د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

التفاعلات الاجتماعية (التفاعل بين الفرد والآخر وبين الفرد والجماعة - لقاء العقول -) Social interactions

لا يمكن للفرد أن يعيش دون عضوية جماعية أو جماعات معينة، وأثناء ممارسة كل منا لنشاطه أو لدوره في أي جماعة من الجماعات التي يحظى بعضويتها، يفهم الآخرين وسلوكهم بطريقة معينة.

January 5, 2024 عدد المشاهدات : 2703

مقدمة 
تناولنا في الفصول السابقة سلوك الفرد، ودوافعه؛ وانتباهه، وتذكره ونسيانه، ونومه وأحلامه؛ وطرائق تعلمه، بمعزل عن الجماعة أو الجماعات التي ينتمي إليها. لكن الفرد لا يمكن أن يعيش دون  عضوية جماعية أو جماعات معينة، وأثناء ممارسة كل منا لنشاطه أو لدوره في أي جماعة من الجماعات التي يحظى بعضويتها، يفهم الآخرين وسلوكهم بطريقة معينة. فقد ينظر إليهم على أنهم مصدر تهديد أو مصدر سعادة وآمان، وفي كل حالة؛ فإن سلوكنا سيتلون حسب ألوان فهمنا أو إدراكنا لهم، فقد نشعر أنهم يضغطون علينا للسلوك بطريقة معينة، وربما نمارس نحن ضغطاً على آخرين نرفض طاعتهم أو الامتثال لهم، كما فعل "السيد ديزل" مخترع المحرك الذي أطلقوا عليه اسم ديزل تكريماً لمخترعه بعد انتحاره هرباً من ملاحظة دائنيه، وقد يفعل الآخرون، فيرفضون التصرف بالطريقة التي نحاول أن نجبرهم على التصرف وفقها، أو يقبلوا بعد تردد أو بسرعة ودون تردد.
وهذا هو موضوع هذا الفصل الذي نحن بصدده الآن؛ أي أن علم النفس الاجتماعي يهدف إلى فهم لماذا، وكيف يتصرف الناس بالطريقة التي يتصرفون بها نحو الآخر؟ بمعنى آخر؛ كيف يفهمون الآخر، وكيف يحاولون التأثير عليه، وكيف يمكن التعامل معه.

 علم النفس الاجتماعي فرع من فروع علم النفس يهتم بدراسة كيف يفكر الناس في الآخرين وكيف يتفاعلون معهم. 

وإذا كان علم النفس الفردي يدرس كل ما يحدث على صعيد عقل الفرد من إحساس، وانتباه، وتخيل، وأحلام، ونسيان، وتعلم، وإبداع؛ فإن علم النفس الاجتماعي يركز على دراسة الفرد على اعتبار أنه كائن اجتماعي. أما علم الاجتماع، فإنه يدرس نشاط المجتمع بمجمله.

إن بني آدم لا تتم مصحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا يد لهم عند الاجتماع من رأس  حتى قال النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا خرج ثلاثة في سفر فيؤمروا أحدهم (ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية). 

قد تذهب، مثلاً، إلى السوق بغرض شراء سلعة أنت بحاجة ماسة إليها، لكن طريقة أو سلوك البائع ربما يجعلك تنفر منه ومن السلعة، فتقرر عدم شرائها رغم أنك بحاجة إليها. وقد يحدث العكس، إذ تذهب إلى السوق لقضاء الوقت والنظر فقط Window Shopping وإذا بك تقرر شراء السلعة التي يعرضها عليك إكراماً له، وتقديراً لحسن استقباله لك. 

نافذة رقم (1) 
المعرفة الاجتماعية Social Cognition مساحة من اهتمامات علم النفس الاجتماعي تركز على كيف يدرك الناس عالمهم الاجتماعي، وكيف يخزنون ويتذكرون ويستخدمون المعلومات المدونة لديهم عن الناس الآخرين وعن العالم الاجتماعي (Kosslyn & Rosenbey, 2004). 

أشار كل من أرسطو، وابن تيمية، وابن خلدون، وكثير ممن جاءوا بعدهم من كبار مفكري البشرية إلى ضرورة اجتماع بني البشر، لقضاء حاجاتهم التي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال بعضهم البعض، وأدت هذه الملاحظة الثاقبة وغيرها إلى بلورة تخصص جديد – أثناء سنوات النصف الأول من القرن العشرين – يهدف إلى الدراسة العلمية لكيفية تأثر الفرد بمجرد وجوده مع شخص آخر، أو بمجرد وجوده ضمن جماعة من الناس، وقد يكون وجود الآخر وجوداً حقيقياً أو متوقعاً أو متخيلاً، ونقصد هنا بتأثر الفرد، أي كيف تتأثر مشاعره، وأفكاره، وسلوكه بوجود ذلك الآخر. ومن الأمثلة على التأثر الذي نقصده، هو أن كل واحد منا قد يفعل شيئاً معيناً عندما يكون وحيداً، كأن يغني مثلاً، ويستمر في الغناء، لكن من كان يغني وحده قد يتوقف فجأة عن الغناء إذا شعر بأن هناك من يستمع له، وقد يرفض رفضاً قاطعاً أن يغني إذا طلب منه ذلك وهذا ما نطلق عليه مسمى علم نفس التفاعلات الاجتماعية أو علم النفس الاجتماعي.
أولاً: ماهية تفاعل الفرد مع الآخر ومع الجماعة: 
1- أثر الآخر في سلوك الفرد. 
يتناول علم النفس الاجتماعي بالدراسة جوانب معينة من تأثير وجود الآخر أو الجماعة في الفرد من زاوية أفكاره، وانفعالاته، وسلوكه، ونورد المثال التالي للغيضاح: عندما أدرك سكان مدينة ليفربول – في إنجلترا إبان عشرينيات القرن الماضي أن الشرطة قد أضربت عن العمل ولم تعد تطبق القانون بحق المخالفين؛ تحول عدد كبير من الناس إلى نهابين، الأمر الذي دعا السلطة المركزية في لندن إلى منع التجول الفوري في مدينة ليفربول وتحذير من يخالف ذلك الأمر بإطلاق النار عليه فوراً من جانب قوات الجيش التي أرسلت إلى المدينة بسرعة، وهكذا أدى إضراب الشرطة (تغير في سلوك الآخر) إلى تغير فوري في سلوك فئة كبيرة من أبناء المدينة، فتحولوا إلى نهابين، ولم يردعهم ضميرهم عن ارتكاب جرائم السرقة والسطو. 

يدرس علم النفس الاجتماعي جوانب معينة من تأثير وجود الآخر أو الجماعة في الفرد. 

2- يتأثر التفاعل مع الآخر بوجود فعلي أو متخيل لشخص ثالث. 
يتناول علم النفس الاجتماعي، بالإضافة إلى ما سبق، دراسة كيفية تأثر سلوك شخص بشخص آخر، فمثلاً قد يتاثر سلوك كمال إزاء سليم بردود الفعل التي يبديها تحسين، بغض النظر عن وجود تحسين أو عدم وجوده في ذلك الموقف، وتحدث هذه الظاهرة إذا كان تحسين شخصاً مهماً جداً بالنسبة لكمال Significant Other أي أنه يأخذ في الحسبان، وإلى حد كبير جداً، ما سيفعله تحسين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبطريقة فورية أو بعد حين، بهذه الطريقة يصبح كمال حاملاً في وعيه، وبصفة مستمرة، شخصاً يراقب تصرفاته سواء أكان ذلك فيما يقوله أم ما يفعله، وبهذه الطريقة أيضاً يتأثر سلوك كمال (قوله وفعله) بطريقة تصوره أو توقعه لردود فعل تحسين، وهنا لابد أن نتوقع أن إدراك كمال لردود فعل سليم قد تكون صحيحة أو خاطئة، وهذا ما يطلق عليه مصطلح المعرفة الاجتماعية أو الإدراك الاجتماعي Social Cognition. وربما يفسر هذا المبدأ ميل بعض الأفراد إلى ممارسة تصرفات قد تعتبر إجرامية بعد انتقالهم مباشرة من القرية الصغيرة إلى المدينة الكبيرة. ففي المدينة الكبيرة يصعب على الأم أو الأب أو أي شخص آخر مهم بالنسبة لكمال أن يعلم بتصرفاته. 

 التفاعل مع الآخر يتأثر بوجود فعلي أو تدخل لشخص ثالث. 

3- السلوك ظاهرة مركبة من جزئيات عديدة. 
ينظر علم النفس الاجتماعي إلى السلوك بوصفه ظاهرة مركبة من جزئيات (عوامل أو متغيرات (Variables) عديدة، ولا يكتفي بالوصف الظاهري لما يحدث، بل يدلف إلى داخل الظاهرة مثل الميكروسكوب الذي يدخل إلى القلب لمعرفة ما يسكن داخل ذلك الجزء من الإنسان، وهكذا يصبح القلب كله مركباً من أجزاء عديدة جداً بعد أن كان جزءاً صغيراً من ظاهرة كبيرة هي الإنسان، وفي حالة علم النفس الاجتماعي لا نكتفي بدراسة سلوك الطاعة مثلاً الذي يظهره أحد أعضاء مجلس إدارة للرئيس التنفيذي للمجلس؛ بل إننا نسأل: لماذا يطيع عضو المجلس رئيس المجلس؟ وتكون الإجابة على هيئة فروض نتأكد من صحتها بوساطة خطوات أو إجراءات معينة نطلق عليها اسم المنهج العلمي Scientific Method إذ يمكننا مثلاً القول، إنه يطمع في رضا الرئيس، أو في أن يصطحبه معه في زيارة تفقدية لمصانع الشركة في الشرق الأقصى، أو أنه يطيعه تجنباً لعقابه بحرمانه من عضوية المجلس في العام التالي.


ثانياً: كيف نفهم سلوك الآخرين How we view others and their behavior
فيما سبق تكونت لدينا فكرة عن مبادئ علم النفس الاجتماعي، وكيف أن التفاعلات الاجتماعية تخضع لمنهج البحث العلمي. وتدفعنا أهمية هذا الموضوع لقضايا التطور الاجتماعي، وتطوير العلاقات الثنائية بين الأفراد إلى أن نفحص كيف تبدأ العلاقات أو التفاعلات الاجتماعية، وما الذي يتحكم في مسارها؟ وهذا يعني أننا لابد من أن نبدأ بدراسة مفاهيم مرتبطة بهذه الظاهرة وهي: تكوين الانطباع عن الآخر أو عن الآخرين، وافتراض وجود أسباب كامنة وراء سلوكه أو سلوكهم (العزو)، وأخيراً تكوين ميول أو اتجاهات نحو الآخر أو الآخرين.

 كيف تبدأ العلاقات أو التفاعلات الاجتماعية وما الذي يتحكم في مسارها؟ 

1- تكوين الانطباع Impression Formation
تتطلب عملية تكوين الانطباع عن شخص معين سواء كان مرسلاً أو مستقبلاً (ممثلاً أم مشاهداً). وتوفر عدد من الأفكار أو الآراء أو الأحكام عن مظهر الممثل (المرسل) وتصرفاته وأقواله. ولابد لهذه الآراء أو الأحكام من أن تختلف بين مشاهد وآخر، وتعتمد هذه الفروق على عدد من العوامل هي: 
أ- خصائص المشاهد 
عندما نقوم بتكوين رأي عن تصرف ما صدر عن شخص معين، فإن ذلك يتضمن نوعاً من التقييم لما شاهدناه، وعملية التقييم هذه تتأثر أو على الأصح تعتمد على ما لدينا من قيم أساسية أو ثانوية، أو أحكام جامدة مسبقة، أو تفضيل وعدم تفضيل (تحبيذ أو عدم تحبيذ) لشيء بعينه دون غيره، أو مجرد وجود معلومات عن ذلك التصرف، وقد يكون ذلك التصرف صادراً عن شخص أو جماعة، لكن أحكامنا تتعدى التصرفات إلى كل شيء مثل سلعة جديدة، أو مواقف سياسية، أو فلسفية، أو رياضة معينة، أو مهنة، أو منزل، أو رحلة ... أو غيره.
إذن يؤثر ما سبق حمله من معلومات أو قيم أو تفضيل، بطبيعة الحال، على تقييمنا لما سينتقل إلى وعينا بعد دخولنا في موقف جديد. ويساعد ما لدينا (مما سبق ذكره)، على تصنيف أو وضع ما يرد إلى وعينا في داخل فئة معينة من الأشياء، فنحن إما نفضله أو لا نفضله، نحبه أو نكرهه، نعتقد أنه صحيح أو خطأ أو لا ندري. 

ويؤثر في حكمنا على الآخر خصائص الآخر من حيث مظهره ولغته لفظية كانت أو إشارية. 

نافذة رقم (2) 
تكوين الانطباع Impression Formation
تخيل أنك لبيت دعوة صديق لمشاهدة الشوط الأول من مباراة كرة القدم بين فريقين يستعدان لمباريات أولمبية، ولم يسبق لك أن شاهدت أياً من الفريقين في أية مباراة ولا تعرف أياً من اللاعبين، بدأت المباراة وبدأت تشاهد اللاعبين يركضون خلف الكرة، ويركلونها، ويتعاونون، ويتنافسون فيما بينهم.
بعد عودتك إلى المنزل بدأت تتذكر ما حدث أثناء المباراة التي ضمت 22 لاعباً، وإذا بك تتذكر دونما تردد بعض الأسماء مثل اللاعب زين الدين زيدان (لاعب جزائري الأصل لعب في الفريق الفرنسي) وقد تتذكر اسم آخر فقط أو اسمين لا غير، وربما لا تفاجأ إذا علمت بأنك لم تكن وحيداً في تذكر اسم زيدان بسرعة ودون تردد فقط كان محط اهتمام معظم المشاهدين والمعلقين في حين أن اللاعبين الآخرين بالكاد لفتوا أنظار المشاهدين والمعلقين.
وقد تتذكر دون تردد وبسرعة أن الفريق الذي كان يلبس الملابس الرياضية الخضراء يختلف عن الفريق الذي كان يلبس الملابس الرياضية الحمراء بطريقة معينة، إذ كان الفريق الذي يرتدي أعضاؤه الملابس الخضراء أكثر تعاوناً فيما بينهم، وكانت أخطاؤهم أقل، وكانوا أقل خشونة في اللعب من أعضاء الفريق الآخر. 

ويمكننا أن نضيف إلى ما يؤثر في حكمنا أو تقييمنا لكل جديد قادم إلى عالمنا النفسي الداخلي، بعض الجوانب الأخرى مثل حالتنا الصحية؛ وحالة حواسنا؛ وحاجاتنا واهتماماتنا الراهنة، أو مجرد شعورنا بالإرهاق الجسدي الناجم عن عمل متواصل لفترة طويلة، هذه العوامل تؤثر في احتمالية انتباهنا أو عدم انتباهنا إلى ما يحيط بنا أو يرد إلينا من رسائل (مثيرات) صادرة عن شخص أو جماعة أو موقف أو شيء. فقد نسير في شارع ونصطدم بشخص آخر، ونعتذر له بقولنا ".... آسف لم أرك أو لم أنتبه لك ....".
ب- خصائص الممثل (المرسل): 
بالإضافة إلى أهمية تأثير خصائص المشاهد (المتلقي) في عملية تكوين حكم أو تقييم لما يصدر عن الممثل (المرسل)، فإن هناك خصائص معينة لدى المرسل ذاته، تؤثر أكثر من غيرها – إلى حد كبير – في نتائج عملية تكوين الحكم أو التقييم.
وأهم هذه الخصائص هي: المظهر Appearance والكلام من ناحيتي الأسلوب والمضمون Speech والتعبير غير اللفظي؛ أي الجسدي Nonverbal Communication
أ- المظهر: أول ما يصلنا من ملامح الآخر هو المظهر أو الشكل، سواء في ذلك الملابس، وملامح الوجه، وحجم الجسم. ويتم وضع هذه الجوانب المظهرية جميعها أو كل منها على حدة على ميزان التفضيل الموجود لدى الفرد والمكتسب من الثقافة. وتكون نتيجة التقييم 
إيجابية أو سلبية أو تأجيل إصدار الحكم، فإذا كانت نتيجة عملية التقييم إيجابية بمعنى نعم فإننا نود الاستمرار والاقتراب، وإذا كانت نتيجة عملية تكوين الحكم سلبية، فإن من الأفضل الابتعاد وعدم الاستمرار. فهناك ملابس نفضلها على غيرها وقد لا نفضلها، أو ألوان معينة قد نفضلها وألوان أخرى قد نكرهها، وكذلك الحال فيما يختص بتصفيف الشعر أو الأصباغ المستخدمة التي قد ننظر إليها على أن هناك مبالغة جداً فيها أو أنها غير مناسبة. 

