مقدمة
هل تخيلت يوماً كيف نتوصل للمعرفة والحقيقة حول العالم من حولنا أو حتى حول أنفسنا والآخرين من حولنا؟ إن القليل من التأمل يقودنا إلى القول أن معظم أوقاتنا نقضيها في القيام بذلك. فإذا كنا ندرس الجغرافيا على سبيل المثال فإننا نريد أن نعرف الحقائق حول طبيعة مكون من مكونات الطبيعة، فنريد أن نعرف هل الأرض كروية الشكل أم بيضاوية أم مفلطحة. نريد أن نعرض حقيقة العوامل التي قادت إلى تشكيل الجبال والسهول والأودية، نريد أن نعرف بعض الحقائق حول التغيرات في المناخ ودورها في إحداث تغيرات على مكونات ذلك المكون من الطبيعة. وكذلك الحال إذا كان اهتمامنا يقع ضمن واحد من الفروع التي تهتم بالإنسان فإننا نسعى إلى التوصل إلى المعرفة والحقائق حوله، فنتساءل عن طبيعته، وعن العوامل الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية التي تؤثر في سلوكه، كما نتساءل عن التغيرات الفسيولوجية التي تحدث داخل جسم الإنسان أثناء ممارسته للأنشطة المختلفة، كالتفكير والتعلم والإحساس والإدراك، كما نتساءل عن كيف يفكر الإنسان ولماذا يبدو أن هنالك فوارق بين الأفراد الذي يتعرضون لنفس الظروف الاجتماعية والمعرفة والاقتصادية والجغرافية؟ هل هنالك نمط فسيولوجي يمكن وصفه لدى الإنسان أثناء غضبه؟ هل صحيح أن الإنسان هو الكائن المفكر الوحيد أم أن الحيوانات الأخرى تشاركه هذا الأمر؟ كيف تتشكل الاتجاهات والميول والاعتقادات، وما هي العوامل التي تقود إلى إحداث تغير فيها؟ كيف نساعد الأفراد على تحقيق ذواتهم واستغلال أقصى قدر ممكن من قدراتهم؟ ما العوامل التي تقود إلى المرض النفسي أو السلوك الشاذ؟ كيف يمكن إعادة الأفراد المصابين بأحد أشكال الاضطرابات النفسية أو العقلية إلى حالة الصحة النفسية؟؟ وهذا يمكن للمرء أن يعمل على طرح عدد لا نهائي من مثل هذه الأسئلة، وذلك لأن حياتنا يتم قضاءها في البحث عن الحقيقة وتشكيلها.
أولاً: مصادر المعرفة:
لكن ... كيف يتم التعرف على الحقائق؟ وكيف نتوصل إلى المعرفة؟ كإجابة على ذلك يمكن القول أن الإنسان تاريخياً استخدم أربع طرق للوصول إلى المعرفة، والتي تتمثل في:
(1) الحجة والادعاء:
فنحن هنا نعتبر أن شيئاً ما حقيقة، بسبب أنه قد تم التعارف عليه تقليدياً، فإذا شخصاً ما ذا مكانة أشار إلى صحة ذلك الشيء، فنحن نؤمن بنظرية ما في التقويم لأن أستاذاً ما قال بأنها صحيحة، أو نؤمن بسلوك ما أو عادة ما أو تقليد ما لأن آباءنا قد قالوا بذلك، فنحن على سبيل المثال نعتقد بديانة ما بسبب أن والدينا قد اعتقدوا بها، فعلى الرغم من أن هذه الطريقة في المعرفة تعتبر غير دقيقة وأنها قد تقود إلى الخطأ؛ إلا أنها تعتبر ضرورية لممارسة حياتنا اليومية، فعلينا أن نتقبل قدراً كبيراً من المعلومات على أساس الحجة والثقة، وذلك ليس إلا بسبب عدم وجود الوقت لاختبارها، أو لعدم وجود خبير يفحصها لنا من قبل.
فعلى سبيل المثال بناء على ادعاء الفيزيائيين نحن نعتقد بوجود الإلكترونات، وذلك لأننا لم نشاهد أياً منها. ونحن أيضاً نقلع عن التدخين لثقتنا بادعاء الأطباء بأن التدخين هو أحد مسببات السرطان، وذلك لعدم وجود الوقت لدينا لفحص هذه المشكلة شخصياً.
(2) المنطق Rationalism
يتم في هذه الطرق استخدام التبرير المنطقي للوصول للمعرفة، فإذا كان موضوع ما يبدو معقولاً وتم تبريره منطقياً استناداً إلى قواعد من المنطق، عندها نستنتج أن هذا الموضوع صحيح. فالمنطق يعتبر وسيلة للوصول إلى المعرفة، وذلك بناء على مقدمة كبرى ومقدمة صغرى. فعلى سبيل المثال نقول:
مقدمة كبرى: كل أعضاء هيئة التدريس في الجامعة مهمون.
مقدمة صغرى: أحمد هو عضو هيئة تدريس في الجامعة.
استنتاج (معرفة): لهذا فإن أحمد هو مهم.
فإذا كانت المقدمة الكبرى صحيحة والصغرى صحيحة، فإنه ليس هنالك مجال للطعن بصدق وصحة الاستنتاج (المعرفة). وعلى الرغم من أنه ليس من السهل لأي فرد أن يتساءل عن أهمية العملية المنطقية في التوصل للمعرفة؛ إلا أن هنالك العديد من المواقف لا تعتبر العملية المنطقية وحدها كافية لتقرير الحقيقة أو الوصول إلى المعرفة الصحيحة. فعلى سبيل المثال إذا كان لدينا صديق يعاني لمدة شهرين من الاكتئاب، ونحن نعرف كمختصين في علم النفس أن الاكتئاب هو واحد من المظاهر التي تصاحب المعاناة من مشكلة نفسية، فإن الاستنتاج المنطقي سيقودنا إلى الاعتقاد بأن صديقنا لديه مشكلة أو أزمة نفسية، لكن من جهة أخرى نحن نعرف أن الاكتئاب قد يكون أحد المظاهر التي تصاحب السير على نظام ما للحمية. فمن المنطق أن نستنتج أن ما يبدو عليه من اكتئاب قد يعزي إلى نظام الحمية. فكما نرى أن تفسير حالة الاكتئاب التي يعاني منها صديقنا يوجد لها تفسيران منطقيان متوقعان، ويمكن في بعض الحالات والظواهر أن نتحدث عن أكثر من تفسيرين. من هنا فإن المنطق وحده لا يعتبر كافياً للتفريق بينهما، لذا هنالك حاجة لاختبار هذه التوقعات بطريقة ما غير المنطقي لكي نقرر ما هو السبب الكامن وراء حالة الاكتئاب التي يمر بها صديقنا، فقد نتفحص هل نظام الحمية الذي يتبعه صديقنا هو الذي قاد إلى حالة الاكتئاب التي تبدو عليه أم لا؟ وعندما توصلنا إلى إجابة ما فإننا نستطيع أن نحدد مسببات حالة الاكتئاب التي تبدو على صديقنا.
فالمنطق، إذن قد يكون هو الطريقة للوصول إلى الحقيقة والمعرفة في بعض المواقف، ولكن ليس كذلك في مواقف أخرى، فالطريقة العلمية تستخدم المنطق للوصول إلى الحقيقة، ولكن المنطق هو جزء من الطريقة العلمية للوصول إلى المعرفة كما سنرى.
(3) الحدس Intution
يتم التوصل إلى المعرفة أيضاً عن طريق الحدس، والحدس يقصد به التبصر المفاجئ الذي يؤدي إلى توضيح الفكرة والذي يطل على الوعي مرة واحدة وككل، وهي حالة لا تأتي لسبب ما. وإنما يبدو أنها تظهر بعد أن يفشل التعليل المنطقي، وبعد أن يكون المرء قد عمل على ركن المشكلة جانباً لفترة، بغض النظر عن الحقيقة بأن الحدس قد يكون هو أحد مصادر المعرفة إلا أنه لا زال يعتبر عملية غامضة ومبهمة، كل ما لدينا عنها هو الفهم الفطري لها.
(4) الطريقة العلمية:
على الرغم من أن الطريقة العلمية يتم بها استخدام كل من المنطق والحدس من أجل الوصول للحقيقة، إلا أنها تعتمد على التقييم الموضوعي، وهو ما يميزها عن الطرق السابقة للوصول للحقيقة والمعرفة. كما تمتاز بأنها مباشرة، حيث يعمل المرء من خلال الاستدلال المنطلقي للنظريات القائمة حول الظاهرة موضع الاهتمام، أو ما تجمع لدينا من حقائق حولها أو الحدس للتوصل إلى فرضية حول بعض الخصائص لهذه الظاهرة، ومن ثم يعمل العالم على تصميم تجربة من أجل الاختبار الموضوعي للفرضية، ومن ثم تحليل المعلومات التي تم التوصل لها من خلال التجربة إحصائياً، وبناء عليه يتم رفض الفرضية أو إثباتها.
