أولاً: مفهوم الذاكرة وتعريفها:
يعاني الكثير من الناس من صعوبات في التذكر خلال مواقف الحياة المختلفة، فقد يفشل البعض في تذكر معلومات هامة كرقم هاتف لصديق عزيز، أو تاريخ ميلاد، أو معلومة درسها الطالب في أحد المساقات، مما يضع الفرد في موقف توتر وحرج كبير، والذاكرة نعمة من الله تعالى تسهل لخلقة التكيف مع مواقف الحياة، وتوفر الكثير من الوقت والجهد في التعامل مع مثيرات البيئة القديمة والجديدة مما يجعل التعلم سهلاً وممكناً، ويحقق للفرد فائدة كبيرة من خلال الاستفادة من الخبرات والبنى المعرفية السابقة لتوظيف في فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.
تعريف الذاكرة: يعد مفهوم الذاكرة من المفاهيم التي يصعب تعريفها لأننا نصف عملية معرفية معقدة ترتبط بعمليات الانتباه والإدراك والتخزين والاستجابة وغيرها، مما يعكس وجهات نظر عديدة حول تركيب الذاكرة وعلاقتها باتجاه معالجة المعلومات وغيرها، فقد عرفها سولسو (Solso, 1988) على أنها دراسة مكونات عملية التذكر والعمليات المعرفية التي ترتبط بوظائف هذه المكونات، وعرفها سانتروك (Santrock, 2003) على أنها عملية الاحتفاظ بالمعلومات عبر الزمن من خلال ترميزها وتخزينها واسترجاعها، كما عرفها ستينبرغ (Stenberg, 2003) على أنها العملية التي يتم من خلالها استدعاء معلومات الماضي لاستخدامها في الحاضر، أما أندرسون (Anderson, 1995) فعرفها على أنها دراسة عمليات استقبال المعلومات والاحتفاظ بها واستدعائها عند الحاجة.
ورغم تباين هذه التعريفات، إلا أن الباحثين يجمعون على أن تعريف للذاكرة يجب أن يشمل جميع العمليات المعرفية ابتداء من استقبال المعلومات حتى الاستجابة المعرفية، وفي كل الظروف فقد اتفق علماء النفس على أن دراسة الذاكرة ترتبط بثلاث عمليات أساسية وهي (Santock, 2003; Davis and Palladino, 2004; Eysenck, 2000):
1- الترميز (Encoding): إعطاء المعاني للمثيرات الحسية الجديدة من خلال عمليات التسميع والتكرار والتنظيم والتلخيص وغيرها ليضمن وصول المعلومات إلى الذاكرة الطويلة المدى.
2- التخزين أو الاحتفاظ (Storage): نظام للتخزين المؤقت في الذاكرة القصيرة المدى وآخر دائم في الذاكرة الطويلة المدى تجعل المعلومات جاهزة ومنظمة للاستخدام وقت الحاجة.
3- الاسترجاع (Retrieval): وتتمثل في ممارسة استدعاء أو استرجاع المعلومات والخبرات السابقة التي تم ترميزها وتخزينها في الذاكرة الطويلة المدى.
تفكير ناقد (1) |
ما هي أهمية الذاكرة في حياتك؟ تخيل كيف ستكون حياتك بدون ذاكرة؟ |
ثانياً: قياس الذاكرة:
لقد كان لتجارب ابنكهاوس (Ebinghouse) في تذكر مقاطع من الكلمات عديمة المعنى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أكبر الأثر في توجيه الاهتمام إلى قياس الذاكرة بأشكالها المختلفة. وقد اهتم ابنكهاوس بقياس القدرة على تذكر أكبر عدد من المقاطع عديمة المعنى وتكرارها بدون أخطاء (قياس الاسترجاع)، كما اهتم بقياس قدرة الأفراد على تذكر مجموعة من المقاطع بعد مرور فترات زمنية معينة (قياس الاحتفاظ).
وتحدث ابنكهاوس عن "منحنى النسيان" حيث أكد أن القدرة على التذكر والاسترجاع تقل مع مرور الزمن مشيراً إلى أننا ننسى المعلومات التي يتم معالجتها كلما تركت لفترة طويلة من الزمن بدون استرجاع أو معالجة.
واستناداً إلى دراسات ابنكهاوس ومن تبعه من المهتمين بقياس الذاكرة، فقد تم تحديد ثلاثة أشكال للذاكرة يمكن التعرف عليها وقياسها وهي:
1- الاسترجاع (Recall): ويتمثل الاسترجاع في تذكر الأحداث والخبرات التي تعلمها الفرد في السابق حيث يتم ذلك دون الحاجة إلى وجود المثيرات أو المواقف التي أدت إلى حدوث التعلم والتخزين. والاسترجاع هو بحث عن المعلومات في خزانات الذاكرة واستعادتها، وهو عادة ما ينطوي على استعادة الصور والألفاظ والأرقام والأسماء والتواريخ والقوانين والأصوات وغيرها من أشكال المعرفة المختلفة.
للذاكرة ثلاثة أشكال هي: الاسترجاع، التعرف، والاحتفاظ
2- التعرف (Recognition): يعتبر التعرف أحد أشكال الذاكرة وهو أسهل من الاسترجاع حيث تعتمد قدرة التعرف على وجود المثير الذي تم تعلمه في الماضي بين عدة مثيرات، والتعرف كما يصفه العديد من علماء النفس هو شعور بأن ما يراه الفرد أو يسمعه في الحاضر هو جزء من خبرة سابقة تكونت في الماضي، وخير مثال على التعرف هو استخدام اختبار الاختيار من متعدد حيث يقدم المثير (العبارة) ويليها عدد من البدائل التي تفسر المثير أو ترتبط معه، ويتم التعرف عندما يقارن الفرد بدائل المثير مع ما هو مخزن في خبرة الفرد أو ذاكرته لمطابقة أحد البدائل مع مادة الذاكرة، أو بلغة أخرى، التعرف على البديل الصحيح من خلال المطابقة مع ذاكرة الإنسان.
3- الاحتفاظ (Retention): الاحتفاظ أو كما يسمى "إعادة التعلم" أو "درجة الوفر" يشير إلى أن المعلومات التي تعلمها الفرد في الماضي تصبح قابلة للنسيان بعد فترة من الزمن وخصوصاً مع غياب التدريب والتعزيز، ومع ذلك فإن تدني الاسترجاع أو التعرف لا يعني أن المعلومات قد تم نيسيانها أو فقدانها بالكامل من الذاكرة، ولذلك فإن إعادة التعلم بعد فترة من الزمن تستغرق وقتاً وجهداً أقل مما استغرقته في المرة الأولى للتعلم مما يشير إلى وفر في التعلم والذاكرة ويتوقع أن يؤدي إلى انخفاض كمية الجهد والوقت اللازم للتعلم اللاحق.
حدود الذاكرة:
تتأثر دقة الذاكرة وكمالها بعدد كبير من العوامل يمكن تلخيص أهمها في الجدول التالي (Davis & Palladino, 2004):
جدول العوامل المؤثرة في الذاكرة:
العامل | التأثير |
الحالة النفسية والانفعالية للفرد خلال استقبال المثيرات أو استرجاعها | انخفاض في درجة كمال ودقة الذاكرة |
تقييم الفرد لمادة الذاكرة من حيث أهميتها الشخصية أو انسجامها مع أفكاره واتجاهاته | فكلما زادت هذه الأهمية وزاد الانسجام، كلما سهل على الفرد تذكر المادة وزاد كمال ودقة الذاكرة |
درجة الثقة بالمادة المراد استرجاعها | كلما زادت درجة الثقة، زادت الدقة والكمال في التذكر. |
مدى فعالية آليات واستراتيجيات المعالجة المعرفية أثناء الترميز والتحليل والتفسير | كلما كانت هذه الاستراتيجيات أكثر فعالية، كلما زاد كمال ودقة الذاكرة. |
زيادة عدد مواقف التعلم أو كثرة المثيرات | كلما قل عدد هذه المواقف، كلما زاد كمال ودقة الذاكرة |
توزيع فترات التدريب والمعالجة | كلما توزعت فترات التدريب والمعالجة، كلما زاد كمال ودقة الذاكرة |
درجة التشابه بين المثيرات | كلما قلت درجة التشابه بين المثيرات، كلما زاد كمال ودقة الذاكرة |
موقع المادة الهامة من الموقف أو المثير. | كلما وضعت المادة الهامة في بداية المثير أو نهايته، كلما زاد كمال ودقة الذاكرة |
نشاط (1) |
فكر في شيء تراه كل يوم في بيتك من مثل ساعة المنبه والمكان الموضوعة فيه، اكتب وأنت خارج البيت تفاصيل هذا الشيء، قارن بين ما كتبته والواقع الحقيقي لذلك الشيء، حاول أن تفسر الفروق إن وجدت. |
ثالثاً: أنماط الذاكرة:
تحدث علماء النفس عن ثلاثة أنماط للذاكرة تمثل ثلاثة نظم في تخزين المعلومات وهذه الأنماط هي: الذاكرة الحسية، والذاكرة القصيرة المدى والذاكرة الطويلة المدى (Anderson, 1995; Strenberg, 2003; Shanks, 1997) واعتبر اتكنسون وشيفرن Atkinson and Shiffrin (1971) هذه الأنماط الثلاثة في الذاكرة مكونات منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض، حيث تدخل المعلومات الحواس ثم تخزن للمرة الأولى في الذاكرة الحسية لأقل من ثانية ثم تنتقل إلى الذاكرة القصيرة حيث تتم المعالجة المعرفية للمعلومات لمدة قصيرة ثم تصل المعلومات إلى الذاكرة الطويلة المدى لتخزينها لوقت الحاجة.
1- الذاكرة الحسية (Sensory Memory): يزودنا العالم من حولنا بآلاف المثيرات التي تتعلق بالصوت والصورة واللمس والشم والذوق والتي تقوم الحواس والجهاز العصبي الطرفي بدورها الآلي في نقل هذه المعلومات إلى الذاكرة الحسية التي تخزن لمدة ثانية يتم فيها استعراض تلك المعلومات وفلترتها وترتيبها حتى يتم نقلها إلى الذاكرة قصيرة المدى. (Nunley, 2003)
الذاكرة الحسية تستقبل المثيرات الحسية لمدة ثانية واحدة وهي من وظائف الدماغ الخلقي.
وتعرف الذاكرة الحسية بالمخزن أو المسجل الحسي (Sensory Register)، فلو طلبت من مجموعة من الطلبة أن يراقبوا ضوء المصباح الكهربائي لمدة عشر ثوان، ثم طلبت منهم إغلاق أعينهم بسرعة، فإنهم سيستمرون برؤية ضوء المصباح الكهربائي لفترة وجيزة من الوقت ثم تختفي الصورة البعدية (After Image) من المسجل الحسي.
ويمكن تلخيص أهم خصائص الذاكرة الحسية بالتالية:
أ- تنظيم تمرير المعلومات بين الحواس والذاكرة القصيرة المدى حيث تسمح بنقل حوالي 4 – 5 وحدات معرفية في الوقت الواحد، علماً بأن الوحدة المعرفية قد تكون كلمة أو حرفاً أو جملة أو صورة.