يؤثر في حكمنا أو تقييمنا للآخر ما سبق وأن حملناه من معلومات وقيم وتفضيلات 

كما يتضمن المظهر جوانب أخرى مثل: أساليب المشي؛ والوقوف؛ والجلوس. فهناك من يسير بسرعة أو ببطء شديد. وكل ما من شأنه أن ينفر أو يحبب المشاهد بالممثل يمكن أن يصنف ضمن هذه الفئة من العوامل مثل الروائح العطرية التي يستخدمها الناس، وهناك أيضاً من المشاهدين من يفضل أسلوباً في المشي أو الوقوف أو الجلوس أو العكس. ومن يفضل أو يكره رائحة معينة من روائح العطر حتى وإن كانت من النوع النادر الثمين. وقديماً لاحظ أو الطيب المتنبي أن بنات المدينة على خلاف بنات البادية يستخدمن العطور والمساحيق الأخرى ليظهرن بطريقة أفضل أو أنسب للمشاهد. 
حسن الحضارة مجلوب بتطرية         وفي البداوة حسن غير مجلوب 
ب- لغة (حديث) الممثل: تؤثر طريقة المتحدث في الكلام – إلى حد كبير – في فهم ما يقوله، ومن ثم في عملية تكوين الانطباع عنه. فهناك سرعة الكلام، ومدته، وتنوعه، وقد لا يدرك الممثل أن هناك من يفضل السرعة في هذا الحديث، وعليه، فإنه لا يستطيع فهم ما يقال، فتظهر عليه علامات الامتعاض أو الغضب، وعندما ندرك أننا نتحدث مع شخص أجنبي يتعلم لغتنا، نصبح أبطأ في الحديث معه، والكلام الواضح والمباشر أكثر جاذبية من الحديث الذي يتضمن كثيراً من التردد أو عدم الدقة، وعدم اليقين.
كما أن معنى الكلام يؤثر في تكوين الانطباع، وهذه مسألة تتأثر بالقيم، والميول، والثقافة، وقيم المجتمع الذي ننتمي إليه. فالكشف عن الذات ربما يكون لوناً مقبولاً من الحديث في ثقافة بعينها، مثل الثقافة الغربية، ولكن مرفوض في الثقافة العربية التي تؤكد على أهمية الجماعة وليس على أهمية الفرد. وتكون أحياناً كثرة الشكوى مرفوضة من جانب مدير المؤسسة أو مشرف العاملين، ويؤثر كل ما سبق ذكره في حكمنا على الممثل (المرسل): أي أن ما يقوله الممثل، شكلاً ومضموناً، قد يكون عاملاً حاسماً في استمرار أو تعزيز رغبة المشاهد في مواصلة أو عدم مواصلة الاستماع والبحث عن ممثل آخر أو مرسل آخر. وتنطبق هذه المبادئ على الموضوعات التي يتناولها الممثل أو المرسل، فبعضها نحبه في حين أن بعضها مكروه لدينا، وقد يكون انتقاله السريع من موضوع إلى آخر دون تركيز على أي موضوع مثار غضب، وعدم رغبة في مواصلة الاستماع.

نافذة رقم (3) 
أثر المعلومات السابقة في عملية تكوين الانطباع 
أظهرت التجربة التي أجراها هارولد كيللي أن ما يتوافر لدينا من معلومات سيؤثر في ما نطلقه من أحكام على من نلتقي بهم، وتتلخص التجربة في قيام شخص بإلقاء محاضرة على تلاميذ أحد الفصول الدراسية. وتم قبل إلقائه المحاضرة إبلاغ نصف التلاميذ بأن المحاضر شخص دافئ Worm في حين تم إبلاغ النصف الثاني من التلاميذ بأنه شخص بارد Cold وبعد الانتهاء من المحاضرة تم تطبيق استبانة على التلاميذ، فأظهرت النتائج أن تقديرات التلاميذ الذين قيل لهم أنه محاضر دافئ، كانت أكثر إيجابية من تقديرات التلاميذ الذين قيل لهم أنه محاضر بارد. (Kelly, 1950). 

 ج- اللغة أو الاتصالات غير اللفظية Non – verbal Communication
تستخدم الألفاظ المتفق عليها من خلال قواميس اللغة، في التفاهم بين الناس والتعبير عن المعاني، يضاف إلى ذلك إشارات من اليد، أو الرأس، أو العين، أو حركة الجسم كله، وكذلك نبرة الكلام، أو تكرار في توكيد المعنى، أو نقل رسالة سرية ضمنية غير الرسالة العلنية التي يمكن أن تفهم من الكلمة أو العبارة، وكما في حالة ألفاظ اللغة التي تتباين معانيها من جماعة إلى أخرى، فإن الإشارات أيضاً يمكن أن تكون مقبولة أو مرفوضة؛ نظراً لتباين معانيها من جماعة إلى أخرى، ويستخدم هذا الجانب من اللغة لإنشاء برامج أو تمثيليات كوميدية تدور حول متعلمي اللغة من غير أصحابها.

نافذة رقم (4) 
يستخدم الناس نوعين من الاستراتيجيات لترك انطباع جيد لدى الآخرين، استراتيجية "الإعلاء من الذات" Self – Enhancement تتضمن هذه الاستراتيجية أن تجعل نفسك تبدو بشكل أفضل بإبداء ما لديك من معلومات معمقة عن موضوع ما. الاستراتيجية الثانية الإعلاء من الآخر Other – Enhancement وتتضمن استدرار المزاج الجيد والتفاعل مع الآخر بسؤاله النصيحة، أو إبداء محبتك للآخر (Wayne & Ferris, 1990) و(Morrison & Bies, 1991) المشار إليهما في (Kosslyn & Rosenborg, 2004). 

 

2- إسناد أو افتراض أسباب محددة تكمن خلف السلوك 
Attributiong Casues to Behvior 

يبدو أن الميل إلى افتراض وجود أسباب محددة تكمن خلف سلوك الآخر أو الآخرين هو امتداد لظاهرة الإغلاق أو التكميل في علم النفس. وتتضح هذه الظاهرة عندما ننظر إلى ثلاثة خطوط غير متقاطعة أو متصلة، فنراها على أنها شكل مكتمل وهو مثلث، وهنا يدعي فريتز هايدر Fritz Heider (1958) أن بني الإنسان يميلون إلى مواصلة عملية لاحظ، صنف، فسر (Observe, classify, explain) إلى عملية أو مرحلة معرفة سبب الحدوث، وقد نسأل في إطار المثال السابق عن كرة القدم عن سبب أو أسباب تصرف "زين الدين زيدان" بالطريقة التي تصرف بها؟ فقد نقول لأنه شخص طيب، أو لأن أسرته ربته تربية مستقيمة، أو أن أسرته غرست في وعيه ضميراً حياً ... وهكذا

الإغلاق أو التكميل مبدأ من مبادئ الإدراك 

ويرى هيدر كذلك أن من الممكن تصنيف محاولات الناس لمعرفة أسباب حدوث سلوك الآخرين إلى فئتين هما: الأسباب الموقفية؛ والأسباب الذاتية. أما العوامل التي يمكن تصنيفها دائماً في فئة الأسباب الموقفية، فهي ما يمكننا إرجاعها إلى الظروف البيئية المحيطة بالفرد سواء العوامل الطبيعية أو الاجتماعية. فتصرف الناس في مدينة ليفربول بالطريقة التي روتها الصحافة؛ تشير إلى أن السبب هو امتناع رجال الشرطة عن تطبيق القانون، والحفاظ على النظام العام، وهذا سبب في بيئة الأفراد أو الموقف الذي وجدوا أنفسهم فيه، وقد يقول شخص آخر أن سبب ظهور سلوك النهب والسرقة هو عدم وجود أخلاق لدى أولئك الناس فهم يخافون فقط من الشرطة، وفي حقيقة الأمر لا توجد لديهم أخلاق؛ أي أن التفسير الثاني نزع نحو العوامل الذاتية؛ وهي وعي الإنسان أو ضميره.

أسباب حدوث سلوك الآخر تصنف إلى أسباب موقفية (بيتية) وأسباب ذاتية (داخلية) 


أخطاء شائعة في عملية العزو: 
وتتمثل هذه الأخطاء فيما يلي:  
أ- تحيز الممثل/ المشاهد The Actor / Observer Bias
تحيز الممثل/ المشاهد من أهم الأخطاء التي يمكن أن تتعرض لها عملية افتراض وجود أسباب معينة خلف سلوك الآخر، ويقصد به ميل المشاهد أو المتلقي إلى أن يجعل من العوامل الذاتية لدى الممثل، السبب في السلوك الخاطئ الذي يصدر عنه. وفي المقابل، يميل الممثل نفسه إلى أن يجعل من العوامل الموقفية (المحيطة به) سبباً في فشله هو ذاته، وليس العوامل الداخلية لديه. (Ross & Nisbett, 1991). 

هناك أخطاء شائعة في عملية العزو ناتجة عن تحيز المشاهد وأثر الهالة وتحيز التماثل. 

ب- أثر الهالة The Halo Effect
بتأثر من يقوم بعملية الحكم، أو تقييم ما يصدر عن شخص آخر، بما يعرفه عنه من صفات إيجابية، وتؤدي هذه المعرفة إلى استنتاج المشاهد أن لدى الممثل صفات إيجابية أخرى وكأن المشاهد هنا يقوم بعملية تعميم. والعكس صحيح؛ أي أن معرفتنا بوجود صفات سلبية لدى الممثل، تدفعنا إلى التعميم والميل إلى الاعتقاد بأنه يمتلك صفات سلبية أخرى.
ج- تحيز التماثل Assumed Similarity
يخطر على بال الكثيرين أن أصدقائهم متماثلون أو متشابهون في الآراء، والمواقف، والاتجاهات، والتفضيل، والكراهية. كما يعتقد كثير من الناس أن أصدقائهم يشبهونهم إلى حد كبير. وقد يتخطى هذا الاعتقاد حدود الأصدقاء والمعارف، فيميل الفرد إلى الاعقتاد بأن الناس يشبهونه بصفة عامة وهكذا يمكننا أن نتوقع أن أي حكم نطلقه على الآخر، قد يصف بدقة أكبر مصدر الحكم وليس الآخر المقصود بعملية تكوين الحكم، ويمكننا القول أن احتمال صوابية هذا الرأي تزداد كثيراً إذا كنا لا نمتلك معلومات عن ذلك الذي نطلق عليه الحكم.

نافذة رقم (5) 
تكوين انطباع خاطئ قد يؤدي إلى كارثة 
اعتاد قسم كبير من سكان مدينة نيويورك الاستماع إلى برنامج محبب لهم الساعة الثامنة من مساء أيام الأحد. لكن مساء يوم الأحد لم يكن مساء عادياً، فبعد أن استمع الجمهور مدة خمس دقائق إلى ذلك البرنامج المفضل، شعر قسم كبير منهم بالملل، فقرروا التحول إلى محطة إذاعية أخرى هي CBS وكانت هذه المحطة قد بدأت في تمام الساعة الثامنة ببث تمثيلية The Martians have landed جديدة أعدها الممثل الناشئ أرسون ويلز Orson Welles عن رواية حرب العوالم War of the worlds للكاتب البريطاني الشهير G. G. Wells ومن سوء حظ الناس الذين تحولوا إلى محطة كولومبيا، أنهم لم يستمعوا لمقدمة التمثيلية، ومن سوء حظهم أيضاً أنهم بدأوا يستمعون لصوت يقلد صوت رئيس الولايات المتحدة، ويعلن بصوت متجهم وكتيب Somber أن الولايات المتحدة قد تعرضت لغزو حقيقي، وأن رجالاً من كواكب أخرى نزلوا فعلاً في الجانب الشرقي للولايات المتحدة، وأنهم يكتسحون بسهولة ويسر كل مقاومة لهم. 
وكانت النتيجة أن التصق، ملايين الناس بأجهزة الراديو يسمعون أخباراً يبثها صوت أقرب ما يكون إلى الواقع، وبدأ من يستمعون إلى أخبار الهجوم الشامل على الولايات المتحدة يتحدثون تلفونياً مع أصدقائهم وأسرهم، وأخذوا يدعون جيرانهم للحضور والاستماع للأخبار الرهيبة، وبدأ عشرات الألوف من الناس في نيوجرسي يسابقون الزمن للهرب من المدينة والوصول إلى الريف، هرباً من الكائنات الغريبة القادمة من المريخ. ووصل الذعر إلى مدينة نيويورك، وراح الكل يحاول الوصول إلى أسرته ليكون معها في اللحظة الحرجة، وتم في نيويورك استدعاء البحارة ليذهبوا إلى سفنهم للدفاع عن الولايات المتحدة. 

وفي صبيحة اليوم التالي نشرت الصحافة تفاصيل ما حدث والخسائر الهائلة التي أحدثها الذعر والهرب الجماعي للناس. (Blundell, 1983)

نشاط رقم (1) 
أرصد بعض المواقف، وابحث عن الأخطاء في العزو التي قد تكون وقعت فيها أو وقع فيها غيرك. 


ثالثاً: الميول (الاتجاهات) وتغييرها: 
أوضحنا في الصفحات السابقة كيف أن التفاعلات الاجتماعية تتضمن وتعتمد على تكوين انطباعات لدى كل من طرفي التفاعل، وتعتمد على عملية فهم سلوك الآخر؛ بمعنى اكتشاف أو توقع السبب (الدافع) الذي دعاه إلى التصرف أو السلوك على النحو الذي حدث. ومن هذا القبيل تجئ محاولة استفسار شخص عن سبب قيام جاره بزيارته مرتين خلال أسبوع واحد. وسبب الغرابة أنهما لم يتزاورا رغم كونهما جارين لفترة تزيد على سنة، وأوضحنا كذلك كيف أن كل خطوة من الخطوات الآنفة الذكر، قد تقود إلى المزيد من التفاعل مع الآخر أو الإعراض عنه وتجنبه.

تتضمن التفاعلات الاجتماعية تكون انطباعه، وفهم سلوك الآخر وأخيراً تكوين ميول واتجاهات.

 ولا يكتمل فهمنا للتفاعل الاجتماعي دون أن نتعرض لجانب ثالث أو مرحلة ثالثة من هذه العملية المعقدة؛ وهي مرحلة التقييم بميزان مفهوم آخر، هو مفهوم الميول أو الاتجاهات التي يحملها كل طرف من أطراف التفاعل، فبعد تكوين انطباع إيجابي أولاً، وتفسير إيجابي للسلوك ثانياً، ياتي دور الميول أو الاتجاهات التي ربما تحبذ مواصلة التفاعل، أو على العكس من ذلك، قد لا تحبذ الاستمرار في التواصل، فيتعثر وينقطع، وهكذا نرى أن لهذا المفهوم دوراً أساسياً وحيوياً في فهم عملية التفاعل الاجتماعي الحادثة بين الفرد والآخر والجماعة. وفيما يلي سنشرح بإيجاز ماهية الميول (الاتجاهات) ونشأتها واستمرارها وتغيرها وعلاقتها بالسلوك الفعلي للأفراد. 
رأينا في بداية هذا الفصل، كيف أن انطباعاتنا عن الآخرين ليست سوى أحكام تقديرية Evaluative Judgments الأمر الذي يجعل منها جزءاً لا يتجزأ من أي حديث عن الميول (الاتجاهات). فالميول، من زاوية معينة، ليست سوى أحكام تقديرية غير مقتصرة على بني البشر، فنحن بني الإنسان نسعى إلى تكوين ميول بشأن كل شيء يصادفنا في مسيرة حياتنا، فموضوعات الاتجاهات تمتد من الناس إلى الأشياء مثل السلع، والمباني، والطعام، والألوان إلى الألعاب الرياضية، والأفكار، والمهن التي يمكن أن نتبناها، وتصبح وعاء لكل طاقتنا، ومساهمتنا في بناء الحضارة (Wegner & Petty, 1998). 
ومن الأمثلة على الميول ما قد يصرح به صديق لك إذا سألته عن ميوله؛ فيجيبك على النحو التالي: أحب الفلسفة جداً، وأفضلها على أي شيء آخر، وأسعى إليها، ويسرني سماع الموسيقى الكلاسيكية، ولا أحب مشاهدة مباريات كرة القدم، أما بالنسبة للطعام، فأن لا يهمني نوعه، أو طعمه، أو شكله، فأنا لا أحب ولا أكره أي نوع من الطعام. 
ويوضح تحليل إجابة الصديق أن الميول قد تكون إيجابية، أو سلبية، أو محايدة. فهو يفضل (الميل الإيجابي) أشياء معينة مثل الفلسفة والموسيقى الكلاسيكية، ولكنه يكره (الميل السلبي) أشياء أخرى مثل مشاهدة لعبة كرة القدم. أما فيما يتعلق بالطعام فهو لا يفضل ولا يكره (الميل المحايد) أي نوع من الطعام. فالطعام بالنسبة له ليس مصدر سرور، أو متعة، أو فرح، أو غضب، وكراهية، وإنما هو مصدر طاقة وقدرة يستعين بها على قضاء حاجاته التي تتطلب حركة جهداً، ولكن إجابة الصديق أضافت جانباً آخر للميول، وهو أنها قد تكون ضعيفة، أو قوية، أو متوسطة الشدة، فهو ربما يحب الفلسفة إلى درجة أنه يفضل الذهاب إلى محاضرة يلقيها "حسن حنفي" (أستاذ في الفلسفة)، على الذهاب إلى حفلة موسيقية يحييها "الرحابنة" مثلاً.

