د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

د. محمد العامري

مدرب معتمد من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني

خبير استشاري معتمد

مختص في علم النفس الإداري

كبير مدققي الجودة

محلل تلفزيوني وإذاعي مرخص

إدارة المعرفة في منظومة إدارة الأداء المؤسسي Knowledge Management in Institutional Performance Management Systems

يُبرز هذا المقال دور إدارة المعرفة في تحويل التحسين المستمر إلى رأس مالٍ مؤسسيٍّ مستدام، يحفظ الخبرة، ويُنظّم التعلم، ويجعل الأداء ذا ذاكرةٍ ووعيٍ متجددٍ.

October 25, 2025 عدد المشاهدات : 504

في عالمٍ تتسارع فيه التغيرات وتتعاظم فيه المعرفة، لم يعد كافيًا أن تُحسّن المؤسسة أداءها، بل بات لزامًا عليها أن تُدير المعرفة التي تنتجها من هذا الأداء. فكل مشروعٍ، وكل تجربةٍ، وكل نجاحٍ أو إخفاقٍ، يُنتج معرفةً جديدةً، والمشكلة ليست في إنتاج المعرفة بل في حفظها واستثمارها.
إنّ المؤسسات التي لا تُدير معرفتها تُعيد اختراع العجلة كل يومٍ، وتخسر وقتها في معالجة الأخطاء ذاتها، لأنها لا تتعلم من تجاربها. ولهذا، فإنّ إدارة المعرفة المؤسسية تُعدّ الامتداد الطبيعي للتحسين المستمر، لأنها تُحوّل الدروس المستفادة إلى ذاكرةٍ تنظيميةٍ، تُغذي الأداء بالمعلومة الصحيحة في الوقت الصحيح.

تُعرَّف إدارة المعرفة بأنها المنظومة التي تُعنى بتوليد المعرفة المؤسسية وتنظيمها وتخزينها وتوزيعها واستخدامها لتحسين القرارات والعمليات والأداء الكلي للمؤسسة. وهي تمثل التحوّل من إدارة العمل إلى إدارة الفكر الذي يقف خلف العمل.
فحين تُدير المؤسسة المعرفة، فإنها لا تُدير المعلومات فقط، بل تُدير وعيها الذاتي؛ إذ تُصبح قادرةً على أن تتذكر وتُحلل وتتعلم وتُبدع. فهي تنتقل من "مؤسسةٍ تُنفّذ" إلى "مؤسسةٍ تفكر"، ومن "مؤسسةٍ تُراقب الأداء" إلى "مؤسسةٍ تُطوّر الأداء عبر فهمه".

وإدارة المعرفة ليست نشاطًا تقنيًا محدودًا بأنظمة الحواسيب أو قواعد البيانات، بل هي ثقافةٌ تنظيميةٌ تقوم على الإيمان بأنّ المعرفة رأس المال الحقيقي للمؤسسة. فكما أن إدارة الموارد البشرية تهتم بالناس، وإدارة الموارد المالية تهتم بالأموال، فإنّ إدارة المعرفة تهتم بالعقل الجمعي الذي يربط بين الاثنين.
إنها تعني أن المؤسسة لا تُراكم الملفات، بل تُراكم الفهم. ولا تحفظ الوثائق، بل تحفظ الخبرة. ولا تُخزّن البيانات، بل تُخزّن الذكاء الذي وُلد من التجربة.

ومن هنا، تأتي أهمية هذا المقال في تحليل مفهوم إدارة المعرفة ضمن منظومة إدارة الأداء المؤسسي، وبيان كيف تُسهم في بناء التعلم التنظيمي، وتكاملها مع التحسين المستمر والابتكار، ودورها في صياغة القرار الإداري المستنير، وكيفية تحويلها إلى نظامٍ حيٍّ للتفكير المؤسسي المتجدد.
كما سيتناول المقال الأطر العالمية في إدارة المعرفة مثل نموذج Nonaka & Takeuchi الياباني، ونموذج SECI لتوليد المعرفة، إضافةً إلى التجارب الوطنية والعالمية في بناء منظومات المعرفة المؤسسية في القطاعين العام والخاص.

فالتحسين المستمر يجعل المؤسسة تُراجع نفسها، أما إدارة المعرفة فتمكّنها من أن تتذكر ما تعلمته من مراجعتها، وتُحوّل هذا التعلم إلى وعيٍ مؤسسيٍّ متجددٍ لا يشيخ، ولا يُكرّر ذاته، ولا يفقد بوصلته في عالمٍ يتغير كل لحظةٍ.


📚 الفهرس

1️⃣ 🧭 مفهوم إدارة المعرفة المؤسسية وأهميتها في منظومة الأداء
2️⃣ ⚙️ العلاقة بين إدارة المعرفة والتحسين المستمر
3️⃣ 🧠 نماذج وأطر إدارة المعرفة العالمية (SECI، Nonaka & Takeuchi)
4️⃣ 🧩 إدارة المعرفة كأداةٍ لصنع القرار والتحسين المؤسسي
5️⃣ 🌿 الثقافة التنظيمية والمعرفة الضمنية كقوةٍ داخليةٍ للتحسين
6️⃣ 💡 التحول الرقمي وإدارة المعرفة الذكية في الأداء المؤسسي
7️⃣ 🏛 التحديات التي تواجه المؤسسات في بناء منظومة إدارة المعرفة
8️⃣ 🌍 التجارب الدولية والعربية في تطبيق إدارة المعرفة المؤسسية


🧭 المحور الأول: مفهوم إدارة المعرفة المؤسسية وأهميتها في منظومة الأداء

حين نُحاول فهم إدارة المعرفة في عمقها المؤسسي، لا ينبغي أن نراها بوصفها نظامًا فرعيًا ضمن هيكلٍ إداريٍّ تقنيٍّ، بل ينبغي أن نراها كـ النسيج العصبي للمؤسسة، الذي ينقل المعلومة من العقل إلى الفعل، ويُحوّل التجربة إلى وعيٍ، والبيانات إلى بصيرةٍ. فالمؤسسة، مهما بلغت كفاءتها في الأداء، تبقى ناقصةً ما لم تمتلك ذاكرةً معرفيةً تحفظ ما تعلّمته، وتُنظّم ما تعرفه، وتُطوّر به ما تُنتجه.
فالمعرفة ليست ترفًا إداريًا، بل هي رأس المال غير الملموس الذي يُغذّي كل رأس مالٍ آخر، وهي المعيار الأصدق لمدى نضج المؤسسة وقدرتها على التعلم والبقاء.

تُعرّف إدارة المعرفة بأنها العملية المنهجية التي تهدف إلى توليد المعرفة، وتنظيمها، وتخزينها، وتوزيعها، واستخدامها بفاعليةٍ لتعزيز الأداء المؤسسي وتحقيق الأهداف الإستراتيجية.
لكنّ هذا التعريف، على بساطته، يخفي خلفه فلسفةً عميقةً تُعيد تعريف معنى “الإدارة” ذاته. فالإدارة، في سياق المعرفة، لم تعد تعني فقط ضبط الموارد والسيطرة على العمليات، بل أصبحت تعني تنظيم الفكر ذاته. إنها إدارةٌ لما لا يُرى: للأفكار، والرؤى، والتجارب، والإدراكات، والمشاعر المهنية، والعلاقات المعرفية التي تُشكّل وعي المؤسسة بذاتها وبمحيطها.
ومن هنا، فإنّ إدارة المعرفة ليست نشاطًا تقنيًا فحسب، بل هي مشروعٌ حضاريٌّ يهدف إلى تحويل المؤسسة من كيانٍ منفّذٍ إلى كيانٍ متعلّمٍ ومُبدعٍ.

إنّ المؤسسة التي تُدير معرفتها لا تُدير المعلومات فحسب، بل تُدير الذكاء الجمعي الذي يتكوّن من خبراتها المتراكمة، ودروسها المستفادة، وأفكار موظفيها، وتفاعلاتها مع عملائها وشركائها ومجتمعها. فالمعرفة المؤسسية هي كل ما تعرفه المؤسسة، وكل ما يجب أن تعرفه، وكل ما يُمكنها أن تعرفه لتؤدي عملها بطريقةٍ أفضل.
ولهذا، فإنّ إدارة المعرفة هي في حقيقتها إدارة للذاكرة المؤسسية، لأنها تمنع ضياع الخبرة مع تغيّر الأشخاص أو انتهاء المشاريع أو تبدّل الإدارات. فالمؤسسة التي لا تُوثّق معرفتها، تُعيد دائمًا بدء الطريق من الصفر، وتفقد القدرة على الاستفادة من ماضيها لبناء مستقبلها.

ويُعتبر التحوّل من إدارة المعلومات إلى إدارة المعرفة نقلةً نوعيةً في الفكر الإداري الحديث. فالمعلومات هي المادة الخام، أما المعرفة فهي المعنى الناتج من تحليلها وفهمها وربطها بالسياق.
والمؤسسة التي تمتلك كمًّا هائلًا من البيانات دون أن تُحوّلها إلى معرفةٍ قابلةٍ للاستخدام، تُشبه شخصًا يمتلك مكتبةً ضخمةً لكنه لا يقرأ منها شيئًا.
فالذكاء المؤسسي لا يُقاس بحجم ما تملكه المؤسسة من بياناتٍ، بل بقدرتها على تحويلها إلى قراراتٍ ذكيةٍ تُحسّن الأداء وتُوجّه المستقبل.

وتنبع أهمية إدارة المعرفة في منظومة الأداء من كونها الجسر الذي يربط بين الفعل والفهم، وبين النتيجة والعبرة.
فمن دون إدارة المعرفة، تبقى عملية إدارة الأداء حبيسة المؤشرات، تُقيس ولا تُفكّر، وتُراجع دون أن تتعلّم.
أما حين تُدمج المعرفة بالأداء، تُصبح المؤشرات أدواتٍ للتفكير لا مجرد أرقامٍ، وتتحول التقارير إلى دروسٍ مستفادةٍ، ويُصبح التحسين المستمر عمليةً واعيةً تتغذّى من ذاكرةٍ معرفيةٍ موثوقةٍ.
فالمعرفة تُضفي على الأداء بُعدًا زمنيًا؛ تجعل كل نتيجةٍ استمرارًا لسابقتها، وكل قرارٍ ثمرةً لتجربةٍ، وكل مشروعٍ لبنةً في بناءٍ طويلٍ من التراكم المعرفي.

ومن الزاوية الإستراتيجية، فإنّ إدارة المعرفة هي القوة الخفية وراء استدامة التحسين المؤسسي. فالمؤسسات التي تُمارس التحسين دون إدارةٍ معرفيةٍ تبقى في حلقةٍ مغلقةٍ من التجريب، لأنها تُحسّن ما لا تتذكره، وتُكرّر ما قد جرّبته من قبل.
أما المؤسسات التي تُوثّق وتُحلّل وتُشارك المعرفة، فإنها تبني تراكمًا يُغنيها عن إعادة اكتشاف ما تعرفه، فتتقدّم بخطواتٍ واثقةٍ نحو نضجٍ مؤسسيٍّ أعلى.
ولذلك، فإنّ التحسين المستمر هو "العضلة" التي تُحرّك الأداء، بينما إدارة المعرفة هي "الذاكرة" التي تُعلّمه كيف يُحرّك نفسه بوعيٍ واتزانٍ.