ب- تخزين المثيرات لمدة قصيرة من الزمن لا تتجاوز الثانية بعد زوال المثير.
ج- نقل صور حقيقة عن العالم الخارجي بدرجة من الدقة عن طريق الحواس.
د- استعراض المعلومات وفلترتها وترميمها.
2- الذاكرة القصيرة المدى (Short – Term Memory): تحتل الذاكرة القصيرة المدى مكانة متوسطة بين أنماط الذاكرة الحسية والطويلة المدى حيث تستقبل معلوماتها إما من الذاكرة الحسية أو من خلال الذاكرة الطويلة المدى عندما تحتاج الذاكرة القصيرة المدى إلى المعلومات الإضافية والخبرات السابقة لممارسة عمليات الترميز والتحليل للمعلومات الجديدة كما تم توضيحه في الشكل (8 : 4).
وسميت الذاكرة القصيرة بهذا الاسم لأنها تحتفظ بالمعلومات لفترة قصيرة لا تتجاوز (18) ثانية قبل استبدالها بمعلومات أخرى. وعرفت الذاكرة القصيرة بمسميات أخرى كالذاكرة الفاعلة والذاكرة العاملة واللتان تصفان طبيعة عمل هذه الذاكرة حيث أنها الذاكرة الوحيدة التي تقوم بمعالجات معرفية بصورة مستمرة من ترميز وتحليل وتفسير حتى تصبح المعلومات بقالب يسمح بتخزينها في الذاكرة الطويلة المدى أو الاستجابة الفورية عليها.
ويمكن إيجاز أهم الخصائص التي تميز الذاكرة قصيرة المدى بالآتية:
أ- مدة الاحتفاظ بالمعلومات محدودة، حيث تبقى لفترة 15 – 18 ثانية ما لم يتم تكرارها أو معالجتها فتصبح الفترة معتمدة على طول فترة المعالجة.
ب- الطاقة التخزينية للذاكرة قصيرة المدى محدودة فقدرها ميللر (Miller, 1956) بحوالي ما بين 5 – 9 وحدات معرفية.
ج- إذا مرت الفترة الزمنية (18 ثانية) على وصول مثير للذاكرة القصيرة، ولم يتم معالجته أو تكراره أو التدريب عليه، فإنه سيتم نسيانه، فإذا استخرجت رقم هاتف صديقك من دليل الهاتف لتتصل به، وفي طريقك للهاتف دق جرس الباب وأجبته، فإن رقم صديقك على الأغلب أصبح في مدار النسيان بعد الانتهاء من إجابتك لقارع الجرس.
تتولى الذاكرة القصيرة المدى عملية معالجة المعلومات.
د- إن حدوث أية مشتتات للانتباه خلال معالجة المعلومات في الذاكرة القصيرة المدى يؤدي إلى إضعاف احتمالية معالجة المعلومات وتخزينها في الذاكرة وبالتالي يضعف احتمالية تذكرها لاحقاً.
هـ- إن سرعة توالي دخول معلومات جديدة إلى الذاكرة القصيرة المدى يجبر المعلومات القديمة على الخروج (مفهوم الاستبدال) مما يعني أنها فقدت أو تم معالجتها بسرعة عالية اعتماداً على القدرات الفردية للمعالج قبل انتقالها إلى الذاكرة الطويل المدى.
ويرتبط نمط الذاكرة القصيرة المدى بمفهوم التكرار والتسميع حيث يمكن للذاكرة القصيرة إبقاء المعلومات لفترة أطول من 18 ثانية إذا عمل الفرد على تكرارها أو تسميعها، ويمكن للتكرار أن يأخذ شكل التسميع البصري (القراءة الصامتة) أو التسميع الصوتي (القراءة الجهرية)، وكلاهما يساعدان على زيادة التذكر وإطالة إبقاء المعلومات لفترات زمنية طويلة تسمح بإحداث المعالجة اللازمة للمثيرات كما يفعل الأطفال أحياناً لتذكر قائمة المشتريات عند ذهابهم إلى الدكان المجاور.
ترتبط الذاكرة قصيرة المدى باستراتيجيات التكرار والتسميع والتجميع والترميز.
كما يرتبط بنمط الذاكرة القصيرة المدى مفهوم أو استراتيجية التجميع (Chunking) وهي طريقة تساعد على تقليل عدد الوحدات المعرفية لتصبح ضمن إطار الطاقة التخزينية للذاكرة القصيرة (7 وحدات).
فعند التعامل مع أكثر من سبعة وحدات من المعلومات يمكن تجميعها أو دمجها مع بعضها البعض ليقل عددها، ويراعي عند الدمج أو الجمع أن يصبح هنالك دلالة للوحدة الجديدة سواء أكانت واقعية أم رمزية للفرد الذي يمارس التجميع، كأن يرتبط الدمج بحدث هام أو تاريخ مهم وما شابه.
نشاط (2) |
حاول أن تدرس الأشكال الهندسية والأرقام الدالة عليها في الشكل أدناه ولمدة دقيقتين فقط ثم حاول تذكر كل شكل من الأشكال التسعة والرقم الدال على هذا الشكل. |
إن معظم الناس سوف يواجهون صعوبات في تذكر الأشكال الهندسية وفق أرقامها وقد ينجحون في بعضها وليس كلها. ولو حاولنا الاستفادة من استراتيجية التجميع، لوجدنا أن جميع الأشكال الهندسية التسعة مع أرقامها ممثلة في شكل هندسي واحد وهو رسمة لعبة (X - O ) أي أنه تم تجميع الوحدات التسعة في وحدة واحدة، وما عليك إلا تذكر لوحة لعبة (X – O) لتتذكر الأشكال التسعة والأرقام المرتبطة بكل شكل فرعي متضمن في الشكل أدناه.
ترميز المعلومات في الذاكرة القصيرة المدى:
يتم ترميز المعلومات في الذاكرة القصيرة المدى بثلاث طرق وهي (Myers, 2004):
1- الترميز الصوتي (Acoustic Coding): يعتمد غالبية الناس على طريقة ترميز المثيرات – حتى البصرية منها – بطريقة صوتية وذلك وفقاً لمنطوق الكلمات أو الأعداد أو الرموز أو الأصوات الناتجة عنها، فمعظمنا يتذكر الطيور أو الحيوانات بأصواتها، لا بل يلجأ الكثير من معلمي المراحل التعليمية الأولى إلى تعليم الأطفال أصوات الحيوانات وغيرها.
2- الترميز البصري (Visual Coding): يميل بعض الناس إلى ترميز المعلومات وفقاً لشكلها بحيث تمثل المعلومات بسلاسل من الصور التي تحدد المثير، وهذا النوع من الترميز يفسر ما عرف بالذاكرة الفوتوغرافية (Photographic Memory) حيث يتميز به الناس دقيقو الملاحظة كرجال الأمن والعلماء الذين لديهم قدرة عالية على وصف التفاصيل بدقة متناهية عندما يتعرضون لمثل هذه الصور البصرية.
3- ترميز المعنى (Semantic Coding): ويمكن ترميز المثيرات حسب معانيها وليس بالضرورة صوتها أو صورتها، وترميز المعنى يختصر الوقت والجهد إلا أنه يتأثر بالذكاء والقدرات العامة والخاصة ذات العلاقة بالفرد. ومن طرق ترميز المعنى، على سبيل المثال، تصنيف المثيرات إلى فئات وفق أبعاد معينة كأن تصنف الحيوانات إلى فقارية ولافقارية وفي ضوء الحجم والشكل واللون، ويعتمد المعاقون سمعياً على ترميز المعنى أكثر من ترميز الصور لأن الصور لوحدها في غياب الصوت غير كافية لتحقيق الفهم.
استرجاع المعلومات من الذاكرة القصيرة المدى:
تساءل ستيرنبرغ (Stenberg, 2003) عن إمكانية استرجاع المعلومات من الذاكرة القصيرة المدى، ويشير إلى عدد من الدراسات التي حاولت قياس ذلك من خلال ما عرف بمسح محتويات الذاكرة القصيرة المدى (Scanning Short Term Memory) ولجأت هذه الدراسات إلى عرض قوائم من الأرقام أو الكلمات تراوحت ما بين (1 – 6) عناصر من خلال شاشة العرض، ثم يتم التوقف لوقت قصير (بضعة ثواني أو دقائق) ويسأل المفحوص ما إذا كان أحد هذه العناصر من ضمن المجموعة التي تم دراستها، كأن تعرض الأرقام (6، 3، 8، 2، 7) ثم يتم السؤال حول الرقم (8) إذا كان ضمن هذه القائمة أم لا، ويشير ستيرنبرغ إلى أن عملية المعالجة المتسلسلة (Serial Processing) للمعلومات هي عملية شاقة لأن الفرد سيقارن الرقم 8 مع جميع الأرقام المتوفرة في الذاكرة القصيرة المدى حتى يصل إلى الجواب، كما أن الاسترجاع هي عملية خاصة بالذاكرة الطويلة المدى فقط لأن الاسترجاع من الذاكرة القصيرة المدى لا يلزمنا كثيراً في الحياة العملية كما هو الحال في الاسترجاع من الذاكرة الطويلة المدى.
نافذة (1) العبء المعرفي والذاكرة القصيرة المدى |
يشير هذا المصطلح إلى محدودية الذاكرة القصيرة المدى من حيث عدد الوحدات المعرفية التي تستطيع التعامل معها في وقت معين (السعة العقلية) والزمن المحدد الذي تبقى فيه المعلومات مخزنة بدون معالجة، ولذلك سعت النظريات المعرفية إلى البحث عن الوسائل والاستراتيجيات التي تعمل على تجاوز هذه المحدودية الكمية مثل استراتيجية التجميع، والتكرار، وتركيز الانتباه، والمخططات العقلية، والإيجاز (Cooper, 1998). |
الذاكرة القصيرة المدى أم الذاكرة العاملة:
تشير الدراسات الحديثة خلال العقد الماضي إلى أن دور الذاكرة القصيرة المدى يتعدى كونها خزان أو مرحلة أو نمط من أنماط الذاكرة يتصف بمحدودية السعة والزمن، لأنها الوحيدة التي يقوم بالعمليات المعرفية الفاعلة في نظام معالجة المعلومات وهي بذلك تشكل نظاماً متكاملاً في الذاكرة وخصوصاً في اتجاه معالجة المعلومات بشكل عام، فالذاكرة القصيرة المدى قادرة على زيادة سعتها ومدة معالجتها للمعلومات من خلال التدريب والتسميع والترميز، أو ببساطة تكرار المثير لفترات زمنية غير محددة. كما أن الذاكرة القصيرة المدى هي حلقة الوصل بين الذاكرة الحسية والطويلة المدى اللتين يمدانها بالمعلومات إما من البيئة الخارجية عن طريق الحواس أو من خلال الخبرات السابقة المخزنة في الذاكرة الطويلة المدى كما ذكر سابقاً. ومن هنا بدأ علماء النفس باستخدام مفهوم الذاكرة العاملة (Working Memory) كمفهوم بديل للذاكرة القصيرة المدى لأنه يعطيها معنى أدق وأكثر واقعية في ضوء وظائفها، وفي ضوء النظر إلى هذه الذاكرة كنظام متكامل.