نشاط رقم (2) 
تذكر لقاءك الأول مع صديقك، تتبع مراحل تكون تلك الصداقة بدءاً بالانطباعات، مروراً بفهمك لسلوكك وانتهاء بتكون ميول أو اتجاهات إيجابية نحوه. 


1- مكونات (عناصر) الميول Attitudes Components
يتضمن وصفنا لميول صديقنا المحب للفلسفة ثلاثة عناصر هي: 
أ- جانب انفعالي Affect ب- جانب معرفي Cognition ج- جانب سلوكي Behavioral. 
أ- الجانب الانفعالي. يصاحب ممارسة الاتجاهات مشاعر وانفعالات متعددة، من قبيل مشاعر السرور والفرح، أو الغضب والكراهية والانزعاج. وتتصف هذه المشاعر بأهمية بالغة نظراً لأن من يمارس شيئاً يصاحبه شعور بالسرور أو الفرح، فإن ذلك يساعده على الاستمرار في ممارسة السلوك دون ظهور مشاعر التعب أو الأرق أو الانزعاج، ويؤدي ذلك إلى إنتاجية أعظم، وهذا مرتبط بالإبداع أو الابتكار. فما نخترعه يتطلب جهداً هائلاً ومواظبة لا تتوافر لدى من يرغب في أن يكون له حظ في مجال الإبداع، إلا إذا كان النشاط الإبداعي هو ذاته مصدر فرح وسرور له، وعليه إذا كنا نرغب في استمرار مشاعر السرور لدينا، فما علينا إلا ممارسة ما نحب من نشاطات، من ناحية أخرى يسعى الإنسان بطبيعته إلى تجنب أو الابتعاد عن مشاعر الألم التي يمكن أن تنجم عن مشاعر الكراهية أو الغضب أو الإنزعاج، أما أقصر طريق للوصول إلى تلك الغاية، فهي عدم ممارسة النشاطات التي ترتبط بتلك المشاعر السلبية، والابتعاد عن كل ما يذكرنا بها، ونستنتج مما سبق أننا لا نستطيع إتقان ما لا نمارسه، ونحاول تجنبه، والنتيجة المنطقية لكل ذلك، هي أن مساهمتنا المتميزة في النشاط الاجتماعي لن تكون أبداً في مزاولة ما نكره بل في مزاولة ما نحب. 

مساهمتنا المتميزة في النشاط الاجتماعي تكوين في مزاولتنا ما نحب. 

ب- الجانب المعرفي: ويشتمل هذا الجانب على ما لدينا من معلومات حول موضوع الميل، وفي حالة صديقنا، فإن موضوع ميله هو الفلسفة التي يفضلها على سواها بشدة، أما معلوماته؛ فهي أن الفلسفة ضرورية لتطوير الفكر النقدي، ومناهج البحث، والأخلاق، والنظرة الشاملة لمستقبل الحياة والكون. فهو يعتقد أنها تجعل الأفراد والمجتمعات أكثر استعداداً لمواجهة المستقبل. وبطبيعة الحال لا يقتضي هذا بالضرورة صحة معلوماتنا، فهي قد تكون خاطئة تماماً، لكن من الضروري أن يعتقد صاحب الميل بصواب تلك المعلومات.

 الاعتقاد بصواب المعلومات عن موضوع الميل يحفز على استمرارية المساهمة في النشاط الاجتماعي. 

ج- الجانب السلوكي: يدفع ما لدينا من معلومات نعتقد بصحتها، وما يصاحبها من مشاعر وانفعالات، يدفعان نحو التصرف بطريقة منسجمة مع المعلومات، ومع الرغبة في تجنب الألم والاقتراب من حالة السعادة والسرور، فالمعلومات تشير إلى طريقة التصرف، أما الانفعالات؛ فتشير إلى النتيجة المتوقعة والمرغوبة، وفي حالة الميل المفضل بشدة للفلسفة فإنه ذلك يساعدنا على التوقع أو التنبؤ بسلوك صاحبه، فهو سيحمل صاحبه عند ذهابه إلى معرض الكتب السنوي على شراء كتب فلسفية، والسعي إلى حضور مناقشة عن الرشدية وابن رشد والنهضة الأوروبية، أما ميله غير المحبذ لكرة القدم فإنه يساعدنا على التنبؤ بأنه لن يشتري كتباً عن أصول التحكيم الكروي في المباريات الدولية، وأنه إذا تأخر عن موعد معين، فلن يتبادر إلى خاطرنا أنه ذهب لمشاهدة مباراة كرة قدم حتى وإن كانت تلك المباراة دولية. 


2- قياس الاتجاهات Measuring Attitudes
يدعونا حديثنا السابق عن درجات شدة الاتجاهات، ودرجات ضعفها، وكيف أنها قد تكون إيجابية أو سلبية أو محايدة، إلى تطور مهم جداً حدث في مجال علم النفس الاجتماعي، وهو كيفية المقارنة بين ميول الفرد الواحد من ناحية درجات شدتها لديه. كما أنه من الممكن أن نقارن بين فردين مختلفين، لنعرف أيهما يملك ميولاً أشد أو أضعف من الآخر نحو موضوع واحد. لكن المقارنة لا تقتصر على أبناء الحضارة الواحدة، بل قد تحدث بين أبناء الحضارات المختلفة، وتعتمد عملية المقارنة بين الأفراد، على عملية قياس الاتجاهات التي ساهم في تطويرها عدد من العلماء، ومن أبرزهم "ليكرت" الذي جعل من عملية قياس الميول أمراً يسيراً للغاية، وكل ما في الأمر، إذا رغبت في معرفة مقدار شدة ميل شخص معين نحو ممارسة مهنة التدريس مثلاً فما عليك إلا أن تسأله عن ميوله المهنية سؤالاً مباشراً عن ذلك، لكن المسألة ليست بهذه البساطة، فقد يريد شخص معين إخفاء ميوله المهنية وعدم التعبير عنها صراحة، وربما لا يحسن التعبير عن نفسه لغوياً، كما أن الأسئلة قد لا تكون معدة جيداً أو مناسبة من ناحية الصياغة والتوقيت، وطريقة الإلقاء، إذ لاحظ عدد من الباحثين أن طريقة صياغة الأسئلة أو طريقة إلقائها قد يحددان نوع الإجابة. من هنا، تنبع أهمية تخصصات قياس الميول، ومن أكثر الأساليب شيوعاً الأسلوب المعروف باسم صاحبه "أسلوب ليكرت" ويطلب هذا الأسلوب من الذين نسألهم تحديد أو توضيح إلى أي مدى يوافقون أو لا يوافقون على مضمون عبارة معينة مكتوبة أو مسموعة. 
ومن أهم سمات أسلوب ليكرت سهولة التحويل إلى أرقام، الأمر الذي يمكننا بسهولة من مقارنة الأفراد ببعضهم البعض، وكذلك مقارنة الجماعات ببعضها البعض، كما قد يتيح هذا الأسلوب فرصة إعداد مقاييس نحو أي شيء أو أي قضية، مثل قضايا تدوير نفايات الورق والبلاستيك والزجاج، أو الطاقة الشمسية مقارنة بالطاقة النووية، أو النشاطات الترفيهية والرياضية، أو التفضيل الخاص بتسويق سلع معينة بطريقة معينة. 
مثال على طريقة ليكرت في طرح الأسئلة:
** قدرتي على إنشاء علاقات صداقة مع الآخرين 
عالية جداً     متوسطة     ضعيفة         ضعيفة جداً 

تفكير ناقد 
عندما تقرأ أو تسمع الأخبار، هل تعتقد أن اتجاهاتك تؤثر في تفسيرك للأحداث الواردة في نشرة الأخبار؟ 

 

نافذة رقم(6) 
التناقض أو التنافر المعرفي Cognitive Dissonance
ويشير هذا الموضوع إلى إمكانية ظهور حالة أو وضع لدى شخص معين بحيث يكون لديه وفي وقت واحد اتجاهات متعارضة أو متناقضة مع بعضها البعض Leon Festinger 1957 ومن الأمثلة على هذه الحالة دراسة تجريبية عن عدم الأمانة الأكاديمية Academic Dishonesty أي الغش الأكاديمي، تبين منها أن ما يقرب من 90% من الطلبة يعتبرون الغش مسألة غير أخلاقية وخاطئة تماماً. ولكن الممارسة العملية أظهرت أن نحو 40 – 60% من ذات المجموعة من الطلبة ذكروا بأنهم قد مارسوا الغش في امتحان واحد على الأقل، وهكذا يتضح وجود اتجاهات يعبر عنها ويتم تبنيها لفظياً لكنها لا تظهر على هيئة سلوك لدى من يحملونها (Davis & Palladinoi, 2004). 

 

نافذة رقم (7) 
التنافر العرفي حالة غير مريحة تنشأ من التناقص بين الاتجاه والسلوك أو بين اتجاهين (Kosslyn & Rosenbury, 2004). 


3- تعليم الميول أو الاتجاهات واستمرارها Attitudes Formation and Continuation
يواجهنا دائماً سؤال عن كيفية نشأة الميول وكيفية استمرارها. ولا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال بقولنا أن الطفل يولد ولديه اتجاهات كامنة تتفتح تدريجياً حسب متطلبات الموقف، والبيئة، ومراحل النمو المختلفة، لكن رسائل "إخوان الصفاء" تضمنت رؤية ثاقبة مختلفة لتفاعل الفرد مع البيئة الطبيعية والاجتماعية. فعند إخوان الصفا ... يولد الطفل وعقله صفحة بيضاء .. وما يكتب عليها بعد الولادة يصعب حكه ومحوه، ويمكننا القول بلغة علم النفس المعاصر إن كل ما يسكن العقل ليس سوى صور ذهنية لكل تفاعلاتنا مع الآخر والبيئة الطبيعية، فإذا كانت الصورة الذهنية التي نحتفظ بها في مخزن الذاكرة صورة لقطة سوداء، فمرد ذلك إلى أن القطة ذاتها كانت سوداء، وليس لأن الصورة الذهنية – في الأصل – كانت سوداء. 
إذن لتفسير نشأة الاتجاهات والقيم والآراء، لا يوجد أمامنا سوى نظريات التعلم لنستعين بها في تفسير نشأة ما لدينا من ميول؛ أي أننا نكتسب من البيئة ما لدينا من ميول وأفكار وأية أنماط من التصرف، ويمكن لنظرية بافلوف في التعلم، أن تفسر كيفية حدوث ارتباط بين شيئين، أحدهما يثير لدينا مشاعر سرور أو ألم، والآخر لا يثير لدينا أياً من تلك الانفعالات أو المشاعر (انظر الفصل الخامس الخاص بنظريات التعلم). 
ومن الأمثلة على هذه العملية ما نشاهده في إعلانات التلفزيون، عند رؤيتنا لشخص معروف لدينا، ويبعث فينا مشاعر السرور، وهو يتناول طعاماً صنعته شركة معينة، وهنا تتوقع النظرية أن تكرار رؤية المشاهدين لهذه الصورة سيؤدي بهم إلى الشعور بالسرور أو الفرح عند رؤيتهم ذلك النوع من الطعام، وتساهم نظريات التعلم الأخرى، كل واحدة بطريقة مختلفة في شرح كيفية حدوث الاقتران، ونجاح عملية التعلم (أي اكتساب القيم أو الميول) يعني أن المشاهد يسعى إلى تكرار ما يراه من سلوك، لكي يحصل على السرور المنتظر عند بروز دواعي إظهار السلوك وهو الموقف أو المثير. بعبارة أخرى، قد يحدث الاقتران مثلاً لدى طفل نتيجة مشاهدة شخص آخر – هو محط إعجابه أو تقديره – يتصرف بطريقة معينة؛ أي أن تلك الطريقة في التصرف أصبحت مقبولة لدى ذلك الطفل، كما أن الطفل قد يتعلم ميلاً معيناً، عند مشاهدته شخصاً آخر يتصرف بطريقة معينة، ويحصل على مكافأة نتيجة لذلك، بالإضافة إلى أن الأطفال يتعلمون كثيراً من ميولهم، وقيمهم، وطرائق تفكيرهم مباشرة من قراءة كتب السير والقصص، ومشاهدة الأفلام.
4- تغير الميول أو الاتجاهات Attitudes Change
ويتضح ذلك من خلال المثال التالي: تم قبولك في الجامعة في التخصص الذي كنت ترغب في دراسته بشدة، لكنك بعد مرور سنتين على دراسة ذلك التخصص، بدأت تشعر بأن ميلك الشديد لدراسة ذلك التخصص بدأ يضعف، وأخذ ينمو لديك حبك لدراسة تخصص آخر، وربما حدث العكس من ذلك؛ فربما تم قبولك في الجامعة لدراسة تخصص لا ترغب فيه بل وتكرهه؛ لكنك بعد أن درست ذلك التخصص لفترة سنة واحدة، بدأت تشعر أن ذلك التخصص يستحق أن يكون مجال عملك فينمو تفضيلك وحبك له.
وما حدث لك على المستوى الفردي يحدث أحياناً على صعيد المجتمعات بطريقة واعية ومقصودة أو بطريقة بطيئة وغير مقصودة. فيلاحظ كتاب القصة القصيرة أو الطويلة تلك التغيرات، ويضمنونها أعمالهم الروائية، ومن الأمثلة على التغيرات المقصودة ما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ تشير وثائق حكومة الولايات المتحدة إلى أن الدولة كانت تشجع وتمول البحوث في مجال مواجهة الدعاية الألمانية واليابانية التي بدأت تصل إلى المواطن الأمريكي من خلال أجهزة البث الإذاعي التي بدأت تتطور قبيل بداية الحرب، كما بدأت الحكومة جهداً منظماً من أجل تغيير أنماط الاستهلاك لدى مواطنيها بهدف تشجيعهم على تناول أجزاء معينة من اللحم كان المواطن الأمريكي يأبى أن يأكلها مثل الكلاوي والقلوب، ولم يقتصر الأمر على مواجهة الدعاية الألمانية واليابانية التي كانت ترمي إلى زعزعة الروح المعنوية لجنود الولايات المتحدة الموجودين في مناطق القتال، وإلى تشجيع مواطني الولايات المتحدة لمقاومة مجهود الدولة الحربي وتعطيله، بل تعدى ذلك إلى القيام بحملة مضادة لما تفعله الحكومات المعادية من أجل تعزيز الروح المعنوية لجنودها هي وإلى جعل المواطن الأمريكي أكثر صلابة في مواجهة تلك الحملات الإعلامية المعادية، والاستمرار في دعم المجهود الحربي وتأييده، أي أن الهدف كان جعل المواطن الأمريكي أكثر تأييداً للمجهود الحربي.
وهكذا أصبحت أثناء الحرب الثانية وبعدها، بحوث الاتجاهات (قياسها وتغييرها) موضوع الساعة للمشتغلين في علم النفس والذين أخذوا يجدون دعماً كبيراً من الدولة في الولايات المتحدة، أما هدف البحوث؛ فكان الوصول إلى فهم أفضل لميول الناس، واكتشاف لماذا وكيف تتغير اتجاهاتهم، من أجل التدخل الرسمي في تعديلها أو تطويرها أو تعزيزها أو القضاء عليها. 
وبعد إجراء بحوث عديدة تناولت فحص الرسائل الإعلامية الهادفة إلى تغيير ميول شخص واحد، أو أعضاء جماعة معينة، تمكن الباحثون من استخلاص عدد من العوامل التي يمكن أن تؤثر في الميول وتنجح في تغييرها، ويميل معظم المشتغلين في هذا المجال إلى تصنيف هذه المتغيرات إلى فئات ثلاث هي خصائص المستقبل، وخصائص المرسل، وخصائص الرسالة. 
أ- خصائص المستقبل (الملاحظ) Characteristics Precipient Observer
يبدو أن سرعة نجاح عملية الإقناع، وهي تغيير ميل الفرد من سلبي إلى إيجابي أو العكس، تعتمد ضمن عوامل عديدة، على خصائص الفرد المتلقي ذاته، وخصائص مرسل الرسالة، ثم خصائص الرسالة ذاتها.
ودون أن نكون من المتخصصين في هذا المجال، فإننا عندما نحاول إقناع شخص برأي معين، أو دعوته لفعل شيء معين، فإننا نحاول معرفة خصائص ذلك الفرد. ومن المعلومات التي نرغب في معرفتها عمره ومستواه التعليمي والمهنة التي يزاولها، ومستواه الاقتصادي، واللغة التي يتقن وغاياته أو أهدافه في الحياة، ونوع القيم التي يعتنق، وأية ممارسات أخرى يفضل أو لا يفضل كي لا نترك لديه انطباعاً أولياً سلبياً، وقد نحاول كذلك معرفة شدة أو مدى اقتناعه بما يمتلك من آراء أو ميول، ومقدار ثقته في ميوله أو آرائه أو ثقته بنفسه، ومن الواضح أن كل هذه الجوانب تؤثر في سرعة أو كيفية إقناعنا لذلك الفرد. وفي هذا الصدد أبرزت البحوث طريقين رئيسيين للوصول إلى هذه الغاية هما:
- الطريق المباشر Route the Central
ويسترشد هذا الأسلوب بالحكمة القائلة أن أقصر طريق بين نقطتين، هو الطريق المستقيم. فإذا رغبت في تغيير اتجاه شخص معين، فما عليك إلا أن تبدأ بمناقشة معمقة ومباشرة للقضايا (الجوانب المعرفية أي المعلومات) التي يتكون منها موضوع الاتجاه، وهذا الأسلوب يناسب شخصاً مهتماً بالتفكير في القضية موضوع الاتجاه، كما أنه قادر على فعل ذلك. بعبارة أخرى؛ يناسب هذا الأسلوب في إجراء التغيير من يهتم بالجوانب المعرفية أكثر من اهتمامه بالجوانب الشعورية أو الانفعالية.