ومن الناحية العملية، تُعدّ إدارة المعرفة شرطًا أساسيًا لبناء ما يُعرف بـ المؤسسة المتعلمة (Learning Organization)، لأنّ التعلم لا يتحقق إلا إذا توفرت آلياتٌ لتخزين المعرفة واسترجاعها ومشاركتها. فالمعرفة التي تبقى حبيسة الأفراد تُفقد المؤسسة قوتها، أما حين تتحوّل إلى موردٍ مشتركٍ بين الجميع، تُصبح جزءًا من رأس المال المؤسسي الذي لا يشيخ ولا يغيب.
ولهذا، فإنّ المؤسسات الذكية لا تكتفي بتدريب موظفيها، بل تُدير معرفتهم: تُسجّل تجاربهم، وتُصنّف أفكارهم، وتُحوّلها إلى محتوىٍ يُغذّي القرارات والسياسات ويُرشد الخطط المستقبلية.

وتتجلى أهمية إدارة المعرفة أيضًا في قدرتها على تحويل المعرفة الضمنية (Tacit Knowledge) – تلك التي يسكنها الخبراء في عقولهم وتجاربهم – إلى معرفةٍ صريحةٍ (Explicit Knowledge)** تُوثّق وتُنقل إلى الآخرين.
فحين تُنظّم المؤسسة عملياتها لاستخلاص هذه المعارف من العقول إلى الوثائق والأنظمة، فإنها تُحقّق أحد أعظم إنجازاتها: أن تخلّد خبرة الإنسان دون أن تُجمّدها، وأن تُشارك فكر الفرد دون أن تُفرّغه من خصوصيته.
فالمعرفة الضمنية هي أثمن ما تملكه المؤسسة، لأنها تحمل الحكمة والتجربة والمهارة، وإدارتها تعني إدارة جوهر الأداء ذاته.

ومن البعد الفلسفي، يمكن القول إنّ إدارة المعرفة هي الضمير العاقل للأداء المؤسسي. فبينما تُعنى أنظمة الأداء بقياس "ما حدث"، تُعنى إدارة المعرفة بفهم "لماذا حدث" و"كيف يمكن أن يحدث بصورةٍ أفضل".
إنها النقطة التي يلتقي فيها التحليل بالمعنى، حيث تُحوّل المؤسسة تجاربها من مجرد وقائع إلى وعيٍ يُغذي مستقبلها.
وبهذا المعنى، تُصبح إدارة المعرفة ليست فقط وسيلةً لتطوير الأداء، بل وسيلةً لحماية الذاكرة المؤسسية من التكرار والإنهاك، ولصون الخبرة من الفقد والنسيان، ولتحويل التعلّم الفردي إلى عقلٍ جمعيٍّ واعٍ قادرٍ على التطوير الذاتي المستمر.

ففي عالمٍ يتغيّر بسرعةٍ مذهلةٍ، تصبح إدارة المعرفة هي سلاح البقاء الوحيد، لأنها تمنح المؤسسة القدرة على أن تتعلم أسرع مما يتغير محيطها. والمؤسسة التي لا تُدير معرفتها تُصبح كالسفينة التي تسير بلا بوصلةٍ في بحرٍ متقلّبٍ؛ تتحرك كثيرًا لكنها لا تتقدّم.
أما المؤسسة التي تُدير معرفتها، فهي تعرف دائمًا أين كانت، وأين هي الآن، وإلى أين تتجه، لأنها لا تُراكم الخبرات فقط، بل تُراكم الوعي الذي يجعلها تُحسن استخدام تلك الخبرات في الوقت والمكان المناسبين.

وهكذا، فإنّ إدارة المعرفة ليست ترفًا تنظيميًا، بل شرط النضج المؤسسي. فهي التي تُحوّل الأداء من تكرارٍ إلى تطوّرٍ، ومن العمل إلى التعلم، ومن النتائج إلى الرؤية. وحين تصل المؤسسة إلى هذه المرحلة، لا تعود إدارة الأداء نظامًا يُراقب الآخرين، بل تصبح معرفةً تُوجّه الجميع، وتُوحّد المعنى في كل فعلٍ مؤسسيٍّ، لأنّ المؤسسة التي تتذكر تُحسن، والتي تُحسن تُبدع، والتي تُبدع تُخلّد.


⚙️ المحور الثاني: العلاقة بين إدارة المعرفة والتحسين المستمر

حين نتأمل في جوهر التحسين المستمر وإدارة المعرفة، نجد أننا أمام مسارين متكاملين يمثلان معًا دورة الوعي المؤسسي. فكل تحسينٍ ينتج معرفةً جديدة، وكل معرفةٍ تُغذّي تحسينًا جديدًا، في حركةٍ دائريةٍ لا تنقطع، تُشبه في ديناميكيتها دوران الأرض حول محورها: لا يراها أحد، لكنها سرّ الضوء الذي يجعل النهار ممكنًا.
فالتحسين المستمر دون إدارة معرفةٍ يُشبه السعي بلا ذاكرة، وإدارة المعرفة دون تحسينٍ تُشبه التكديس بلا حياة. الأولى حركةٌ بلا وعي، والثانية وعيٌ بلا حركة، ولا يتحقق الاتزان المؤسسي إلا حين تتحدا في منظومةٍ واحدةٍ تجعل من كل تعلمٍ مدخلًا لتغييرٍ، ومن كل تغييرٍ مصدرًا لتعلمٍ جديد.

إنّ العلاقة بين إدارة المعرفة والتحسين المستمر ليست علاقةً تبادليةً فحسب، بل هي علاقة تكاملٍ عضويٍّ تشبه العلاقة بين القلب والعقل في الجسد البشري؛ فالعقل يُفكر ليقود الاتجاه، والقلب ينبض ليمنح الحركة، وكلاهما لا يُمكن أن يعيش دون الآخر.
فإدارة المعرفة هي العقل المؤسسي الذي يُحلل ويُفكّر ويُخطّط، بينما التحسين المستمر هو القلب المؤسسي الذي يُحرّك ويُجدد ويُغيّر.
وحين تنفصل المعرفة عن التحسين، تُصاب المؤسسة بالشلل الإداري، لأنّ قراراتها تُصبح تكرارًا لتجارب غير مفهومة، وحين ينفصل التحسين عن المعرفة، تُصاب المؤسسة بالعمى الاستراتيجي، لأنها تتحرك دون بصيرةٍ أو اتجاهٍ واضحٍ.

ولذلك، يُمكن القول إنّ التحسين المستمر هو الجانب العملي التطبيقي لإدارة المعرفة، بينما إدارة المعرفة هي الإطار الفكري الذي يمنح التحسين معناه واتجاهه. فالمعرفة تُمثل الوقود الذي يُشغّل محرك التحسين، والتحسين هو الأداة التي تُحوّل هذا الوقود إلى طاقةٍ منتجةٍ تدفع بالمؤسسة إلى الأمام.
وحين تتقاطع العمليتان داخل منظومة إدارة الأداء المؤسسي، تولد حالةٌ فريدةٌ تُعرف في أدبيات الإدارة بـ التعلّم التنظيمي المستمر (Continuous Organizational Learning)، حيث تتحول المؤسسة إلى كائنٍ متعلمٍ ينمو عبر التجربة والتحليل والمراجعة والتطوير الدائم.

ولكي نفهم هذا التكامل بعمقٍ، علينا أن ندرك أن التحسين لا يُمكن أن يقوم دون “تغذيةٍ راجعةٍ” (Feedback)، وهذه التغذية لا تكون ذات قيمةٍ إلا إذا تحوّلت إلى “معرفةٍ” يُبنى عليها القرار القادم.
فحين تُقاس النتائج وتُحلّل الفجوات وتُوثّق الدروس المستفادة وتُشارك مع أصحاب المصلحة، تتحول دورة التحسين إلى دورة تعلمٍ متكاملةٍ.
وهذا هو ما يجعل إدارة المعرفة هي الحلقة المفقودة التي تُحوّل التحسين من عمليةٍ تصحيحيةٍ مؤقتةٍ إلى عمليةٍ معرفيةٍ تراكميةٍ تُنتج نضجًا مؤسسيًا مستدامًا.

فكل عملية تحسينٍ تنتج معرفةً جديدةً حول ما نجح وما لم ينجح، وهذه المعرفة إن لم تُوثّق وتُنقل وتُستثمر، تضيع فائدتها، وتُعاد التجارب من جديد.
وحين تُدار المعرفة بوعيٍ، فإنّ المؤسسة تُعيد بناء أنظمتها وبرامجها بناءً على ما تعلّمته، لا بناءً على الانطباعات أو الظنون، وهنا يتحول التحسين من رد فعلٍ إلى استجابةٍ استراتيجيةٍ واعيةٍ.
فإدارة المعرفة تُحوّل البيانات إلى معلومات، والمعلومات إلى معرفة، والمعرفة إلى قرارات، والقرارات إلى أفعالٍ محسّنةٍ تُنتج معرفةً جديدةً، في دائرةٍ لا نهائيةٍ من التعلم والتطوير.

ومن الزاوية العملية، تُعدّ إدارة المعرفة الركيزة المعرفية لدورة التحسين PDCA التي وضع أسسها ديمنغ، إذ لا يمكن للمؤسسة أن تُخطط (Plan) دون أن تعرف، ولا أن تُنفّذ (Do) دون أن تتعلم، ولا أن تُراجع (Check) دون أن تُوثّق، ولا أن تُصحّح (Act) دون أن تُحلّل نتائجها السابقة.
فكل خطوةٍ من دورة التحسين تعتمد على المعرفة، وكل معرفةٍ جديدةٍ تُنتج خطوةً محسّنةً.
وهكذا، يصبح التكامل بين إدارة المعرفة والتحسين المستمر جوهر الإدارة الحديثة التي تتعلم باستمرارٍ من أدائها لتحسينه، ومن تحسينها لتعميق فهمها لأدائها.

ويُسهم هذا التكامل أيضًا في تحقيق الكفاءة التنظيمية وتقليل الهدر الإداري. فالمؤسسة التي تُخزّن المعرفة الناتجة عن عملياتها التحسينية، تُقلّل من تكرار الأخطاء ومن إعادة العمل (Rework)، وتُعزز قدرة موظفيها على اتخاذ قراراتٍ أفضل مبنيةٍ على تجاربٍ سابقةٍ موثقةٍ.
وبذلك، يتحول التحسين من جهدٍ جماعيٍّ متقطعٍ إلى ثقافةٍ تشغيليةٍ يوميةٍ تستند إلى معرفةٍ حقيقيةٍ متجددةٍ.
فالعلاقة هنا ليست علاقة دعمٍ مؤقتٍ، بل علاقة اعتمادٍ متبادلٍ: التحسين يُنتج المعرفة من التجربة، والمعرفة تُوجّه التحسين نحو الأثر.