إن إمكانية دراسة السلوك الإنساني واختباره من خلال الطرق العلمية لم تبدو ممكنة قبل القرن التاسع عشر، حيث يعتبر إنشاء أول مختبر لعلم النفس على يد فونت عام 1879 هو نقطة تحول بارز في علم النفس كعلم، فمنذ هذه النقطة أصبح التطور في الطريقة العلمية في البحث في إطار علم النفس يسير بمعدلات ونسب مضطردة وسريعة.
فالتطور في علم النفس – كبقية العلوم الأخرى – يعتمد على اكتشاف حقائق جديدة عن السلوك الإنساني، حيث عمل علماء النفس عبر المراحل المختلفة لتطوير علم النفس على ابتكار طرق جديدة للتوصل إلى الحقائق، كما عملوا على تكييف وتطبيع الطرق القديمة لتصبح أكثر دقة وأكثر صدقاً وثباتاً في دراسة الظاهرة النفسية والسلوك الإنساني. فدراسة طرق البحث في علم النفس تعتبر هامة للدارس لعلم النفس أو المختص به، انطلاقاً من أن طرق البحث أساسية لفهم التطوير الذي حققه هذا الفرع من المعرفة، ولمعرفة مدى الدقة والموضوعية والثبات والصدق في المعارف التي تشكل جسم علم النفس. كما أن دراسة الطرق المختلفة للبحث في علم النفس تسمح لنا بأن ندرك الطبيعة المختلفة للمعارف والمعلومات التي تقود لها كل من هذه الطرق عن السلوك الإنساني؛ الأمر الذي يسهم في فهمها وتفسيرها وإدراك نواحي الضعف والقوة بها. ومن هذا المنطلق سيتم في هذا الفصل استعراض الطرق المختلفة للبحث في إطار علم النفس، ثم بعدها سيتم تناول تطبيقات الطريقة العلمية في البحث في علم النفس، ثم سيتم تناول أبعاد علم النفس والبحث في إطاره (Santrock, 2003).
تفكير ناقد |
البحث عن الحقيقة هو الشغل الشاغل للإنسان باعتباره كائناً مفكراً. كيف تفسر تنوع طرق هذا البحث. |
ثانياً: طرق البحث Research Methods
إن الغرض من العلم هو الوصول إلى معلومات مفيدة وجديدة تتصف بالصحة والدقة، يتم الحصول عليها تحت ظروف مضبوطة من قبل أشخاص مؤهلين للقيام بملاحظات في ظروف مضبوطة، والتوصل إلى نفس المعلومات أو النتائج. الواقع أن هذه المهمة تتطلب من المختص التدريب والدقة في العلاقات المكتشفة، واكتساب مهارات العمل على نقلها إلى الأفراد الآخرين، إن الهدف العلمي وتحقيقه بشكل مثالي لا يتحقق دائماً. لكن كلما أصبح الفرع من العلم أكثر تأسيساً ورسوخاً وأصبح يعتمد على عدد متزايد من العلاقات المؤكدة والثابت قيمتها دائماً كلما أصبح يتجه نحو الوضع المثالي للعلم. سيتم في هذا الجزء استعراض خمس طرق للتوصل إلى المعرفة في إطار علم النفس؛ وتتمثل في:
أ- الطريقة التجريبية Experimental Method
يمكن أن تستخدم الطريقة العلمية في البحث خارج نطاق المختبر، كما يمكن أن تستخدم داخله. فيمكن لعالم النفس أن يدرس أثر نمطين من التنشئة الاجتماعية على إكساب الفرد السلوك الاستقلالي خارج نطاق المختبر بتناول مجتمعين. فالطريقة العلمية ليست مرتبطة إذاً بمكان ما بقدر ما أنها تمثل منطقاً معيناً. لهذا نجد أن معظم التجارب تجري في مختبرات خاصة لأن مثل هذه المختبرات توفر درجة من الضبط للظروف العامة التي تتطلب أدوات معينة يمكن أن يكون من المفضل توفرها ووضعها في هذه الأماكن (المختبرات). فالمختبرات عادة تكون متوفرة في الجامعات والمعاهد العلمية المشابهة، التي يكون بالإمكان الوصول إليها من قبل العلماء الذين يعملون على مدى واسع من الموضوعات. فالمختبر إذن هو ذلك المكان الذي يمكن فيه للعالم أو المجرب أو الباحث أن يضبط الظروف بحرص ودقة، وأن يجري قياسات من أجل الكشف عن العلاقات بين المتغيرات، إذ أن المتغير هو ذلك الشيء الذي يمكن أن يأخذ أكثر من قيمة واحدة. فعلى سبيل المثال في الدراسة التي تسعى إلى الوصول إلى علاقة بين القدرة على التعلم والعمر، فإن كلاً من القدرة على التعلم والعمر تأخذ قيماً مختلفة. فالقدرة على
التعلم يمكن أن تكون متدنية أو متوسطة أو مرتفعة، والمعلم يمكن أن يكون ذا عمر كبير أو متوسط أو صغير. وبالدرجة التي تتغير فيها القدرة على التعلم كنتيجة للتغير في العمر، بالدرجة التي يمكن أن نتحدث فيها عن علاقة منتظمة بين متغير العمر ومتغير القدرة على التعلم، والواقع أننا في علم النفس نتعامل مع نمطين من المتغيرات: المتغيرات الكمية التي يعبر عن التغير في قيمتها بألفاظ أو أرقام (كالطول والوزن والذكاء وسمات الشخصية والدافعية). والمتغيرات الكيفية التي يعبر عنها بألفاظ (من مثل الجنس: ذكر وأنثى، والحالة الاجتماعية للمرء: مطلق وأرمل ومتزوج وأعزب).
الطريقة التجريبية هي دراسة تأثير تغيرات مستقلة على متغير تابع أو تغيرات تابعة في ظل ظروف مضبوطة للتوصل إلى معلومات دقيقة وجديدة عن العلاقات بين المتغيرات
إن القدرة على ممارسة درجة دقيقة من الضبط للمتغيرات هي التي تميز الطريقة التجريبية في البحث عن غيرها من طرق البحث، كالملاحظة والتي لا يمارس فيها الباحث أي شكل من أشكال الضبط عند رصده للظاهرة. فلو أن الباحث كان مهتماً بدراسة فيما إذا كانت القدرة على التعلم تتأثر بكمية النوم الذي ينامه الفرد، فإن كمية النوم يمكن أن تضبط عن طريق أخذ مجموعات مختلفة من المفحوصين الذين يطلب منهم قضاء ليلة في المختبر، حيث أن أفراد إحدى المجموعات سيسمح لهم بالذهاب إلى النوم الساعة الحادية عشرة، أما أفراد المجموعة الثانية سيسمح لهم بالذهاب للنوم الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وأفراد المجموعة الثالثة سيسمح لهم بالذهاب للنوم بعد الساعة الرابعة صباحاً، ثم بعد ذلك يتم إيقاظ جميع أفراد المجموعات الثلاث في نفس الوقت ثم يعطى كل منهم نفس مهمة التعلم، وبناء على ذلك يمكن للباحث أن يقدر فيما إذا كان المفحوصون الذين تلقوا ساعات من النوم أكثر تمكنوا من إتقان مهمة التعلم بسرعة أكبر من أولئك الذين تلقوا ساعات أقل من النوم (Kalut, 2004).
في التجربة السابقة يطلق على الكمية المختلفة من النوم "المتغير المستقل"، وذلك لأن هذا المتغير مستقل، حيث يعرف بالمتغير الذي يجري الباحث تغييراً في مستوياته أو قيمة حتى يدرس أثر هذا التغير على الظاهرة التي هي موضع اهتمامه (في التجربة السابقة القدرة على التعلم) وفي حين يطلق على الأداء على مهمة التعلم الذي يختلف باختلاف ساعات النوم "المتغير التابع"، ويسمى بالمتغير التابع لأنه يتبع في تغيره التغير في المتغير المستقل. فالمتغير التابع إذاً هو ذلك المتغير الذي يتغير كنتيجة للتغير الذي أحدثه الباحث في المتغير المستقل، وهو يمثل الظاهرة التي هي موضع اهتمام من قبل الباحث. وفي الغالب في علم النفس تكون المتغيرات التابعة عبارة عن المظاهر السلوكية أو السلوكات القابلة لعملية القياس، وعادة يستخدم للتعبير عن التغيير في المتغير التابع الذي ينتج عن التغير في المتغير السمتقل لفظ الوظيفة، فيقال أن القدرة على تعلم المهمات الجديدة هي وظيفة للتغير في كمية ساعات النوم التي تلقاها الفرد.
والواقع أنه بالإضافة إلى تحكم الباحث في المتغيرات المستقلة، وإحداث تغير في مستوياتها أو كميتها عليه أن يمارس درجة من الضبط للظروف التي قد تؤثر على سير التجربة كتلك الظروف التي تؤثر على المتغير التابع الذي هو بصدد دراسته، إن مثل هذه الظروف يطلق عليها "المتغيرات الدخيلة" فالمتغيرات الدخيلة هي متغيرات شبيهة بالمتغيرات المستقلة من حيث أنها تؤثر على المتغيرات التابعة أو الظاهرة التي يقوم الباحث بتناولها، ولكنها ليست موضع اهتمام من قبل الباحث في الدراسة التي يقوم بها، وهي قد تكون موضع اهتمام في دراسة أخرى.