 تغير الاتجاه من خلال: الإقناع عبر الإعلانات والمنشورات والمحادثات مع الأصدقاء

الطريق غير المباشر Route The Peripheral
يهتم هذا الأسلوب باستخدام العناصر المحيطة بالرسالة الإعلامية، بهدف الإقناع والتأثير في تغيير الميول، ومن الأمثلة على ذلك مقدار جاذبية Appeal and Attractiveness مقدم أو مقدمة البرنامج واستحواذه على اهتمام المشاهدين وإعجابهم، كذلك المؤثرات الصوتية والضوئية، وهذا الطريق غير المباشر هو أكثر نجاحاً أو فعالية مع المشاهد أو المتلقي الذي لا يهتم كثيراً بالأفكار والمعلومات والقضايا المنطقية التي تتصل بموضوعات الميل أو غير المقدور على معالجتها بطريقة دقيقة لأسباب كثيرة. فالبعض يفتقر إلى القدرة على التفكير في هذه المسألة. أما البعض الآخر، فيفتقر إلى الخبرة ... وغيرها. وهكذا، لابد من معرفة صفات الجمهور الذي ستوجه إليه الرسائل الإعلامية. فالجمهور الذي يهتم بالتفكير والمنطق والمناقشة والمعالجة الإعلامية يتأثر كثيراً بالطريق المباشر. وعلى العكس من ذلك، فإننا نجد الجمهور الذي لا يهتم بالمناقشة المنطقية، ولا بتفصيلات المكونات الفكرية للميل، لا يهتم بالمعلومات المعمقة. 

كما يتم من خلال خلق ألفة بين الفرد وموضوع الاتجاه. 

وتفيد نتائج العديد من الدراسات أن تغيير الاتجاهات، الذي يعتمد على تغيير الجوانب المعرفية، هو الأسلوب الأكثر ثباتاً وبقاء ومقاومة للتغيرات، أما تغير الميول، باعتماد الجوانب المحيطة بالرسالة أو الشكلية، فهو أقل ثباتاً وأقل قدرة على مواجهة رياح التغيير العاتية.

نشاط رقم (3) 
اختر موضوعاً من الموضوعات يكون اتجاهك نحوه سلبياً، حاول تغيير هذا الاتجاه، قيم طريقة التغيير التي مكنتك من ذلك. 

ب- خصائص الرسالة الإعلامية Characteristics Message
وبالإضافة إلى الحيثيات والبراهين التي يمكن أن تقدم أثناء المناقشة، هناك خصائص أخرى للرسالة أهمها: 
الرسالة المتوازنة Arguments of Presentation Balanced
الرسالة المتوازنة هي التي تعرض جانبي القضية؛ أي ما هو مؤيد ومعارض لها, وقد تساعد على تبني رأي معين أو لا تفعل ذلك، ويبدو أن الرسالة التي تعرض جانباً واحداً للقضية، مؤيداً أو معارضاً فقط، لا تختلف كثيراً في تأثيرها في المتلقي عن تلك الرسالة التي تعرض الجانبين معاً، هذا إذا كان المتلقي قد تبني رأياً أو ميلاً معيناً قبل سماع الرسالة أو مشاهدتها، ومن الواضح أن استعداد الذين يستمعون أو يشاهدون الرسائل الإعلامية المتوازنة، للتأثر بأي من الجانبين يصبح أقل من ذي قبل.
تكرار التعرض للرسالة والألفة بها Exposure to Repeate due Familiarity
يؤدي تكرار التعرض لموضوع الاتجاه، أي تكرار المشاهدة والاستماع للرسالة الإعلامية، إلى قبول الرأي المطلوب تبنيه، ويعرف الناس منذ زمن أن تكرار الحجة Argument يؤدي إلى قبولها في نهاية المطاف. ومن هذا القبيل يؤدي تكرار مشاهدتنا لسيارة معينة إلى تزايد الإعجاب بها وقبولها في النهاية، لكن التكرار إذا أصبح مملاً أو مزعجاً فإنه يؤدي في نهاية المطاف إلى آثار عكسية، من قبيل رفض موضوع الاتجاه بعد أن كنا بدأنا في تقبله.
ج- خصائص مصدر الرسالة الإعلامية Characteristics Source Message
يحظى ناقل الرسالة بأهمية بالغة بالنسبة لاحتمالات تأثيرها في المتلقي، ومن أهم الخصائص التي يجب أن نأخذها في الاعتبار:  
أولاً: الجاذبية الشخصية Attractiveness Likeability
لا شك في أن مصدر الرسالة الإعلامية الذي يتمتع بالجاذبية الاجتماعية والمظهرية، يؤثر كثيراً على احتمالية قبول المتلقي لها، فاحتمال قبول الناس رسالة من جهة يحبونها أو يفضلونها، أكبر بكثير من احتمالية قبولهم لرسالة من جهة يكرهونها، ومسألة الإعجاب تتصل أيضاً بأداة نقل الرسالة، هل هي الراديو أم الجريدة، أم التلفزيون. فالجاذبية الاجتماعية هامة جداً بالنسبة للتلفزيون، وتلعب الملابس والمظهر وتعبيرات الوجه والإيماءات من اليد أو الرأس دوراً هاماً في تكوين انطباع إيجابي أو سلبي لدى المشاهد وهذا بدوره يرتبط بالتفضيل أو عدم التفضيل لدى المشاهد.
المصداقية والثقة Trustworthiness and Credibility
تشير الدراسات إلى أن احتمالية تأثر المتلقي بالرسالة الإعلامية تكون أكبر بكثير إذا كان المتلقي ينظر إلى مصدر الرسالة أو ناقلها على أنه صادق ويمكن الوثوق به. وربما يؤدي مرور الزمن إلى تضاؤل تأثير المصدق الموثوق تدريجياً، ولهذا لابد من تغيير ناقل الرسالة. 

تفكير ناقد 
قيم أثر أحد مقدمي البرامج التلفزيونية في إقناعك بما يقدمه برنامجه من أفكار، وفسر العوامل التي تساهم في تلك القناعة. 

 

رابعاً: التفاعلات الاجتماعية السلبية والإيجابية 
Social Behavior Positive and Negative 

1- الصداقة والعلاقات الحميمية (التجاذب الشخصي) Relations Interpersonal
إذا كانت مصالح الإنسان لا تتحقق إلا من خلال وجوده مع الآخرين، منشئاً بذلك مجتمعاً، فإنه أيضاً وعلى المستوى النفسي أو الشخصي لا يمكن أن تتحقق له بعض جوانب وجوده الفردي إلا من خلال وجوده وسط مجموعة صغيرة من الأفراد تربطه بهم مشاعر شخصية إيجابية متبادلة، وكأننا هنا ندرس الجماعات الصغيرة وبخاصة جماعة الأسرة وجماعة الأصدقاء، ودراسة هذا الجانب من حياة الفرد تتمحور حول السؤال التالي: ما هي العوامل التي تساعد على بقاء الصداقات أو العلاقات الحميمة بين الأفراد؟ فمن الجلي أن العلاقات الحميمة تساعد كل طرف من أطرافها على التوافق أو التكيف بنجاح مع المجتمع الذي تعيش فيه ويبدو أن هذه الوظيفة تتحقق من خلال العلاقات التي تؤدي إلى نوع من الانتماء إلى عدد من الأفراد نسميهم جماعة صغيرة، وقد تتكون الجماعة فقط من شخصين (Reis & Berschild, 1998). 

نافذة رقم (7) 
عوامل الجاذبية بين الأقران أو الأزواج What most find attractive in mates
غالباً ما يشد الناس أو يجذبهم نحو من يرغبون في إنشاء علاقة حميمة مهم عوامل معينة. فلابد من أن ينظروا إليهم على أنهم محبون Loving ويقدمون العون والمساعدة عند الحاجة Supportive وأنهم مضمونون Secure (آمنون) في علاقاتهم الحميمة، ويعتقد معظم الناس أنهم يمتلكون هذه الخصائص، أو يتمنون التحلي بها، هذا ما توصلت إليه الأستاذة إيفا كلوهن في جامعة أيوا Lowa في الولايات المتحدة وطالبة الدكتوراه شانهونج (Klohnen and Shanhong, 2003) بعبارة أخرى، ما يجذب الناس إلى بعضهم البعض هو شعورهم أن الآخر يمكن الثقة به، وأنه محب أو محبوب، وأنه حساس لمشاعرنا وأحاسيسنا، وأنه سيكون بجوارنا لتقديم العون لنا عند حاجتنا إليه. 
ظهرت هذه النتائج في دراسة تجريبية أجرياها على 751 طالباً وطالبة في جامعة أيوا الأمريكية، وأكدت الدراسة نتائج سابقة خلاصتها أن إدراكنا أو تصورنا Perception لما لدى الآخر من خصائص، هو العامل الأهم في الجاذبية نحو الآخر (القرين المحتمل) وليس ما هو موجود لديه فعلاً من صفات. 
ورغم أن الجاذبية في مراحل العمر المتأخرة، تتأثر أكثر بخصائص اللطف وكرم الأخلاق Kindness والأخلاق الحميدة Tntegrity والاستمرارية Lifelong إلى مدى الحياة، إلا أن الدراسات أظهرت أن الجاذبية في مراحل العمل المبكرة تتأثر أكثر بالمظهر والاستثارة العاطفية، وبكلمة واحدة، ما يبحث عنه الناس في رفقة ما بعد مرحلة الشباب، هو التعاطف والتضامن، هذه الدراسة منشورة Journal of Personality and Social Psychology (Vol. 85, No. 4)

ويعني مصطلح الانتماء وجود حاجة ماسة لدى الفرد لصحبة الآخرين، لكن هذه الحاجة الماسة قد تصبح أقوى أو أضعف في ظروف معينة، فهي تتأرجح بين الشدة والضعف (مكليفن وجروس 2002) أي أن ما يدفعنا إلى صحبة الآخرين، والانتماء إلى جماعات صغيرة والحرص على عضويتها بدرجات متفاوتة هو عامل القلق الناجم عن الخوف من الفشل في التغلب على الصعوبات التي تعترضنا أو الفشل في إشباع حاجاتنا الشخصية لدينا. وفي دراسة تجريبية وجد كيولك وماهلر (Kulik & Mahler, 1996). أن نسبة عالية من المرضى الذين ينتظرون إجراء جراحة قلبية، يفضلون الإقامة في غرفة واحدة مع أشخاص سبق لهم إجراء العملية ذاتها من قبل، على الإقامة مع أشخاص ينتظرون إجراء العملية مثلهم، ويبدو أن الإقامة مع أشخاص سبق لهم أن أجروا العملية بنجاح، تؤدي إلى تخفيف حدة القلق الذي يصيب المرء قبل إجراء العملية. 
بعبارة أخرى؛ تعتمد التفاعلات بين الناس على قاعدة الإثابة، أو المكافأة المباشرة أو غير المباشرة، وكلما زادت المكافآت التي يقدمها شخص معين زاد انجذابنا نحوه، كما يرى كلور ويبرن (Clore & Byrne, 1984) ولابد من ملاحظة أن احتياجات الأفراد متعددة ومتباينة في طبيعتها، فهي تتراوح بين النفسي والبيولوجي، مروراً بالاجتماعي (انظر هرم دوافع ماسلو Maslow) ويستنتج ذلك أن المكافآت لابد من أن تكون متعددة ومتباينة في طبيعتها.
وتشير الدراسات العديدة التي تم إجراؤها في مجال التجاذب بين الأفراد إلى أهمية عدد من العوامل المساعدة على نشأة التجاذب بين الأشخاص مثل: قرب الناس من بعضهم البعض Proximity والتشابه، وتكرار المشاهدة، والألفة وتكامل الحاجات، والجاذبية المظهرية Appearance Attractiveness & Physical لكن لا تعني بداية التجاذب بين شخصين أو أكثر بالضرورة تشكل علاقة حميمة دائمة إلى الأبد، وربما تتشكل العلاقات الحميمة وتنتهي بعد وقت قصير جداً، وقد تدوم لعدة سنوات، لكنها قد تستمر طيلة حياة أطرافها، ودعت هذه الظاهرة عدداً كبيراً من الباحثين لتفسيرها، الأمر الذي أدى إلى وجود مجموعة من النظريات التي تناولتها من مختلف جوانبها، ولكننا في هذا المقام سنتعرض باختصار لنظريتين: 
نظرية التقيد بالمعايير (مايكل أرجايل) Argylem (1992)
أظهرت تجربة مظفر شريف الرائدة أن الجماعات تميل إلى تشكيل معايير سلوكية يلتزم بها أعضاء الجماعة عند تقديرهم أو حكمهم على سلوك ما.

نافذة رقم (8) 
تجربة مظفر شريف في الامتثال ومعايير الجماعة 
قام مظفر شريف بإجراء سلسلة تجارب خلال عقد الثلاثينيات من القرض الماضي، في إطار موضوع نشأة معايير الجماعة والامتثال لها، وكانت المهمة الملقاة على عاتق أفراد عينة التجربة هو تقدير طول المسافة التي تتحرك فيها نقطة ضوء في مكان مظلم. وتضمنت إحدى التجارب التي أجراها مظفر شريف ثلاث مراحل: 
1- كان كل مشارك يضع تقديره لحركة النقطة في الغرفة المظلمة بطريقة فردية.
2- يلنقي المشاركون في التجربة على هيئة جماعة مهمتها مناقشة طول المسافة التي تتحرك فيها تلك النقطة المضيئة.
3- يقوم كل مشارك في النقاش بوضع تقديره على حده، مباشرة بعد انتهاء المناقشة الجماعية. 
وجد مظفر شريف أن تباين تقديرات المشاركين في الحالة الأولى أكبر بكثير من تباين تقديراتهم بعد الاشتراك في المناقشة، وهذه النتيجة دعت مظفر شريف إلى الاستنتاج بأن معياراً جماعياً قد تطور, وهو يمثل متوسط التقديرات الفردية.
كما توصل مظفر شريف في دراسته إلى استنتاج آخر، ظهرت أهميته فيما بعد؛ وهو أن دراسته هذه تعد دليلاً على وجود ظاهرة الامتثال داخل الجماعات. 
أقدم آش Asch وكرتشفيلد Crutchfield فيما بعد (كل واحد على حده)، على تطوير تجارب مظفر شريف، ودراسة العوامل المرتبطة بظاهرة الامتثال مثل: حجم الجماعة، وغموض المهمة، وصعوبتها، ومقدار الألفة بها؛ ومستويات تقدير الذات، وحجم الاهتمام بقبول الجماعة؛ والعلاقات الاجتماعية بصفة عامة. 

وتوصلت تجارب عديدة أن الجماعة تميل إلى ممارسة ضغوط على عضو الجماعة الذي يخرج على معيار معين من معاييرها (جانس 2000) وفي هذا السياق تبدو نظرية مايكل أرجايل في انهيار الجماعات نتيجة منطقية لما سبق ذكره، فعند أرجايل العلاقة الحميمة ليست سوى جماعة صغيرة تتكون من شخصين، وهناك معايير أو قواعد سلوكية ينبغي التقيد بها، ومن الأمثلة على المعايير السلوكية التي يحددها أرجايل: التضامن أو التعاطف عند الحاجة في مواقف معينة، وعدم إفشاء الأسرار وأخيراً احترام الخصوصية، إذن، عند هندرسون وأرجايل سيؤدي عدم التقيد بأي من هذه المعايير السلوكية إلى انهيار العلاقات الحميمة، كأن تكون بين شخصين صديقين أو زوج وزوجته.
نظرية المراحل والعتبات: 
هناك من ينظر إلى انتهاء العلاقات (انهيار الجماعة الصغيرة) على أنها عملية تتكون من مراحل متعددة، وكل مرحلة منها محكومة بمبدأ أو قاعدة معينة (Lee, 1984, 1998) وفيما يلي سنشرح باختصار شديد نظرية دك Duck الذي يعتبر كل مرحلة أشبه ما تكون بالعتبة أو بالعقبة. وعلى طرفي العلاقة، اجتياز كل مرحلة إلى أن يبلغا المرحلة النهائية وهي دفن العلاقة في القبر Grave – dressing Phase.
وتبدأ المرحلة الأولى عند دك عندما يشعرون أو يتيقن أحد الطرفين أنه لا يستطيع الاستمرار في العلاقة، فيبدأ، ودون إبلاغ الطرف الآخر، بعملية تقييم سلوك شريكه في العلاقة، والنظر إلى الجوانب السلبية في سلوكه، وحساب كلفة الانسحاب من العلاقة، وتقدير الجوانب الإيجابية للدخول في علاقة بديلة، ويطلق دك على هذه المرحلة تسمية المرحلة الضمنية Intrapsychic Phase نظراً لأنها تدور فقط في خلده؛ أي بينه وبين نفسه فقط، وقد لا يشعر بها الطرف الآخر نهائياً، وبعد أن يتمكن الطرف الذي بدأ يعيد حساباته في العلاقة من تخطي العتبة أو العقبة الأولى. تبدأ المرحلة الثانية، وفيها يجد الفرد الذي تخطى عقبة المرحلة الأولى أنه لابد من إنهاء العلاقة، وأن المبررات كافية، وربما تحدث مواجهة بين الطرفين في المرحلة الثانية، ولهذا يسميها دك المرحلة الثانية Dyadic Phase وقد يختار الطرف الذي يريد الخروج من العلاقة أن لا يعطي المواجهة فرصة.
وبعد أن يفشل الطرفان في حل المشكلات القائمة بينهما تبدأ المرحلة الثالثة وهي مرحلة التدخلات الاجتماعية Social Phase وفي هذه المرحلة يتم الحديث عن المشاكل القائمة بينهما، مع أصدقاء الطرفين، أو مع أسرتيهما، وكل منهم يعرض قصته بطريقة معينة، ويلقي اللوم كاملاً على الطرف الآخر، كما تشتمل هذه المرحلة على تدخل أطراف معينة لإصلاح ذات البين أو رأب الصدع. وإذا لم تنجح جماعات الإصلاح، تبدأ المرحلة الأخيرة وهي الرابعة. وبهذه الطريقة، تصبح عملية إنهاء العلاقة أمراً لا مفر منه، وأنها مسألة وقت فقط، وأنه لابد من دفنها، ويحاول كل طرف الخروج من العلاقة، سالماً وبأقل قدر ممكن من الخسائر. 
وتشكل القصص والروايات التي يؤلفها كل طرف عن العلاقة ودوره فيها جزءاً مهماً من سيكولوجية إنهاء العلاقات وهي تساعد الفرد على تجاوز ألم نهاية العلاقة، والاستعداد لبدء علاقة جديدة. 