ومن البعد الإنساني، فإنّ إدارة المعرفة تُشكّل الذاكرة الشعورية للتحسين. فهي التي تُحوّل التجارب إلى دروسٍ معنويةٍ تُغرس في الوجدان المهني للعاملين، فتُصبح المراجعة سلوكًا طبيعيًا، والتساؤل عادةً إيجابيةً، والاعتراف بالخطأ مدخلًا للتعلم لا مدعاةً للوم.
فمن دون إدارة المعرفة، يبقى التحسين فعلًا آليًا، ومن دون التحسين، تبقى المعرفة مجرد رواياتٍ عن الماضي.
لكن حين يتكاملان، تُولد ثقافةٌ جديدةٌ ترى في كل إخفاقٍ درسًا، وفي كل نجاحٍ بدايةً لتجربةٍ أوسع، وفي كل مراجعةٍ فرصةً للوعي الذاتي المؤسسي.

ومن الزاوية الإستراتيجية، فإنّ العلاقة بين إدارة المعرفة والتحسين المستمر تُعبّر عن نضج الفكر الإداري في عصر المعرفة. فالعالم اليوم لا يُدار بالمصانع فقط، بل يُدار بالعقول التي تُدير المصانع.
والمؤسسات التي نجحت في البقاء لم تنجُ لأنها كانت الأكبر أو الأغنى، بل لأنها كانت الأسرع في التعلم من تجاربها، والأقدر على تحويل المعرفة إلى فعلٍ منتجٍ.
فالمعرفة تُعطي التحسين بوصلةً، والتحسين يُعطي المعرفة حركةً، وحين تملك المؤسسة البوصلة والحركة معًا، فإنها تسير بثباتٍ نحو التطور مهما تغيّر المحيط.

وتبرز أهمية هذا التكامل أيضًا في تمكين القيادة التحويلية، إذ تُصبح القرارات القيادية مبنيةً على معرفةٍ حقيقيةٍ لا على الحدس أو الانطباعات.
فالقائد الذي يمتلك نظامًا مؤسسيًا لإدارة المعرفة يستطيع أن يرى النمط خلف الحدث، وأن يربط بين السبب والنتيجة، وأن يُحوّل التحسين من استجابةٍ تكتيكيةٍ إلى رؤيةٍ إستراتيجيةٍ تُوجّه المؤسسة بأكملها.
وهكذا، يُصبح التحسين المستمر ليس فقط أداةً للتطوير، بل منهجًا قياديًا لتوليد الوعي التنظيمي الجماعي.

ومن البعد القيمي، فإنّ العلاقة بين إدارة المعرفة والتحسين المستمر تُجسّد مفهوم الإتقان كما ورد في الحديث الشريف:

«إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه» (رواه البيهقي).
فالإتقان لا يتحقق بالجهد فقط، بل بالمعرفة التي تُرشد الجهد، والتحسين لا يُثمر بالإرادة فقط، بل بالوعي الذي يُوجّه الإرادة.
ولهذا، فإنّ تكامل المعرفة والتحسين هو التطبيق العملي للإتقان في صورته المؤسسية الحديثة، لأنه يجمع بين الإخلاص في النية والدقة في العمل والتعلم من التجربة.

وهكذا، نستطيع القول إنّ إدارة المعرفة والتحسين المستمر هما جناحان لطائرٍ واحدٍ يُسمّى “النضج المؤسسي”.
فكل تحسينٍ يرفع المؤسسة درجةً نحو النضج، وكل معرفةٍ تُثبّت قدمها على السلم، حتى تصل إلى مرحلةٍ لا تبحث فيها عن الكمال، بل تُمارس الكمال كعادةٍ مستمرةٍ في التفكير والفعل.
وحين تصل المؤسسة إلى هذه المرحلة، لا يعود التحسين مشروعًا ولا المعرفة نشاطًا، بل يُصبحان نمط حياةٍ مؤسسيةٍ واعيةٍ تُعبّر عن إنسانٍ يعرف ويفعل، ويفعل لأنه يعرف.


🧠 المحور الثالث: نماذج وأطر إدارة المعرفة العالمية (SECI، Nonaka & Takeuchi)

حين تطوّر الفكر الإداري في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ الباحثون يدركون أنّ رأس المال الحقيقي للمؤسسة ليس ما تملكه من آلاتٍ أو مبانٍ أو أموالٍ، بل ما تمتلكه من معرفةٍ حيةٍ في عقول أفرادها. ومن هنا، وُلدت ثورة إدارة المعرفة، التي حاولت أن تُحوّل هذه الطاقة اللاملموسة إلى موردٍ منظمٍ يمكن إدارته وتوظيفه واستثماره لتحقيق ميزةٍ تنافسيةٍ مستدامة.
وفي هذا السياق، كان العالمان اليابانيان إيكيجيرو نوناكا (Ikujiro Nonaka) وهيروتاكا تاكيوتشي (Hirotaka Takeuchi) من أوائل من قدّموا نموذجًا علميًا متكاملًا يُفسّر كيف تُولَد المعرفة داخل المؤسسات، وكيف تنتقل من الفرد إلى الجماعة، ومن الضمني إلى الصريح، ومن الخبرة إلى النظام، في عمليةٍ مستمرةٍ لا تنتهي.

1️⃣ نموذج نوناكا وتاكيوتشي للمعرفة التنظيمية

وضع نوناكا وتاكيوتشي أساسًا لما يُعرف بـ "نموذج توليد المعرفة التنظيمية (The SECI Model)"، والذي يُعدّ اليوم من أكثر النماذج تأثيرًا في فهم ديناميكيات المعرفة داخل المؤسسات.
يرتكز هذا النموذج على فكرةٍ محوريةٍ مفادها أنّ المعرفة ليست مادةً جامدةً تُخزَّن، بل عمليةٌ حيةٌ تتكوّن من التفاعل المستمر بين نوعين من المعرفة:

  • المعرفة الضمنية (Tacit Knowledge): وهي تلك التي يحملها الأفراد في عقولهم، وتشمل الخبرة، والحدس، والرؤية، والمهارة، والملاحظة الدقيقة للسياقات.

  • المعرفة الصريحة (Explicit Knowledge): وهي المعرفة الموثّقة والمكتوبة والمنظمة في أنظمةٍ أو وثائقٍ أو سياساتٍ أو قواعد بيانات.

ويرى نوناكا وتاكيوتشي أنّ جوهر إدارة المعرفة يكمن في القدرة على تحويل المعرفة الضمنية إلى صريحة، والعكس، في دورةٍ مستمرةٍ من الإثراء والتجديد. ومن هذا المبدأ، بنيا نموذجًا ديناميكيًا يقوم على أربع عملياتٍ متتابعةٍ تُكوّن كلمة SECI، وهي اختصارٌ لأربع عملياتٍ معرفيةٍ كبرى:


🔹 S – Socialization (التنشئة الاجتماعية أو التفاعل الضمني – الضمني)

في هذه المرحلة، تنتقل المعرفة من شخصٍ إلى آخر عبر التفاعل المباشر والملاحظة والتقليد والمشاركة في الخبرات، دون الحاجة إلى توثيقها أو كتابتها.
فعندما يُدرّب الخبير موظفًا جديدًا في موقع العمل، أو يُشارك القائد قصته عن تجربةٍ ناجحةٍ، أو يُقلّد المرؤوس سلوك رئيسه في التعامل مع العملاء، فهذه كلها صورٌ من نقل المعرفة الضمنية.
وتُعدّ هذه المرحلة اللبنة الأولى لبناء الثقافة التنظيمية المعرفية، لأنها تُرسّخ فكرة أن المعرفة لا تُكتسب من الكتب فقط، بل من التفاعل الإنساني المباشر الذي يُولّد الثقة والانتماء والملاحظة المتبادلة.


🔹 E – Externalization (التصريح أو التحويل من الضمني إلى الصريح)

في هذه المرحلة، تُحوَّل المعرفة الضمنية إلى معرفةٍ صريحةٍ يمكن توثيقها ومشاركتها.
فما كان حدسًا أو مهارةً أو تجربةً شخصيةً يتحول إلى وثيقةٍ أو إجراءٍ أو قاعدة بياناتٍ أو نموذجٍ.
وهذا هو التحول الأهم في إدارة المعرفة، لأنّ المؤسسة هنا تُخرِج المعرفة من حدود الأفراد لتجعلها موردًا مؤسسيًا عامًا.
ويحدث هذا عادةً عبر الحوار والتفكير الجماعي والمراجعة التحليلية لما تم إنجازه.
فالاجتماعات التي تُناقش "كيف نجحنا في المشروع السابق؟" أو "ما الذي تعلمناه من الإخفاق؟" هي في حقيقتها جلسات تصريحٍ معرفيٍّ تُحوّل التجربة الفردية إلى معرفةٍ يمكن البناء عليها.


🔹 C – Combination (الدمج أو التحويل من الصريح إلى الصريح)

في هذه المرحلة، تُدمج المعارف الصريحة المختلفة لتكوين معرفةٍ جديدةٍ أكثر تعقيدًا وتنظيمًا.
فالمؤسسة تجمع بين تقارير الأداء، ودروس المشاريع، وإحصاءات العملاء، وملاحظات الجودة، لتُنتج منها نظامًا جديدًا أو سياسةً أو رؤيةً مؤسسيةً متكاملةً.
وهذا الدمج هو ما يُحوّل المعلومات إلى معرفةٍ إستراتيجيةٍ، ويجعل من إدارة المعرفة أداةً لصنع القرار.
ويُعتبر هذا المستوى هو الأكثر ارتباطًا بعمليات إدارة الأداء، لأنّ التحليل الكمي والنوعي للنتائج لا يُثمر إلا حين يُدمج في صورةٍ كليةٍ تُفسّر الاتجاهات وتُحدّد الفجوات وتُوجّه التحسين.


🔹 I – Internalization (الاستيعاب أو التحويل من الصريح إلى الضمني)

في هذه المرحلة الأخيرة، تُستوعَب المعرفة الصريحة الجديدة وتتحوّل مرةً أخرى إلى معرفةٍ ضمنيةٍ داخل عقول الأفراد من خلال الممارسة والتجريب والتعلّم التطبيقي.
فحين يقرأ الموظف الإجراء الجديد ويبدأ في تطبيقه، أو حين يُنفّذ الفريق مشروعًا وفق الدروس المستفادة من مشروعٍ سابقٍ، تتحوّل المعرفة الموثّقة إلى مهارةٍ متجسّدةٍ في الفعل.
وهنا تُغلق الحلقة لتبدأ من جديد، لأنّ كل تطبيقٍ يُنتج معرفةً ضمنيةً جديدةً ستعود لاحقًا لتُوثّق وتُعمّم.
وهكذا، تتحرك المعرفة داخل المؤسسة في دورةٍ لولبيةٍ لا تنتهي، تنمو فيها المعرفة كما تنمو الحياة في الطبيعة: من التجربة إلى الفهم، ومن الفهم إلى النظام، ومن النظام إلى الخبرة، ومن الخبرة إلى تجربةٍ أعمق.