الذاكرة العاملة مفهوم أكثر قبولاً من الذاكرة القصيرة المدى.
حدد بادلي ثلاثة مكونات أساسية للذاكرة العاملة: (Baddeley, 1999).
1- المنفذ المركزي (Central Executive): وهو المحرك الرئيس لعمليات الترميز والمحاكمات العقلية وفق قواعد الطاقة المحدودة للذاكرة.
2- حوض التسميع اللفظي (Articulatory Loop): وتعمل على تجميع المعلومات لفترة قصيرة من الزمن على هيئة لفظية أو صوتية من أجل تحقيق الإدراك اللفظي وإنتاج اللغة.
3- اللبادة البصرية الفراغية (Visio – Spaital Sketch Pad): وتتعلق بتحقيق الترميز للمعلومات البصرية والفراغية.
ويشير أندرسون (Anderson, 1995) تحت عنوان "صعود وسقوط نظرية الذاكرة القصيرة المدى، ص (171) إلى أنه بالرغم من أن مفهوم الذاكرة القصيرة المدى لا زال موجوداً في صفحات أي كتاب في علم النفس، إلا أنه لا أحد من علماء النفس المعرفي يقبله بخصائصه التقليدية ولا أحد يعطيه الدور الكبير في معالجة المعلومات أو فهم الذاكرة بخصائصه الضيقة، وبذلك فإن مفهوم الذاكرة العاملة أصبح بمثابة المفهوم الأكثر قبولاً من مفهوم الذاكرة القصيرة المدى.
تفكير ناقد (2) |
في ضوء معرفتك للعمليات التي تتم في الذاكرة الثلاثة هل تعتقد أن مصطلح الذاكرة العاملة يقتصر على الذاكرة القصيرة المدى فقط؟ |
3- الذاكرة الطويلة المدى (Long – Term Memory):
الذاكرة الطويلة المدى عبارة عن خزان يضم كماً هائلاً من المعلومات والخبرات التي اكتسبها الفرد عبر مراحل حياته المختلفة، ففيها ما يتعلق بالمعارف، والحقائق، والمشاعر، والصور، والأصوات، والاتجاهات، والقصص، والأحداث، والتواريخ، والأسماء، وغيرها. وهي ذات سعة غير محددة بكم معين من المعلومات، حيث لا يعقل أن يصل الفرد إلى مرحلة ما في حياته تصبح الذاكرة الطويلة المدى ممتلئة ولا تستطيع استقبال المزيد، والذاكرة الطويلة المدى غير محددة بزمن معين في التخزين حيث تبقى المعلومات مخزنة فيها ما دام الإنسان على قيد الحياة.
وتستمد الذاكرة الطويلة المدى معلوماتها من الذاكرة العاملة، كما تقوم الذاكرة الطويلة المدى بتزويد الذاكرة العاملة بالمعلومات عند الحاجة إليها لإتمام عمليات الترميز عند التعامل مع المثيرات الحسية الجديدة ولمساعدة الفرد في مواقف التفكير والتعلم وحل المشكلات.
وهناك نقاش كبير بين المهتمين حول وظيفة الذاكرة الطويلة المدى، فقد تساءل العلماء حول مدى اقتصار وظيفتها على حفظ المعلومات لوقت الحاجة أم أنها تقوم بعمليات المعالجة المعرفية مثل ما تقوم به الذاكرة العاملة، لقد أشار الجشتالتيون إلى أن المعلومات المخزنة في الذاكرة الطويلة المدى تتغير طبقاً لنموذج كيفي مع مرور الزمن فتصبح المعلومات غير الواضحة أو غير الكاملة أكثر وضوحاً وتنظيماً مما يعني القدرة على استدعائها بوقت أقصر. الذاكرة الطويلة المدى أكثر من خزان غير محدود السعة للمعلومات المعالجة إذ يتم فيها إعادة تمثيل المعلومات المعالجة لتصبح أكثر تنظيماً.
وتأكيداً لذلك، فقد عرض رايلي (Riley, 1975) مجموعة من الأشكال الغامضة وغير المتناسقة ثم طلب من المفحوصين إعادة رسمها بعد رؤيتها بثلاثين ثانية أو يوم أو أسبوع، وأشارت نتائج دراسته إلى أن هنالك تغييراً تقدمياً نحو الشكل الأفضل والأوضح مع زيادة الزمن، كما يشير علماء النفس المعرفي الجدد (Anderson, 1995; Bartlett, 1978) إلى أن الذاكرة العاملة هي المسؤولة عن الترميز، وأن معاني المثيرات لا تتغير في الذاكرة الطويلة المدى وإنما تميل إلى التنظيم بحيث تلعب الذاكرة الطويلة المدى دوراً في تمثيل هذه المعلومات وفق نظام يسمح باستدعاء المعلومات المتراكمة بصورة أكثر وضوحاً وتنظيماً مقارنة بما كانت عليه عند دخولها قبل التخزين طويل الأمد.
طبيعة الذاكرة الطويلة المدى:
قسم العلماء محتويات الذاكرة الطويلة المدى إلى نوعين من المعلومات هما: (Kosslyn and Rosenberg, 2004; Davis and Palladino, 2004; Eysenck, 2000؛ العتوم، 2004).
1- معلومات الذاكرة الإجرائية (Procedurual Memory): وتدور معلومات هذه الذاكرة حول المهارات الأدائية التي تعلمها الفرد من خلال الممارسة والخبرة، أو ببساطة كيف يقوم بأداء الأشياء المختلفة بطريقة وصفها البعض على أنها غير شعورية أي بدون وعي من الفرد خلال أداء المهمة الحركية، وخير مثال على ذلك المهارات التي تعلمتها ضمن لعبة كرة القدم كمهارة التعاون، والمراوغة، وتطويق الخصم، واللياقة البدنية للعبة، فجميع هذه المهارات تم تعلمها من خلال الممارسة والخبرات السابقة وتستطيع الآن ممارستها بدون الحاجة إلى الوعي أو الضبط المعرفي خلال اللعبة.
2- معلومات الذاكرة التقريرية (Declarative Memory): وتدور معلومات هذه الذاكرة حول الحقائق والمعارف التي تعلمها الفرد خلال مراحل حياته المختلفة، وتوصف هذه الذاكرة بأنها سهلة التعلم وسهلة النسيان لكثرة معلوماتها وتشعباتها المختلفة ولتأثرها بالممارسة والاستخدام، ويمكن تقسيم هذه الذاكرة إلى نوعين هما:
أ) ذاكرة الأحداث (Episodic Memory): وتحتوي على معلومات ذات صلة بالسيرة الذاتية للفرد وخبراته الماضية وفق تسلسل زمني ومكاني محدد، وخير مثال على ذلك ذكريات الفرد حول امتحان الثانوية العامة وما تبعها من إعلان للنتائج، وقبوله في الجامعة، وأول يوم في الجامعة.
ب) ذاكرة المعاني (Semantic Memory): وتمثل خلاصة معاني المعارف والحقائق والمعلومات عن العالم المحيط بنا كمعلوماتنا عن الطيور والأشجار وقوانين الهندسة ونظريات علم النفس وغيرها في بناء منظم.
تنظيم وتمثيل المعلومات في الذاكرة الطويلة المدى:
يقصد بتنظيم وتمثيل المعلومات عملية تحويل المثيرات والخبرات المختلفة إلى معاني وأفكار يمكن استيعابها وترميزها وتسكينها بطريقة منظمة لتصبح جزءاً من البنية المعرفية للفرد في الذاكرة الطويلة حيث يعاد تنظيم المعلومات وتمثيلها بطريقة ما تصبح فيها المعلومات جاهزة للاسترجاع وقت الحاجة، ويمكن تلخيص أهم الطرق التي تحدث عنها العلماء في تمثيل المعلومات بالطرق الآتية: (Anderson, 1995; Santrock, 2003; Eysenk, 2000, Stenberg, 2003؛ العتوم، 2004).
1- تمثيل المعلومات كما تم إدراكها بصرياً أي كما وردت من حواس الإنسان كصور عقلية أو ذهنية تنظم على شكل شريط كفلم الكاميرا.
2- تمثيل معاني المثيرات المختلفة سواء كانت المعلومة بصرية أو سمعية أو غيرها، وقد انبثق عن تمثيل المعاني طريقتان هما:
أ) تمثيل المعلومات وفق نماذج شبكات الترابطات Propostional Representation ويتم من خلالها تخزين المعلومات وفق شبكة ترابطية من المعلومات حسب مفاهيمها الأساسية وتحديد العلاقة بين هذه المفاهيم، وتستند هذه الطريقة إلى محاولة تمثيل معاني الصور والجمل في نظام مفاهيمي يمتاز بدرجة عالية من الترابط بحيث يشكل هذا الترابط بنية أو تركيب محدد وواضح بعد زوال المثيرات الأصلية، ونماذج الشبكة هي عبارة عن تنظيم افتراضي بين المفاهيم المختلفة في الذاكرة حيث ترتبط هذه المفاهيم مع بعضها البعض مع خلال عدد من الوصلات التي تفصل بين المفاهيم، فالشمس التي تتميز بالضوء والحرارة تمدنا بالدفء وقابلة الرؤية تشكل وحدة معرفية يمكن تمثيلها.
ب) تمثيل المعلومات من خلال نماذج المخططات العقلية (السكيما) Schemas: ويتم التمثيل وفق مخطط عقلي افتراضي يعكس فهماً عاماً لموقف أو شخص ما من خلال تصغير الخبرات في قالب يسمح بالتكيف والتعامل مع البيئة دون الحاجة إلى التعامل مع كم هائل من المعلومات وقت الاستجابة، وفي ضوء المخططات العقلية، فقد يكون للفرد توقعات حول الأحداث والأشخاص تساعدنا في التعامل والتكيف مع مثل هذه المثيرات كأن يكون لديك توقع حول شكل مكتب عضو هيئة التدريس في الجامعة من حيث الأثاث الفاخر واللوحات الفنية الجميلة مخالفاً بذلك تماماً واقع معظم مكاتب أعضاء هيئة التدريس.