نشاط رقم (4) 
1- تتبع مراحل نشوء علاقة حميمة مررت بها. 
2- تتبع مراحل انتهاء علاقة حميمة مررت بها. 


2- الإيثار Altruism, Pro – social Behavior, Helping Others
ويقصد به إغاثة الملهوف، ونجدة الخائف، وتقديم المساعدة لمن يحتاجها، ودون توقع الحصول على مقابل بعد ذلك، وهو سلوك كثيراً ما يحدث في المجتمع وتخص عليه جميع الثقافات، ولكننا بدأنا نسمع ونقرأ في الآونة الأخيرة، وبخاصة في المدن الكبيرة عن حالات من عدم الاهتمام بمساعدة ضحايا الاعتداءات أو حتى الامتناع عن مد يد العون في حالات احتاج أصحابها لمساعدة بسيطة، وفي المقابل نسمع ونقرأ ونشاهد بطولات خالدة عن أشخاص تطوعوا لمساعدة أشخاص يصارعون الموت، وهنا لابد من إبراز أن سلوك تقديم المساعدة في بعض الحالات، هو في حد ذاته مخاطرة قد يكون ثمنها الموت، هذه الصورة المشرقة والمشرفة تقابلها أمثلة عديدة عن حالات عكس ذلك تماماً ولا تتضمن أخطاراً مماثلة. 

نافذة رقم (9) 
تناول العديد من الدراسات سلوك المساعدة Helping Behvior من حيث: قرار تحليل المساعدة، قرار عدم تقديم المساعدة، التخلي عن المسؤولية؛ ثمن تقديم المساعدة، نموذج سلوك المساعدة، معايير سلوك المساعدة الرؤية الثقافية لسلوك المساعدة، نظرية العدالة Equity theory والمشاركة Reciprocity الحالات المزاجية والمساعدة، خصائص العينة التي هي بحاجة للمساعدة، خصائص المساعد، طريقة طلب المساعدة (www.farmingdale.edu)

وهنا نسأل: لماذا يظهر أو لا يظهر مثل هذا السلوك؟
وفي دراسة تجريبية ذات صلة بهذه القضية، أجراها لاتانية ورودن (Latane and Rodin, 1969) ظهر أن احتمال تقديم العون لامرأة تصرخ وتستغيث لمدة دقيقة واحدة، يكون عالياً جداً، عندما يكون الفرد وحيداً في المختبر، لكن احتمال تقديم المساعدة يكون منخفضاً جداً عندما يكون الفرد مع زملاء له في المختبر (أي عندما يكون عضواً في جماعة). 
ويبدو أن الأفراد الذين يظهرون سلوك المساعدة والتطوع بغض النظر عن احتمالية الحصول على مكافأة يتصفون ببعض الخصائص التي تميزهم عن غيرهم من الذين لا يظهرون هذا السلوك. فقد توصلت دراسة تاكو سوزوكي Takaki Suzuki, (1992) إلى ارتباط المستويات العالية من السلوك الاجتماعي التطوعي إيجابياً بوجود المهارات الاجتماعية وسمة الانبساطية والتعاطف Empathy مع الآخرين، وبينت بحوث أخرى أن هذه الخصائص موجودة لدى الأفراد الذين استمروا في تقديم المساعدة أو العناية بشخص قريب لهم (الزوج/ الزوجة) يعاني من مرض يستعصي على العلاج (Thompson and Pitts, 1992) وأظهر دارلي ولاتانية Latane and Darley (1968) وجود عوامل موقفية قد لا تساعد أو لا تشجع على تقديم العون: مثل مستوى خطورة الموقف، والخجل، أو عدم وجود خبرة أو معرفة بكيفية تقديم العون، وفرص التحلل من المسؤولية وتوزيعها على عدد كبير من الناس. ونظر لاتانيه ودارلي إلى ما توصلا إليه، على أنه نموذج لعملية اتخاذ قرار ذي خطوات خمس في مثل هذه المواقف الطارئة، وكل قرار سلبي في أي مرحلة من المراحل الخمس يؤدي إلى عدم تقديم العون ونجدة من يطلب المساعدة. 

نافذة رقم (10) 
نموذج اتخاذ القرار في المواقف الطارئة ذو خطوات خمسة (www.psycho.uff.edu). 
1- لاحظ الحدث. 
2- فسر الحدث باعتباره حدثاً طارئاً. 
3- تحمل المسؤولية للمساعدة. 
4- معرفة بكيفية تقديم المساعدة. 
5- يجب اتخاذ قرار بالمساعدة. 
6- العدوان Aggression

يجد المتابع للصحافة اليومية دائماً أخباراً مؤلمة عن سلوك عدواني يتميز بالافتقار إلى مشاعر الرحمة بالآخرين, وعدم الاهتمام بمستقبلهم أو بسلامتهم (Baron & Richardson, 1994) ويهدف هذا السلوك القاسي إلى إلحاق الأذى بالآخرين أو اغتصاب ممتلكاتهم، وانتزاعها منهم، عنوة وبالقوة. 
ويتوالى هذا النوع من الأخبار يومياً، سواء كان ذلك على صعيد الدول أو المجتمعات، وفي هذه الحالة تسمى هذه الأفعال بالحروب، والاحتلال، وهذا بدوره إلى اغتصاب الأراضي والممتلكات وتشريد أصحابها الشرعيين، وهذا النوع من التصرفات قد يحدث على مستوى فردي أو جماعات صغيرة تسمى عصابات، ولا تخلو صفحات جريدة يومية في أي مكان في العالم، من تقارير عن مثل هذه الأفعال، أو سرقة أموال أو ممتلكات مثل السيارات، أو اغتصاب الأرض، أو الأرض والمنزل وطرد أصحابه بالقوة المسلحة أو بالتزوير ... وغيرها. 
ويميز المشرعون والمشتغلون بعلم النفس الاجتماعي (Berkowitz, 1993) على سبيل التمثيل لا الحصر، بين من يبادر إلى اقتراف مثل هذا النوع من التصرفات مع وجود هدف ونية أو قصد Intent and Purpose لإلحاق الأذى بالآخر أو سرقة ممتلكاته أو اغتصاب أرضه أو سرقة سياراته أو منزله أو أمواله، وبين من يدافع عن نفسه أو أرضه أو منزله أو ممتلكاته أو يحاول استردادها، وهذا الأمر ينطبق على الأفراد كما ينطبق على العصابات والدول، فالذي يبادر إلى هذا السلوك يسمي المعتدي وتوصف تصرفاته بأنها عدوانية، أما من كان يستخدم تلك الأدوات أو الأساليب دفاعاً عن نفسه وعن ممتلكاته أو أرضه أو منزله أو سيارته فيعتبر مدافعاً عن نفسه ويوصف سلوكه بالدفاعي. 
وما يهمنا في هذا الصدد هو معرفة كيف يفهم علم النفس السلوك العدواني؟ وهذه هي الخطوة الأولى على طريق معالجة هذه الظاهرة المأساوية في تاريخ البشرية، وهنا نجد أنفسنا أمام نظريات عديدة، لكننا سنتطرق لأبرز ثلاث نظريات هي: 

نظرية الغرائز: 
وتبرز هذه المدرسة ملاحظة مؤداها أن العدوان ليس صفة للبشر بل نجدها كذلك لدى الحيوانات، ويستنتجون من ذلك أن العدوان سلوك يولد به الإنسان، أي أنه صفة غريزية، وكان طه حسين يشبه الحروب بالمطر الذي يؤدي وظيفة حيوية، ومن أبرز علماء علم النفس المدافعين عن هذه النظرية كونراد لورنز والذي كان يدرس سلوك الحيوانات، وهو يرى أن بني البشر – مثل الحيوانات الأخرى – لديهم غريزة القتال وهو السلوك الذي كان يؤدي وظيفة حماية مخزون الطعام، وبذلك يؤدي إلى القضاء على النوع الأضعف، وفي ضوء هذه النظرية فإن  السلوك العدواني ليس سوى تفريغ للشحنات أو الطاقة العدوانية التي تتولد بطريقة بيولوجية لدى الكائن، أما علاج هذه الظاهرة القبيحة كما تراه هذه النظرية فهو يكون فقط بالسماح للطاقة العدوانية بالظهور من خلال ممارسات ومباريات رياضية. 
ومن الذين ينهجون هذا السبيل في تفسير السلوك العدواني أيضاً الفيلسوف البريطاني توماس هويس الذي كان يعتقد أن الناس يميلون بالفطرة إلى التنافس والسلوك العدواني وأنهم لا يهتمون إلا بما ينفعهم ويساعدهم على التفوق على الآخرين ويزيد من صلاحياتهم وقدراتهم، وهذا السبب هو الذي يدعو الناس إلى القبول بوجود حكومة للحد من السلوك العدواني لدى الناس بقمعه، كما أن سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي الذي افترض وجود دافع البقاء لدى البشر، ودافع آخر هو دافع الموت وتدمير الذات والعودة إلى حالة اللاحياة. وأطلق فرويد على هذا الدافع اسم ثاناتوس وهو اسم إله الموت لدى الإغريق. 
ولا تخلو نظرية أو نظريات الغرائز في تفسير العدوان من وجود ثغرات مهمة، فمعظم فرضياتها، وبخاصة التي صاغها فرويد، لا يمكن إثباتها تجريبياً، وتم دحض عدد من استنتاجات الباحثين في هذا المجال، ولا نستطيع استخدامها للتنبؤ بحدوث الجريمة، والتنبؤ هو من أهم خصائص الحقيقة أو القانون العلمي، هذا بالإضافة إلى اعتماد بعض النظريات على ملاحظات خاصة بأصحابها، أما نظرية لورنز الخاصة بأن العدوان يحدث عند بلوغ الطاقة العدوانية حداً معيناً (وهكذا يصبح الإنسان آلة هيدروليكية) فقد تعرضت لنقد مدمر من علماء البيولوجيا الذين يعتبرون عدوان الحيوان ناجماً عن تغيرات بيئية وهو قابل للتعديل من خلال شروط داخلية وخارجية متنوعة. 


نظرية الإحباط – العدوان Frustration – Aggression Approach
يتبنى معظم المشتغلين بعلم النفس الاجتماعي هذه النظرية، وخلاصتها أن حرمان الفرد من تحقيق رغباته (حاجاته أو دوافعه) الملحة، تولد لديه مشاعر غضب يمكن أن تتحول إلى طاقة تعبر عن نفسها في سلوك موجه ضد مصدر الإحباط أو مصدر الحرمان بهدف التغلب عليه أو إزاحته بعيداً عن طريق تحقيق الحاجة، وقد يكون هذا المصدر متخيلاً أو حقيقياً (Dollard, et al, 1939) بعبارة أخرى، تحاول نظرية الإحباط – العدوان، تفسير ظاهرة العدوان بين الأفراد على النحو التالي: أقدم شخص اسمه جيم على تنفيذ خطة رسمها منذ فترة، للاستيلاء على منزل وأرض وسيارة السيد صاد، يمكننا إذاً أن نصف سلوك جيم بأنه سلوك أو تصرف عدواني وبغض النظر عن الأسلوب أو الأداة التي استخدمها، ويستوي في ذلك استخدامه القوة، أو الغش والتزوير في الوثائق، أو استغلال ثغرات في النصوص القانونية، أو رشوة من يستطيع التنفيذ أو استئجاره، وإذا نجح جيم في مسعاه وحقق غايته التي خطط لها قبل مرحلة التنفيذ بوقت طويل، فإن سلوكه العدواني سيولد لدى صاد غضباً هائلاً وطاقة كبيرة جداً. وفي إطار هذه النظرية فإن صاد سيوجه طاقته الضخمة للتغلب على مصدر الإحباط، لإجباره على أن يعيد إليه ممتلكاته، سلوك صاد في هذه الحالة قد يشبه في بعض جوانبه سلوك جيم العدواني، ولكن صاد ليس مبادراً، بل إن سلوكه ليس سوى رد فعل، وهو كذلك ضد مصدر الحرمان والإحباط، كل ذلك حسب هذه النظرية وغيرها من النظريات هو سلوك دفاعي وليس عدوانياً (انظر في هذا المجال ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان). 
وقد وجدت بعض البحوث التي تم إجراؤها في إطار هذه النظرية (Barker, et al., 1941) تأييداً لما جاءت به، وتضمنت تجربة باركر وزملائه حرمان أطفال من ألعاب جذابة بعد مشاهدتهم لها. وبعد فترة أعطيت لهم تلك الألعاب عمداً، فقاموا برميها وتحطيمها، وكان لابد لعدد من العلماء في مجال علم النفس من أن يجدوا ثغرات في هذه النظرية، فقد رأى ميلر (Miller, 1941) أن الإحباط لا يمكن أن يكون المصدر الوحيد للعدوان، فالإحباط في بعض المواقف يؤدي إلى الاكتئاب أو الانسحاب أو الإدمان أو بذل مزيد من المجهود، ولا يمكن استثناء عوامل مرضية نفسية من قضية السلوك العدواني أو لا يمكن استثناء طبيعة العزو وما يمكن أن يستثيره العزو الخاطئ.


نظرية التعلم بالملاحظة (المشاهدة) Observational Learning
يعتقد أصحاب نظرية التعلم الاجتماعي أن الأفراد يتعلمون السلوك العدواني من خلال مشاهدة الآخرين وهم يتصرفون بطريقة عدوانية للتغلب على المواقف المحبطة، أي أن هؤلاء العلماء يعتبرون أن العوامل الاجتماعية والبيئية هي التي يمكن أن تعلم الأفراد ليكونوا عدوانيين، إذن العدوان في هذه النظرية ليس حتمياً بل هو استجابة متعلمة نفهمها من خلال مصطلحات المثير والاستجابة وما ينجم عنهما من إثابة أو عقاب.
في سياق هذه النظرية، أجرى باندورا وآخرون (Bandura, et al., 1963) دراسة تجريبية تضمنت قيام أطفال في مرحلة الروضة بمشاهدة فلم يتضمن راشدين يلعبون بطريقة عدوانية، أما المرحلة الثانية فاشتملت على وضع الأطفال في موقف مماثل لما سبق لهم مشاهدته، كانت النتيجة أن الأطفال أظهروا السلوك الذي سبق لهم أن شاهدوه، أما المجموعة التجريبية فكانت تتضمن مشاهدة فيلم عن راشدين يلعبون بطريقة غير عدوانية، وعندما وجد أطفال المجموعة الضابطة أنفسهم في موقف فعلي مشابه لما شاهدوه في الفلم، أظهروا السلوك الذي شاهدوه في الفلم وهو السلوك غير العدواني، ويتم تعزيز هذه الأنماط السلوكية العدوانية بأساليب مباشرة وغير مباشرة أي من خلال حصول الطفل نفسه على مكافآت مادية أو معنوية من الكبار المحيطين به، أو عندما يرى الآخرون ينالون مكافآت على تصرفهم بطريقة عدوانية. 
وساهمت هذه النظرية في فهم أهمية الآخرين، وأهمية وسائل الإعلام الجماهيرية في تعلم السلوك العدواني أو السلوك غير العدواني مثل الإيثار، وألقت ضوءاً على دور الأبوين كنماذج يتم تقليدها بواسطة الأبناء، إذ يلاحظ أن الأبناء الذين يتم تربيتهم بوساطة أبوين عدوانيين، هم أنفسهم سيميلون في المستقبل إلى استخدام أساليب عدوانية.
ورسالة هذه النظرية شديدة البساطة. فإذا أراد أي مجتمع الحد من السلوك العدواني، فعلى ذلك المجتمع أن يكف عن تعليم أبنائه السلوك العدواني، فإذا حدث وتعلم الأطفال السلوك العدواني أظهروه، وإذا حدث وتعلموا أساليب غير عدوانية لحل مشكلاتهم أظهروا ذلك النمط غير العدواني من السلوك. 