2️⃣ العمق الفلسفي للنموذج – المعرفة كحركةٍ لولبيةٍ لا كحالةٍ ساكنة

أهم ما ميّز نموذج نوناكا وتاكيوتشي هو أنه نقل المعرفة من مفهوم التخزين إلى مفهوم التوليد.
فالمعرفة ليست مادةً محفوظةً، بل طاقةٌ تتولد من التفاعل بين العقول، والمشاعر، والسياقات، والحوارات.
ولذلك، شبّه نوناكا دورة المعرفة بـ اللولب الحلزوني (The Knowledge Spiral)، الذي يتحرك صعودًا في كل دورةٍ من التفاعل بين المعرفة الضمنية والصريحة، فتزداد المعرفة عمقًا واتساعًا مع كل دورةٍ جديدةٍ.
فالمؤسسة لا تتعلم من الأحداث فقط، بل من التفكير في الأحداث، ومن التفاعل الجماعي حولها، ومن ترجمة هذا التفاعل إلى معرفةٍ جديدةٍ قابلةٍ للتطبيق.

إنّ هذا النموذج يُبرز البعد الإنساني العميق في إدارة المعرفة، إذ يرى أن المعرفة لا تُصنع بالآلات، بل بالبشر، وأنّ التكنولوجيا ليست سوى وسيلةٍ لتسريع الحوار، لا بديلًا عنه.
فالمعرفة، في جوهرها، نتاجٌ للثقة، والتواصل، والمشاركة، وهي تزدهر في البيئات التي تُقدّر التجربة بقدر ما تُقدّر المعلومة، وتُشجّع السؤال بقدر ما تُكرّم الجواب.


3️⃣ الأبعاد التطبيقية للنموذج في منظومة الأداء المؤسسي

عند تطبيق نموذج SECI في بيئة إدارة الأداء المؤسسي، نجد أنه يوفّر آليةً متكاملةً لتحويل نتائج الأداء إلى معرفةٍ مؤسسيةٍ متراكمةٍ.
ففي مرحلة التنشئة الاجتماعية، يتبادل الموظفون تجاربهم في الميدان، مما يُغذّي التحسين بالملاحظات الواقعية.
وفي مرحلة التصريح، تُحوّل هذه الخبرات إلى تقاريرٍ ودروسٍ مستفادةٍ موثقةٍ تُثري قاعدة المعرفة المؤسسية.
وفي مرحلة الدمج، تُحلّل هذه المعارف وتُدمج مع بيانات الأداء لتُنتج سياساتٍ ومعايير جديدةٍ.
وفي مرحلة الاستيعاب، تُدرّب الفرق على تطبيق هذه المعرفة، لتُصبح جزءًا من الثقافة والسلوك اليومي.
وبهذا، يُغلق النظام الحلقة المعرفية بين الأداء والتحسين والتعلم، لتُصبح المؤسسة أكثر وعيًا بذاتها وأكثر قدرةً على التطوير الذاتي المستدام.


4️⃣ نماذج وأطر أخرى مكملة

إلى جانب نموذج SECI، طوّر الباحثون حول العالم نماذج أخرى تُكمل الصورة الكلية لإدارة المعرفة.
من أبرزها نموذج Wiig Knowledge Model الذي يُركّز على تصنيف المعرفة إلى أربع فئاتٍ: المعرفة الحقائقية، والمعرفة المفاهيمية، والمعرفة الإجرائية، والمعرفة المنهجية، مؤكدًا على ضرورة الربط بينها لتحقيق التعلم التنظيمي.
وكذلك نموذج Kogut and Zander الذي يشرح كيف تنتقل المعرفة داخل المؤسسات متعددة الجنسيات من خلال آليات المشاركة والثقة والتفاعل الثقافي.
وفي العالم العربي، بدأت بعض المؤسسات تتبنى مزيجًا من هذه النماذج لتطوير أطرٍ محليةٍ متكاملةٍ تُراعي الخصوصية الثقافية والتنظيمية للبيئة العربية، كما في مبادرات إدارة المعرفة الحكومية في الإمارات والسعودية.


5️⃣ خلاصة فكرية

إنّ نموذج نوناكا وتاكيوتشي لا يُقدّم وصفًا نظريًا لإدارة المعرفة فحسب، بل يُقدّم فلسفةً وجوديةً للمؤسسة المتعلمة.
فهو يرى المؤسسة ككائنٍ اجتماعيٍّ يُنتج المعرفة باستمرارٍ من خلال تفاعل البشر، لا كآلةٍ ميكانيكيةٍ تُخزّن المعلومات.
وحين تُطبّق هذه الفلسفة في منظومة إدارة الأداء المؤسسي، فإنها تُحوّل الأداء إلى عمليةٍ تفكيرٍ جماعيةٍ، لا إلى قياسٍ رقميٍّ فقط، وتجعل من التحسين المستمر تجربةً معرفيةً تتجدد مع كل إنجازٍ وكل مراجعةٍ وكل سؤالٍ.
فالمعرفة، في ضوء هذا النموذج، ليست غايةً في ذاتها، بل رحلةٌ مستمرةٌ نحو وعيٍ أعمق بالذات المؤسسية وبالعالم الذي تعمل فيه.


🧩 المحور الرابع: إدارة المعرفة كأداةٍ لصنع القرار والتحسين المؤسسي

حين نُعيد النظر في جوهر القرارات الإدارية داخل المؤسسات، نكتشف أن الخطأ لا ينشأ غالبًا من ضعف الإرادة، بل من ضعف المعرفة التي يستند إليها القرار. فالمؤسسات لا تتعثر لأنها لا تعمل، بل لأنها لا تتعلّم بالقدر الكافي قبل أن تعمل، ولأنها لا تربط بين ما تعرفه وما تقرّره. وهنا تظهر إدارة المعرفة بوصفها الجسر الذي يربط بين التفكير والفعل، بين الوعي والسلوك، وبين الأداء والتحسين. إنها ليست وظيفةً إضافيةً في الهيكل التنظيمي، بل نظام الإدراك المؤسسي الذي يُحوّل البيانات إلى بصيرةٍ، والبصيرة إلى قرارٍ، والقرار إلى فعلٍ واعٍ يُنتج معرفةً جديدةً تعود فتُغذّي دورة التحسين.

فالقرار الإداري في صورته الناضجة لا يُبنى على الحدس أو التجربة الفردية فحسب، بل على المعرفة المؤسسية المتراكمة التي تمّ جمعها وتحليلها ومراجعتها عبر منظومةٍ معرفيةٍ ناضجةٍ. وإدارة المعرفة هنا تُصبح بمثابة "العقل الثاني للمؤسسة" الذي يُخزّن الذاكرة، ويُقدّر الاحتمالات، ويُضيء المساحات المظلمة في عملية اتخاذ القرار.
فكل قرارٍ إداريٍّ هو – في جوهره – حكمٌ على موقفٍ غير مكتملٍ بالمعلومة، وإدارة المعرفة هي الأداة التي تُكمّل هذا النقص من خلال استحضار الدروس السابقة، والربط بين الخبرات المتفرقة، وتوقّع النتائج الممكنة على ضوء ما تعلّمته المؤسسة من تجاربها السابقة.

ولذلك، تُعتبر إدارة المعرفة شرطًا حتميًا لنجاح نظم التحسين المؤسسي، لأنها تُزوّد القيادة بمعلوماتٍ دقيقةٍ ومنظّمةٍ تساعدها على اتخاذ قراراتٍ مبنيةٍ على الأدلة Evidence-Based Decisions بدلًا من القرارات الحدسية أو الانفعالية.
فالقائد الذي يُدير المعرفة يُفكّر بالحقائق لا بالانطباعات، ويقرأ الواقع في ضوء السياق لا في ظلال اللحظة.
ولذلك فإنّ إدارة المعرفة ليست مجرد عمليةٍ لتجميع المعلومات، بل هي عمليةٌ لتحويل المعرفة الكامنة إلى وعيٍ قياديٍّ مؤثرٍ، يجعل المؤسسة تُدرك معنى ما تفعله، لا ما تقوم به فقط.

من الناحية النظرية، يُمكن النظر إلى إدارة المعرفة كـ بنيةٍ تحتيةٍ معرفيةٍ لقرارات التحسين المؤسسي. فكل عملية تحسين تبدأ من سؤال: "ماذا حدث؟" ثم تنتقل إلى "لماذا حدث؟" وتنتهي بـ "كيف نمنع تكراره أو نُحسّنه؟".
وهذه الأسئلة الثلاثة لا تُجاب إلا بالمعرفة الموثوقة التي تجمع بين التحليل الكمي والنوعي، وبين الخبرة السابقة والتنبؤ المستقبلي.
فإدارة المعرفة تُوفّر المادة الخام لكل تحليلٍ عميقٍ في الأداء، وتُحوّل البيانات التشغيلية إلى أنماطٍ معرفيةٍ تكشف العلاقات السببية والفجوات الهيكلية.
وبذلك، تُصبح القرارات التحسينية ليست ردود فعلٍ على الأزمات، بل نتائجَ منطقيةً لمراجعةٍ معرفيةٍ واعيةٍ.

وتُسهم إدارة المعرفة في رفع جودة القرارات من خلال ثلاث آلياتٍ رئيسيةٍ:
1️⃣ التحليل المعرفي الشامل (Analytical Knowledge Integration): حيث تُدمج المعلومات من مصادر مختلفةٍ – مالية، تشغيلية، بشرية، استراتيجية – في إطارٍ موحّدٍ يُمكّن القادة من رؤية الصورة الكاملة للأداء المؤسسي بدلًا من النظر الجزئي إلى المؤشرات المنفردة.
2️⃣ التعلّم من التجربة المؤسسية (Institutional Learning): إذ تُحوّل إدارة المعرفة الخبرات السابقة إلى دروسٍ مؤسسيةٍ محفوظةٍ في أنظمةٍ وقواعدٍ تُمكّن متخذي القرار من تفادي الأخطاء المتكررة واستثمار النجاحات السابقة.
3️⃣ التنبؤ والتحليل الاستباقي (Predictive and Prescriptive Analytics): حيث تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لاستخلاص أنماطٍ وتوقعاتٍ تُساعد في اتخاذ قراراتٍ وقائيةٍ واستباقيةٍ قبل وقوع المشكلات.