المتغير المستقل: هو المتغير الذي يدرس الباحث أثره على الظاهرة قيد الدراسة، وذلك بإحداث تغييرات في مستوياته أو قيمه.
المتغير التابع: هو الظاهرة التي يدرس الباحث أثر التغير في قيم المتغير أو المتغيرات المستقلة عليها.
المتغير الدخيل: هو متغير شبيه بالمتغير المستقل يؤثر على المتغير التابع أو الظاهرة قيد الدراسة، ولكنه ليس موضع اهتمام من قبل الباحث.
والواقع أنه قد تم تطوير عدد من الإجراءات التي يمكن من خلالها العمل في علم النفس على ضبط المتغيرات الدخيلة والتي تتمثل في التخصيص والاختيار العشوائي والمزاوجة وإدخال العوامل في التصميم، والضبط بتناول مستوى واحد فقط من المتغير (أي تحويل المتغير إلى ثابت له قيمة واحدة)، أو الضبط الإحصائي (حيث يتم عزل تأثير المتغيرات الدخيلة عن طريق التنبؤ بتأثيرها على المتغير وطرحه من التباين الكلي الذي أحدثته التغيرات في المتغير المستقل على المتغير التابع). (Kayan & Haveman, 1976; Borg & Gall, 1983; Casanova, 1989).
والطريقة التجريبية بذلك تمكن الباحث من التوصل إلى علاقات سببية بين المتغيرات التي تهم المتخصص في علم النفس. فعن طريق الطريقة التجريبية يمكن للباحث أن يقدر بدقة كم تسهم الظروف والعوامل المختلفة سواء البيئية منها أو الوراثية في إحداث تغييرات على السلوك الإنساني؛ الأمر الذي يسهم في تحقيق أهداف علم النفس المتمثلة في فهم الظاهرة السلوكية. أو السلوك الإنساني والتنبؤ به وضبطه.
ولتوضيح ما سبق؛ دعونا نأخذ المثال التالي الذي يوضح مضمون الطريقة التجريبية في البحث في إطار علم النفس، فلو فرضنا أن لدينا باحثاً ما مهتم بدراسة أثر نمط التدريب الموزع على الذاكرة قصيرة المدى لدى الأفراد في الأردن، فإنه يتوجب على الباحث أن يأخذ مجموعات من الأفراد التي تتساوى في خصائصها المؤثرة على الذاكرة قصيرة المدى (من مثل العمر ومستوى الذكاء ومستوى التحصيل ... إلخ) من خلال أخذ عينات عشوائية (يكون الأفراد في المجتمع لهم نفس الاحتمالية في أن يؤخذوا كأفراد في عينة الدراسة)، والعمل على تخصيصها إلى واحدة من المجموعات الثلاث التالية:
المجموعة الأولى والتي سوف تتلقى تدريباً وفق برنامج موزع، والمجموعة الثانية التي سوف تتلقى تدريباً وفق برنامج مكثف، والمجموعة الثالثة التي سوف تتلقى تدريباً ليس له طابع
محدد. حيث يطلق على المجموعتين الأولى والثانية المجموعات التجريبية (المجموعات التي يتلقى أفرادها أحد الظروف التجريبية) في حين يطلق على المجموعة الثالثة المجموعة الضابطة (تلك المجموعة التي لا يتلقى أفرادها أية شكل من أشكال المعالجة التجريبية، وذلك بغرض تقدير تأثير العوامل أو المتغيرات الدخيلة)، وبعد الانتهاء من التجربة وتقديم أنماط التدريب لكل مجموعة حسب ما تم وصفه سابقاً يتم تعريض أفراد المجموعتين التجريبيتين وأفراد المجموعة الضابطة إلى اختبار يتضمن قائمة مكونة من 20 كلمة، ويطلب من الأفراد استرجاع الكلمات بعد قراءتها عليهم شفوياً من القائمة، بعدها يمكن أن يمثل متوسط عدد الكلمات التي تم استدعاؤها من الأفراد بواسطة رسم بياني كالذي يبدو في الشكل رقم (2 : 1) أو يتم بعد إيجاد متوسطات الدرجات التي حصل عليها الأفراد في كل من المجموعات الأربع اختبار فيما إذا كانت الفوارق بينها فوارق كبيرة لا يمكن الحصول عليها بمحض الصدفة أو الخطأ، وفي الغالب يستخدم الباحث للوصول لذلك أحد الإجراءات الإحصائية التي تم تطويرها لهذا الغرض (Kossleyn & Rosenberg, 2004).
فالباحث إذن في إطار الطريقة التجريبية يعمل على إحداث موقف يكون فيه العامل المؤثر في الأداء الذي يمثل المتغير التابع فقط المتغير المستقل أو المتغيرات المستقلة، وذلك من خلال الخطة التي يضعها لضبط المتغيرات الدخيلة المتمثلة بالظروف التي قد تؤثر إيجاباً أو سلباً على سير الدراسة والأداء الذي يمثل المتغير التابع، بحيث تسمح هذه الخطة بأن يكون العامل الذي يختلف فيه الأفراد في المجموعات المختلفة المشمولة بالتجربة هو فقط العامل أو المتغير المستقل، ففي التجربة السابقة يعتبر نمط التدريب هو المتغير المستقل الذي عمل الباحث على إحداث تغيير فيه (بتشكيل 3 مجموعات كل منها تلقت نمطاً مختلفاً من التدريب) بينما يعتبر معدل أو متوسط الكلمات التي تم استدعاؤها يمثل المتغير التابع (الذاكرة). إن درجة الضبط التي تتبعها الطريقة التجريبية ويتيحها المختبر يجعل التجارب المخبرية أكثر طرق البحث العلمي تفضيلاً عندما يتم استخدامها بشكل مناسب.
ومما يجدر الإشارة إليه أنه حتى يتم تطور علم النفس كعلم، فإنه ليس من الضروري أن يتم دراسة جميع المشكلات التي يهتم بها المتخصص في علم النفس في إطار المختبر، إنما قد يتم دراسة قسم من هذه المشكلات في المجال البيئي الذي تحدث فيه، لكن بشرط أن يمارس الباحث الضبط التجريبي الذي تتطلبه هذه الطريقة، فعلم النفس كبقية العلوم الأخرى مثل الجيولوجيا والهندسة والزراعة وغيرها، يحاول أن يدرس الظواهر كما تحدث في إطار المواقف الطبيعية باستخدام الطريقة التجريبية، لكن مع ممارسة الضبط التجريبي الذي تتطلبه هذه الطريقة، سواء على إطار التعامل ومعالجة المتغيرات المستقلة أم ضبط العوامل الدخيلة أو الدقة في قياس الآثار التي تتركها المعالجات التجريبية على المتغيرات التابعة.
بعد هذا الاستعراض للطريقة التجريبية في البحث في علم النفس دعونا ننتقل للحديث عن طرق البحث الأخرى التي تستخدم للوصول إلى المعلومات والمعرفة في إطار علم النفس.
نشاط (1) |
وضح مضمون الطريقة التجريبية. ثم اعمل على تصميم تجربة توضح بها هذا المضمون، واستنتج المواصفات في الطريقة العلمية للبحث التي تجعل المعلومات التي تنتج عنها تتصف بالدقة. |
2- طريقة البحث المبنية على الملاحظة Observational Method
تقوم هذه الطريقة على استكشاف العلاقات للألفة بها، حتى تصبح هذه العلاقات موضعاً للدراسة الدقيقة لاحقاً، فالملاحظة الدقيقة والحريصة لسلوك الحيوانات والإنسان (بما في ذلك عملياتنا الشعورية) تعتبر نقطة البداية لعلم النفس؛ فالملاحظة للكائنات، بما فيها الإنسان، في بيئتها الطبيعية ربما تخبرنا بعض الأشياء عن التنظيم الاجتماعي والنفسي والفسيولوجي لها، والذي سوف يساعدنا على إجراء دراساتنا التجريبية المخبرية لاحقاً.
فعندما نجري ملاحظات منظمة عن السلوك الطبيعي للإنسان فإننا سوف نحصل على معلومات تساعد على وصف السلوك الإنساني في هذه المواقف، وتساعد بالتالي على فهمها واكتشاف بعض العلاقات المتضمنة فيها والتي قد تكون محوراً للبحث والدراسة لاحقاً باستخدام طرق البحث التجريبية (Patton, 2002; Casanova, 1989; Borg & Gall, 1983).
ولعل إجراء الملاحظات حول السلوكات التي تحدث طبيعياً لا تخلو من بعض المخاطر المتمثلة في تداخل الأسلوب القصصي بالملاحظة الحقيقية والتفسيرات الذاتية لما تم وصفه من خلالها.