نشاط (2) السكيما |
اقرأ النص التالي وحاول أن تفهم موضوع النص: التعليمات سهلة جداً، أولاً، افصل الأشياء إلى مجموعات حسب طبيعتها ولونها، ثم كون مجموعات صغيرة حسب لونها، لا تكون مجموعات كبيرة من الأشياء لأنه من الأفضل عمل مجموعات صغيرة في الوقت الواحد، وإلا فإنك سوف تسبب الكثير من المتاعب لنفسك، هذه التعليمات سهلة جداً وهي إجراءات روتينية نقوم بها دائماً في حياتنا اليومية. هل تستطيع أن تعرف موضوع هذه التعليمات؟ إذا فشلت في ذلك فإن السبب يعود إلى أنك تفتقر إلى المخطط العقلي الذي يرشدك إلى هذه العملية البسيطة وهي بالطبع عملية غسل الملابس. |
استرجاع المعلومات من الذاكرة الطويلة المدى: الاسترجاع هو عملية البحث عن المعلومات في مخزن الذاكرة الطويلة المدى وإعادتها إلى الذاكرة القصيرة المدى لتصبح استجابة ضمنية أو ظاهرة، كالاستجابة المكتوبة أو المنطوقة أو الحركية، والاسترجاع يمر بعدة مراحل هي (Stenberg, 2003):
1- مرحلة البحث عن المعلومات: يبدأ الفرد بالبحث عن المعلومات في الذاكرة الطويلة المدى من خلال:
أ) التحقق من وجود المعلومات أصلاً في الذاكرة الطويلة المدى.
ب) فحص المعلومات المتوفرة من حيث حجمها وزمانها ومكانها وعناصرها.
ج) تحديد المعلومات المطلوب استرجاعها.
2- مرحلة تجميع المعلومات المطلوبة وتنظيمها: إعادة تجميع المعلومات وتنظيمها بشكل يسهل التعامل معها وفهمها ولتصبح بصورة منطقية ومعقولة.
3- مرحلة الأداء (الاستجابة): وتظهر هنا الاستجابة الظاهرة أو الضمنية كالضغط على كبسة الكهرباء، أو السلوك الحركي أو قراءة بيت من الشعر وغيره، علماً بأن أوامر الاستجابة تصدر عن الذاكرة القصيرة المدى.
النافذة (2) على رأس لساني |
تحدث ظاهرة "على رأس لساني – Tip – of – The Tonguq Phenomenon عندما يواجه الناس بعض الصعوبات في التجميع والتنظيم نتيجة نقص عنصر أو عدم انتظام العناصر المكونة للموقف الذي يحاول الفرد تذكره فيبدو الفرد مشوشاً وقلقاً لأنه يدرك أنه قادر على التذكر ولكنه لا يستطيع القيام بذلك، وتتم هذه الظاهرة بضبط وتوجيه من الذاكرة القصيرة التي تستقبل العناصر المستعادة أولاً بأول من الذاكرة الطويلة استعداداً للاستجابة (Davis & Palladino, 2004). |
ويصنف بعض العلماء الاسترجاع إلى شكلين:
1- الاسترجاع التلقائي: وهو استرجاع شبه آلي لا يحتاج إلى جهد وزمن طويل كالتعرف على نغمة موسيقية أو أداء حركة رياضية معينة.
2- الاسترجاع المقصود: وهو الاسترجاع الذي يحتاج إلى الجهد والوقت كتذكر معلومات أو قوانين أو أسماء أو أرقام تعلمها الفرد في الماضي.
النافذة (3) تأثير تسلسل الموقع (Serial Position Effect) |
يشير مفهوم "تأثير تسلسل الموقع" إلى حدوث درجات متباينة في القدرة على الاسترجاع حسب موقع المعلومة من المثير، حيث يميل الناس إلى تذكر بداية المثير ونهايته بشكل أفضل من وسطه (Stenberg, 2003). |
خصائص الذاكرة الطويلة المدى: يمكن تلخيص أهم خصائص الذاكرة الطويلة بالآتية:
1- لا يوجد حدود لكمية المعلومات التي يمكن استيعابها في الذاكرة الطويلة.
2- لا يوجد حدود على الزمن الذي يمكن للذاكرة الطويلة المدى أن تحتفظ بالمعلومات لمدة زمنية ثابتة.
3- جميع المعلومات التي تصل إلى الذاكرة الطويلة المدى يتم تخزينها حتى لو فشلنا في استدعائها.
4- استرجاع المعلومات من الذاكرة الطويلة المدى يتأثر بعدة عوامل منها فعالية التركيز في الذاكرة القصيرة المدى، والحالة المزاجية للشخص عند الترميز أو الاسترجاع، ودرجة أهمية المعلومات للشخص، والسياق الذي تم فيه الترميز أو الاسترجاع.
5- الترميز الجيد للمعلومات في الذاكرة القصيرة المدى يوفر تلميحات ودلالات تساعد على تذكرها لاحقاً من الذاكرة الطويلة المدى.
قياس الذاكرة الطويلة المدى: هنالك عدة طرق تستطيع من خلالها قياس القدرة على استرجاع المعلومات من الذاكرة الطويلة المدى ومن هذه الطرق الاختبارات التي تقيس الاسترجاع الحر (Recall) أو التعرف (Recognition) أو الاحتفاظ التي تحدثنا عنها في بداية الفصل.
ويميز علماء النفس بين نوعين من المقاييس للذاكرة الطويلة المدى هما: (Stenberg, 2003; Eysenck, 2000; Myers, 2004; Santrock, 2003).
1- المقاييس الضمنية (Implict Measures): وتتطلب استرجاع معلومات من الذاكرة دون الوعي بحدوث عملية الاسترجاع مثل اختبارات تكملة الحروف الناقصة في الكلمة كأن تقدم كلمات ناقصة (شبا .... ح .... وان) وتطلب تكملة الكلمات، واختبارات التكرار المتداخل كأن تطلب من المفحوص تسمية ثلاثة أشهر هجرية متتالية من السنة.
2- المقاييس الصريحة (Explicit Measures): وتتطلب التذكر أو التعرف الواعي لمعلومات تم تعلمها في السابق، كأن تتطلب هذه الاختبارات من المفحوص وبشكل صريح ووعي تام تذكر معلومات تتعلق بتذكر تاريخ ميلاد شخص ما، أو تلاوة آيات من القرآن الكريم، أو التعرف على صورة معينة من عدد من الصور.
كما يميز ستيرنبرغ بين ستة أنواع من المهمات المستخدمة في قياس الذاكرة الطويلة المدى وهي: (Stenberg, 2003).
1- مهمات الذاكرة الصريحة (Explicit Memory Tasks): وتتطلب تذكراً واعياً لمعلومات محددة تعلمها في السابق كأن تسأل عن اسم الشاعر الذي كتب قصيدة معينة.
2- مهمات الذاكرة التقريرية (Declarative Knowledge Tasks): وتتطلب تذكر الحقائق والمبادئ التي تعلمها الفرد في السابق مثل السؤال عن تاريخ الميلاد.
3- مهمات الاسترجاع (Recall Tasks): وتتطلب تذكر الحقائق والكلمات والأرقام.
4- مهمات الاسترجاع التسلسلي (Serial Recall Tasks): وتتطلب تذكر عدد من المفردات أو الأرقام في قائمة ما. بنفس التسلسل الذي تم فيه التعلم السابق.
5- مهمات الاسترجاع الحر (Free Recall Tasks): وتتطلب تذكر عدد من الكلمات أو الأرقام بصورة غير مقيدة يترتب العناصر التي تم تعلمها.
6- مهمات الاسترجاع الثنائي (Cued or Paired Recall Tasks): وتتطلب تذكر أزواج من الكلمات أو الأرقام ثم تقدم للمفحوص كلمة أو رقماً واحداً فقط.
الذاكرة الطويلة المدى والدماغ: يشير ستيرنبرغ (Stenberg, 2003) إلى أن تتبع عمليات الذاكرة عبر الدماغ لا يزال غير واضح إلا أن الكثير من مناطق الوظائف المعرفية المتعلقة بالذاكرة أصبحت محددة، أما هذه المناطق فتشمل قرن أمون، الثلاموس، الهيبوثلاموس، والمخيخ، كما أنه يعتقد أن القشرة الدماغية تنظم عمل الذاكرة الطويلة وخصوصاً ما يتعلق بالمعلومات التقريرية (Declarative Information) كما تؤكد الدراسات أن مادة السرتونيون والاستيكولن يلعبان دوراً مهماً في وظائف الذاكرة، والشكل التالي يبين مناطق الدماغ وعلاقتهما بالذاكرة الطويلة المدى الشكل (8 : 9) مناطق الدماغ ذات العلاقة بأنواع الذاكرة طويلة المدى Santrock, 2003, P. 325 والذاكرة قصيرة المدى.
تفكير ناقد (3) |
إن أفضل طريقة للاسترجاع الأفضل تكرار تسميع ما في الذاكرة الطويلة المدى من معلومات. إن كنت توافق لماذا؟ وإن كنت لا توافق ما البدائل؟ |
رابعاً: اتجاه معالجة المعلومات:
لقد بدأ الاهتمام بنظرية معالجة المعلومات منذ الأربعينات من القرن الماضي عندما حاول علماء النفس فهم آليات عمل العمليات المعرفية من ترميز وتخزين واسترجاع، وقد اقترن اتجاه معالجة المعلومات (Information Processing Approach) بشكل واضح مع تطور نظم الحاسوب حيث تبلور هذا الاتجاه وبدأ العلماء بدراسة الخطوات والمراحل التي يتم من خلالها معالجة المعلومات وفق نظام معالجة يتسم بالتسلسل والتنظيم ويحاكي نظم معالجة المعلومات في الحاسوب، ولذلك فإن العديد من المهتمين يحاولون النظر إلى الإنسان على أنه يعمل كالحاسوب من حيث تكوين المعلومات ومعالجتها، وبلغة أخرى، يشترك الحاسوب والإنسان بوجود العمليات الأساسية الثلاث للذاكرة وهي الترميز والتخزين والاسترجاع (Davis and Palladino, 2004)
ويحدد ستيرنبرغ ثلاثة أشكال لمعالجة المعلومات من خلال ترميزها وتخزينها واسترجاعها وهي (Stenberg, 2003):
1- المعالجة المادية (Physical Processing): ويتم في هذا المستوى معالجة المثيرات البصرية فقط كالصور والمادة المكتوبة.
2- المعالجة السمعية (Acoustic Processing): ويتم في هذا المستوى معالجة المثيرات الصوتية المرتبطة بالحروف والكلمات المسموعة وإيقاعها فقط.
3- معالجة المعاني (Semantic Processing): ويتم في هذا المستوى معالجة معاني المثيرات البصرية والسمعية معاً.
والشكل التالي يوضح الأنشطة الرئيسية الثلاثة: الترميز، التخزين، الاسترجاع.