ومن هنا، فإنّ إدارة المعرفة لا تُسهِم فقط في تحسين "نوعية القرارات"، بل في تحسين توقيت اتخاذها أيضًا. فالقرار الصحيح في الوقت الخطأ يُصبح عديم الجدوى، وإدارة المعرفة تُزوّد المؤسسة بالقدرة على التقاط الإشارات المبكرة من البيانات والمعلومات قبل أن تتحول إلى مشكلاتٍ أو فرصٍ مهدرةٍ.
فهي تُشكّل ما يُعرف في الفكر الإداري الحديث بـ الذكاء المؤسسي (Institutional Intelligence)، الذي يُمكّن القائد من أن يرى "ما وراء الأرقام" و"ما بعد المؤشرات"، فيُدير المستقبل بمعرفةٍ لا بتخمينٍ.

ومن الزاوية العملية، يُمكن القول إنّ إدارة المعرفة هي الأداة التي تجعل التحسين المستمر عمليةً مؤسسيةً لا شخصيةً. ففي غياب نظامٍ معرفيٍّ منظمٍ، يبقى التحسين معتمدًا على اجتهاد الأفراد وخبراتهم المتفرقة، أما حين تُدمج إدارة المعرفة في بنية الأداء، فإنّ المؤسسة تُصبح قادرةً على أن تتعلّم كمؤسسةٍ، لا كأفرادٍ.
فحين تُوثّق الدروس المستفادة من كل مشروعٍ، وتُدمج في أنظمة الأداء، تُصبح المؤسسة أكثر ذكاءً في قراراتها اللاحقة، وأكثر دقةً في تحديد أولوياتها، لأنّها لا تبدأ من الصفر في كل مرة، بل تبدأ من المعرفة التي بنتها في المرات السابقة.

إنّ هذا التكامل بين إدارة المعرفة وصنع القرار يُعيد تعريف مفهوم "القيادة" ذاته. فالقائد في بيئةٍ معرفيةٍ لا يُتوقع منه أن يعرف كل شيءٍ، بل أن يُحسن الوصول إلى المعرفة الصحيحة في الوقت الصحيح.
والمؤسسة الذكية ليست تلك التي تملك المعلومات، بل التي تعرف كيف تُحوّلها إلى فهمٍ مشتركٍ يُوجّه القرار نحو الأفضل.
ففي النهاية، القرار هو لحظة وعيٍ مؤسسيٍّ متجسدٍ في فعلٍ إداريٍّ، وإدارة المعرفة هي التي تُغذّي هذا الوعي بالمعطيات والتحليل والتجريب والنتائج.

ومن البعد الفلسفي، يُمكن القول إنّ إدارة المعرفة تُعيد للقرار الإداري بُعده الأخلاقي والإنساني، لأنها تُحرّره من عشوائية الحدس ومن ضغط اللحظة.
فحين يُبنى القرار على المعرفة، يصبح قرارًا مسؤولًا، لأنّ المعرفة تُضيء له عواقبه قبل أن يُتخذ.
وفي هذا المعنى، فإنّ المعرفة ليست مجرد وسيلةٍ للفعالية، بل هي ضمانةٌ للعدالة، لأنّ القرار الذي لا يستند إلى معرفةٍ كافيةٍ يُصبح شكلًا من أشكال الظلم المؤسسي، إذ يُهدر الموارد ويُربك الجهود ويُطفئ حماس العاملين.
وهكذا، فإنّ إدارة المعرفة لا تُنتج فقط قراراتٍ أفضل، بل تُنتج مؤسساتٍ أكثر نزاهةً، لأنّها تُحوّل القرار من اجتهادٍ فرديٍّ إلى عمليةٍ تشاركيةٍ مبنيةٍ على الوعي الجمعي.

ومن الجانب الثقافي، تُحوّل إدارة المعرفة بيئة العمل إلى مجتمعٍ من المتعلمين (Community of Practice)، حيث يُشارك الجميع في صنع القرار من خلال المعرفة المشتركة.
فالموظف الذي يمتلك معلومةً يصبح شريكًا في التحسين، والمشرف الذي يُحلّل البيانات يصبح فاعلًا في التطوير، والقائد الذي يستمع إلى تجارب فريقه يُحوّل الحوار إلى أداةٍ معرفيةٍ.
وهكذا، يتلاشى الحاجز بين “من يعرف” و“من يقرر”، لأنّ المعرفة تُ democratize القرار، وتجعله جماعيًا مستنيرًا بدروس المؤسسة لا بأمزجة الأشخاص.

ومن البعد التقني، تُسهم أنظمة إدارة المعرفة الإلكترونية في دعم التحسين المؤسسي من خلال ربط المعرفة بالتحليل اللحظي للأداء.
فحين تُدمج قواعد المعرفة مع لوحات مؤشرات الأداء (Dashboards)، يُمكن للقائد أن يُراجع القرارات السابقة والنتائج المترتبة عليها، وأن يُقارن بين الحلول، وأن يُعيد صياغة سياسات التحسين بناءً على المعرفة التاريخية الموثقة.
وهذا التكامل بين المعرفة الرقمية والتحليل الزمني يُحوّل إدارة الأداء من نظامٍ للقياس إلى نظامٍ للتعلّم الذكي، حيث تُصبح البيانات مادةً للتفكير لا مجرد أرقامٍ جامدةٍ.

وفي ضوء كل ما سبق، يمكن القول إنّ إدارة المعرفة تُحوّل القرار المؤسسي من فعلٍ إداريٍّ إلى فعلٍ معرفيٍّ، ومن استجابةٍ إلى استبصارٍ، ومن رد فعلٍ إلى رؤيةٍ. فهي تمكّن المؤسسة من أن تُحسّن نفسها بنفسها، لأنها تُوفّر لها وعيًا دائمًا بما تعمل وتتعلم وتقرر.
وحين تصل المؤسسة إلى هذا المستوى من النضج، تُصبح كل قراراتها انعكاسًا لرحلتها المعرفية، لا مجرد استجابةٍ لضغطٍ خارجيٍّ أو تعليماتٍ وقتيةٍ.
فالمعرفة هنا تُصبح البوصلة التي تُوجّه القرار، والتحسين يُصبح الطريق الذي يُثبت صحة الاتجاه، وهكذا تكتمل دورة الوعي المؤسسي في أجمل صورها.


🌿 المحور الخامس: الثقافة التنظيمية والمعرفة الضمنية كقوةٍ داخليةٍ للتحسين

حين نتحدث عن إدارة المعرفة، قد يخطر ببال البعض أنّنا نتحدث عن أنظمةٍ رقميةٍ أو قواعد بياناتٍ أو إجراءاتٍ رسميةٍ، لكنّ الحقيقة الأعمق هي أن المعرفة ليست تقنيةً بل ثقافة، وأنّ جوهرها يعيش في العقول والسلوك والعلاقات اليومية بين العاملين. فالمؤسسة لا تُصبح “متعلّمة” بالأنظمة وحدها، بل بالبيئة التي تُشجع على المشاركة، وبالثقافة التي تحتفي بالسؤال لا التي تخاف منه، وبالقيادة التي تُقدّر التفكير بقدر ما تُقدّر التنفيذ.
وهنا تتجلّى الثقافة التنظيمية والمعرفة الضمنية بوصفهما المحرّك الداخلي الذي يُبقي التحسين المؤسسي حيًّا متجددًا، لا مجرّد التزامٍ شكليٍّ يُفرض من الخارج.

1️⃣ الثقافة التنظيمية: الروح التي تنفخ الحياة في المعرفة

الثقافة التنظيمية هي منظومة القيم والمعتقدات والسلوكيات التي تُوجّه الطريقة التي يفكّر بها الأفراد ويتعاملون بها مع التغيير داخل المؤسسة. إنها ليست ما يُكتب في الأدلة والسياسات، بل ما يُمارَس في الممرات والاجتماعات والقرارات اليومية.
فالثقافة هي “المنهج الخفي” الذي يُحدّد كيف يُفكّر الناس دون أن يُدركوا، وهي التي تُقرّر ما إذا كانت المعرفة ستُشارك أم ستُخفى، وما إذا كان الخطأ سيُعاقَب عليه أم سيُدرَس ويُحوَّل إلى درسٍ يُفيد الجميع.

ومن هنا، فإنّ بناء ثقافةٍ تنظيميةٍ داعمةٍ للمعرفة هو شرطٌ سابقٌ لأي محاولةٍ لإدارة المعرفة أو للتحسين المستمر.
فالمؤسسة التي تُعاقب الخطأ تُقتل فيها روح التعلم، والمؤسسة التي تحتكر المعرفة تُطفئ فيها جذوة الابتكار.
أما المؤسسة التي تُكافئ المراجعة الذاتية وتُشجّع المشاركة في التفكير وتُكرّم أصحاب الأفكار، فهي التي تبني أساسًا متينًا للمعرفة الحية، لأنها تُحوّل الموظف من “منفّذٍ” إلى “مفكّرٍ”، ومن “عاملٍ” إلى “صانع معرفةٍ”.

الثقافة التنظيمية هنا تعمل كالمناخ في البيئة الطبيعية؛ فهي لا تُرى، لكنها تُؤثر في كل شيء.
فكما لا ينمو النبات إلا في مناخٍ مناسبٍ، لا تنمو المعرفة إلا في ثقافةٍ تحتضنها.
ولهذا نجد أن المؤسسات التي تتبنّى ثقافة الثقة والانفتاح تُنتج بطبيعتها معرفةً أكثر وأعمق، لأنّ الأفراد يشعرون بالأمان النفسي الذي يسمح لهم بالتعبير عن آرائهم وتجاربهم دون خوفٍ من النقد أو العقوبة.
إنّ هذا “الأمان المعرفي” هو التربة التي تنبت فيها جذور التحسين، لأنه يُحرّر العقل من الخوف، ويُحوّل الخطأ إلى فرصةٍ للتفكير، ويجعل الحوار وسيلةً لاكتشاف الحقيقة لا لإثبات الذات.

2️⃣ المعرفة الضمنية: الكنز الخفي في عقل المؤسسة

المعرفة الضمنية هي ما يعرفه الناس لكنهم لا يستطيعون التعبير عنه بسهولةٍ بالكلمات.
إنها الخبرة المتراكمة، والمهارة الدقيقة، والحدس العملي، والرؤية المكتسبة من التجربة الطويلة.
وهي بهذا المعنى تشكّل الجوهر الحي للمعرفة المؤسسية، لأنها ترتبط بالشعور والإدراك والتفاعل الإنساني المباشر.
فالموظف الخبير الذي يعرف كيف يتعامل مع عميلٍ صعبٍ دون أن يُثير توتره، أو المهندس الذي يشعر بأنّ هناك خللًا في النظام قبل أن تُظهره المؤشرات، أو القائد الذي يُوازن بين المصلحة والعدالة في قراراته، كلهم يُمارسون معرفةً ضمنيةً لا تُقاس بالأرقام لكنها تصنع الفارق بين الأداء الجيد والأداء العظيم.