إن إجراء الأبحاث المبنية على الملاحظة يتطلب ممن يقوم بها أن يكون قد تلقى تدريباً على الملاحظة والتسجيل الدقيق لما قام بملاحظته من سلوكات من أجل أن يتجنب إسقاط رغباته وتحيزاته على ما قام بتضمينه لتقرير الملاحظة، كما يمكن للباحث أن يستخدم الملاحظة كأحد أساليب جمع المعلومات في المختبر، وذلك عن طريق وضع المفحوص في موقف مصطنع يحاكي الموقف الطبيعي من حيث البناء والمثيرات المتضمنة فيه، حيث يمكن بناء على هذا الموقف استجرار أو إحداث السلوكات المراد دراستها أو دراسة ردود الأفعال لهذه المثيرات، وبالتالي إتاحة الفرصة أمام الفاحص أو الباحث لرصدها ودراسة خصائصها، ولعل هذا الشكل من الملاحظة هو ما يطلق عليه الملاحظة المصطنعة، والواقع أن الأمثلة كثيرة في إطار علم النفس حول توظيف الملاحظة لدراسة الظواهر النفسية، ولعل دراسات بياجيه وفرويد وغيرهم من علماء النفس الذين سوف نطلع على نتائج أبحاثهم بنيت على الملاحظة بنوعيها: الطبيعية والمصطنعة. وقد استطاع علماء النفس توظيف التكنولوجيا في جميع الملاحظات من مثل المرآة ذات الاتجاه الواحد، وآلات التسجيل البصرية (الفيديو) والسمعية (المسجلات) لرصد السلوكات وإتاحة الفرصة أمام من يقوم بإجراء هذه الملاحظات عادة دراسة السلوكات المرصودة مرة تلو الأخرى بدلاً من الاعتماد فقط على ما رصد من قبل العنصر البشري والذي قد يكون كما أشير سابقاً موضعاً للتشويه وعدم الدقة، فقد أصبح بالإمكان إذن باستخدام أدوات التسجيل أن يتم إعادة تحليل ما تم رصده وملاحظته من قبل عدد من الباحثين أو العلماء ومحاولة الوصول إلى دقة متناهية في استخلاص الحقائق والمفاهيم والعقات مما تم رصده (Borg & Gall, 1985; Mussen & Rusen Zweig, 1973).
تفكير ناقد |
قيم طريقة البحث المبنية على الملاحظة، كيف تخلصها من الشوائب حتى تكون طريقة علمية. |
3- طرق البحث المسحية Survey Methods
هنالك بعض المشكلات التي لا يمكن لعالم النفس أن يدرسها ويلاحظها بشكل مباشر، أو حتى العمل على استجرارها في المختبر من خلال المواقف المصطنعة، من هنا فقد تم تطوير طرق لدراستها، تقوم على الملاحظة التي يقوم بها الفرد لذاته من خلال ما أطلق عليه الاستبانات Questionnaires، أو من خلال المقابلات Interviews.
فالاستبانة عبارة عن قائمة تضم عدداً من الأسئلة أو العبارات التي تسأل الفرد عن السلوكات الصادرة عنه أو عن انفعالاته ومشاعره وأحاسيسه وأفكاره واعتقاداته وقيمه واتجاهاته حول مواقف وظواهر نفسية واجتماعية مختلفة تكون عادة موضع اهتمام من قبل المتخصص في علم النفس، حيث يقوم الفرد المستجيب بتوضيح ذلك إما بناء على سلم تقدير يبين درجة تكرار أو شدة هذه الانفعالات أو السلوكات أو المشاعر أو الاتجاهات، كأن يضع إشارة على فئة من الفئات التالية للسلم، مثل: دائماً، غالباً، أحياناً، لا يحدث أو فئات مثل: بدرجة كبيرة، بدرجة متوسطة، بدرجة قليلة، أبداً لا يحدث، أو أن يطلب منهم بناء على ما تتضمنه العبارة أو السؤال العمل على كتابة السلوك الصادر عنه أو الانفعال والمشاعر والأحاسيس التي ترافق ما تتضمنه العبارة أو السؤال، بمعنى تقديم إجابة حرة غير مقررة مسبقاً.
أما المقابلة فهي شبيهة بالاستبانة، حيث يتم فيها طرح عدد من الأسئلة شفوياً على الشخص في موقف المقابلة، والتي تدور حول سلوكاته أو انفعالاته أو مشاعره أو أفكاره أو اتجاهاته أو القيم التي يحملها، ويطلب من الشخص الذي يجري مقابلته العمل على إعطاء المعلومات، حول مضمون أو شدة أو تكرار هذه السلوكات والانفعالات والمشاعر والأفكار والاتجاهات والقيم، وقد تكون هذه الأمثلة التي تطرح في موقف المقابلة موضوعة مسبقاً، وعندها يطلق على المقابلة "المقابلة المبنية"، بحيث أنه عندما تعاد المقابلة على شخص آخر تطرح نفس الأسئلة، وأحياناً أخرى قد تكون الأسئلة التي تطرح خلال المقابلة غير موضوعة مسبقاً، وإنما تتحدد بناء على سير المقابلة والشخص الذي تجري المقابلة معه، وعندها تسمى "بالمقابلة غير المبنية"، بحيث أنه عند إعادة المقابلة مع شخص آخر تكون الأسئلة مختلفة مع أنها قد تكون من حيث المضمون واحدة من شخص لآخر.
إن الطريقة المسحية تستخدم في إطار علم النفس للوقوف على حجم المشكلات النفسية أو الاجتماعية في مجتمع ما، أو الوقوف على المواقف والممارسات الصادرة عن الأفراد إزاء قضية أو مشكلة نفسية، وعادة تتم الدراسة المسحية من قبل شخص تلقى إعداداً وتدريباً مسبقاً على التعامل مع الاستبانات والمقابلات كوسائل لجمع المعلومات، ويتم فيها أخذ عينات تم اختيارها بحرص بحيث تمثل المجتمع الذي يراد دراسته، وكذلك يتم استخدام إجراءات ملائمة لتحليل النتائج والتوصل إلى تعميمات يتم تفسيرها بشكل مناسب.
(Borg & Gall, 1983; Kerlinger, 1978; Patton, 2002)
تفكير ناقد |
حلل مكونات الطريقة المسحية، وبين ما هي المخاطر التي قد تضعف مصداقيتها. |
4- تاريخ الحالة Case History
تعتبر دراسة تاريخ الحالة مصدراً هاماً للمعلومات التي يمكن لعالم النفس الحصول عليها حول الفرد وسلوكه، أو حول المؤسسات والجماعات من الأفراد. إن دراسة تاريخ الحياة يتم تحضيرها عن طريق إعادة بناء السيرة الحياتية للفرد على أساس الأحداث التي يتذكرها الفرد أو على أساس السجلات والوثائق التي يمكن الحصول عليها، والتي تتعلق بالأحداث والسلوكات التي واجهت هذا الفرد، إن عملية إعادة البناء تعتبر ضرورية لأن التاريخ المبكر للأفراد دائماً لا يكون موضع اهتمام عندما لا يكون الفرد قد واجهته مشكلة ما، عندها تصبح المعلومات التي تتصل بالماضي لهذا الشخص مهمة حتى يتم فهم السلوك الحالي له، فعلى الرغم من استعادة الأحداث الماضية قد يكون مبالغ فيها أو أنها مشوهة إلا أنها تبقى الطريقة الوحيدة المتوفرة التي يمكن من خلالها فهم السلوك الحالي للأفراد أو الجماعات، وبالتالي تشخيص مسبباته، والجذور التي يستند إليه هذا السلوك.
إن دراسة تاريخ الحالة ربما يأخذ في بعض الأحيان شكل الدراسة الطولية Longitudinal Study حيث يتم في هذا النمط من الدراسة تتبع الأفراد أو المجموعة من الأفراد عبر فترات زمنية متتالية، بمعنى أنه في مثل هذه الحالة – دراسة تاريخ الحالة – يتم التوصل له من خلال الملاحظات الحقيقية والفعلية التي يجريها الباحث تبعاً لخطة ما. إن الفائدة من الدراسة الطولية تتمثل في عدم اعتمادها على ذاكرة الأفراد الذين تجري مقابلتهم في وقت لاحق بعد أن يكون قد حدث السلوك وانتهى، في حين أن العيب بهذه الطريقة يتمثل في أن حجماً كبيراً من المعلومات يجب أن يتم جمعه من قبل عدد كبير من الأفراد على أمل الوصول إلى الخصائص التي هي موضع اهتمام من قبل الباحث.
(Borg & Gall, 1983; Patton, 2002; Kerlinger, 1987)
تفكير ناقد |
حدد مجالات تطبيق "دراسة الحالة" وقيمها. |
5- الدراسات الارتباطية Correlational Studies
في بعض الأوقات تعتبر عملية الوصول إلى الدرجة التي تم وصفها للضبط التجريبي للمتغيرات أمراً صعباً وخارج نطاق إمكانات الباحث وقدرته. فعلى سبيل المثال الباحثون المهتمون بدراسة الدماغ الإنساني والعمليات التي تحدث له وأثرها على المظاهر السلوكية المختلفة للإنسان لا يشعرون بأن لديهم الحرية والإمكانية لإجراء العمليات الجراحية لإزالة أجزاء من الدماغ أو إتلاف أجزاء منه أو حتى العمل على إحداث إثارة خارجية لبعض الأجزاء من الدماغ لدراسة أثر هذه العمليات على المظاهر السلوكية الصادرة عن الأفراد (على الرغم من أن هنالك إمكانية لدراسة ذلك باستخدام كائنات حية غير بشرية).