نافذة (4) الذكاء الاصطناعي |
الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) هو العلم الذي يهتم بتصميم أنظمة وبرامج حاسوبية تحاكي العمليات المعرفية البشرية وقادرة على محاكاة السلوك الإنساني كحل المشكلات واتخاذ القرارات بطريقة تشبه عمل العقل البشري، أما أهم موضوعاته ومجالاته فتمثل بناء الأجهزة الذكية والأنظمة الخبيرة والإنسان الآلي واللغات الطبيعية (Stenberg, 2003). |
مراحل معالجة المعلومات: بدأ علماء النفس يدركون أن تحديد نظام متكامل لمعالجة المعلومات يقتضي إدخال عمليات الإحساس، والانتباه، والإدراك، والتفكير، وغيرها إلى هذا النظام الشامل الذي يستطيع تفسير العمليات الداخلية ما بين حدوث المثير إلى حدوث الاستجابة بما في ذلك نظام الذاكرة، وبذلك فقد اعتبر علماء النفس المعرفي أن اتجاه معالجة المعلومات ينطوي على ثلاثة عمليات معرفية تحدث بشكل متسلسل وبتنظيم من الذاكرة العاملة، أما المرحلة الأولى فهي مرحلة الكشف الحسي حيث تأتي المثيرات من البيئة عن طريق الحواس، وفي المرحلة الثانية يتم التعرف على المثيرات الحسية من خلال ترميزها وتحليلها وفهمها وبمساعدة من الخبرات السابقة للفرد. وفي المرحلة الأخيرة، يتم تحديد أسلوب الاستجابة المناسبة في ضوء فهم المثيرات الحسية وربطها مع الخبرة السابقة للفرد لتتحول إلى استجابة معرفية ظاهرة أو ضمنية.
لقد قدم علماء النفس الكثير من التصورات حول نماذج معالجة المعلومات حيث حاول الكثير منها تفسير مكونات الذاكرة ووظائفها وموقعها بالنسبة لغيرها من العمليات المعرفية، وتحاول هذه النماذج تبسيط وتنظيم عمل الذاكرة ووضعها في نماذج تساعد في الكشف عن المكونات التي لم يتم تناولها بعد. وتظهر قيمة هذه النماذج من خلال نتائج الدراسات والبحوث المهتمة بها، والقيمة التنبؤية لهذه النماذج، ودقة التفسيرات التي تقدمها واتساقها أو تكاملها مع غيرها من المتغيرات ذات العلاقة في موضوع الذاكرة والإدراك والانتباه والإحساس.
الإحساس والانتباه والإدراك:
يرتبط نظام الذاكرة ومعالجة المعلومات بثلاث عمليات معرفية وهي الإحساس والانتباه والإدراك، ويحدث الإحساس عندما يستقبل أي جزء من أعضاء الحس كالعين أو الأذن أو الأنف أو اللسان أو الجلد مثيراً منبهاً مشيراً إلى حدوث شيء ما في البيئة الخارجية المحيطة بالإنسان، فالموجات الصوتية مثلاً موجودة حولنا بصورة شبه دائمة إما من المصادر التي نتحكم بها كصوت التلفزيون أو المذياع أو من المصادر الخارجية عن سيطرتنا كصوت أطفال الجيران وهم يلعبون أمام ساحة البيت أو عمال البناء في المبنى المجاور وغيرهم. هذه الموجات تنتقل في الفضاء إلى أن ترتطم بصيوان الأذن ثم تدخل إلى القناة السمعية عبر الطبلة إلى الأذن الوسطى فالأذن الداخلية، وهناك تقوم الأذن بنقل هذه المثيرات الصوتية على شكل نبضات عصبية إلى الدماغ عبر العصب السمعي، مما يدلل على أن الأذن، كبقية الحواس، تنقل فعلياً كل ما يصل إليها من مثيرات عديدة تحدث كل ثانية من حياتنا وتغرق الدماغ بهذا الكم الهائل من المثيرات السمعية.
وتشير عملية الانتباه إلى اختيار مثير من بين عدة مثيرات، لذلك فإن دورها يبدأ عند وصول هذا الكم الهائل من المثيرات إلى الدماغ ليقرر الفرد أي المثيرات يهتم بها أو يهملها ولا يتعامل معها، ويتفق جميع علماء النفس على أن الانتباه هي عملية معرفية تنطوي على تركيز الإدراك على مثير معين من بين عدة مثيرات من حولنا، ويؤكد ستيرنبرغ أن الانتباه هو القدرة على التعامل مع كميات محدودة من المعلومات منتقاة من كم هائل من المعلومات التي تزودنا بها الحواس أو الذاكرة، كما يشير علماء النفس أنه عندما نركز طاقاتنا العقلية خلال أداء مهمة ما، فإن سلوكنا الذي يتبع ذلك يصبح تحت ضبطنا ووعينا الكامل لأننا نقرر شعورياً أي المثيرات نركز عليها وأي المثيرات نهملها (Stenberg, 2003).
أشارت الدراسات إلى وجود ثلاثة أنواع من الانتباه وهي: (Anderson, 1995; Haberlandt, 1995).
1- الانتباه الإرادي الانتقائي: يتم تركيز الانتباه على مثير واحد من بين عدة مثيرات بشكل انتقائي وإرادي بسبب محدودية الطاقة العقلية ومحدودية سعة التخزين وسرعة المعالجة.
2- الانتباه اللاإرادي القسري: يركز الفرد انتباهه على مثير يفرض نفسه على الفرد بطريق قسرية ودون بذل جهد عال للاختيار بين المثيرات.
الانتباه الانتقائي التلقائي: الانتباه لمثير يشبع حاجات الفرد ودوافعه الذاتية حيث يركز الفرد انتباهه إلى مثير واحد من بين عدة مثيرات بيسر وسهولة تامة.
والإدراك هي العملية الثالثة التي تبدأ عملها بعد الانتباه، ليقوم الفرد بتحليل المثيرات القادمة وترميزها وتفسيرها في ذاكرة الفرد حتى تظهر الاستجابة، ويكاد يتفق علماء النفس على مفهوم واحد للإدراك وهو أنه محاولة فهم العالم من حولنا من خلال تفسير المعلومات القادمة من الحواس إلى الدماغ الإنساني، والفهم هنا ينطوي على التفسير والترميز والتحليل والتخزين والاستجابة الخارجية عند الحاجة.
وترتبط القدرة على الإدراك بقدرة الإنسان على تنظيم الإحساسات التي تزودنا بها الحواس، أو العملية التي يتم من خلالها تنسيق عمل الحواس وجعلها ذات معنى، وبناء على ذلك، فإن الإحساس هو المصدر الأساس الذي يغذي عمليات الإدراك بالإضافة إلى المعلومات المستقاة من الخبرات السابقة، وأن وظيفة الحواس هي نقل جميع التغيرات التي تحدث في البيئة ليقوم الدماغ بتحليلها وفهمها وتخزينها ضمن خبرة الفرد أو الاستجابة لها عند الحاجة.
لذلك يتضح أن هذه العمليات الثلاث مترابطة ومتسلسلة وتعتمد إحداها على عمل الأخرى وفق نظام للمعالجة يتسم بالنظام والتسلسل، وتبدأ هذه العمليات الإحساس ثم الانتباه ثم الإدراك حيث لا يعقل حدوث الانتباه بدون الإحساس (لا يوجد ما ننتبه له)، ولا يعقل الإدراك بدون الانتباه بسبب كثرة المثيرات التي يمكن أن تصل إلى دماغ الإنسان، كما لا يعقل حدوث الإدراك دون حدوث الإحساس لأنه لا يصل الدماغ ما يقوم الفرد بإدراكه.
نافذة (5) تشتت الانتباه والذاكرة |
إن الانتباه الانتقائي الإرادي يعرض الفرد إلى تشتت الانتباه لأنه يحتاج إلى طاقة وجهد عقلي كبير، ويتأثر بمحدودية نظم المعالجة في الذاكرة، ففي دراسة تشيري (Cherry) عام (1953) طلب من المفحوصين وضع سماعة على كل أذن والاستماع إلى رسالتين صوتيتين مختلفتين مع ضرورة التركيز على إحدى الرسالتين فقط في تكنيك سمعي عرف باسم (Dichotic Listening Procedure) وعند اختبار المفحوصين، فقد تمكنوا من الإجابة بدرجة جيدة للمعلومات التي سمعت في الأذن التي طلبت منهم التركيز عليها، بينما لم يجب المفحوصين عن أية معلومات من الأذن الأخرى سوى تحديد ما إذا كان مصدر الصوت لإنسان أم لا، وتحديد جنس صاحب مصدر الصوت، هذه النتيجة أدت إلى تطوير القناعة أن الإنسان يختار أن يسمع لأي مثير يشاء (الانتباه إرادي) وأن الانتباه يحدث في الحواس وكأن المفحوصين قد أغلقوا الأذن الأخرى ولم تصل المعلومات إلى الدماغ مؤكدين قابلية الفرد العالية لتشتت الانتباه، وفي دراسات لاحقة استخدمت نفس الإجراءات السابقة لدراسة تشيري، ولكنها طلبت من المفحوصين التركيز على رسالة عديمة المعنى مقابل رسالة أخرى ذات معنى للأذن الأخرى في تكنيك سمعي عرف باسم (Shadowing Technique) أكدت نتائج هذه الدراسات أن المفحوصين لم يستطيعوا الإجابة عن محتوى الرسالة عديمة المعنى رغم تركيزهم عليها، ولكنها استطاعوا الإجابة عن أسئلة المعنى من الرسالة الأخرى التي لم يتم التركيز عليها، ذلك يعني أن الانتباه لم يكن إرادياً، وأن المعلومات جميعها وصلت إلى دماغ الإنسان، وأن المعلومات تمت معالجتها بطريقة أو أخرى، وأن الانتباه يحدث في الدماغ مما يقلل من احتمالية تشتت الانتباه ويزيد من فعالية الذاكرة (Ellis and Hunt, 1993). |
خامساً: نماذج الذاكرة:
لقد وفر الأدب النظري في موضوع نماذج الذاكرة العديد من هذه النماذج، ولأغراض هذا الفصل سيتم تصنيف نماذج الذاكرة إلى نوعين (الزيات، 1998؛ الزيات، 1995؛ Stenberg, 2003) هما:
1- نماذج الذاكرة المنفصلة:
وتقوم نماذج الذاكرة المنفصلة على فكرة المخازن المتعددة، وتقدم تصوراً نظرياً منطقياً عن التراكيب أو الأبنية أو المكونات أو العمليات التي تكون نظام عمل الذاكرة، ويفترض هذا النظام أن تعطيل أحد هذه المكونات يعمل على تعطيل نظام الذاكرة بشكل عام، ومن الأمثلة على ذلك نموذج أتكنسون – شيفرن ونموذج تولفنج.
اقترح أتكنسون – شيفرن (Atkinson and Shfrin) هذا النموذج عام 1968 حيث يشير إلى أن الذاكرة تتكون من ثلاثة مخازن هي مخزن الذاكرة الحسية ومخزن الذاكرة القصيرة المدى ومخزن الذاكرة الطويلة المدى.
ويشير نموذج أتكنسون – شيفرن إلى أن المثيرات البيئية تدخل من خلال جميع الحواس حيث تخزن في الذاكرة الحسية لوقت قصير يتم بعدها إما نقل المعلومات الحسية إلى مخزن الذاكرة القصيرة المدى أو تتعرض للفقدان والنسيان، وفي الذاكرة القصيرة المدى تتعرض المعلومات الحسية إما إلى الترميز أو يتم فقدانها خلال 30 ثانية، فإذا ما تم ترميز المعلومات في الذاكرة القصيرة المدى، فإنها تنتقل إلى مخزن الذاكرة الطويلة المدى التي تستوعب كميات غير محددة من المعلومات لفترات غير محددة، ويتم تخزين المعلومات في الذاكرة الطويلة المدى وفق معانيها، إلا أن هذه المعلومات قابلة أيضاً للفقد والنسيان بفعل عوامل التعفن والتدخل والإمحاء.