وإدارة المعرفة الذكية لا تسعى إلى استبدال هذه المعرفة الضمنية، بل إلى استخلاصها وتوثيقها دون أن تفقد روحها.
وهذا يتطلب ثقافةً تحترم التجربة الإنسانية وتُقدّرها كأصلٍ استراتيجيٍّ.
فحين يشعر الموظف بأنّ خبرته تُثمَّن ويُستفاد منها، يُصبح أكثر استعدادًا للمشاركة والتدريب والتوجيه، وتتحوّل المعرفة الفردية إلى رأس مالٍ مؤسسيٍّ متجددٍ.
لكن حين تُهمل المؤسسة هذه المعارف، تفقد مع كل تقاعدٍ أو انتقالٍ جزءًا من ذاكرتها ووعيها، وكأنّها تفقد صفحةً من كتاب حياتها الإدارية.

المعرفة الضمنية تُعتبر إذًا الوقود العاطفي والفكري لعمليات التحسين، لأنها تُعبّر عن الحكمة التي لا تُكتسب بالتدريب، بل بالمعايشة.
وحين تُترجم هذه المعرفة إلى ممارساتٍ مؤسسيةٍ، تُصبح المؤسسة قادرةً على التحسين من الداخل، لا بالضغوط الخارجية ولا بالمؤشرات وحدها.
فالقيمة الكبرى للمعرفة الضمنية أنها تجعل التحسين نابعًا من قناعةٍ داخليةٍ لا من تعليماتٍ فوقيةٍ، وتُحوّل كل فردٍ إلى مراقبٍ ومُصلحٍ ومُبدعٍ في موقعه.

3️⃣ العلاقة الجدلية بين الثقافة والمعرفة الضمنية

الثقافة التنظيمية والمعرفة الضمنية هما وجهان لعملةٍ واحدةٍ. فالثقافة هي البيئة التي تُنشئ المعرفة الضمنية وتحافظ عليها، والمعرفة الضمنية هي التعبير العملي عن الثقافة في الواقع.
فإذا كانت ثقافة المؤسسة قائمةً على التعاون، ستجد أن المعرفة الضمنية فيها تُنقل بسهولةٍ بين الأفراد.
أما إذا كانت ثقافتها قائمةً على التنافس السلبي، فستبقى المعرفة حبيسة العقول، لأنّ كل فردٍ سيخاف أن يُشارك ما يعرفه خوفًا من فقدان مكانته أو ميزته.
وهكذا، تصبح المعرفة رهينةً بالقيم التي تسود البيئة المؤسسية.
ففي المؤسسات التي تُقدّر المشاركة أكثر من الفردية، تتحوّل المعرفة إلى ملكٍ جماعيٍّ يُثري الجميع، بينما في المؤسسات التي تُقدّس المركزية، تبقى المعرفة سلاحًا دفاعيًا يُستخدم للحماية لا للبناء.

ومن هنا تأتي أهمية القيادة في كسر هذا الحاجز، إذ تُعدّ القيادة القدوة الأولى في كيفية التعامل مع المعرفة.
فالقائد الذي يُشارك تجربته مع فريقه يُرسل رسالةً ضمنيةً مفادها أن المعرفة قوةٌ تُشارك لا تُحتكر، والقائد الذي يعترف بخطئه أمام الآخرين يُعلّمهم أنّ الفشل ليس عارًا بل معلّمًا، وهكذا تُبنى ثقافةٌ عضويةٌ تُنتج المعرفة وتنشرها دون خوفٍ أو حواجز.

4️⃣ الثقافة كقوةٍ داخليةٍ للتحسين

حين تتحوّل الثقافة التنظيمية إلى بيئةٍ معرفيةٍ ناضجةٍ، تُصبح المؤسسة قادرةً على التحسين الذاتي دون أوامرٍ أو رقابةٍ خارجيةٍ.
فالقيم التي تتغلغل في سلوك الأفراد – مثل الصدق، والانفتاح، والاحترام، والتعلّم، والمساءلة – تتحول تلقائيًا إلى آلياتٍ داخليةٍ للضبط والتحسين.
وفي هذه المرحلة، لا يعود التحسين مجرد برنامجٍ إداريٍّ، بل حالة وعيٍ جماعيةٍ تجعل كل موظفٍ يسأل نفسه: كيف أُحسّن ما أقوم به؟ وكيف أُساعد زملائي على أن يُنجزوا أفضل؟
وهنا يتجلّى جوهر النضج المؤسسي؛ حين تُصبح ثقافة التحسين جزءًا من الهوية المهنية، لا من خطة العمل السنوية.

ولعلّ أجمل ما في هذه المرحلة أنّ التحسين لا يعود استجابةً للمشكلات، بل يصبح سلوكًا استباقيًا.
فالموظف الواعي بالمعرفة لا ينتظر أن يُقال له “أصلح”، بل يُبادر هو إلى اقتراح الحلول وتطوير الأساليب، لأنه يرى التحسين امتدادًا لكرامته المهنية وإتقانه لعمله.
وحين تُصبح هذه الروح جزءًا من الثقافة العامة، تنتقل المؤسسة من مستوى “إدارة الأداء” إلى مستوى “وعي الأداء”، ومن “تحسين العمل” إلى “تحسين الذات”، ومن “تقييم النتائج” إلى “تطوير الإنسان”.

5️⃣ المعرفة الضمنية كحكمةٍ تنظيميةٍ

المعرفة الضمنية ليست فقط خبرةً مهنيةً، بل هي حكمةٌ مؤسسيةٌ تُوازن بين المعرفة التقنية والمعرفة الإنسانية.
فهي التي تُذكّر المؤسسة بأنّ كل نظامٍ يحتاج إلى روح، وكل عمليةٍ تحتاج إلى معنى.
فالموظف الذي يتقن الإجراءات دون أن يفهم فلسفتها يُصبح آلةً، أما الذي يُدرك المعنى خلف الإجراء فيُصبح مبدعًا.
ولذلك، فإنّ إدارة المعرفة الحكيمة لا تكتفي بتوثيق الخطوات، بل تُوثّق “النية” خلفها؛ لماذا نعمل بهذا الشكل؟ ما القيمة التي نسعى إليها؟ ما الرسالة التي يحملها هذا الإجراء في ثقافتنا المؤسسية؟
فبهذا الوعي، تتحوّل المعرفة الضمنية إلى وعيٍ جمعيٍّ بالمعنى، وهو ما يجعل التحسين المستمر متجذرًا في الروح لا في النصوص.


وفي النهاية، يُمكن القول إنّ الثقافة التنظيمية والمعرفة الضمنية هما الطاقة الداخلية التي تُبقي التحسين حيًّا، فهما ما يجعل المؤسسة تُحسّن لأنها تريد أن تكون أفضل، لا لأنها مُطالبةٌ بذلك.
فالمؤسسة التي تُدير أنظمتها ولا تُدير ثقافتها تُشبه من يملأ السفينة بالوقود دون أن يُصلح اتجاه الدفة.
أما التي تُدير ثقافتها ومعرفتها معًا، فهي التي تسير بثباتٍ في بحر التغيير، لأنها تمتلك المحرك والاتجاه معًا.
وحين تبلغ المؤسسة هذا المستوى من الوعي، لا يعود التحسين مشروعًا مؤقتًا، بل أسلوب حياةٍ مؤسسيةٍ تُمارس فيها القيم كما تُمارس المهام، ويُصبح كل إنجازٍ شهادةً جديدةً على نضجها المعرفي والإنساني في آنٍ واحد.


💡 المحور السادس: التحول الرقمي وإدارة المعرفة الذكية في الأداء المؤسسي

لقد دخلت المؤسسات في العقدين الأخيرين مرحلةً غير مسبوقةٍ من التحول، لم تعد فيها المعرفة مجرد موردٍ فكريٍّ يُدار، بل أصبحت نظامًا ذكيًا يتعلّم ويتفاعل ويتطور ذاتيًا. ومع صعود الثورة الصناعية الرابعة، أصبحت إدارة المعرفة في صميم التحول الرقمي، لا بوصفها نشاطًا داعمًا، بل بوصفها البنية العصبية التي تُحرّك كل أنظمة الأداء وتربطها بالوعي التحليلي والقدرة التنبؤية والاستجابة الفورية.
إنّ التحول الرقمي لم يُغيّر فقط أدوات العمل، بل أعاد تعريف معنى المعرفة نفسها، إذ أصبحت المعرفة اليوم رقميةً، آنيةً، تفاعليةً، قابلةً للقياس والتعلّم الآلي. فالمؤسسة التي كانت تعتمد على الإنسان لتوليد المعرفة أصبحت الآن تتشارك هذا الدور مع الأنظمة الذكية التي تُحلّل البيانات وتستنبط الأنماط وتُقدّم التوصيات.

1️⃣ التحول الرقمي كإطارٍ معرفيٍّ جديد

حين نتحدث عن التحول الرقمي، فإننا لا نعني فقط إدخال التقنية إلى العمليات، بل نعني إعادة تشكيل الوعي المؤسسي حول كيفية إنتاج المعرفة وتداولها وتطبيقها.
فالتحول الرقمي في جوهره ليس مشروعًا تكنولوجيًا، بل مشروعًا معرفيًا يُعيد تصميم العلاقة بين الإنسان والمعلومة، بين القرار والبيان، وبين الفعل والتحليل.
ففي الماضي، كانت المعرفة تُبنى عبر الخبرة الشخصية والتفاعل الإنساني، أما اليوم فإنها تُبنى أيضًا من خلال التحليل الضخم للبيانات (Big Data) والتعلّم الآلي (Machine Learning) والذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence).
وأصبحت المؤسسة الحديثة تمتلك عقلًا رقميًا قادرًا على تحويل المعلومة إلى معرفةٍ بشكلٍ أسرع وأكثر دقةٍ مما كان ممكنًا في أي وقتٍ مضى.

هذا التحول جعل إدارة المعرفة تدخل عصرًا جديدًا تُسمّى فيه إدارة المعرفة الذكية (Smart Knowledge Management)، وهي المرحلة التي تُدمج فيها النظم التقنية والتحليلية مع المعرفة البشرية لخلق بيئةٍ مؤسسيةٍ تتعلّم بشكلٍ مستمرٍ من كل عمليةٍ وكل تفاعلٍ وكل قرارٍ.
فالنظام لم يعد مجرد أداةٍ لتخزين المعلومات، بل أصبح شريكًا في التفكير والتحليل والاستنتاج، مما يُعيد تعريف معنى “الذاكرة المؤسسية” لتُصبح ذاكرةً رقميةً متجددةً تُحدّث نفسها لحظةً بلحظة.