نشاط رقم (5) 
- في ضوء النظريات التي فسرت السلوك العدواني حاول أن تفسر السلوك العدواني الذي تمارسه الدول الأقوى ضد الدول الأضعف.
- كذلك حاول أن تفسر تفشي ظواهر العنف في الكثير من المجتمعات. 


خامساً: التأثير والنفوذ الاجتماعي Social Influence
أشرنا في الصفحات السابقة إلى أن الإنسان لا يمكن أن يعيش إلا في مجتمع، وعرضنا أنه يسعى في داخل مجتمعه الكبير إلى عضوية جماعات صغيرة لها وظائف شتى، فهو دائماً عضو في جماعة الأسرة، وجماعة الأصدقاء، وجماعة النادي وجماعة العمل، وغيرها. والإنسان أثناء عضويته في هذه الجماعات يؤثر فيها ويتأثر بها، وربما تجاوزت أهمية هذه الظاهرة وخطورتها في الأزمة الراهنة ما كان عليه الحال في أي وقت سابق، ويعود ذلك إلى أن تأثير نتائج عمل هذه الجماعات الصغيرة (اللجان) قد يتعدى حدود الجماعة الصغيرة ذاتها وأعضائها ليصل إلى حدود العالم كله مثل نتائج كارثة مفاعل تشيرنوبل النووي، وما يهمنا في هذا الصدد هو اعتماد نتائج عمل هذه اللجان الصغيرة على ما تتخذه هذه الجماعات من قرارات صائبة أو خاطئة. ويعتمد مقدار الصوابية في تلك القرارات على نوع التأثر والتأثير الحادث بين أعضاء الجماعة، وكذلك بين الأعضاء والجماعة، وبخاصة تأثير دور رئيس الجماعة. 
وعلى سبيل التمثيل لا الحصر، فقد تقرر أسرة شراء منزل لنكتشف بعد شرائه بشهر واحد فقط أنه لا يناسبها، وإذا كان الاستثمار في المنزل هو أهم قرار استثماري تتخذه معظم الأسر في عالم اليوم، فإن هذه الأسرة لا تستطيع العدول عن هذا القرار أو تغييره بسهولة ودون خسارة كبيرة، وهنا نتساءل، لماذا حدث الخطأ؟ وقد تتخذ شركة ممتازة وناجحة جداً قرارات استثمارية في تقنية معينة مثل شركة المخترع سنكلير الذي استثمر أكثر من عشرين مليون باوند (هي كل ثروته) في تصنيع سيارة صغيرة هي سي 5 لكن جمهور ربات البيوت في بريطانيا لم يشترين منها سيارة واحدة على الإطلاق، لقد كان تقدير فردياً خاطئاً، كانت توقعات السيد سنكلير أن أرباحه ستكون بمئات الملايين، لكنه لم يسأل ربات البيوت عن رأيهن في السيارة، وهل من الممكن أن يشترين سيارة الغاية منها الذهاب إلى الدكان لشراء احتياجات المنزل فقط، وأحاط السيد سنكلير مشروعه بسرية كاملة ولم يشارك أحداً في مناقشة المشروع، وقد تتخذ قيادة جيش معين قراراً للدفاع بطريقة أو أسلوب معين فيكون الفشل الذريع من نصيبها (الدفاع عن الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر) وربما تتخذ قيادة جيش صغير، قراراً بخوض غمار الحرب بطريقة أو خطة معينة، فينتصر على جيش أكثر منه عدداً وأعظم منه عدة (معركة بدر). 

نافذة رقم (11) 
غياب التفكير النقدي وتدمير الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر
تجمع أسطول الولايات المتحدة في ميناء بيرل هاربر عام (1941) بغرض التموين والاستجمام، في وقت كانت فيه الحرب العالمية الثانية على أشدها، وتم في ذلك الوقت، تحذير قيادة الأسطول، بأن هجوماً يابانياً وشيكاً سيتعرض له الأسطول، وتضمنت رسالة التنبيه، إشارة إلى ضرورة اتخاذ جميع التدابير الضرورية لحماية الأسطول وإفشال الهجوم الوشيك جداً.
بعد مراجعة جانس لمحاضر مناقشات أعضاء هيئة قيادة الأسطول – بعد رفع غطاء السرية عنها – اتضح له أن "جماعة القيادة" وافقت بسرعة على اقتراح رئيسها ودون وجود تفكير نقدي جاد، تلك الواقعة جعلت جانس يرى في ذلك المثال الواقعي الفعلي، برهاناً إضافياً على صحة فرضياته المتعلقة بخصائص الجماعات التي تتخذ قرارات يمكن وصفها بمرض تفكير الجماعة، ومن المؤسف أن اقتراح قائد الأسطول لم يكن مفيداً على الإطلاق في مواجهة هجوم وشيك. فكانت النتيجة تدمير جميع سفن أسطول الولايات المتحدة في المحيط الهادي، وقتل وغرق عدد كبير جداً من بحارته. وأشار جانس إلى أن جميع قادة الأسطول، هم من الضباط الممتازين الذين أظهروا كفاءة وتفوقاً أثناء الحرب العالمية الأولى. 

 

نافذة رقم (12) 
حضور التفكير النقدي والنصر في معركة بدر 
تتفق كتب السيرة النبوية على أن النبي صلى الله عليه وسلم اقترح خطة حربية محددة في موقعة بدر، لكنه قبل خطة مغايرة لخطته ونفذها بالفعل بعد أن استمع لآراء الصحابة، وهكذا أصبح الاقتراح الأكثر صوابية قراراً ملزماً تم تنفيذه، ويعتبر أهل الخبرة في المجال العسكري أن الخطة الصائبة من عوامل النصر الأساسية، وكانت نهاية المعركة نصراً عبقرياً للمسلمين رغم قلة عددهم، مقارنة بجيش قريش. 
ولنا أن نتخيل ونتوقع حال صاحب الاقتراح الصائب، وقد غمرته مشاعر السعادة بمجرد أن استمع له النبي، ناهيك عن قبول النبي للخطة وتبنيها وتنفيذها، فذلك مدعاة لفخر أبدي.
وما حدث كان تعلماً بالخبرة الشخصية والمباشرة فيما يخص صاحب الاقتراح؛ أي حصوله على تكريم فوري، مباشرة بعد ظهور سلوكه. فثبت في وعيه (ذاكرته) أن هذا السلوك هو السلوك الصحيح والمطلوب في مثل هذا الموقف عند النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وبلغة بافلوف ونظريات التعلم، نجد أن صاحب الاقتراح قد حصل على تعزيز فوري بمجرد صدور التفكير النقدي. وتمثل التكريم في الاستماع إليه ومناقشته وأخذه مأخذاً جدياً، ويمكن تصنيف هذا التعزيز ضمن فئة الحاجة إلى التقدير والقبول الاجتماعي، أما فيما يخص الصحابة المشاركين في معركة بدر، فهناك تعلم عن طريق المشاهدة، فقد رأو بأم أعينهم، تكريم صاحب التفكير النقدي، فأصبح واضحاً لهم أن هذا التصرف هو السلوك الصحيح والمطلوب في هذا الموقف. 
وتكرر ما حدث يوم بدر في معركة الخندق، إذ أخذ النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بالمشورة وعمل بها، وكان النصر حليف القلة على الكثرة، وهذا تكريم فوري لصاحب الرأي بأخذ اقتراحه بجدية واهتمام وسماعه ومناقشته، وتكريم ما بعده تكريم بقبوله وتنبيه وتنفيذه، وهنا تكرار للتعلم عن طريق الخبرة الشخصية والمشاهدة. 
وما حدث في بدر والخندق تكرر يوم صلح الحديبية، فهناك رأي النبي وآراء الصحابة كانت متباينة؛ وحدثت مناقشة اتسمت أحياناً بالحدة والانفعال. ومن هذا القبيل، قول عمر لمحمد (صلى الله عليه وسلم) أتقول أنك نبي وتقبل بهذه الشروط ... (البخاري)، ولا ينزعج النكبي من أسلوب المخاطبة، وينتهي الأمر بقبول الصحابة لرأيه في ضرورة قبول الشروط المجحفة التي أصر عليها وفد قريش، ولكنهم بعد ذلك أدركوا حكمة النبي وعمق نظرته الثاقبة، فقد أثبتت الحياة صحته بعد وقت قصير جداً، ورغم أن محمداً لم يأخذ برأي الصحابة يوم الحديبية، إلا أن الاختلاف والمناقشة والتفكير النقدي كان سمة ذلك اليوم، ولنا أن نتخيل أن كل من شارك في المناقشة قد شعر بالأهمية والفخر، وكذلك كل من شهد تلك الساعات الخالدة. 
وكيف يكون حال من قال له محمد عندما خالفه في أمر من أمور الدنيا ... أنتم أدرى بأمور دنياكم، فلم يكن هناك تقريع، أو لوم، أو عقاب من أي نوع على مخالفته النبي في أمر من أمور الدنيا.
الخبرة السابقة أنبأت بوضوح ما بعده وضوح عن وجود نمط من التصرف أو التفاعل الاجتماعي (نوع من السلوك وهو الاختلاف والمشورة) يشجع عليه النبي، بل ويطلبه ويحث عليه، فهو أكثر أصحابه طلباً للمشورة وأكثرهم عملاً بها. 
وتحاول التشجيع على التفكير النقدي أو الاختلاف إلى حديث شريف – من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد – وهي قاعدة سلوكية يجب أن نتحلى بها, وتحول أسلوب النبي في القيادة – أي التشجيع على المشورة والاختلاف أي الاجتهاد – قولاً وعملاً – إلى أمر قرآني لا مجال للتأويل والتسويف في شأنه. بسم الله الرحمن الرحيم ... وأمرهم شورى بينهم ... وشاورهم في الأمر .. صدق الله العظيم. 
(لاحظ أن كبريات الشركات اليابانية تطلب سنوياً من موظفيها تقديم اقتراحات لرفع مستويات الكفاءة المهنية، وتكافئ على عدد الاقتراحات وليس على جودتها). 

وأصبح جلياً، أهمية ما تفعله الجماعات الصغيرة وما تتخذه من قرارات. فإذا كانت الأفعال أو القرارات صائبة ومناسبة، عاد ذلك بالفائدة الجمة على الشركة أو الأسرة أو النادي أو المجتمع كله، أما إذا كانت القرارات أو الأفعال غير مناسبة أو خاطئة، فالعاقبة وخيمة على الجماعة ذاتها والأسرة أو النادي أو الشركة أو المجتمع كله. وهذا على وجه الدقة هو الذي حدا بالمتخصصين في مجال علم النفس الاجتماعي إلى دراسة الجماعات الصغيرة، للتعرف على تلك الظروف أو العوامل أو الممارسات المرتبطة بصوابية القرارات أو عدمها. فتطور فرع من علم النفس الاجتماعي أسموه ديناميات الجماعات الصغيرة Group Dynamics وهو يسعى لمعرفة تلك العمليات التي تدور داخل الجماعات الصغيرة فتؤثر، في نتائج مناقشاتها، فتكون القرارات صائبة أو خاطئة، ولم يستثن هذا التخصص أية جماعة صغيرة على الإطلاق؛ فتناول بالدراسة الجماعات المنتخبة أو المختارة من قبل أشخاص معينين، ودرس كذلك الجماعات المؤقتة التي يرتبط وجودها بغاية معينة أو مشروع ما، والجماعة الدائمة مثل: الأسرة أو البرلمان، ومن ذلك أيضاً الجماعات الصغيرة والكبيرة. 

 ديناميات الجماعات الصغيرة فرع من فروع علم النفس الاجتماعي يركز على فهم العمليات التي تدور داخل الجماعة وتؤثر في قراراتها. 

وتناولت الموضوعات التي تم فحصها في إطار هذا التخصص عدداً من التساؤلات مثل: لماذا يسعى الناس لعضوية الجماعة؟ وكيف يتأثرون بالعضوية؟ وهل يلتزمون بمعايير معينة تطورها الجماعة؟ وما الذي يحدث إذا خالف أحد الأعضاء معايير الجماعة؟ وكيف تتم عملية اتخاذ القرارات؟ ونتج عن الدراسات العديدة في هذا المجال، بلورة إجابات مهمة تصف بدقة بعض العمليات التي تحدث داخل الجماعة منذ لحظة تكوينها وكأننا أمام تفاعلات كيماوية عناصرها البشر وليس مواد شتى يبدأ التفاعل بينها بمجرد تلامسها أو خلطها. 
وأطلق المتخصصون في مجال علم النفس الاجتماعي عليها مسمى العمليات الجمعية Group Processes وأهم هذه العمليات هي: معايير الجماعة Group Norms الامتثال Confornity الطاعة Obedience، الاستقطاب داخل الجماعة Group Polarization ضياع الهوية أو ذوبان الهوية (اللا تفرد) Deindividuation مرض تفكير الجماعة Groupthink، العصف الفكري Brain Storming وسنتناول كلاً من هذه المصطلحات فيما يلي في عجالة لتوضيح معناها، وتقديم بعض الأمثلة التي تبرز دور وخطورة هذا العلم الذي نحن بصدد تقديمه للقارئ الكريم، في مرحلة تاريخية يمكن وصف جوهرها بالعمل الدؤوب من أجل النهضة الشاملة. 
1- معايير الجماعة: 
أظهرت تجارب مظفر شريف كيف أن الجماعة بمجرد تكوينها – حتى وإن كانت مؤقتة – يبدأ أعضاؤها أو عناصرها إذا أردنا تشبييها بالتفاعلات الكيماوية في تشكيل موقف محدد لهم من بعض المشكلات التي تواجههم مثل الإجابة على بعض الأسئلة، ومن يبدأ بالكلام، وأين يجلس كل عضو، وأكدت مثل هذه النتائج دراسات هندرسون وأرجايل، ويصبح ذلك الاتفاق أقرب إلى العقد الاجتماعي الذي يؤدي الخروج عليه إلى انهيار الجماعة أو عودة العضو المخالف إلى المعايير المتفق عليها، بعد ممارسة ضغوط عليه، فإفشاء الأسرار مثلاً أو عدم التقيد بالرأي العام الذي بدأ يتكون يؤدي إلى عزل العضو أو إهماله أو مقاطعته.
غير أن تلك المعايير – رغم ديمومتها أو استمرارها لفترة معينة – عرضة للتغير، فقد أوضح مظفر شريف في دراساته التجريبية كيفية وظروف تغيرها، كما أشارت نتائج دراساته إلى أن تلك المعايير تتضمن مواقف سلبية أو إيجابية نحو الجماعات الأخرى المجاورة أو المنافسة، فوجود تنافس أو صراع بين جماعتين على بعض الموارد النادرة، أدى إلى تكوين اتجاهات سلبية نحو الجماعات الأخرى، بل وظهور تصرفات لفظية وغير لفظية عدائية بينهما، وفي المقابل فإن استبدال التنافس بالتعاون يؤدي إلى تغيير كبير جداً في التصرفات إزاء الجماعات الأخرى. 
الطاعة: 
تشترط أنظمة العمل خضوع المستويات الأدنى للمستويات الأعلى، ويحدث أن يصدر عن المستويات العليا بطريقة رسمية، تعليمات، ينصاع لها من هو في مستوى أدنى، وينتج عن ذلك تغير في سلوك عضو جماعة العمل، بعبارة أخرى، يحدث التغير في سلوك عضو جماعة العمل بناء على طلب رسمي مباشر (أمر) من السلطة. 
وقد ينجم عن الطاعة العمياء مشكلات خطيرة في العمل، وربما لا يجرؤ من هو في المستوى الأدنى الاستفسار أو طلب توضيحات، انظر إلى تلك الممرضة التي قامت بمعالجة فتحة الشرج لمريض كان يعاني من التهاب حاد في الأذن اليمنى، كل ما في الأمر أن الممرضة قرأت تعليمات الطبيب على أنها خاصة بالشرج وليس الأذن اليمنى، والسبب في ذلك بسيط جداً؛ وهو أن الطبيب كتب التعليمات بشيء من الاختصار باللغة الإنجليزية على النحو التالي Rear بدلاً من Right ear وما جعل الممرضة تقرأ التعليمات على النحو المأساوي والمضحك معاً، هو أن الطبيب لم يترك مسافة كافية بين كلمة أذن وحرف الراء الذي يرمز إلى اليمين على النحو التالي R. ear إن المدهش في تلك الحادثة، هو أن الممرضة والمريض معاً لم يستفسر عن احتمال وجود خطأ ما أو عن طبيعة علاقة الأذن بالشرج. 
ويصعب على المرء أن يعرف كيف أطاع عام (1978) المئات من أعضاء الطائفة الدينية، التي أنشأها القس جيم جونز قرب مدينة جونزتاون في غييانا في أمريكا الجنوبية، أوامر زعيمهم مؤسس تلك الطائفة، وتجرعوا السم في لحظة واحدة ومباشرة بعد أن سقوه لأطفالهم، كانت النتيجة المأساوية موتاً فوريال (912) في غابات غييانا في أمريكا الجنوبية، ومن الأمثلة على ذلك كيفية قيام الإسرائيليين بإطاعة قياداتهم وقتل مئات من الأطفال والنساء والشيوخ العزل والمسالمين في كل من دير ياسين، وكفر قاسم والدوايمة، وكيف أطاع ملاحو الطائرات الإسرائيلية قاداتهم وألقوا القنابل المدمرة على مدرسة أطفال قرية بحر البقر في مصر، فذهب مئات من تلاميذة تلك المدرسة ضحية ذلك القصف، وكيف قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مقر الأمم المتحدة في جنوب لبنان حيث كان يحتمي به أطفال ونساء وعجزة، فكانت النتيجة البشعة. فئات مئات من الأبرياء العزل والمسالمين (Melissa Ditmann, 2003).
دفعت أمثال تلك الممارسات في الحروب المختلفة، بما في ذلك الفظائع التي حدثت في الحرب الثانية، والممارسات الطبية الخاطئة عدداً من المشتغلين بعلم النفس الاجتماعي إلى إجراء تجارب لدراسة هذه الظاهرة وما يرتبط بها من متغيرات تخفض أو تزيد من احتمالية حدوثها، ومن أشهر التجارب في هذا المجال تلك التجربة التي أشرف عليها ستانلي ميليجرام (Milgram, 1974) المشار إليه في (Myers, 2004). 
ويمكن تلخيص تجربة ميلجرام الرائدة على النحو التالي: نشر إعلاناً في مجلة جامعة ييل Yale يدعو فيه الطلبة إلى المشاركة في تجربة في مختبر علم النفس بهدف ظاهر هو دراسة أو معرفة أثر العقاب على التعلم. وكانت الإجابات الخاطئة للمتعلم تظهر على لوحة خاصة أمام المعلم الذي كان عليه أن يعاقب المتعلم عن كل خطأ يرتكبه بصدمة كهربائية حسب اختياره، وقد تصل إلى حد أعلى هو (450) فولت، وكان يصل إلى سمع المعلم صراخ المتعلم الناجم عن الألم الذي تحدثه الصدمة الكهربائية، وفي حقيقة الأمر لم تكن هناك صدمات كهربائية أو شخص يتعلم ويتألم كان هناك مسجل فقط تصدر عنه الإجابات، والصرخات ونداءات الاستغاثة. 
وأظهرت دراسة ميلجرام أن من تم إجراء التجربة عليهم – وكانوا من طلبة الجامعة العاديين والأسوياء – قاموا بتنفيذ تعليمات المشرف على إجراء التجربة. وكما سبق أن ذكرنا، كانت التعليمات تتضمن توجيه صدمات كهربائية قد تصل إلى (450) فولت.
والسؤال المحير الذي حاولت الدراسة الإجابة عنه هو لماذا كانت نسبة عالية من طلبة الجامعة مستعدة لإطاعة مثل هذه التعليمات غير المنطقية والتي قد تؤدي إلى وفاة المتعلم في حالة كون الصدمات الكهربائية؟ حقيقة. لقد أوضحت دراسة ميلجرام أن الناس العاديين يمكن أن يكونوا مطيعين جداً، وأن يكونوا عنصراً فاعلاً في عملية إجرامية فظيعة، إذ استمر جميع المشاركين في التجربة الأولى توجيه صدمات حتى مستوى (300) فولت، في حين استمر 65% من الطلبة في توجيه الصدمات الكهربائية، حتى بلغوا مستوى (450) فولت، لكن نتائج الدراسة أوضحت أيضاً أن احتمالية ظهور سلوك الطاعة تتأثر بعدد من العوامل منها: 