لكن علماء النفس أو الباحثين هنا ينتظرون توفر حالات تم تعرضها لتلف في جزء من الدماغ، أو تعرضت لعملية تضمنت استئصال جزء من الدماغ ويعملون على دراسة أثر هذا الاستئصال أو التلف الذي أصاب أجزاء من الدماغ على المظاهر السلوكية والنفسية والاجتماعية للفرد، حيث يعملون على دراسة العلاقة التي ربما تظهر كنتيجة للتلف الذي طرأ على الجزء الخلفي من الدماغ على الصعوبات في التخيل أو تصور الأشياء. هذه الطريقة التي يتم فيها إيجاد روابط بين المتغيرات في علم النفس دون أن يكون هنالك ممارسة للضبط التجريبي تعرف بالطريقة الارتباطية (Borg & Gall, 1983; Kirk, 1986).
فعندما يتوفر لدى عالم النفس قدر كبير من المعلومات فإن الطريقة الارتباطية تعتبر هي الطريقة المثلى للكشف عن العلاقات بين المتغيرات، وتتمثل هذه الطريقة بإيجاد قيمة معامل الارتباط ما بين قياسين ثم إيجادهما على نفس المجموعة من الأفراد، كأن نأخذ العلامات التي حصل عليها طلبة الجامعة بالثانوية العامة ومعدلاتهم التراكمية في السنة الأولى في الجامعة. أو أن نجد معامل الارتباط بين درجات الذكاء للأطفال ومعدل النمو اللغوي (مقاساً بالمفردات التي تشكل القاموس اللغوي للطفل) لديه. حيث أن معامل الارتباط Correlation Coefficient إجراء رياضي يستخدم للتعبير عن قوة واتجاه العلاقة بين متغيرين أو أكثر عن طريق إعطاء قيم رقمية تتراوح بين -1 و +1 مروراً بالصفر، حيث تشير الإشارة المصاحبة لمعامل الارتباط إلى اتجاه العلاقة الارتباطية، فالإشارة الموجبة (+) تشير إلى العلاقة الطردية التي تتمثل بأن التغير في أحد المتغيرات في اتجاه ما يتبع تغيراً في المتغير الثاني بنفس الاتجاه (الزيادة يتبعها زيادة والنقصان يتبعه نقصان). في حين تشير الإشارة السالبة (-) المرافقة لمعامل الارتباط إلى العلاقة العكسية التي تعتبر عن أن التغير في أحد المتغيرات في اتجاه ما يتبعه تغير في المتغير الثاني بالاتجاه المعاكس (الزيادة في أحد المتغيرات يتبعها نقصان بالمتغير الثاني، والنقصان في أحد المتغيرات يتبعه زيادة في المتغير الثاني).
أما قيمة معامل الارتباط فتعبر عن قوة الارتباط، فكلما ابتعدت القيمة عن الصفر زادت قوة العلاقة الارتباطية، وبشكل عام يمكن أن نشير إلى القيم التالية لمعامل الارتباط:
(1) معامل الارتباط = +1 حيث تشير هذه القيمة لمعامل الارتباط إلى علاقة ارتباطية طردية تامة، بمعنى أن التغير في أحد المتغيرات بوحدة واحدة يتبعها تغير ثابت ومنتظم في المتغير الثاني بنفس الاتجاه (زيادة يتبعها زيادة، ونقصان يتبعه نقصان). الأمر الذي يمكننا من التعرف إلى قيمة الدرجة التي يحصل عليها الفرد على أحد المتغيرات بمعرفتنا قيمة درجته على المتغير الآخر بدقة، وفي مثل هذه الحالة نلاحظ أن جميع القيم في شكل الانتشار الذي يمثل العلاقة بين المتغيرين تقع على خط مستقيم كما يبدو في الشكل رقم (2 : 2).
(2) معامل الارتباط يساوي قيمة أكبر من صفر ولكنها أصغر من +1 (+1 > ر > صفر). إن هذه القيمة لمعامل الارتباط تعبر عن وجود علاقة موجبة أو طردية شبه تامة، حيث تعتمد قوة هذه العلاقة على الدرجة التي تقترب بها قيمة معامل الارتباط من +1، وفي هذه الحالة تشير العلاقة الارتباطية إلى مقدار التغير بمقدار وحدة واحدة في أحد المتغيرات يتبعها تغير غير ثابت ولكنه منتظم في المتغير الثاني في نفس الاتجاه، بمعنى أنه يمكننا أن نتنبأ بقيمة الدرجة التي يحصل عليها الفرد في أحد المتغيرات إذا عرفنا درجته على المتغير الثاني، لكن ذلك لا يتم بنفس الدقة التي تتحقق في حالة أن العلاقة الارتباطية طردية تامة، حيث نجد أيضاً أن النقاط في شكل الانتشار الذي يمثل هذه العلاقة بين المتغيرين لا تقع على خط مستقيم، وإنما تتجمع حول خط مستقيم كما يبدو ذلك في الشكل رقم (2 : 3).
(3) قيمة معامل الارتباط تساوي صفراً (ر = 0). إن هذه القيمة لمعامل الارتباط تشير إلى انعدام العلاقة الارتباطية، بمعنى أن التغير في أحد المتغير بمقدار وحدة واحدة يتبعه تغير غير ثابت وغير منتظم في المتغير الثاني، أي أن الزيادة قد يتبعها زيادة أو نقصان في نفس الاتجاه أو في اتجاه مختلف، فالقيمة الواحدة لأحد المتغيرات يقابلها جميع القيم في المتغير الثاني، وبكلمات أخرى لا يمكن للمرء أن يتنبأ بقيمة أحد المتغيرات إذا عرف القيمة التي حصل عليها فرد ما في متغير آخر. من هنا يلاحظ أن النقاط في شكل الانتشار تأخذ الشكل الدائري، كما يبدو ذلك في الشكل رقم (2 : 4)
(4) قيمة معامل الارتباط تساوي قيمة أقل من صفر ولكنها أكبر من السالب (-1)، أي أن (صفر > ر > -1). إن مثل هذه القيمة تعبر عن وجود علاقة عكسية شبه تامة. حيث تعتمد قوة العلاقة على الدرجة التي تقترب بها قيمة معامل الارتباط من (1)، وتبتعد عن الصفر. وتشير العلاقة العكسية شبه التامة إلى أن مقدار التغير بمقدار وحدة واحدة في أحد المتغيرات يتبعه تغير غير ثابت ولكن منتظم في المتغير الثاني في الاتجاه المعاكس، بمعنى أننا نستطيع أن نتنبأ بقيمة أحد المتغيرين لفرد ما إذا علمنا درجته على المتغير الآخر، لكن بشيء من الخطأ أو عدم الدقة، يقررها حجم معامل الارتباط، وعند التمثيل للبيانات التي تمثل العلاقة الارتباطية العكسية شبه التامة في شكل انتشار يلاحظ أن القيم لا تقع على خط مستقيم، بل تتجمع حول خط مستقيم، والشكل التالي يوضح العلاقة العكسية شبه التامة.
(5) قيمة معامل الارتباط تساوي -1، وتسمى العلاقة هنا بالعلاقة الارتباطية العكسية التامة، بمعنى أن التغير بمقدار وحدة واحدة في أحد المتغيرات يتبعها تغير ثابت ومنتظم في المتغير الثاني بالاتجاه المعاكس (الزيادة بوحدة واحدة يتبعها نقصان ثابت في المتغير الثاني، والنقصان بوحدة واحدة يتبعه زيادة ثابتة في المتغير الثاني). فكل قيمة للمتغير الأول تقابلها قيمة واحدة في أحد المتغيرات فيمكننا معرفة درجة الفرد على أحد المتغيرات بدقة بمعرفتنا للقيمة التي حصل عليها على المتغير الثاني؛ فجميع القيم في شكل الانتشار الذي يمثل العلاقة بين المتغير الأول والثاني التي تربطها علاقة عكسية تامة تقع على خط مستقيم واحد، كما يبدو في الشكل التالي.
ويمكن تلخيص أنواع العلاقة الارتباطية ونوع التغير الناتج على النحو التالي:
نوع العلاقة الارتباطية | قيمة معامل الارتباط | نوع التعيير الناتج عن تغييروحدة واحدة في أحد المتغيرات |
ارتباطية طردية تامة | +1 | منتظم وثابت بنفس الاتجاه |
ارتباطية طردية شبه تامة | 0 < ر < +1 | منتظم وغير ثابت، بنفس الاتجاه |
انعدام الارتباط | ر = صفر | غير ثابت وغير منتظم |
ارتباطية عكسية شبه تامة | -1 < ر < 0 | منتظم وغير ثابت بعكس الاتجاه |
ارتباطية عكسية تامة | - 1 | منتظم وثابت بعكس الاتجاه |
(Borg & Gall, 1983: Kerlinger, 1978; Kirk, 1986, Silverman, 1978; Wester, 1996)
إن نمط العلاقة الارتباطية التي نتوصل إليها في إطار هذا النمط من الأبحاث في إطار علم النفس تختلف عن تلك التي تم تناولها في إطار الطريقة التجريبية، فهنا العلاقة ليست سببية وإنما هي علاقة وظيفية، أي أن العلاقة الارتباطية تشير إلى وجود شيء مشترك بين المتغيرين، حيث أن هذا الشيء المشترك هو الذي يجعل التغير في أحد المتغيرات يتبعه أو يصاحبه تغير في المتغير الثاني، فمعامل الارتباط لا ينم عن علاقة سببية مباشرة وهو ليس معامل اقتران مباشر، وإنما يفسر معامل الارتباط بمقدار التباين المشترك بين المتغيرين والذي يمكن الحصول عليه من خلال تربيع قيمة معامل الارتباط (r2). فلو فرضنا أن هنالك إحدى الدراسات التي انتهت إلى أن العلاقة الارتباطية ما بين ذكاء الوالدين وذكاء أبنائهم يساوي 0.50 فإن نتائج هذه الدراسة يمكن أن تفسر بأن 0.25 (مربع 0.50) من التباين الملاحظ في ذكاء الأبناء نفسر عن طريق التباين في ذكاء والديهم، في حين 0.75 من التباين في ذكاء الأفراد يفسر عن طريق متغيرات أخرى.