2️⃣ إدارة المعرفة الذكية: من التوثيق إلى التعلّم الذاتي

في النماذج التقليدية لإدارة المعرفة، كانت الجهود تتركّز على التوثيق، وجمع المعلومات، وتنظيمها، وضمان وصولها إلى المستفيدين.
أما في المرحلة الذكية، فإنّ التركيز انتقل إلى تفعيل المعرفة في الزمن الحقيقي (Real-time Activation)، بحيث تُستخدم المعرفة فورًا في صنع القرار والتحسين.
فأنظمة المعرفة الذكية قادرةٌ على تحليل ملايين البيانات التشغيلية، واكتشاف الأنماط المتكررة، وتقديم تنبيهاتٍ وتوصياتٍ فوريةٍ للإدارة.
فمثلًا، حين تُظهر البيانات الرقمية انخفاضًا طفيفًا في رضا العملاء في منطقةٍ معينةٍ، يستطيع النظام أن يُقترح إجراءاتٍ تصحيحيةٍ استباقيةٍ بناءً على خبرات المؤسسة السابقة، دون انتظار تقريرٍ شهريٍّ أو مراجعةٍ يدويةٍ.

هذا النوع من المعرفة هو ما يُعرف بـ المعرفة الحية (Living Knowledge)، لأنها لا تُخزَّن فقط، بل تُمارس وتتفاعل وتتعلم.
وبذلك تتحول إدارة المعرفة من وظيفةٍ إداريةٍ إلى نظامٍ ذكيٍّ يُشارك في اتخاذ القرار، مما يُعزز من قدرة المؤسسة على التنبؤ والتكيف والاستجابة السريعة للمتغيرات.

3️⃣ تكامل التحول الرقمي مع منظومة الأداء المؤسسي

التحول الرقمي لا يُضيف إلى منظومة الأداء بعدًا جديدًا فحسب، بل يُعيد هندستها جذريًا.
ففي النظام الرقمي الحديث، تُدمج إدارة المعرفة مع مؤشرات الأداء (KPIs)، ونظم القياس، ولوحات التحكم (Dashboards)، والتقارير التفاعلية.
فكل مؤشرٍ يُغذّي قاعدة المعرفة، وكل تحليلٍ يُنتج درسًا جديدًا، وكل قرارٍ يُخزّن أثره ضمن الذاكرة المؤسسية الرقمية.
وهكذا، تُصبح المؤسسة كائنًا حيًا يمتلك جهازًا عصبيًا رقميًا يُغذّي نفسه بالمعلومات ويُعيد توجيه سلوكه بناءً على التغذية الراجعة.
وهذا ما يُعرف بـ نظام الأداء الذكي (Smart Performance System)، الذي يجمع بين التحليل اللحظي والقرار الفوري والمعرفة المتراكمة.

ومن أبرز التطبيقات العملية لهذا التكامل:

  • نظم التحليل التنبؤي للأداء (Predictive Analytics) التي تتوقع نقاط الضعف المستقبلية قبل وقوعها.

  • نظم دعم القرار (Decision Support Systems) التي تُقدّم خياراتٍ استراتيجيةً مبنيةً على المعرفة المؤسسية.

  • أنظمة إدارة المعرفة السحابية (Cloud-based KM Systems) التي تُتيح تبادل المعرفة بين الفِرق في أي زمانٍ ومكانٍ.

  • تقنيات استخراج المعرفة (Knowledge Mining) التي تُحوّل البيانات الخام إلى دروسٍ وأفكارٍ جديدةٍ قابلةٍ للتطبيق.

4️⃣ الذكاء الاصطناعي كحليفٍ للمعرفة البشرية

في بيئة التحول الرقمي، لم يعد الذكاء الاصطناعي منافسًا للإنسان، بل شريكًا معرفيًا يُعزّز قدرته على التحليل والفهم واتخاذ القرار.
فالأنظمة الذكية تتعلّم من التجارب السابقة، وتُعيد استخدام المعرفة المكتسبة لتحسين القرارات المستقبلية.
وحين تُربط هذه الأنظمة بإدارة الأداء، تُصبح المؤسسة قادرةً على اكتشاف الأنماط الدقيقة في الأداء البشري والتنظيمي، مما يُتيح فرصًا غير مسبوقةٍ للتحسين المستمر.
فالذكاء الاصطناعي هنا يُحوّل إدارة المعرفة من عمليةٍ راصدةٍ إلى عمليةٍ استباقيةٍ، ومن عملٍ وصفيٍّ إلى عملٍ تنبؤيٍّ يقود التطوير قبل حدوث التراجع.

لكنّ القيمة الحقيقية لا تكمن في التقنية ذاتها، بل في الذكاء الجمعي الناتج من تفاعل الإنسان مع الآلة.
فالآلة تُقدّم السرعة والدقة، والإنسان يُقدّم السياق والمعنى، والتكامل بينهما يُنتج معرفةً أكثر نضجًا وإنسانيةً.
وبذلك، يُمكن القول إنّ إدارة المعرفة الذكية هي الصورة الحديثة لفكرة “المؤسسة المتعلمة”، ولكنها مؤسسةٌ تتعلم الآن بمساعدةٍ من العقول الصناعية التي تُحاكي التفكير البشري وتُضاعف قدرته.

5️⃣ من المعرفة الرقمية إلى الحكمة المؤسسية

مع ازدياد قدرة المؤسسات على جمع وتحليل المعرفة الرقمية، ظهر تحدٍ جديدٌ هو تحويل المعرفة إلى حكمةٍ.
فالمعرفة ليست دائمًا نضجًا، لأنّ الكثرة قد تُربك إن لم تُفلتر، والتقنية قد تُضلّل إن لم تُضبط بالوعي.
ولذلك، فإنّ إدارة المعرفة الذكية الناجحة ليست تلك التي تُراكم البيانات، بل التي تُحوّلها إلى بصيرةٍ مؤسسيةٍ قادرةٍ على التمييز بين الضوضاء والإشارة، وبين المهم والعابر، وبين الظاهر والعميق.
ففي هذا العصر الرقمي، الحكمة أصبحت رأس المال الأعلى، لأنها تمثل المرحلة النهائية من تطور المعرفة بعد المعلومات والفهم.

ومن هنا، فإنّ التحول الرقمي في إدارته الراشدة يجب أن يُبقي الإنسان في مركز المعرفة، لأنّ التقنية بلا وعيٍ تتحول إلى ضجيجٍ رقميٍّ بلا روح.
فالذكاء الصناعي يستطيع أن يُحلّل الأداء، لكنه لا يستطيع أن يُلهم العاملين أو أن يُقيم العدالة أو أن يُقدّر المعنى.
ولذلك، فإنّ القيادة في عصر إدارة المعرفة الذكية لا تنحصر في “إدارة البيانات”، بل في رعاية المعنى، وفي الموازنة بين ما تُقدّمه الخوارزميات وما يُدركه الضمير الإنساني.

6️⃣ تحديات التحول الرقمي في إدارة المعرفة

رغم الإمكانات الهائلة للتحول الرقمي، إلا أن المؤسسات تواجه تحدياتٍ متزايدةً في تحقيق التوازن بين التقنية والإنسان.
ومن أبرز هذه التحديات:

  • فجوة المهارات الرقمية: إذ يحتاج العاملون إلى إعادة تأهيلٍ مستمرٍ لاستخدام أدوات المعرفة الذكية بكفاءةٍ.

  • إدارة الأمان والخصوصية: فكلما اتسع نطاق البيانات ازدادت الحاجة إلى ضوابطٍ أخلاقيةٍ وتشريعيةٍ تحمي المعرفة من التسرب أو الاستخدام غير المشروع.

  • التشتت المعرفي: بسبب وفرة المصادر وتعدد المنصات، مما يتطلب أنظمةً قويةً لترشيح المعرفة وتنظيمها.

  • خطر الاعتماد المفرط على التقنية: الذي قد يؤدي إلى تراجع الحس الإنساني في التفاعل واتخاذ القرار.
    ولذلك، فإنّ النجاح في إدارة المعرفة الذكية لا يتحقق بتبنّي الأدوات فقط، بل بتبني فلسفةٍ رقميةٍ إنسانيةٍ تُوازن بين الابتكار والوعي، بين السرعة والتفكير، وبين الكفاءة والمعنى.


وهكذا، يُمكن القول إنّ التحول الرقمي نقل إدارة المعرفة من عصر “التوثيق” إلى عصر “الذكاء”، ومن إدارة المعلومة إلى إدارة الفهم، ومن دعم القرار إلى توليد القرار.
إنها المرحلة التي تُصبح فيها المؤسسة عقلًا متفاعلًا يُفكّر لحظةً بلحظةٍ، ويتعلّم من ذاته باستمرارٍ، ويُحوّل بياناته إلى معرفةٍ، ومعرفته إلى تحسينٍ، وتحسينه إلى حكمةٍ.
وحين تصل المؤسسة إلى هذا المستوى من الوعي الرقمي، فإنّها لا تُواكب المستقبل فحسب، بل تصنعه، لأنها تمتلك الوعي والسرعة والقدرة على التحول في الزمن الحقيقي.


🏛 المحور السابع: التحديات التي تواجه المؤسسات في بناء منظومة إدارة المعرفة

حين تُقرر مؤسسةٌ أن تُنشئ نظامًا لإدارة المعرفة، فإنها لا تُضيف نشاطًا جديدًا إلى هيكلها الإداري، بل تُعلن عن تحوّلٍ في فلسفتها وطريقة تفكيرها. إنها تنتقل من إدارة الأشياء إلى إدارة الأفكار، ومن متابعة النتائج إلى فهم الأسباب، ومن التعامل مع الموظف كأداةٍ تنفيذيةٍ إلى النظر إليه كعقلٍ مُنتجٍ للمعرفة.
وهذا التحوّل العميق لا يمرّ بسهولة، لأنّه يقتضي تغييرًا في الثقافة، وفي الأدوار، وفي أنماط القيادة، وفي آليات اتخاذ القرار. ومن هنا، فإنّ بناء منظومةٍ متكاملةٍ لإدارة المعرفة يُعدّ من أعقد المسارات الإدارية، لأنه يمسّ الجذور لا السطح، ويُعيد تعريف طبيعة العلاقة بين الإنسان والمؤسسة.

1️⃣ التحدي الثقافي – مقاومة التغيير في العقل الجمعي

يُعتبر التحدي الثقافي هو العقبة الأولى والأكثر خطورةً في طريق إدارة المعرفة.
فالمعرفة، بطبيعتها، لا تُدار بالقوة، بل تُشارك بالثقة.
وفي كثيرٍ من المؤسسات، ما تزال الثقافة السائدة تُكافئ من “يحتفظ بالمعلومة” أكثر ممن “يُشاركها”، لأنّ المعلومة تُمنح صاحبها نفوذًا ضمنيًّا.
وهكذا تتحول المعرفة من موردٍ مؤسسيٍّ مشتركٍ إلى “سلطةٍ فرديةٍ”، فيُصبح إخفاء المعرفة سلوكًا دفاعيًا، ويُصبح تبادلها نوعًا من المخاطرة.