  • القرب من الضحية، وسماع صوته، ورؤية آثار الجريمة. 
  • القرب من مصدر السلطة. 
  • المسؤولية عن توجيه الصدمات. هل هي ملقاة على عاتق من يوجه الصدمة أم على عاتق المجرب. 

2- لامتثال: 
تبنى رأي الجماعة أو سلوكها وقبوله واتباعه، لا يحدث في إطار جماعات العمل فقط، وإنما يحدث أيضاً في إطار جماعات الأصدقاء، لكن يكمن الفرق بين ما يحدث لدى الجماعتين في أن الامتثال؛ أي الانسياق لرأي أغلبية جماعة الأصدقاء، تسببه عوامل عديدة غير الخضوع لضغط  الجماعة Group Pressure ويعرف زمباردو الامتثال على أنه تغير في الاعتقاد أو السلوك استجابة لضغط الجماعة الواقعي أو المتخيل، في الوقت الذي لا يطلب فيه من الفرد الخضوع للجماعة، ولا يكون هناك سبب يبرر التغير السلوكي الملاحظ لديه. 
وعملية نشأة معايير الجماعة التي استنتجها شريف هي ذاتها دلالة على حدوث الامتثال في داخل الجماعة (انظر تجربة مظفر شريف الخاصة بتقدير طول المسافة التي تتحرك فيها نقطة ضوء في مكان مظلم والكائنة في نهاية الفصل، لكن آش (Asch, 1951) انتقد دراسة مظفر شريف، واعتقد أن أفضل وسيلة لقياس الامتثال تكون في قياس مدى استعداد عضو الجماعة إلى الموافقة على إجابة خاطئة تماماً مع أن الإجابة الصحيحة معروفة وواضحة لديه. 
أما لماذا امتثل الطلبة الذين أجريت عليهم التجارب؟ فقد أوضح الطلبة أنفسهم هذا الجانب بقولهم إنهم فعلوا ما فعلوا بسبب اعتقادهم أو تصورهم أن تلك الاستجابة هي ما أراده أو ما يرغب فيه المشرف على إجراء التجربة، كما ذكر بعض الطلبة الآخرون أنهم رغبوا في أن لا يعرفوا أنفسهم لسخرية الآخرين، وبالتأكيد وجد الباحثون عدداً من العوامل تؤثر في احتمالية حدوث الامتثال مثل حجم جماعة الأغلبية أي أنه كلما زاد حجم الأغلبية زاد احتمالية حدوث الامتثال، وكذلك الحال بالنسبة لإجمالي الأعضاء، فإن وجود مخالف واحداً أو اثنين من بين الأعضاء يخفض احتمالية حدوث الامتثال.
ويؤثر – إلى حد كبير – في احتمالية حدوث هذه الظاهرة متغيرات أخرى مثل: غموض القضية أو المشكلة موضوع للبحث، ومستوى الثقة بالذات وحجم حاجة الفرد لقبول الآخرين له؛ ورغبته في أن يترك انطباعاً إيجابياً لديهم. 
ويبدو أن من أسباب الامتثال والطاعة عوامل تتصل بالخوف الواقعي أو المتخيل، من نبذ الآخرين لنا أو نفورهم منا، وسوء معاملتهم لنا إذا اكتشفوا أننا نحمل آراء مختلفة عن آرائهم، أو نتصرف بطريقة غير مناسبة لهم (Schachler, 1951). 
وأخيراً، تقوم العوامل الثقافية والحضارية المختلفة بدور كبير في تشجيع أعضاء الجماعات على الامتثال أو عدمه. فالثقافة التي تركز على محورية دور الفرد في الحياة الاجتماعية، لابد من أن يختلف تأثيرها عن تلك الثقافة التي تركز على محورية دور الجماعة في الحياة العامة. 
3- الاستقطاب داخل الجماعة: 
أدت ظواهر الامتثال والطاعة في الجماعات إلى دراسة ظاهرة قبول الجماعة لسلوك المخاطرة أو المقامرة Risky Shift فتوصلت دراسة ستونر (Stoner, 1961) إلى أن الجماعات قد تكون أكثر استعداداً من الأفراد، لاتخاذ قرارات أكثر مخاطرة Group Make Riskier Decisions than Individuals لكن ظروفاً معينة قد تجعل الجماعة كذلك كثر ميلاً إلى التردد والحذر، والتريث قبل اتخاذ القرار وتنفيذه. 
وتمكن سيرج موسكوفيتش وماريزا زافالوني عام (1969) من تفسير هذا التناقض الظاهر حين توصلا إلى أن قرارات الجماعة تميل إلى توكيد الميل الموجود لدى الجماعة وتعزيزه، فإذا كان الميل الموجود لدى عدد من الأفراد الذين يتمتعون بأدوار مهمة بالنسبة للجماعة مثل رئيس الجماعة ونائبه ومساعديه المباشرين، هو أقرب إلى الدعوة للتريث والانتظار، فإن ميل أو استعداد بقية أعضاء الجماعة إلى التريث والانتظار سيكون أكثر شدة أو قوة. أما إذا كان الأعضاء الأكثر نفوذاً في بناء الجماعة يرغبون في اتخاذ قرار يوصي بسرعة المشاركة، فإن بقية أعضاء الجماعة سيدعون إلى المشاركة الفورية والعاجلة، وهذا ما أطلقا عليه مصطلح الاستقطاب داخل الجماعة (Myers, 2004). 
4- مرض تفكير الجماعة:
دعت القرارات المدمرة والخاطئة الكثيرة التي صدرت عن العديد من الدول ومجالس إدارات الشركات الكبرى، نفراً من الباحثين في علم النفس الاجتماعي إلى دراستها وبخاصة بعد أن ارتفعت عن تلك القرارات عوامل السرية، ومن الأمثلة على ذلك:
•    قامت شركة أبل لصناعة أجهزة الكمبيوتر الشخصية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بمقاضاة الشركات التايوانية والكورية الجنوبية والماليزية المنتجة لأجهزة كمبيوتر شخصية ممائلة لأجهزتها الممتازة. ربحت شركة أبل القضية واضطرت الشركات المخالفة لقوانين حقوق الملكية الفكرية والصناعية أن تدفع غرامة كبيرة لشركة أبل، بعد ثلاث سنوات ذهب مجلس إدارة أبل إلى تلك الشركات يطلب منها الصفح عنه ويرجوها أن تعود إلى تقليد منتجات الأبل وتصنيعها وتصديرها، ما الذي حدث وما هي النتيجة؟ أما النتيجة فمعروفة للجميع، قبل القرار كانت أبل إحدى أكبر خمسين شركة في العالم، أما الآن فهي تصارع من أجل البقاء.
•    اتخذ مجلس إدارة شركة مكدونال دوجلاس لصناعة الطائرات المدنية قراراً يقضي بأن تحلق في الجو طائرتهم العريضة Wide Body قبل أن تحلق الطائرة المماثلة التي تعمل شركة بوينج على تطويرها وإنتاجها. والهدف من القرار أن تكون شركة ماكدونال دوجلاس أول شركة في العالم تنتج طائرة عريضة، وكانت النتيجة خروج ماكدونال دوجلاس من صناعة الطيران المدني نهائياً.
•    اتخذ مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة في عهد الرئيس جون كنيدي قراراً بدعم وتشجيع (1400) مهاجر كوبي على غزو كوبي أملاً في التفاف الشعب الكوبي حولهم والإطاحة بنظام الرئيس فيدل كاسترو، وكانت النتيجة فشل الغزو، وقتل المهاجمون أو أسروا خلال ثلاثة أيام فقط، كيف حدث واتخذ مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة قراراً محرجاً جداً وخاطئاً تماماً. 
•    اتخذ الرئيس جمال عبد الناصر في مصر سلسلة من الإجراءات التي جعلت من حدوث حرب عام (1967) مسألة حتمية رغم: 1) معرفته الأكيدة، بأن جيشه متخلف عشر سنوات عن الجيش الإسرائيلي (رواية نائبه السيد حسين الشافعي). 2) تقديرات كبار ضباط الجيش المصري بأن جيشهم غير مستعد نهائياً للحرب وأنه بحاجة إلى سنتين للاستعداد على أقل تقدير. حسب رواية رئيس أركان الجيش المصري في ذلك الوقت الفريق أول المرحوم عبد المنعم رياض، ويقول الفريق عبد المحسن كامل مرتجي، قائد القوات البرية، أن الجيش المصري لم تتوافر لديه في ذلك الوقت سيارات لنقل الجنود إلى ساحة المعركة ناهيك عن أي شيء آخر 3) تحذير شفوي وخطي من المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال بأن هناك من يريد أن يورطه في حرب هو غير مستعد لها وعن ضرورة تجنبها في ذلك الوقت. 4) بلاغ رسمي من الحكومة البريطانية تم تسليمه للسفارة المصرية في لندن وطلب من السفير أن يعود إلى القاهرة لإبلاغه للرئيس جمال عبد الناصر وعن ضرورة تجنب الحرب التي ستكون نتيجتها الحتمية انتصار إسرائيل على الجيش المصري، إذ ما الذي حدث؟ ولماذا يتجنب المرحوم الرئيس جمال عبد الناصر اتخاذ الإجراءات التي مهدت للحرب؟ كانت النتائج وما زالت كارثة بكل المقاييس. 
وتتخذ مثل هذه القرارات السالفة الذكر، جماعات يميل أعضاؤها إلى اتخاذ قرارات بالإجماع، وتتصف تلك الجماعات بتماسك شديد، ورغبة كل عضو من أعضائها في بقائه عضواً فيها، ورغبته كذلك في استمرارية وجودها، ولا شك أن ما سبق يدفع مثل تلك الجماعات بعيداً عن التفكير والتقييم النقدي لمشروع أو مشروعات القرارات المطروحة على بساط البحث وما يتصل بها من أفكار أو معلومات (جانس Janis, 1989) ويعتقد مكولي McCauley (1989) أن ظاهرة مرض تفكير الجماعة تحدث في عدة حالات: 
أولاً: عند توافر شعور قوي لدى الجماعة بالعصمة من الخطأ في حسابات الربح والخسارة. 
ثانياً: عندما تتجاهل الجماعة، أو تقلل من أهمية المعلومات التي تختلف أو تتناقض مع ما لديها من معلومات. 
ثالثاً: عندما تمارس الجماعة ضغوطاً على الأعضاء المخالفين لإجبارهم على الامتثال لرأي الأغلبية، ولن تختلف النتيجة إذا كان الضغط الذي توجهه الجماعة نحو الأعضاء المخالفين معنوياً أو غير مباشر أو مادياً ملموساً. 
رابعاً: يؤدي الضغط الذي يوجه إلى الأقلية المخالفة من أجل أن تمتثل لرأي الأغلبية، إلى عدم تقديم المعلومات أو الآراء التي لا تتفق مع ما لدى الأغلبية من معلومات، فتكون النتيجة شعوراً أو إحساساً أو انطباعاً بأن القرار تم اتخاذه بالإجماع في حين أن الحقيقة ليست على هذا النحو. 
خامساً: إذا توافر لدى الجماعة شعور وهمي بالمشروعية، وأن تصرفاتها وقراراتها كلها أخلاقية وعادلة.
ويشير عدد من المؤلفين مثل (Tetlock, et al., 1992) إلى أن معظم القرارات التي تتخذها الجماعات التي تتصف بما سبق ذكره من خصائص، لابد من أن تكون سلبية؛ أي خاطئة جداً، ونتائجها مأساوية على الجماعة ومن يرتبط بها من جماعات أخرى. (Myers, 2004).

نشاط رقم (6) 
1- الأسرة إحدى الجماعات الصغيرة، ضع أحد قرارات أسرتك تحت المجهر وبين ما إذا كان هذا القرار صائباً أم خاطئاً ولماذا؟ 
2- للجماعات معايير لابد من الالتزام بها، استقرئ المعايير التي وضعتها جماعة الرفاق التي أنت عضو فيها. 
3- في الأردن دعوة للتعددية السياسية نشأ عنها العديد من الأحزاب. ما هي أضرار الطاعة العمياء التي يفرضها الحزب على أعضائه؟ 
4- الحزب الجمهوري فاز في الانتخابات الأميركية عام (2000) ثم كون إدارة لحكم البلاد، حاول أن تبحث عن الاستقطاب داخل تلك الإدارة. 
5- كلما سادت الديكتاتورية كان احتمال الوقوع في "مرض تفكير الجماعة" أكبر تتبع بعض الأنظمة الديكتاتورية في العالم وحاول استكشاف هذا المرض لديها. 