نشاط (2) |
- بين مجالات الطريقة الارتباطية. - صمم دراسة باستخدام الطريقة الارتباطية. - فسر معامل الارتباط في قيمه المختلفة. |
ثالثاً: كيف يعمل عالم النفس على تطبيق الطريقة العلمية؟
يهتم المتخصص في علم النفس بدراسة الظواهر الشخصية والاجتماعية المتصلة بالفرد، حيث يعمل على توفير إجابات عن الأسئلة الهامة المتصلة بهذه الظواهر، فيضع صياغة لهذه الأسئلة بطريقة يمكن للمرء معها توفير إجابات موضوعية وثابتة عنها، ثم يعمل على صياغة فرضيات (تخمينات ذكية عن النتيجة أو الإجابات عن هذه الأسئلة) حول المشكلة التي تبحث، وهذه الفرضية تتضمن توضيحات مؤقتة للعلاقات بين الخصائص والظروف أو الظواهر (المتغيرات). على سبيل المثال العلاقة بين البيئة المبكرة المثيرة والذكاء، أو ما بين نمط التنشئة الاجتماعية للفرد في الطفولة المبكرة والمشكلات التي تواجه الفرد في مرحلة المراهقة، فبعض هذه الفرضيات تعكس الاعتقادات الشائعة، والبعض الآخر من الفرضيات يتم بناؤها استناداً إلى المشاهدات التي قام بها واضع هذه الفرضية أو بناء على دراسة استطلاعية.
إن المجموعة من الفرضيات المترابطة المثبتة تجريبياً التي تتصل بظاهرة ما تقود إلى ما يسمى بالنظرية، والتي تعتبر مفيدة من أجل تلخيص وتفسير وضم النتائج بشكل متكامل والمتصلة بظاهرة معينة، فنظرية فرويد في التحليل النفسي تعمل على ضم وربط عدد من الظواهر النفسية بعضها مع بعض، والتي كانت تبدو فيما سبق على أنها غير مترابطة: الأحلام وزلات اللسان والغرائز والتنشئة الأسرية والاضطرابات الشخصية. لكن النظرية الجيدة هي التي تعمل على أكثر من مجرد الربط، إنما توفر اقتراحات وفرضيات يمكن أن يتم إخضاعها للبحث في المستقبل. فمن خلال النظرية يمكن أن نجري تنبؤات قابلة للاختبار. فالفرضيات والنظريات بهذا المعنى هي التي توجه الأبحاث.
فالعالم يختلف عن الشخص العادي حيث يختبر بانتظام الفرضيات والنظريات لتقرير مدى معقوليتها وصدقها، فهو لا يعتمد على الآراء، وإنما ينظر إلى الحقائق المبنية على البيانات التي قام بجمعها، فهو بناء عليها يمكن أن يقبل أو يرفض الفرضية على أساس البراهين والدلالات التجريبية التي يتم التوصل إليها من الملاحظات التي قام بها بموضوعية وحرص. فعالم النفس يستخدم المقاييس الدقيقة والكمية أينما كان ذلك ممكناً ومناسباً. فالتجارب يتم إجراؤها والمشاهدات يتم القيام بها بحرص، بحيث يمكن أن يتم إعادتها والتأكد من مصداقيتها من قبل علماء النفس الآخرين، إن الفرضيات يجب أن تتم صياغتها بصيغ قابلة للاختبار، ولا يقبل أن تكون مصاغة بلغة عامة وعريضة، حيث يعمل عالم النفس على إعادة صياغة وبناء المشكلة، بحيث يمكن اختبارها بشكل علمي أو إخضاعها للمنهج العلمي في البحث، فالسؤال الذي يأخذ شكل الصياغة التالي: ما هي العلاقة بين الإحباط والعدوان؟ يعتبر عاماً جداً، ويجب أن تعاد صياغته باستخدام معايير ومصطلحات أدق، بحيث يعرف كل فرد المقصود بها بدقة، وهذا يتم التوصل إليه من خلال تقديم تعريفات إجرائية للمصطلحات الواردة في السؤال، وذلك عن طريق تعريف المصطلحات (المتغيرات) الواردة في الفرضية أو السؤال البحثي بلغة السلوكات الملاحظة والقابلة لعملية القياس. فالسؤال السابق الذي يتناول العلاقة بين الإحباط والعدوان يمكن أن يعرف الإحباط إجرائياً بالشكل التالي: منع فرد ما من القيام بشيء ما يريد أن يقوم به (على سبيل المثال منع الأطفال من اللعب بالدمى الجذابة لهم)، والعدوان يمكن أن يعرف بالسلوك الظاهري الملحوظ الذي يأخذ شكل الضرب والشتم أو الخلاف ... إلخ، حيث يمكن أن يقرأ السؤال السابق بالشكل التالي: هل منع الأطفال من اللعب بالدمى المحببة لهم يقود إلى زيادة عدد مرات الاستجابة باستخدام الضرب أو الهجوم أو الشتم؟ فبعد أن يكون العالم قد عرف المصطلحات أو المتغيرات الواردة في المشكلة أو الفرضية بشكل إجرائي يمكنه الاستمرار في إجراء الدراسة، بحيث يعمل على وضع خطة البحث، بحيث يتم تصميم موقف طبيعي يقوده إلى الوصول إلى معلومات أو بيانات يمكن بناء عليها أن يؤيد الباحث أو يرفضه فرضيته أو يقود إلى بيانات توفر معلومات تجيب عن سؤال الدراسة أو البحث الذي هو موضع اهتمام. فخطة البحث تتضمن تحديد مجتمع الدراسة الذي سوف يتم تناوله لإجراء الدراسة، وهو يشمل جميع الوحدات التجريبية التي هي موضع اهتمام من قبل الباحث الذي يأمل أن يعمم نتائجه عليه. فعلى سبيل المثال إذا كان اهتمام الباحث منصباً على دراسة أثر مشاهدة نماذج متلفزة عن السلوك العدواني لدى أطفال مرحلة الروضة في الأردن، فإن مجتمع الدراسة في مثل هذه الحالة يكون جميع الأطفال في مرحلة الروضة في الأردن، وبما أنه في كثير من الأحيان يتعذر على الباحث أن يتناول جميع أفراد مجتمع الدراسة، وذلك بسبب الإمكانات المادية أو الوقت أو لاعتبارات خاصة بضبط المتغيرات، فإن الباحث يعمل، في العادة، على تناول جزء من ذلك المجتمع لإجراء الدراسة عليه. هذا الجزء عادة يطلق عليه اسم العينة (هو ذلك الجزء المميز والمنتقي من مجتمع الدراسة)، بحيث يكون هذا الجزء ممثلاً لبقية أفراد مجتمع الدراسة من حيث الخصائص والصفات موضع الاهتمام، والتي قد تؤثر على سير التجربة، حيث أنه كلما اقتربت العينة في خصائصها ومواصفاتها من المجتمع قل ما يسمى بالخطأ العيني (انحراف العينة في خصائصها عن خصائص المجتمع). وكلما زادت بالتالي إمكانية تعميم النتائج التي توصلنا لها من عينة الدراسة على بقية الأفراد في مجتمع الدراسة. من هنا فإن علماء النفس يحرصون على تناول عينات كبيرة الحجم لإجراء دراساتهم للوصول إلى درجة معقولة من التمثيل لخصائص أفراد مجتمع الدراسة. كما يلجأ علماء النفس إلى استخدام إجراءات خاصة لانتقاء أفراد عينة الدراسة من مجتمع الدراسة. تعرف هذه الإجراءات بأساليب المعاينة Sampling Techniques. وهي في الغالب قائمة على العشوائية Randomization (إعطاء الأفراد في مجتمع الدراسة نفس الاحتمالية في أن يكونوا جزءاً من عينة الدراسة). فهنالك العينة العشوائية البسيطة، والعينة العشوائية المنظمة، والعشوائية العنقودية، والعشوائية الطبقية (يتوقع أن تجد تفاصيل عملية انتقائها في الكتب المتخصصة في مجال مناهج البحث في علم النفس). كما يمكن أن تكون العينات التي تجري عليها الأبحاث والدراسات والتجارب في علم النفس عينات غير عشوائية (عينات قصدية) في حالة أن يكون اهتمام الباحث أو عالم النفس منصباً على دراسة ظاهرة ما في عينة بحد ذاتها، فهو غير مهتم بعملية تعميم النتائج بقدر ما هو مهتم بالوصول إلى معلومات غنية حول الظاهرة ضمن مجتمع معين، كما يحدث ذلك في حالة الأبحاث النوعية في علم النفس أو في حالة اختبار فاعلية طريقة ما أو أسلوب نفسي ما للتعامل مع مشكلة ما تواجه عينة محددة من الأفراد في مجتمع الدراسة، والتي يقوم بها المختص في مجال علم النفس الإكلينكي.