ويواجه هذا النموذج مشكلتين أساسيتين هما: أن الذاكرة الطويلة المدى لا تنطوي على عملية ترميز المعاني بل يتم ذلك في الذاكرة القصيرة المدى، كذلك لم يوضح النموذج كيف تتم عملية النسيان في المخزن الحسي إذا افترضنا أن كل المعلومات تصل إلى الذاكرة القصيرة المدى، حيث يتم هنالك التركيز على مثيرات دون الأخرى بفعل النسيان.
ويركز نموذج تولفنج (Tulving) على طبيعة المادة وطول الفترة الزمنية التي تخزن فيها المعلومات في الذاكرة، ويميز تولفنج بين ذاكرة الأحداث وذاكرة المعاني والذاكرة الإجرائية في إطار فلسفة المكونات المنفصلة للذاكرة كما هي موضحة أدناه.
أ- ذاكرة الأحداث (Episodic Memory): وتدور طبيعة هذه الذاكرة حول الأحداث والعلاقات والسير الذاتية والمواعيد والقصص مثل أعياد الميلاد، والزواج، والقبول في الجامعة، أو أي حدث له أهمية خاصة عند الفرد.
ب- ذاكرة المعاني (Semantic Memory): وتشمل المعلومات التي تعكس علاقتنا ومعرفتنا للعالم الخارجي كمعاني الكلمات والمفردات، وقواعد اللغة، والقوانين، والحقائق والنظريات، والاتجاهات والقيم والعادات وغيرها.
ج- الذاكرة الإجرائية (Procedural Memory): لقد أضاف تولفنج هذا المكون عام 1987 ليختص بالمعلومات المتعلقة بالإجراءات التي يقوم بها الفرد يومياً مثل السباحة، وقيادة السيارة، وتناول الطعام، ولبس الملابس، واستخدام الألعاب والأجهزة المختلفة.
ومن الانتقادات الموجهة لنموذج تولفنج أنه من الصعب التمييز بين معلومات ذاكرة المعاني وذاكرة الأحداث حيث أن ذاكرة الأحداث قد تعد شكلاً من ذاكرة المعاني، وهذا على خلاف الذاكرة الإجرائية التي تتسم طبيعتها بالوضوح التام وتأثرها بعمل الدماغ والبرمجة الفسيولوجية.
2- نماذج الذاكرة المتصلة:
وتقوم على فكرة أن معالجة الذاكرة للمعلومات تتم بصورة كلية متكاملة كنظام واحد غير قابل للتجزئة، وأن تعطيل أحد أجزاء النظام لا يعطل عمل النظام كاملاً، ومن الأمثلة على ذلك مدخل مستويات تجهيز ومعالجة المعلومات ومدخل نموذج سوسا ومدخل العمليات الموزعة الموازية.
مدخل مستويات تجهيز ومعالجة المعلومات (Level of Information Processing Approach):
كان كريك ولوكهارت (Craik and Lochart, 1972) من أهم رواد هذا الاتجاه الذي يركز على كيفية تجهيز ومعالجة المادة المتعلمة خلال عملية التعلم، ويستند هذا الاتجاه إلى فكرة أن لكل فرد مستويات عدة لمعالجة المعلومات، وهذه المستويات هي: المستوى السطحي أو الهامشي والمستوى المتوسط والمستوى العميق والمستوى الأكثر عمقاً.
ويمكن تلخيص أهم الخصائص التي تميز الفروق بين نمطي المعالجة السطحي والعميق في النقاط التالية الموضحة في الجدول التالي (العتوم، 2004):
جدول مقارنة بين مستوى المعالجة السطحية ومستوى المعالجة العميقة
مستوى المعالجة السطحي | مستوى المعالجة العميق |
• الاهتمام بشكل المثير وخصائصه المادية كالحجم أو اللون أو الإيقاع. | • الاهتمام بمعاني المثيرات ودلالاتها والارتباطات القائمة بينها. |
• تكرار المثيرات هو الطريق لحفظها وتخزينها | • تحليل المثيرات هو الطريق لحفظها وتخزينها |
• ضعف الاسترجاع والفشل في تذكر الوجوه أو الكلمات أو المعاني. | • درجة عالية من الاحتفاظ والاسترجاع وتذكر المعاني. |
• لا تتطلب قدرات خاصة وإنما الشروط العامة لممارسة الإدراك والمعالجة. | • تتطلب قدرات خاصة كالتمييز وإدراك التفاصيل والانتباه الانتقائي المركز. |
3- نموذج سوسا المستند إلى نظرية الدماغ
يتكون هذا النموذج من أربعة مستويات. في المستوى الأول يقوم الدماغ بعملية فلترة للمثيرات (البصرية، السمعية، الذوقية، اللمسية) بحيث لا يسمح إلا للمثيرات ذات الأهمية بالدخول إلى المستوى الثاني. في المستوى الثاني تخزن في الذاكرة قصيرة المدى البيانات أو المعلومات التي يقدر الدماغ أنها هامة، وذلك لمدة 30 ثانية. في هذا المستوى يحدث تعلم جديد للمعلومات المتعلقة بالحاجات الحيوية للفرد أو بالمعيقات الانفعالية، هذه المعلومات المتعلقة هي التي تنقل إلى المستوى الثالث إلى الذاكرة العاملة. هناك تتم معالجة واعية للمعلومات وتبقى هذه المعلومات في هذا المكان ما بين (18 – 36) ساعة. ويتم التركيز عليها لمعالجتها في ما بين (10 – 20) دقيقة ولما كانت سعة الذاكرة العاملة محدودة فإن العبء المعرفي عليها يزداد أحياناً مما يفرض على الدماغ ترحيل بعض من هذه المعلومات إلى المستوى الرابع حيث الذاكرة طويلة المدى. أما المعلومات الباقية فتقذف خارج النظام الدماغي وتنسى، إن المعلومات التي قدر الدماغ أنها معقولة وذات معنى ترسل إلى الذاكرة طويلة المدى وتستقر فيها نهائياً ويكون بالإمكان تذكرها والمشاركة في معالجة معلومات جديدة دخلت إلى النظام الفرعي ووصلت إلى الذاكرة العاملة، شيئاً فشيئاً تكون هذه المعلومات قاعدة البناء المعرفي للفرد. هذه المنظومة المعلوماتية هي التي تقود عمليات المعالجة المستقبلية، وعملية الفلترة وعملية المرور من مستوى إلى مستوى في النظام الدماغي (This.gcal.ac.uk) المشار إليه في (الريماوي، 2003).
4- مدخل العمليات الموزعة الموازية (Parallel Distribution Processing):
يرتبط مدخل العمليات الموزعة الموازية في معالجة المعلومات وتفسير نظام الذاكرة بمفاهيم الشبكات العصبية (Neural Networks). ففي دراسات علم نفس الأعصاب والاتجاه المعاصر في دراسة الظواهر المعرفية الذي عرف بالارتباطية (Connectionism) وارتبط اسم هذا الاتجاه مع دراسات ماكليلاند ورملهارد (McCelland & Rumelhard, 1986) اللذين أكدت دراساتهما على أن العمليات المعرفية تتم من خلال شبكة الترابطات بين الأعصاب بشكل متواز وليس متسلسلاً، فكل عنصر معرفي يرتبط مع عدد كبير من النيورونات التي تتوزع في مناطق واسعة من دماغ الإنسان، وبالتالي فإن هنالك ملايين النيورونات التي ترتبط مع بقية العناصر المعرفية في شبكة عصبية متكاملة. إن التفكير في مثير معرفي واحد يعني أن الدماغ سيبدأ عملية بحث واسعة في خلايا الدماغ الإنساني حتى يصل إلى جزء يسير من هذا النظام المعقد ليصل إلى معلومة محددة. ووفقاً لمدخل العمليات الموزعة الموازية، فإن السؤال مثلاً عن "المهندس علي" ينشط أو يستثير المعلومات المتعلقة بكل المهندسين أو طلبة الهندسة الذين تعرفهم بما فيها المعلومات المتعلقة بتوجهاتهم وميولهم وأماكن سكنهم وغيرها من المعلومات ذات العلاقة وعندئذ يمكنك الرد بأن علياً هو طالب في السنة الخامسة في كلية الهندسة، ويمكن إيجاز أهم خصائص هذا الاتجاه بالآتية:
1- العمليات المعرفية تقوم على عمليات موازية أكثر من كونها متسلسلة أو متتابعة.
2- تخزين المعلومات على شبكة من الترابطات أو الوصلات العصبية من خلال النيرونات لتمثيل وحدات توصيل، وأن تنشيط وحدة ما يؤدي إلى تنشيط الوحدات الأخرى ذات العلاقة.
3- تكون نتيجة استثارة الوحدات الأخرى إما إيجابياً (Exciting) أو يتم حدوث منع أو كف (Inhibition) للوحدة المجاورة فلا تتم الاستثارة العصبية.
4- كل ما تخزنه الشبكات العصبية هو قوة أوزان الاتصال بين الوحدات العصبية.
5- المعرفة الجديدة تغير قوة الوصلات مما يعني أن الاستجابة في المرة القادمة ستكون مختلفة (حدوث التعلم).
6- الذاكرة تعمل بشكل فعال حتى لو كانت بعض المدخلات غير صحيحة وذلك بفعل السياق المخزن أصلاً من خلال المعالجات السابقة ولذلك توصف محتويات الذاكرة بأنها معنونة (Content Addressable) أي أن كل مثير يصل إلى المكان المخصص له.
7- نتيجة السعة الدماغية المحدودة ومدى قوة الترابطات فقد يحدث تذكر جزئي للمعلومات أو يمارس الفرد صعوبات في الاستدعاء.
يمثل مدخل العمليات الموزعة الموازية أحد أهم الاتجاهات المعاصرة في تفسير نظام الذاكرة ومعالجة المعلومات وفق أسس عصبية بحتة ارتبطت بعلم الأعصاب وتطور علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، ولكن لا زال هنالك قضايا كثيرة حول هذا الاتجاه يصعب تفسيرها مثل قضية النسيان، ودور عمليات الانتباه في المعالجة، وماذا يحدث للمعلومات التي لا ننتبه لها، كذلك فإن هنالك عدداً من الصعوبات المنهجية في البحث كوننا نتعامل مع دماغ بشري في غاية التعقيد وليس من السهل اختبار أفكار هذه النظرية.
سادساً: النسيان ونظرياته
مفهوم النسيان: إن معظم الناس لا يتذمرون من وجود صعوبات في التعلم بقدر ما يتذمرون من وجود صعوبات في التذكر، ولتحديد مفهوم النسيان، فسر العلماء تقليدياً النسيان على أنه اختفاء للمعلومات من الذاكرة، بحيث نصبح عاجزين عن تذكرها. أما وجهة النظر الحديثة، فتشير إلى أن المعلومات لا تختفي من الذاكرة إلا أننا نفشل في استرجاعها أو التعرف عليها، وقد أيد هذا الاتجاه المعاصر البحوث الفسيولوجية على مناطق الذاكرة في الدماغ حيث أن استثارة هذه المناطق كهربائياً أدت إلى تذكر معلومات عجز الأفراد عن تذكرها قبل الاستثارة الكهربائية مثل خبرات الطفولة المبكرة.