 

نافذة (12)
علاقة التفاعلات الاجتماعية بالتطوير المستمر في مؤسسات العمل اليابانية
حلقات الجودة في اليابان Quality Cirlces 
يعتقد كثير من الناس في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان المتطورة اقتصادياً، أن من أهم أسباب بلوغ المؤسسات الصناعية اليابانية، مستويات عالية جداً في مضمار جودة الإنتاجية هو تطويرها لمواردها البشرية، والاستعانة بها بطريقة فعالة. 
ومن أبرز الأساليب الإدارية اليابانية ما يعرف باسم حلقات الجودة وتسميها شركة هوندا حلقات أو اجتماعات لماذا وكيف؟ أي لماذا نستمر في عمل ما نعمل حالياً؟ ولماذا نفعل ما نفعل بالطريقة التي نفعله بها؟
ويشير مصطلح حلقات الجودة إلى مجموعة صغيرة من الأفراد المتطوعين من بين عدد كبير من العاملين في قسم ما أو موقع عمل معين، ويجتمع هؤلاء الأفراد دورياً وبطريقة منتظمة من أجل التعرف على مشكلات جودة المنتجات بصفة خاصة، ومشكلات العمل بصفة عامة، والقيام بتحليلها ومعالجتها (Manchus, 1983). 
وقبل أن تبدأ اجتماعات اللجنة بطريقة دورية للتعلب على مشكلات العمل والجودة، يحصل المجتمعون على تدريب حول موضوعات مختلفة مثل: قضايا ضبط الجودة، ومهارات الاتصال، وأساليب حل المشكلات بطريقة علمية، والاختراع ومستلزماته، وكيف يحدث؟ ويدرسون موضوع العصف الذهني Brain Storming ويتدربون على حل مشكلة معينة تدريباً عملياً بإشراف المدرب، فيبدأون بتعريف المشكلة، ويجمعون كل ما يتعلق بها من معلومات، ويقترحون حلولاً مختلفة، ويناقشون كل حل على حدة لمعرفة سلبياته وإيجابياته، ويختارون أفضل حل، ويبلغونه إلى الإدارة العليا. 
بعبارة أخرى، تهدف حلقات الجودة في مؤسسات العمل اليابانية إلى زيادة انهماك الفرد في عمله، ومضاعفة شعوره بسيطرته على ما يقوم به من واجبات، وزيادة معدلات الرضا المهني لدى الفرد، ومضاعفة الولاء والإخلاص للمؤسسة والجودة. 
ويتم كل ما سبق في إطار من تشجيع الإدارة المباشرة والعليا للوصول إلى حلول مبتكرة لمشكلات العمل، فاللجنة تجتمع أثناء وقت العمل الفعلي، كما تقوم الشركة بتوزيع جوائز رمزية على أعضاء اللجنة، وتقوم الإدارة كذلك بتوفير المعرفة النظرية والتدريب العملي الضروري لتطوير العمل وحل مشكلاته بطريقة علمية، أما زملاء العمل فيقومون بتزويد اللجنة بما لديهم من ملاحظات يمكن اعتبارها مشكلات تبحث عن حل، أو اقتراحات لتحسين الإنتاجية والجودة أو توفير الوقت أو توفير في كمية المواد التالفة وبالتالي تخفيض تكلفة الإنتاج، وما على أعضاء اللجنة إلا حل المشكلات بالطريقة العلمية، ويتعلمون أثناء الفترة التدريبية أن نقد أفكار الآخر بالزيادة عليها أو الحذف منها لا يعني نقد الفرد ذاته، بل هو تحسين للفكرة ذاتها ولمصلحة المؤسسة التي يكنون لها كل الإخلاص والولاء.
وهكذا، فإن التفاعلات الاجتماعية بين العاملين في بيئة العمل اليابانية، هي من النمط المواتي للإبداع والتطوير والمشجع عليه، والمحتضن لكل مبادرة إيجابية من العاملين. وأشارت دراسات عديدة، إلى ارتباط مثل هذه الممارسات بالإبداع وحل المشكلات في بيئة العمل، فهناك إشارة واضحة في دراسة حلمي (1990) إلى أن الشخصية المبدعة لابد من أن تحظى بتشجيع الأبوين في مرحلة العمل، وتوصلت الجعافرة (2003) أيضاً إلى نتيجة مماثلة مؤداها أن تعاطف وتضامن الإدارة مع العاملين، يرتبط إيجابياً بالصحة النفسية ويحل مشكلات بيئة العمل، وفي دراسة شينج زو Zooching (2003) تبين أنكل شخص في بيئة العمل يمكن أن يكون مبدعاً، ولا يتطلب الإبداع عبقرية من نوع معين. كل ما في الأمر أن الاستعداد للإبداع قد يتحطم كلياً لدى العاملين عندما يرون كيف تعامل الإدارة المبادرات الإبداعية لزملائهم. فوجود زملاء مبدعين يشجع روح الابتكار لدى زملائهم في العمل، كما يؤدي إلى قتل الابتكار، والرقابة الحثيثة والمستمرة؛ والتدخل الذي يقتل الشعور بالاستقلالية لدى العاملين (Amabile, 1996). 

 

نافذة (13) 
تجربة أنماط السلوك القيادي 
أجرى ليفين وليبيت وهوايت أثناء ثلاثينيات القرن الماضي تجربة؛ بهدف مقارنة ما يترتب على ممارسة أساليب الإدارة المختلفة من آثار، على الإنتاجية، وعلى سلوك العاملين، أما أنماط السلوك الإداري؛ فكانت: 
أولاً: الأسلوب الفردي الذي يمكن تسميته بالأسلوب الاستبدادي، إذ كان المدير هو الذي يحدد هدف العمل أي الواجبات المطلوب إنجازها، والأشخاص الذين يمكن التعاون معهم لإنجاز الواجبات كما أنه هو الذي يوجه الثناء والعقاب ودون توضيح مبرراته في عقاب أي فرد أو الثناء عليه، ويتعامل مع أفراد التجربة بلطف، ولكن بطريقة فيها كثير من التعالي. 
ثانياً: الأسلوب الاستشاري الذي يمكن تسميته بالأسلوب الديمقراطي، في هذه الحالة تضمن سلوك المدير مناقشة المشاريع أو الواجبات الممكنة أو المحتملة مع المشاركين في التجربة، وكان كل مشارك يختار من يريد أن يعاونه في إنجاز الواجبات، وهو الذي يتخذ قرارات العمل دون الرجوع للمدير، وكان المدير يشارك في النشاطات الاجتماعية. 
ثالثاً: الأسلوب الثالث الفوضوي والذي يمكن تسميته بغياب السلطة أو الإدارة المهملة جداً، إذ تضمن سلوك هذا المدير السماح للمشاركين بأن يفعلوا ما يريدون، ولا يقدم لهم المساعدة إلا إذا طلبوها، ولم يوجه للمشاركين في التجربة أي ثناء أو عقاب.
وكانت عينة الدراسة من طلبة المدارس الذين يبلغون العاشرة من العمر، ويشاركون في نشاطات النوادي المدرسية بعد انتهاء اليوم الدراسي، وكان النادي الذي ينتمي إليه المشاركون في التجربة متخصصاً بتصميم النماذج Mode Making. 
وأظهرت التجربة أن الأطفال الذين كانوا يعملون مع المدير الفردي أصبحوا أكثر عدوانية إزاء بعضهم البعض عند وقوع أي خطأ، وكانوا يظهرون الولاء والخضوع عند تعاملهم مع المدير بغية جذب انتباه، وعند خروج المشرف أو المدير من الغرفة كانوا يتركون العمل ويصبحون لا مبالين أو يعطلون عمل الآخرين. 
أما المجموعة التي كان يشرف عليها مدير ديمقراطي؛ فكانت إنتاجيتها أقل بقليل من إنتاجية المجموعة التي كان يشرف عليها مدير فردي، فكانت العلاقات المتبادلة بين الأطفال فيها أفضل بكثير، إذ كانوا يميلون إلى بعضهم البعض بدرجة كبيرة، وكان اتصالهم بالمدير يدور حول مشكلات تصميم النماذج، وعند ترك المدير الغرفة لم يكونوا يتوقفون عن العمل، وعند وقوع أي خطأ في العمل كانوا يتعاونون للتغلب عليه معتمدين على أنفسهم.
أما المجموعة التي أشرف عليها مدير فوضوي أو غير مبال؛ فقد أصبح أعضاؤها أكثر عدائية إزاء بعضهم البعض، وكانت كمية العمل المنجز قليلة جداً، بغض النظر عن وجود المدير أو عدمه، وعند ظهور أخطاء أو صعوبات في العمل، كان من السهولة بمكان أن يشعر التلاميذ بالإحباط، والتوقف عن المحاولة والعمل. 
واستنتج ليفين، وليبيت، وهوايت من هذه الدراسة أن أسلوب الإدارة هو العامل الحاسم في سلوك التلاميذ أثناء التجربة. 

 

نافذة (14) 
العجز المتعلم Learned Helpessness
يبدو أن شعور المرء بالعجز أو بالقدرة، هو أمر متعلم، فمشاعرنا نحو أنفسنا ومعلوماتنا عنها تعتمد على ما يقوله الآخرون لنا عن أنفسنا، فمثلاً، إذا كررت الأم على مسامع طفلها أنه يستطيع الدفاع عن نفسه، وإذا ألحقت ذلك بتدريبه على المهارات المناسبة، فأغلب الظن أنه سيشعر دائماً بقدرته على الدفاع عن نفسه.
وفي سياق دراسة هذه الظاهرة السلوكية تجريبياً، يبدو أن سيلجمان ومالر Seligman & Maler (1967) هما أول من درس هذه الظاهرة لدى الكبار وأعطياها اسمها المعروفة به في الكتابات السيكولوجية، ويمكن تلخيص ترجيبتهم على النحو التالي: تم تعريض مجموعة تجريبية من الكلاب المقيدة لصدمات كهربائية، أما المجموعة الضابطة من الكلاب، فلم يتم تعريضها لصدمات كهربائية، وضعت المجموعتان في اليوم التالي في غرفة مصممة خصيصاً ليكون جانب منها مكاناً تتعرض فيه الكلاب لصدمات كهربائية مؤلمة، ولكي تتجنب الكلاب الصدمات الكهربائية كان عليها أن تنتقل إلى الجانب الآخر من الغرفة، وذلك يتطلب القفز فوق حاجز خلال فترة 10 ثوان بعد ظهور إنذار بأن الصدمة الكهربائية قادمة لا محالة. أما الكلاب التي تعجز عن القفز خلال الفترة التي تلي ظهور الإنذار فكانت تتعرض لصدمة كهربائية مؤلمة. 
أظهرت نتائج التجربة أن ثلثي كلاب المجموعة التجريبية لم تتعلم تجنب الصدمة الكهربائية مقارنة بكلاب المجموعة الضابطة، بل كانت تستقبلها بسلبية وهي مستلقية؛ أي أنها لم تتمكن من تعلم سلوك تجنب الصدمة الكهربائية رغم أن الفرصة مواتية. وتوصل هيروتو Hiroto (1974) إلى نتائج مماثلة، ولكن على مجموعة من الرجال، إذ كانت النتيجة أن اكتسب أفراد العينة التجريبية مشاعر اليأس وعدم جدوى مواصلة المحاولة. 
وتجيب نتائج هذه التجربة عن أسئلة كثيراً ما يطرحها المدير الاستبدادي وبصفة خاصة بعد أن تؤدي إجراءاته وقراراته إلى كوارث. ويطرح المدير الاستبدادي هذه الأسئلة لتبئرة نفسه. ومن هذه الأسئلة: 
- لماذا لم يتقدم أحد من أعضاء اللجنة التنفيذية باقتراحات بديلة؟ 
- لماذا لم يعط أي منهم معلومات كان يمكن أن تساعد في تجنب الكارثة؟
- لماذا لم يجرؤ أي منهم على الاعتراض؟
- لماذا لم ينتقدوا في ذلك الوقت؟ 
- ألا يوجد بينهم رجال؟ 
التجربة السابقة وغايرها تعطي إجابة واضحة لا غموض فيها، فلابد من أن كل واحد من أعضاء اللجنة التنفيذية أو أعضاء مجلس الإدارة قد تعلم أن سلوك الصمت (العجز) وعدم القدرة على التفكير النقدي هو السلوك المناسب والصحيح عند الجماعة ومديرها، وربما رغب المدير مخلصاً في لحظة معينة في الاستزادة من المشورة، لكن أعضاء الجماعة، سبق وتعلموا أن سلوك الصمت أو العجز هو الأفضل والأصح، لأنه يبقى المدير مسروراً. 
أما لماذا لم يعترض أحد على الإطلاق، فيبدو أن ذلك يعود إلى ماضي المؤسسة، ولابد أن من كان لديه استعداد للاعتراض، أو تقديم الاقتراحات المغايرة قد فعل ذلك في الماضي، فإذا كانت نتيجة ممارسة التفكير النقدي مؤلمة لمن أظهر السلوك النقدي مثل استبعاده من عضوية الجماعة أو حرمانه من ميزات معينة أو تعريضه لضغوط شديدة، فإن النتيجة ستكون سيئة جداً على الجماعة. وهكذا تدريجياً تخلو الجماعة من الأعضاء القادرين على ممارسة التفكير النقدي، وتقديم اقتراحات ومعلومات تجعل القرار أكثر صواباً، والنتيجة المنطقية لكل ذلك هو أن يحظى بعضوية اللجنة فقط الأعضاء الذين لا يرغبون في إزعاج المدير بنقده أو تقديم معلومات قد تسره. 


الخلاصة: 
1- علم النفس الاجتماعي فرع من فروع علم النفس يدرس جوانب معينة من تأثير وجود الآخر أو الجماعة في الفرد، تشكل المعرفة الاجتماعية مساحة من اهتمامات هذا العلم، تركز على كيف يدرك الناس عالمهم الاجتماعي وكيف يخزنون ويتذكرون ويستخدمون المعلومات المخزونة لديهم. 
2- يؤثر الآخر في سلوك الفرد ويتأثر سلوك الفرد بوجود فعلي أو متخيل للآخر. 
3- تبدأ العلاقات أو التفاعلات الاجتماعية بتكوين الانطباع عن الآخر أو عن الآخرين، وافتراض وجود أسباب كامنة وراء سلوكه أو سلوكهم (العزو) وأخيراً نكون الميول أو الاتجاهات نحو الآخر أو الآخرين. 
4- الفروق في الانطباعات المتكونة لدى الأفراد عن الآخر تتأثر بخصائص المشاهد، وخصائص الممثل (المرسل) وأهمها المظهر والكلام من ناحيتي الأسلوب والمضمون والتعبير غير اللفظي أي الجسدي. 
5- الإغلاق أو إكمال الشكل الناقص مبدأ من مبادئ الإدراك يمكن أن ينتج عنه افتراض وجود أسباب محددة تكمن خلف السلوك.
6- الأخطاء الشائعة في العزو ترد إلى تحيز الممثل (المشاهد)، وأثر الهالة، وتحيز التماثل.
7- تتكون اتجاهات الفرد أو ميوله من ثلاثة مكونات هي الجانب الانفعالي (المرح والسرور والفزع أو الغضب والكراهية والانزعاج). والجانب المعرفي ويتمثل في الاعتقاد في المعلومات التي يعرفها الفرد عن موضوع الاتجاه، وأخيراً الجانب السلوكي الناتج عن المكونين الأولين، يمكن قياس الميول أو الاتجاهات باختبارات معدة لهذا الغرض.
8- تنشأ الميول أو الاتجاهات وتستمر طبقاً لمبادئ نظريات التعلم السلوكية والمعرفية ويمكن تغيير الميول أو الاتجاهات بفعل قوانين التعلم أيضاً.
9- الصداقة والعلاقات الحميمة (التجاذب الشخص) تنشأ عن انتماء الفرد إلى جماعة "التشابه، وتكرار المشاهدة، والألفة وتكامل الحاجات والجاذبية المظهرية، ويقدم علماء علم النفس الاجتماعي عدداً من النظريات لتفسير ظاهرة الصداقة الحميمة من أهمها "نظرية التقيد بالمعايير، ونظرية المراحل والعتبات". 
10- الإيثار: اهتم الباحثون في هذا العلم بسلوك المساعدة من حيث قرار تقديم المساعدة، أو قرار عدم تقديمها، التخلي عن المسؤولية، أو تحملها، نموذج سلوك المساعدة، المشاركة ونظرية العدالة، والحالة المزاجية والمساعدة، وخصائص الضحية وخصائص المساعد وطريقة طلب المساعدة.
11- العدوان سلوك آخر اهتم به الباحثون في علم النفس الاجتماعي في محاولة لفهم هذا السلوك ومعالجته فنشأت نظريات عديدة منها: نظرية الغرائز، نظرية الإحباط – العدوان، نظرية التعلم بالتقليد والملاحظة.
12- التأثير والنفوذ الاجتماعي درس هذا الموضوع تحت مساحة ديناميات الجماعة حيث يركز على فهم العمليات التي تدور داخل الجماعة وتؤثر على قراراتها. لماذا يسعى الناس لعضوية الجماعة؟ وكيف يتأثرون بالعضوية؟ وهل يلتزمون بمعايير معينة تطورها الجماعة؟ وكيف تتم عملية اتخاذ القرارات؟ تمت دراسات العديد من العمليات تحت هذه المساحة منها: تكوين معايير الجماعة (العقد الاجتماعي) الطاعة، الامتثال والانسياق (أي أغلبية جماعة الأصدقاء)، والاستقطاب داخل الجماعة، وأخيراً عرض تفكير الجماعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المرجع: محمد عودة الريماوي وآخرون، ،( كتاب: علم النفس العام)، من إصدار دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، الأردن ، عمان، الطبعة الثانية لعام 2006م / 1426هـ

تحميل محتوى الصفحة رجوع