بعد أن يكون الباحث قد حدد مجتمع الدراسة واختار عينة الدراسة فإنه يعمل على وضع تصميم الدراسة، حيث يعمل الباحث فيه على تحديد الإجراءات التي سوف يستخدمها في جمع المعلومات وتحليل النتائج والوصول إلى استنتاجات بناء على الإجراءات المتبعة في عملية التحليل للوصول إلى إجابات عن أسئلة الدراسة أو التحقق من معقولية الفرضية أو عدم معقوليتها. فالتصميم إذن يستخدم لوصف الإجراءات التي تستخدم في التخطيط للدراسة أو التجربة. إن أبسط التصاميم التجريبية التي تستخدم في إطار علم النفس هو التصميم الذي يقوم فيه الباحث على معالجة متغير واحد (متغير مستقل واحد) إذ يغير من قيمه ليدرس أثر ذلك على متغير آخر (متغير تابع) في ظل العمل على تثبيت بقية المتغيرات الدخيلة الأخرى، حيث يعمل في مثل هذه الحالة تفسيم أفراد عينة الدراسة التي قام باختيارها عشوائياً إلى مجموعتين عن طريق التخصيص العشوائي Randon Assignment للأفراد إلى واحدة من مجموعتين؛ الأولى تجريبية (المجموعة التي ستتلقى الظرف التجريبي)، والثانية ضابطة التي سوف تتلقى الظرف العادي التقليدي السابق) كما يبدو ذلك في الشكل رقم (2 : 7).
(Davis & Palladino, 2004)
ويمكن في إطار علم النفس بالتأكيد التحدث عن تصاميم أكثر تعقيداً عن طريق تناول أكثر من مجموعة تجريبية واحدة وأكثر من متغير مستقل واحد، وأكثر من متغير تابع واحد في نفس الوقت، والتي في الغالب تستخدم في التجارب والدراسات التي تتناول مشكلات بحثية متعددة الجوانب يدخل فيها عدد من المتغيرات المستقلة وعدد من المتغيرات التابعة التي يطلق عليها التصاميم العاملية Factorial Designs (التي يمكن أن تجد عنها تفاصيل في المراجع المتخصصة في علم النفس، كما سبق الإشارة لذلك).
إن القيمة الفريدة والهامة للتصميم التجريبي، كما سبق الإشارة لذلك، تتمثل في أنه يجعل من الممكن لنا أن نقول بدقة أن التغير في السلوك المقاس الذي يمثل المتغير التابع ناتج عن المعالجة التجريبية، فالمنطق الذي يستند إليه هذا الأمر بسيط ومباشر، يتمثل في أن المجموعتين التجريبية والضابطة تم اختيارهما بحيث تكونان متماثلتين في جميع العوامل المؤثرة على السلوك المقاس. وأن الاختلاف بينهما يتمثل في أن أفراد المجموعة التجريبية قد تلقت المعالجة التجريبية في حين أن الأفراد في المجموعة الضابطة لم يتلقوا مثل هذه المعالجة التجريبية. فالاختلاف الملاحظ إذن في الأداء لدى الأفراد في المجموعتين يجب أن يفسر أو يعزي للمعالجة التجريبية.
ومما يجدر الإشارة إليه أنه ليست جميع المشكلات المتصلة بالسلوك الإنساني يمكن أن تدرس بهذا الشكل (الطريقة التجريبية). فعلى سبيل المثال دراسة أثر التربية أو التنشئة السلبية للطفل من قبل الوالدين على مقاومة السلطة، لا يمكن للباحث أن يعمل على التحكم أو معالجة الطرق التي يتعامل بها الوالدان أبناءهم لأغراض إجراء دراسة تجريبية. لكن يمكنه أن يذهب إلى الميدان أو إلى البيوت والأسر، وملاحظة الآباء أثناء تفاعلهم الطبيعي مع أبنائهم، فبناء على هذه المشاهدات يمكن أن يختار مجموعة من الأطفال تمت تنشئتهم بشكل سلبي، ومجموعة أخرى من المفحوصين تمت تنشئتها على العكس من ذلك، ثم يعمل على قياس مقاومة السلطة لديهم، بما يقدرها المعلمون الذي يقومون على تدريسهم، كما تبدو في غرفة الصف، فإذا أبدى الأطفال في المجموعة التي تنتمي إلى التنشئة السلبية مقاومة أكبر للسلطة في غرفة الصف مقارنة بتلك التي أبداها الطلبة في المجموعة التي تلقت تنشئة أكثر إيجابية من قبل الوالدين، عندها يتم تأكيد وتدعيم معقولية الفرضية، وإلا فإن الفرضية يتم رفضها.
بعد أن يتم اختيار التصميم الملائم لإجراء الدراسة يتم جمع المعلومات عن السلوكات أو الظواهر التي يمثلها المتغير التابع بعد أن يكون أفراد المجموعة التجريبية قد تلقوا المعالجة التجريبية كما أشير لذلك سابقاً، حيث يتم في إطار علم النفس جمع المعلومات عن الأفراد، إما باستخدام الملاحظة أو أدوات الملاحظة الذاتية، كالاستبانة والمقابلة – التي تم تناولها سابقاً – أو باستخدام أدوات القياس Psychological Tests، حيث تعتبر الاختبارات النفسية أدوات بحثية هامة تستخدم لقياس جميع أنواع القدرات والميول والاتجاهات والاستعدادات والقيم والسمات السلوكية والتحصيل. فالاختبارات تمكن الباحث وعالم النفس من الحصول على مقدار كبير من المعلومات عن الأفراد دون التدخل الكبير في الروتين العادي لحياتهم، ودون الحاجة إلى تطوير أدوات مخبرية معقدة. فالاختبار يتمثل عادة بموقف موحد يعرض عليه مجموعة من الأفراد الذين هم مختلفون في المظاهر ذات الصلة بهذا الموقف (مثل الذكاء والتحصيل والشخصية والقلق والخوف والمهارات الحركية والحسية ... إلخ). حيث أن التحليل لنتائج الأفراد على الاختبار تعمل على الربط بين التباينات في درجات الاختبار مع التباينات بين هؤلاء الأفراد. وأياً كانت الطريقة التي تم اتباعها لجمع البيانات فإن هذه البيانات، سواء كانت كمية أم نوعية (كيفية) – تشير إلى الخصائص التي يعبر عنها بألفاظ أو أوصاف – فإنها بحاجة إلى التحليل باستخدام واحد أو أكثر من الإجراءات الإحصائية؛ الأمر الذي يتطلب من المتخصص في علم النفس أو عالم النفس الإلمام بالكثير من المفاهيم والاختبارات الإحصائية، من مثل مقاييس النزعة المركزية Central Tendency Measures المتوسط الحسابي Mean (المجموع الجبري للعلامات مقسوماً على عددها)، والوسيط Median (النقطة في التوزيع التي تقسمه إلى مجموعتين متساويتين من حيث عدد الأفراد)، والمنوال Mode (أكثر القيم تكراراً في التوزيع). ومقاييس التشتت Variability Measures التي توضح مدى انتشار أو تبعثر العلامات، والتي تتمثل في: المدى المطلق Range (الفارق بين أعلى علامة في التوزيع وأدنى علامة فيه)، والمدى الربيعي Quartile Deviation (الفارق بين المتين 75 والمثين 25). والانحراف المعياري Standard Deviation (الجذر التربيعي لمتوسط مربع انحرافات العلامات عن وسطها الحسابي)، والتباين Variance (مربع الانحراف المعياري)، حيث يمكن من خلال إيجاد قيمتي المتوسط الحسابي للمجموعة الضابطة والمجموعة التجريبية أن نقارن بشكل مبدئي بين المجموعتين، وتكوين فكرة عن أثر المعالجة التجريبية، خاصة في ظل كون الفروق كبيرة وواضحة. أما في حالة كون الفروق بين المتوسطات قليلة، فإنها تفرض علينا اللجوء إلى واحد من اختبارات الدلالة الإحصائية Significance of differences لمعرفة فيما إذا كانت هذه الفروق الصغيرة ذات دلالة إحصائية أم لا وهي تلك الإجراءات التي سوف تجد معلومات عنها في الكتب الكثيرة الخاصة بالإحصاء الاستنتاجي.