ويرتبط مفهوم النسيان مع مفهوم الزمن، فكلما زادت المدة الزمنية بعد التعلم، كلما زادت احتمالية النسيان، والذي أكد هذه العلاقة ابنكهاوس عام 1885 في منحنى النسيان، وتشير دراسات ويكلفرين (Wickelgran, 1975) أن تكليف المفحوصين بدراسة سلسلة من المفردات ومن ثم التعرف عليها بعد تأخير عملية التذكر لدقائق محدودة أو لأيام، أظهر أن كمية الاحتفاظ من خلال التعرف على المفردات يتناقص بزيادة المدة الزمنية لتأخير التعرف.
ويحدد سانتروك نوعين من النسيان (Santrock, 2003) وهما:
1- فشل الاسترجاع (Retrieval Failure): وتشير إلى فشل الفرد في استدعاء معلومات من الذاكرة الطويلة المدى تم تعلمها سابقاً مثل عدم تذكر مكان مفاتيح السيارة، أو اسم زميلك في الصف، أو كلمة السر لبطاقة الصراف الآلي.
2- فشل الترميز (Encoding Failure): ويشير هذا النوع إلى أن سبب النسيان يعود إلى ضعف أو غياب في ترميز معلومات استقبلها الفرد في السابق، أي أن المعلومات، بسبب عوامل الانتباه أو الحالة النفسية للفرد، لم تصل إلى الذاكرة الطويلة المدى ليتم استرجاعها الآن.
نافذة (6) شهادة شاهد العيان (Eyewitness Testimoy) |
تعد شهادة شاهد العيان هامة في تبرئة أو تجريم المتهم، وبما أن دراسات الذاكرة قد أشارت إلى أن ذاكرة الناس قابلة للنسيان أو التشويش أحياناً، فقد قام لوفتس (Loftus, 1984) بسلسلة من التجارب المخبرية التي قدم من خلالها صوراً ومعلومات عن مواقع بعض الجرائم الافتراضية، ثم تم اختباره بطريقة تشبه ما يحدث في قاعة المحكمة، وقد وجد لوفتس أن: (1) المفحوصين قد واجهوا صعوبة في تحديد وتمييز الأشخاص من مجموعات عرقية مختلفة. (2) هنالك تشويش أكثر على الذاكرة في مواقف العنف. (3) درجة الثقة بأحكام المفحوصين لم ترتبط إيجابياً بدرجة الثقة بذاكرتهم. (4) بعض المفحوصين قد قدموا معلومات مخالفة للواقع وخصوصاً في حالة عرض أسئلة غير متسقة مع الواقعة. |
نظريات النسيان: هنالك العديد من النظريات التي حاولت تفسير النسيان الناتج عن فشل الاسترجاع ومن أهمها (Tsien, 2001; Kyriaki, 1999; Kosslyn & Rosenberg, 2004):
1- نظرية التعفن (Decay Theory): وتشير هذه النظرية إلى أن المعلومات في الذاكرة الطويلة تبدأ بالتعفن والتلاشي مع مرور الزمن، وتنسجم فكرة هذه النظرية مع التفسيرات الفسيولوجية حيث أن الوصلات العصبية تبدأ في التمزق والتلف مع التقدم في العمر أو مع الزمن خصوصاً في حالة عدم الاستخدام (قانون الاستعمال والإهمال) لتصبح المعلومات التي ترتبط بهذه الوصلات العصبية غير قابلة للتذكر، وينتقد البعض هذه النظرية من أن الزمن وحده غير كاف لحدوث التعفن في الوصلات العصبية أو المعلومات إذا لم يقترن مع عوامل أخرى كضعف المعالجة المعرفية، وإصابات الجهاز العصبي، والشيخوخة.
2- نظرية التداخل (Interference Theory): تشير هذه النظرية إلى أن كثرة تداخل المعلومات في الذاكرة القصيرة المدى أثناء المعالجة أو في الذاكرة الطويلة المدى خلال التخزين، وكثرة مهمات التعلم والنشاطات العديدة التي يؤديها الفرد خلال النهار تعمل على تشتت المعلومات المخزنة في الذاكرة وتسهل عملية النسيان، فالشخص الذي يتعلم مهمة ما ثم ينام لمدة 8 ساعات خلال الليل لديه فرصة لتذكر هذه المعلومات أكثر من شخص تعلم نفس المهمة في أول النهار وتبعها تعلم مهمات أخرى كثيرة. وتشير الدراسات إلى أنه كلما تعددت المعلومات حول المثير أو كلما زاد التشابه بين المثيرات التي يتعلمها الفرد في فترة زمنية قصيرة، كلما زاد احتمال النسيان، ولذلك فقد تم تحديد نوعين من التداخل هما:
أ) الكف القبلي (Proactive Inhibition): وفي هذه الحالة، فإن التداخل ينتج عن أثر تعلم الفعاليات السابقة على تذكر الفعاليات اللاحقة.
ب) الكف الرجعي أو البعدي (Retroactive Inhibition): ويشير إلى أثر تعلم الفعاليات اللاحقة على تذكر الفعاليات السابقة.
ولتوضيح أثر الكف القبلي والبعدي، تصور وجود مجموعتين إحداهما تجريبية والأخرى ضابطة تم تعريضهما للكف القبلي والبعدي لمعرفة أثرهما على التذكر، حيث يتضح أن أداء المجموعتين التجريبيتين كان منخفضاً بسبب التعلم السابق في الحالة الأولى والتعلم اللاحق في الحالة الثانية. (العتوم، 2004):
جدول الكف القبلي والبعدي
نوع الكف | المجموعة | التعلم السابق | التعلم اللاحق | الاختيار | درجة التذكر |
الكف القبلي | التجريبية | المهمة أ | المهمة ب | المهمة ب | منخفضة |
الكف القبلي | الضابطة | استراحة | المهمة ب | المهمة ب | مرتفعة |
الكف البعدي | التجريبية | المهمة أ | المهمة ب | المهمة أ | منخفضة |
الكف البعدي | الضابطة | المهمة أ | استراحة | المهمة أ | مرتفعة |
3- نظرية الكبت: تؤكد نظرية فرويد في التحليل النفسي أن النسيان هو طريقة لا شعورية في التعامل مع مشاعر الإحباط والقلق والألم مما يجعل النسيان عبارة عن ميكانيزم دفاعي داخلي يسعى لحماية الفرد. واعتبر التحليليون أن فقدان الذاكرة (Amnesia) الناتج عن الصدمات النفسية الشديدة هو نوع من التعبير عن الكبت ورفض التعامل مع الأحداث التي أدت إلى الصدمة النفسية، كما يؤكد التحليليون أن الخبرات المكبوتة لا تعني أنها غير موجودة بل هي مخزنة في اللاشعور ويمكن إحياء استثارتها واسترجاعها من خلال الأحلام وزلات اللسان والتنويم المغناطيسي.
تفكير ناقد (5) |
يقال إن المواقف الانفعالية العنيفة من الصعب أن تمحى من الذاكرة. قيم هذا القول في ضوء خبراتك الشخصية. |
4- نظرية الإمحاء (Obliteration Theory): تقترح هذه النظرية ظروفاً يؤدي توفرها بعد خبرة التعلم إلى منع تثبيت خبرات التعلم وبالتالي النسيان، ومن هذه الظروف:
أ) منع تمثيل البروتين: أن نقص المواد التي تساعد على تمثيل البروتين وتحليله تعمل على منع تمثيل المعلومات في الذاكرة الطويلة المدى بفعالية عالية مما ينعكس على زيادة مستويات النسيان للخبرات التي صاحبت منع تمثيل البروتين، ففي تجربة على الأسماك، تعلم السمك تجنب صدمة كهربائية في مكان ما من حوض السمك من خلال اشراطه بضوء معين، ثم تم حقن الأسماك بمادة البيرومايسين (Puromycin) التي تؤثر على تركيب البروتين في الأسماك، مما أدى إلى نسيان الأسماك للتعلم السابق ودخولها المنطقة المحظورة وتعرضها للصدمات.
ب) الحوادث والصدمات النفسية والجسدية: إن تعرض بعض الناس للحوادث والصدمات النفسية والجسدية الشديدة تعرضهم إلى إمحاء الذاكرة وفقدانها الجزئي أو الكلي. فقد أبلغ المرضى الذين تعرضوا للصدمات الكهربائية في العلاج أنهم لا يتذكرون الأحداث التي سبقت الصدمات الكهربائية. كما أشارت إحدى الدراسات إلى أن تساقط قطع الأثاث وحدوث ضجة كبيرة في الغرفة أدى إلى نسيان قائمة من الكلمات تمكن المفحوصين من حفظها قبل الحادثة.
نافذة (7) فقدان الذاكرة (Amnesia) |
نتيجة للإصابات الجسدية للدماغ أو النوبات النفسية الشديدة والمفاجئة، يتعرض بعض الناس إلى فشل في استرجاع المعلومات التي تمت معالجتها قبل الحادثة. وقد يكون هذا الفقدان كلياً أو جزئياً ومؤقتاً أو دائماً. وفي بعض صور فقدان الذاكرة، لا يستطيع الفرد استرجاع المعلومات التي يتم تخزينها بعد الحادثة كما في حالة المصاب H. M. المشهورة (Davis & Palladino, 2004). |
ج) إصابات الدماغ: إن إصابات بعض مناطق الدماغ بسبب الحوادث أو الإدمان على الكحول والمخدرات يؤدي إلى إمحاء الذاكرة أو فقدانها الجزئي أو الكلي. ومن المناطق التي تؤثر في إمحاء الذاكرة بعض أجزاء القشرة الدماغية (Cortex)، وقرن أمون (Hippocampus) والجهاز اللمفاوي بشكل عام.
سابعاً: استراتيجيات تقوية الذاكرة:
بما أن النسيان مشكلة قائمة ولابد من التعامل معها، لجأ علماء النفس إلى تطوير استراتيجيات تساعد الأفراد على التذكر وديمومة المعلومات وجاهزيتها وقت الحاجة، وتستند هذه الاستراتيجيات على نظريات الذاكرة ومفاهيمها فيما يتعلق بتقوية الترميز والربط والتخيل والاسترجاع والتعرف والاحتفاظ.
تفكير ناقد (6) |
فكر في بعض المواقف التي فشلت فيها في تذكر ما يلزمك من معلومات، ما هو المبدأ المفسر لهذا الفشل في كل موقف؟ |
وتحقق هذه الاستراتيجيات الكثير من الفوائد للأفراد الذين يشكون من كثرة النسيان في مجالات معينة، أو لتحسين التحصيل في المجالات الأكاديمية، أو لتحسين مستوى المهارات الأدائية في المجالات المختلفة، أو لتحسين قدرتنا على التفاعل الاجتماعي من خلال حفظ أسماء الناس أو تذكر النكات وإضحاك الآخرين.
