما كان المثير الشرطي أقدر على التنبؤ بظهور الاستجابة الشرطية كلما كان الاشراط أقوى. يمكن توظيف هذا النوع من الاشراط في مواقف علاجية وإرشادية وتربوية.
4- الاشراط الإجرائي يتعلم الكائن الحي أداء استجابة ما بفعل عاملين الأول هو المثير والثاني هو التعزيز الذي يترتب للمتعلم عن أدائه الاستجابة. من هنا يرتبط السلوك بالمترتبات عنه أو بنتائجه. من الدراسات التي كشفت عن هذا النوع من الاشراط دراسات ثورانديك وما أسفرت عنه من اكتشاف قانون الأثر، ودراسات سكنر وما أسفرت عنه من تحديد آلية هذا الأشراط، ومبادئ: التعزيز بنوعيه الإيجابي والسلبي، والعقاب، والتشكيل، والتسلسل، ومبدأ بريماك. مع نهايات العقد الثامن من القرن الماضي بدأت تتصاعد نغمة في بعض الأوساط السلوكية تلمح إلى وجود عوامل وسيطة بين المثير والاستجابة من بينها العوامل المعرفية والعوامل الانفعالية والعمليات البيولوجية والفسيولوجية تمهيد لظهور النموذجين الثالث والرابع.
5- نموذج التعلم المعرفي والاجتماعي يفترض حتى يتم التعلم (1) وجود نموذج (2) ملاحظة خصائص وسلوكات هذا النموذج من طرف المتعلم (3) جمع معلومات عن تلك الخصائص والسلوكيات ومعالجتها بهدف تخزينها في الذاكرة طويلة المدى، أو بهدف اتخاذ قرار وتحديد اتجاه المتعلم نحو ذلك التعلم (4) تقليد النموذج (5) الحصول على تعزيز سواء من النموذج نفسه أو من المتعلم (التعزيز الذاتي). النموذج يمكن أن يكون حياً أو متلفزاً أو مقروءاً.
6- التعلم المستند إلى الدماغ، هو ذاك التعلم الذي يتأدى ويفسر ويتنبأ به وفق نواتج أبحاث الدماغ. فبمقدار ما يعلن عن نتائج جديدة تمس تركيب الدماغ ووظيفته بمقدار ما تراجع معارفنا عن هذا النوع من التعلم. فالجهاز العصبي هو القاعدة الفيزيقية للتعلم، وكغيره من نماذج التعلم بدأت آثاره تمتد إلى التعلم الصفي والمجال التربوي بعامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: محمد عودة الريماوي وآخرون، ،( كتاب: علم النفس العام)، من إصدار دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، الأردن ، عمان، الطبعة الثانية لعام 2006م / 1426هـ