رابعاً: أبعاد علم النفس والبحث:
كما تعلم أن علم النفس لديه مجالات عدة Areas من الاهتمامات، وله طرق مختلفة Methods لدراسة هذه المجالات (كما سبق أن عرضت). وهنالك مواقف عدة Setting يهتم عالم النفس بدراستها. والشكل رقم (2 : 8) يوضح بنية علم النفس تبعاً لهذه الأبعاد الثلاثة: طبيعة الموضوعات التي يهتم بها، والأهداف والطرق الخاصة بالمتخصص في علم النفس، والمواقع أو المواقف التي يعمل فيها. فكما تلاحظ من المصفوفة هنالك نواتج كثيرة ممكنة من تلاقي أو تقاطع هذه الأبعاد الثلاثة التي تحتويها هذه المصفوفة، حيث يظهر الشكل (150) تقاطعاً ناتجاً عن هذه الأبعاد. وهذه النواتج يجب أن لا ينظر إليها بأنها مستقلة، بل يمكن أن تكون متفاعلة ومتداخلة بعضها مع بعض.
وكذلك يلاحظ من الشكل السابق أن عالم النفس عموماً يركز على واحد من ثلاثة أهداف من الأهداف البحثية: البحث الأساسي Basic Research، أو البحث التطبيقي Applied research أو البحث العلمي Practical Research.
فالبحث في مجال علم النفس كبقية المجالات الأخرى للعلوم له ثلاثة تركيزات أو اهتمامات بحثية: الأول البحث الأساسي، والثاني البحث التطبيقي، والثالث البحث العملي. فالبحث الأساسي مهتم بالتوصل إلى معارف ومعلومات جديدة بغض النظر عن قيمتها التطبيقية الآنية أو الحالية، فعلماء النفس الذين يدرسون التعلم في المختبر ليس اهتمامهم منصباً على تحسين طرق التدريس بالرغم من أن نتائجهم تلقائياً لها تطبيقاتها التربوية. إنهم فقط يريدون إشباع حب الاستطلاع لديهم المتمثل في الكشف عن قوانين يمكن من خلالها التحكم بالتعلم. إن النتائج التي يتوصلون إليها ربما يكون لها نتائج عملية، لكن هذا الأمر ليس هو محور اهتمامهم.
وفي المقابل البحث التطبيقي يسعى من خلاله الباحث إلى تحسين الظروف الإنسانية عن طريق اكتشاف بعض الأشياء التي يمكن أن تستخدم لأغراض الممارسات العملية التطبيقية، فقد يتفحص الباحث أسلوبين جديدين لتدريس الأعداد للطلبة في الروضة، وذلك لإيجاد أي منهما أكثر فاعلية لإحداث تعلم الأعداد عند طفل الروضة، فالنتائج التي ينتهي إليها هذا النمط من البحث على الرغم من أن لها قيمه لفهم عملية التعلم، إلا أن الهدف الأساسي هو الجانب التطبيقي المتمثل بتطوير طرق التدريس. هنالك بعض الميادين في علم النفس كميدان الإرشاد النفسي وعلم النفس الإلكينيكي تهتم بشكل كبير بالبحث التطبيقي، في حين أن بعض الميادين الأخرى لعلم النفس تسهم بشكل أساسي بالبحث الأساسي من مثل علم النفس وعلم النفس الشواذ الفسيولوجي، لكن معظم الميادين في علم النفس تتمثل اهتماماتها البحثية بالمزج ما بين البحث الأساسي والبحث التطبيقي وتطبيقاتها.
فعلى الرغم من أن الفصل بين البحث الأساسي والبحث التطبيقي ذو معنى، إلا أن هذا الفصل يعتبر مصطنعاً، وذلك لأن البحث عادة يخدم إشباع الطموح العلمي بالتوصل إلى معرفة جديدة ويخدم الهدف التطبيقي في نفس الوقت. فالمتخصص في علم النفس الإكلينيكي ربما يجمع معلومات حول معالجة المرضى، والتي لها صلة بالنظريات الأساسية التي تتناول أسباب المرض العقلي.
وعلى الرغم من أن معظم علماء النفس يقضون معظم أوقاتهم في إجراء الأبحاث داخل وخارج المختبر إلا أن هنالك قسم من هؤلاء العلماء يأخذون النتائج التي انتهى إليها الباحثون في البحث الأساسي والتطبيقي والعمل على تطبيقها ودراستها على المواقف الحياتية المختلفة. ولعل الأبحاث التي يقوم بها المتخصصون في علم النفس الإكلينيكي تعتبر أكبر مثال على ذلك، حيث يعمل هؤلاء على تشخيص الاضطرابات التي يعاني منها الأفراد ومعالجتهم بالاستعانة بما توصل إليه علماء النفس في إطار البحث الأساسي والبحث التطبيقي من نتائج بحثية، كما أن المختصين في علم النفس التربوي أيضاً يجرون أبحاثاً عملية غرضها العمل على فحص مدى جدوى ما انتهت إليه الأبحاث الأساسية والتطبيقية في علم النفس لمواجهة المشكلات التي تواجه القائمين على التعلم المدرسي في إحداث عملية التعلم لدى الطلبة في غرفة الصف. (Borg & Gall, 1983; Kerlinger, 1978).
الخلاصة:
- استخدم الإنسان أربع طرق للوصول إلى المعرفة هي، الحجة والادعاء، المنطق، الحدس، وأخيراً الطريقة العلمية.
- هناك خمس طرق علمية تهدف للتوصل إلى المعرفة في إطار علم النفس. الطريقة الأولى هي الطريقة التجريبية، يمكن استخدام هذه الطريقة داخل المختبر وخارجه. فيها يتحكم الباحث في المتغيرات المستقلة وإحداث تغير في مستوياتها أو كميتها، ويمارس درجة من الضبط للظروف التي قد تؤثر على سير التجربة أو تؤثر على قوة تأثير المتغير المستقل على المتغير التابع.
- طرق البحث المبنية على الملاحظة، فيها تتم ملاحظة الكائنات الحية بما فيها الإنسان في بيئتها الطبيعية بحثاً عن التنظيم الاجتماعي والنفسي والفسيولوجي لها.
- طرق البحث المسحية يعتمد فيها على الاستبانات والمقابلات. فيها يقوم الفرد بالملاحظة.
- دراسة تاريخ الحالة مصدر هام للمعلومات التي يمكن لعالم النفس الحصول عليها حول الفرد وسلوكه أو حول المؤسسات والجماعات. بها يتم إعادة بناء السيرة الذاتية في ضوء ما يتذكره الفرد من أحداث أو ما يرد في السجلات والوثائق.
- الدراسات الارتباطية. الطريقة الارتباطية هي الطريقة المثلى للكشف عن العلاقات بين المتغيرات. وتتمثل هذه في الطريقة إيجاد قيمة معامل الارتباط ما بين قياسين ثم حسابهما على نفس المجموعة من الأفراد. وتتراوح قيمة معامل الارتباط ما بين (+1 و -1).
- يعمل عالم النفس على تطبيق الطريقة العلمية لدراسة الظواهر الشخصية والاجتماعية المتصلة بالفرد محاولاً الإجابة الموضوعية عن الأسئلة المتصلة بالظاهرة موضوع الدراسة. ثم يضع فرضيات كتخمينات ذكية عن إجابات تلك الأسئلة، إن مجموعة الفرضيات المترابطة التي تتصل بالظاهرة المدروسة تقود إلى "النظرية"، التي تلخص وتفسر وتتنبأ وتضبط الظاهرة موضوع الدراسة.
- خطة البحث تتضمن تحديد مجتمع الدراسة وعينتها بحيث تكون ممثلة لبقية أفراد المجتمع من حيث الخصائص والصفات موضع الاهتمام.
- يتم اختيار العينة من مجتمع الدراسة بأساليب المعاينة القائمة في الأغلب على العشوائية بأنواعها المختلفة، البسيطة، المنظمة، العنقودية، الطبقية.
- يمكن أن تكون العينة قصدية في حالة ما إذا كان الباحث مهتماً بدراسة ظاهرة ما في عينة بحد ذاتها. ولا يهتم بتعميم النتائج.
- تصميم الدراسة يبين فيه تحديد الإجراءات، وخطوات تحليل النتائج والوصول إلى استنتاجات بناء على الإجراءات المتبعة في عملية التحليل للوصول إلى إجابات عن أسئلة الدراسة أو التحقق من معقولية الفرضية أو عدم معقوليتها، إن أبسط التصاميم التجريبية التي تستخدم في إطار علم النفس هو التصميم الذي يقوم فيه الباحث على معالجة متغير واحد (مستقل) ليدرس أثره على متغير آخر (تابع)، مع تثبيت المتغيرات الدخيلة، ولتحقيق ذلك يعمل الباحث على تقسيم أفراد عينة الدراسة التي قام باختيارها عشوائياً إلى مجموعة تجريبية ومجموعة ضابطة عن طريق التخصيص العشوائي.
- المعالجة الإحصائية التي يتم بها تحليل البيانات الخام التي يحصل عليها وذلك باستخدام المعالجة الإحصائية المناسبة.
- يمكن تصنيف البحث في علم النفس تبعاً لأهدافه إلى أولاً: البحث الأساسي، ثانياً البحث التطبيقي وثالثاً البحث العملي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: محمد عودة الريماوي وآخرون، ،( كتاب: علم النفس العام)، من إصدار دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، الأردن ، عمان، الطبعة الثانية لعام 2006م / 1426هـ