وتؤكد العديد من الدراسات أن آلية عمل استراتيجيات التذكر تقوم على فكرة تعميق الروابط بين المعلومات أو المثيرات الجديدة مع البنى المعرفية والخبرات السابقة للفرد بحيث يستغل الفرد البنى القديمة الراسخة لتساعد على تذكر مثيرات ومواقف جديدة، وبذلك فإن غالبية استراتيجيات التذكر تحرص على أن توفر الدلائل والإشارات (Cues) التي تساعد الفرد على الربط بين التعلم القديم والتعلم الجديد (Scrugs and Mastropieri, 1990).
وبناء على ذلك، فقد توصل العلماء إلى العديد من هذه الاستراتيجيات، نذكر أهمها مع الأمثلة (Scrugs and Mastropieri, 1990; Eysenck, 2000; Rathus, 1987؛ محمد، 1995؛ الزيات، 1998؛ العتوم، 2004).
1- استراتيجية الموقع (Method of Loci): وتقوم على أساس ربط قائمة من المواد المراد تعلمها مع الأماكن أو المواقف المعروفة للفرد بطريقة متسلسلة وذلك من خلال إقران كل مفردة أو معلومة، فلو أردت أن تتذكر قائمة مشترياتك خلال عودتك للبيت، فيمكن لك ربط كل سلعة تريد شراءها مع كلية من كليات الجامعة، فمادة الصابون تربط مع كلية الآداب حيث يوجد قسم الصحافة والإعلام، وهكذا حتى تكتمل قائمة المشتريات.
2- استراتيجية الحروف الأولى (First – Letter Technique): وتتمثل في أخذ الحرف الأول من كل كلمة في قائمة من المفردات أو الجمل المراد تذكرها ومحاولة بناء كلمة أو جملة لها معنى أو دلالة لدى الفرد من الحروف الأولى. فلو كان لديك أربعة زملاء في مجموعة النشاط الصفي وكانت أسماؤهم: صالح، ودريد، ويوسف، وقاسم، فإن الحرف الأول يشكل الكلمة "صديق" ولو كان الشخص الذي ترغب بتذكر اسمه الكامل هو قاسم أحمد سلامة يوسف فإنك قد تتذكر الاسم كاملاً إذا تذكرت الحرف الأول من كل اسم لتقرأ "قاسي". ولا تنس أنك تستطيع إعادة ترتيب القائمة ليصبح ترتيب الأحرف الأولى ذات دلالة ومعنى أكثر مما في المثال الأول حسب درجة إبداعك وخيالك العالي.
3- استراتيجية الكلمة المفتاحية (Key Word Technique): يمكن قراءة نص ما واختيار كلمة تعتبر بمثابة مفتاحاً يدلل على الفقرة أو الجملة كاملة، وقد تكون هذه الاستراتيجية مفيدة في تعلم مفردات من لغة أجنبية وذلك بوضع مفتاح من خلال كلمة أخرى من اللغة العربية أو الإنجليزية تشبهها في اللفظ وتدلل عليها، أو ربط الكلمتين معاً بشكل ذهني في صورة مضحكة أو مثيرة للتذكر، فإذا أردت تذكر كلمة "Amigo" من الأسبانية التي تعني "الصديق" فإنك تستطيع ربطها مع الكلمة الإنجليزية "Go" لأن الصديق يذهب ويأتي معك دائماً، أو تربطها باسم صديق لك يشبه اسمه هذه الكلمة (أمجد) أن توفر ذلك.
4- استراتيجية التأمل (Meditation Technique): وتقوم على أساس ربط كلمتين تريد تذكرهما بكلمة ثالثة جديدة أو فكرة أو هيئة تربطهما معاً ليكون لهما القدرة على توجيه تذكر الكلمتين الأصليتين في المستقبل. هذه الاستراتيجية تتطلب التأمل والتفكير واستخدام خيالك العقلي قبل الوصول إلى الكلمة الرابطة للكلمتين معاً، فإذا أردت تذكر كلمتي: جمل وشباك، فتصور الجمل الضخم يحاول بكل قواه الدخول من الشباك الصغير، إنه موقف مضحك وطريف وغير معقول بالتأكيد، ولكنه قد يساعدك على التذكر.
5- استراتيجية ما وراء الذاكرة (Meta – Memory Technique): وتدور هذه الاستراتيجية حول التفكير بذاكرتك وقدراتك في التذكر ونقاط الضعف والقوة فيها، ويتطلب ذلك أن تسأل نفسك بعض الأسئلة حول تحديد طرق المذاكرة التي تؤدي إلى التذكر الفعال وتفعيلها وتعزيزها في مجالات أخرى، وتحديد طرق المذاكرة التي تؤدي إلى تذكر منخفض ومحاولة تغييرها أو تحسينها.
وهنالك الكثير من الأفكار والمبادئ الأخرى التي يمكن أن تسهم في تحسين الذاكرة أو تقدم دلائل ومؤشرات لتحسين الاسترجاع نذكر بعضاً منها بإيجاز (Sprinthall, et al, 1994; Kosslyn & Rosenberg, 2004; Myers, 2004؛ العتوم، 2004).
1- التركيز: البحث في الذاكرة الطويلة المدى شاق وصعب لذلك فهو يحتاج إلى تركيز على المهمة وإغلاق الباب أمام مشتتات الانتباه.
2- تكرار محاولات الاسترجاع: كلما حاول الفرد تكرار محاولات الاسترجاع، كلما زادت فرصة التذكر.
3- إعادة التعلم والتكرار: أن تكرار ما تعلمه الفرد في السياق يعزز من قيمة الاحتفاظ ويسهل التذكر. اختبر نفسك بعد مدة قصيرة من المعالجة للمعلومات.
4- دلائل الاسترجاع: حاول دائماً أن تبتكر دلائل خارجية ترتبط بالموقف أو المثير الذي تريد استرجاعه لأن هذه الدلائل سوف تساعدك على التذكر، فإذا كنت تنسى حقيبة الكتب، اتركها بجانب مخرج البيت قبل أن تنام.
5- اجعل المادة المطلوبة استرجاعها ذات معنى شخصي لك: أن محاولة ربط المعلومات مع خصائص تعريفها جيداً سوف تساعد على تذكرها لاحقاً.
6- بناء قواعد منظمة للمعرفة: يمكن للمتعلم أن يستفيد من فكرة قواعد البيانات من خلال محاولة ربط المفاهيم الجديدة مع المفاهيم والحقائق القديمة حيث أنه كلما تحسن التنظيم وربط الجديد بالقديم، كلما تحسنت الذاكرة.
7- التوليف القصصي: وتقوم على أساس محاولة بناء قصة ذات معنى ومغزى للفرد المتدرب وذلك من النص أو مجموعة المفردات المراد تذكرها.
8- استخدام الخرائط المفاهيمية: يمكن للمتدرب تحويل أي نص يراد تذكره إلى خارطة مفاهيمية تربط بين مفاهيم النص وفق علاقات منظمة وذات دلالة واضحة، كما هو الحال في فكرة شبكات المعلومات التي ستوضح في فصل تمثيل المعلومات.
9- تدوين الملاحظات بصورة مستمرة: وذلك من خلال إعادة كتابة النص على شكل مختصر لتوفر لنفسك دلالات للتذكر تغني عن النص أو المادة المطلوبة كاملة، وهذه الطريقة أصبحت ممكنة أكثر الآن مع توفر أجهزة الحاسوب المحمولة الصغيرة أو الهواتف الخلوية.
10- عوامل البيئة المادية: يجب البحث عن الظروف البيئية المساعدة على التذكر والبعيدة عن تشتيت الانتباه كطريقة الجلوس، ومكان الدراسة، والإضاءة والتهوية وغيرها من عوامل البيئة المادية التي تؤثر في التذكر أو التعرف، كما يجب ممارسة الاسترجاع في نفس ظروف المعالجة.
الخلاصة:
1- تتضمن الذاكرة عمليات الإحساس والانتباه والإدراك الجسمي وتمرير المثيرات المنتقاة (الذاكرة الحسية في الدماغ الخلفي)، وعمليات المعالجة والترميز والتخزين (الذاكرة القصيرة المدى أو الذاكرة العاملة)، وعمليات إعادة تمثيل المعلومات لتصير أكثر تنظيماً (الذاكرة الطويلة المدى).
2- يمكن التعرف على أشكال الذاكرة (الاستدعاء، التعرف، الاحتفاظ) وقياسها.
3- تتأثر دقة الذاكرة بعدة عوامل منها: الحالة النفسية والانفعالية للفرد، تقييمات الفرد لمادة الذاكرة، ودرجة ثقته بها، ومدى فاعلية استراتيجيات تقوية الذاكرة، وكثرة المثيرات وتوزيعها، ودرجة التشابه بينها.
4- محتويات الذاكرة الطويلة المدى نوعان: المهارات الأدائية (الذاكرة الإجرائية)، الحقائق والمعارف (الذاكرة التقديرية) وتشمل السيرة الذاتية للفرد وخبراته الماضية (ذاكرة الأحداث) ومعاني المعارف والحقائق والمعلومات (ذاكرة المعاني).
5- يتم تنظيم وتمثيل المعلومات في الذاكرة الطويلة المدى وفق نماذج شبكات الترابطات، ونماذج المخططات العقلية (سكيمات).
6- يمر استرجاع المعلومات من الذاكرة الطويلة المدى بـ: مرحلة البحث عن المعلومات، ومرحلة تجميعها، وأدائها إلى الذاكرة القصيرة المدى.
7- يمكن قياس الذاكرة الطويلة المدى لمقاييس ضمنية أو صريحة.
8- هناك مستويات لمعالجة المعلومات في الذاكرة هي المستوى السطحي والمستوى المتوسط والمستوى العميق والمستوى الأكثر عمقاً.
9- ثمة ثلاثة أشكال لمعالجة المعلومات: المعالجة المادية، المعالجة السمعية ومعالجة المعاني.
10- ثمة نماذج للذاكرة: الذاكرة المنفصلة، الذاكرة المتصلة، العمليات الموزعة الموازية.
11- هناك نوعان من النسيان: النسيان الناتج عن فشل الاسترجاع، والنسيان الناتج عن فشل الترميز.
12- تتعدد نظريات النسيان ومنها: نظرية التعفن، نظرية التداخل، نظرية الكبت، ونظرية الإمحاء الناتجة إما عن منع تمثيل البروتين أو الحوادث والصدمات النفسية أو الجسدية، وإصابات الدماغ.
13- هناك ما يسمى مساعدات التذكر أو استراتيجيات الذاكرة ومنها استراتيجية الموقع، الكلمة المفتاحية، الحروف الأولى من الكلمات، التأمل، ما وراء الذاكرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: محمد عودة الريماوي وآخرون، ،( كتاب: علم النفس العام)، من إصدار دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، الأردن ، عمان، الطبعة الثانية لعام 2006م / 1426هـ