إنّ تحويل هذه الثقافة يتطلب بناء بيئةٍ نفسيةٍ آمنةٍ (Psychological Safety) تُشجّع العاملين على مشاركة أفكارهم دون خوفٍ من النقد أو فقدان المكانة.
فالموظف لا يُشارك معرفته إلا إذا شعر بأنّ المؤسسة تحترمه وتقدّر فكره وتمنحه التقدير لا اللوم عند الخطأ.
ومن هنا، فإنّ أول خطوةٍ في إدارة المعرفة ليست في إنشاء النظام الإلكتروني، بل في بناء الثقة.
فالثقة هي لغة المعرفة الأولى، وبدونها تبقى الأنظمة صامتةً مهما بلغت دقتها التقنية.

2️⃣ التحدي القيادي – غياب القدوة المعرفية في الإدارة العليا

إدارة المعرفة لا تنجح بقراراتٍ من القمة، بل بنماذج تُمارسها القمة.
فحين لا يُشارك القائد معرفته، لن يُشاركها أحد.
وحين لا يُظهر القائد اهتمامًا بالتعلّم، لن يتعلّم أحد.
ولذلك، يُعدّ غياب القيادة المعرفية من أخطر معوّقات بناء منظومةٍ معرفيةٍ حقيقية.
فالقائد هو الذي يُحوّل “المعرفة” من مفهومٍ إداريٍّ إلى “قيمةٍ أخلاقيةٍ” تمارس في الحياة اليومية للمؤسسة.
إنّ القيادة المعرفية لا تُلزم الآخرين بالمشاركة، بل تُلهمهم بها، لأنها تجعل من السؤال فضيلةً، ومن المراجعة حكمةً، ومن النقد طريقًا للنمو.
أما القيادات التي تُمارس السلطة بمعزلٍ عن المعرفة، فإنها تُحوّل المؤسسات إلى هياكل بلا روحٍ، تُكرّر نفسها حتى تذبل.

3️⃣ التحدي الإداري – غياب التكامل بين الأنظمة

كثيرٌ من المؤسسات تُنشئ مشاريع لإدارة المعرفة بمعزلٍ عن بقية أنظمتها، فتصبح جزرًا معزولةً لا تُنتج أثرًا.
فإدارة المعرفة لا يمكن أن تُبنى كقسمٍ منفصلٍ، بل يجب أن تُدمج في المنظومة الكلية للأداء المؤسسي.
فهي ليست نظامًا يُضاف، بل إطارًا يُنسّق بين كل الأنظمة: التخطيط، والجودة، والموارد البشرية، والتقنية، والاتصال.
فحين تُبنى إدارة المعرفة دون هذا التكامل، تُصبح مجرد منصةٍ لتبادل الوثائق، لا منظومةً لصناعة الوعي.
أما حين تُدمج إدارة المعرفة في دورة الأداء، فإنها تُحوّل كل عمليةٍ إلى مصدرٍ للتعلّم، وكل تقريرٍ إلى درسٍ مستفادٍ، وكل مؤشّرٍ إلى فرصةٍ للتحسين.

إنّ التحدي الإداري الحقيقي هو في تصميم الحوكمة المعرفية (Knowledge Governance)، التي تُحدّد بوضوحٍ من يملك المعرفة، ومن يُنتجها، ومن يُراجعها، ومن يُحدّثها، ومن يُقرّر نشرها.
فبدون هذه الحوكمة، تتكدّس البيانات وتتشتّت المسؤوليات، ويضيع جوهر إدارة المعرفة بين الأقسام والوظائف.

4️⃣ التحدي التقني – هيمنة الأداة على الفكرة

في كثيرٍ من المبادرات المعرفية، تُستبدل الفكرة بالتقنية.
فتنفق المؤسسات أموالًا طائلةً على أنظمةٍ إلكترونيةٍ ضخمةٍ تُسمّى “بوابات المعرفة”، لكنها تكتشف بعد عامٍ أو اثنين أنّ النظام لم يُستخدم إلا من قلةٍ من الموظفين، وأنّ المعرفة التي فيه لا تُحدّث ولا تُغذّى.
وهذا يعود إلى أنّ التقنية لم تُبنَ على أساسٍ فكريٍّ وثقافيٍّ يُوجّهها.
فالأنظمة لا تخلق المعرفة، بل تُنظّمها.
وإذا لم تكن المؤسسة تمتلك ثقافةً تدفعها إلى إنتاج المعرفة ومشاركتها، فإنّ التقنية تُصبح مجرد قشرةٍ أنيقةٍ تخفي خواء الفكر.
ولهذا، يجب أن يُنظر إلى التقنية في إدارة المعرفة كوسيلةٍ تُسهّل التفاعل، لا كغايةٍ بحدّ ذاتها.
فالمعرفة تُولد من الحوار، لا من الضغط على المفاتيح.

5️⃣ التحدي البشري – انتقال المعرفة بين الأجيال

من أخطر التحديات التي تواجه المؤسسات هو فقدان المعرفة الضمنية عند تقاعد أو انتقال الموظفين ذوي الخبرة.
فكل مغادرةٍ لعقلٍ خبيرٍ هي نزيفٌ صامتٌ في الذاكرة المؤسسية.
والمؤسسات التي لا تمتلك نظامًا لاستخلاص هذه المعرفة من الخبراء قبل رحيلهم، تجد نفسها تُعيد الأخطاء ذاتها مع كل جيلٍ جديدٍ.
ولهذا، فإنّ إدارة المعرفة ليست فقط تجميعًا لما هو مكتوب، بل عمليةُ اصطيادٍ للخبرة البشرية قبل أن تغيب.
ويتطلب ذلك برامج للتوثيق، وجلسات للعصف الذهني، ونظمًا للمقابلات المعرفية، وإدخال إدارة المعرفة في تقييم الأداء الوظيفي حتى يشعر الجميع بمسؤوليتهم تجاه نقل ما يعرفون.

6️⃣ التحدي الزمني – التسرع في النتائج

إدارة المعرفة ليست مشروعًا سريع العائد، بل استثمارٌ طويل الأمد في الوعي.
فالكثير من القيادات تُريد نتائج فوريةً تُثبت نجاح المشروع في التقارير، لكنها لا تدرك أنّ المعرفة تُنبت ببطءٍ كالشجرة، وأنّ ثمارها تحتاج إلى صبرٍ وإصرارٍ.
فالمؤسسات التي تُقيس نجاح إدارة المعرفة بعد ستة أشهرٍ تُخطئ التقدير، لأنّ النجاح الحقيقي يُقاس بمدى تغيّر ثقافة الناس وسلوكهم تجاه التعلم والمشاركة والمراجعة.
وهذا التحول لا يحدث بالأوامر، بل بالممارسة اليومية، وبالقدوة، وبالتحفيز، وبالاستمرارية.

7️⃣ التحدي الاقتصادي – محدودية الموارد المخصصة للمعرفة

تتعامل بعض المؤسسات مع إدارة المعرفة باعتبارها ترفًا تنظيميًا، فتُخصّص لها الحد الأدنى من الميزانيات، رغم أنها تُعدّ اليوم من أهم الاستثمارات في المستقبل المؤسسي.
فالمال الذي يُنفق على إدارة المعرفة لا يُصرف على “المعلومات”، بل على حماية رأس المال الفكري للمؤسسة.
فالمعرفة تُقلّل من الهدر في الوقت، وتُقلّل من الأخطاء، وتُسرّع التعلم، وتُحسّن القرارات، وكل ذلك يُترجم في النهاية إلى وفوراتٍ ماليةٍ ضخمةٍ تفوق أضعاف تكلفة المشروع المعرفي نفسه.
لكنّ الوعي بهذه الحقيقة ما زال محدودًا، مما يجعل كثيرًا من مبادرات إدارة المعرفة تتوقف في منتصف الطريق بسبب ضعف التمويل أو غياب الحافز.

8️⃣ التحدي الأخلاقي – أمانة المعرفة وعدالتها

تُثير إدارة المعرفة سؤالًا أخلاقيًا عميقًا حول ملكية المعرفة ومسؤولية نشرها.
هل المعرفة التي ينتجها الفرد ملكٌ له أم للمؤسسة؟
هل يجوز حجب المعرفة عن الآخرين حمايةً للمكانة أو خشيةً من المنافسة؟
وهل يمكن نقل المعرفة دون الإخلال بحقوق من أنتجوها؟
هذه الأسئلة لا تُجاب في القوانين فقط، بل في الضمير المؤسسي الذي يُوجّه السلوك.
فالمعرفة قوة، وكل قوةٍ تحتاج إلى أخلاقٍ تُنظّمها.
ولهذا، فإنّ المؤسسات الناضجة تضع سياساتٍ واضحةً لحوكمة المعرفة تضمن المسؤولية والعدالة والشفافية في جمعها ونشرها واستخدامها.
فالمعرفة بلا أخلاقٍ قد تُصبح سلاحًا ضد المؤسسة نفسها.


وهكذا، يتّضح أن التحديات التي تواجه إدارة المعرفة ليست مجرد عقباتٍ إداريةٍ أو تقنيةٍ، بل اختبارٌ لقدرة المؤسسة على أن تتعلّم من ذاتها.
فكل تحدٍ ثقافيٍّ أو قياديٍّ أو تقنيٍّ هو مرآةٌ تُظهر مدى استعداد المؤسسة للوعي، ومدى صدقها في سعيها نحو التحسين.
فإدارة المعرفة لا تُقاس بعدد الوثائق ولا بحجم الأنظمة، بل بمدى ما غيّرته في طريقة تفكير الناس، وفي قدرتهم على تحويل المعرفة إلى سلوكٍ مؤسسيٍّ مستدام.
وحين تتجاوز المؤسسة هذه التحديات، فإنها لا تبني نظامًا جديدًا فحسب، بل تبني وعيًا جديدًا يجعلها قادرةً على أن تُفكّر ككائنٍ حيٍّ يتعلم ويُبدع ويُحسّن نفسه باستمرار.


🌍 المحور الثامن: التجارب الدولية والعربية في تطبيق إدارة المعرفة المؤسسية

إنّ إدارة المعرفة، رغم حداثة مصطلحها نسبيًا، تُعدّ من أقدم الممارسات الإنسانية في التاريخ المؤسسي. فكل حضارةٍ قامت، وكل مؤسسةٍ استمرت، كانت في جوهرها مؤسسةً تُدير المعرفة: تُنتجها، وتحفظها، وتنقلها، وتُطبّقها.
لكنّ التحول الحقيقي نحو مفهومٍ علميٍّ ومنهجيٍّ لإدارة المعرفة بدأ في أواخر القرن العشرين، حين أدركت المؤسسات الرائدة أنّ رأس المال الفكري هو المورد الوحيد الذي يزداد بالاستخدام، وأنّ النجاح المستدام لا يأتي من الموارد المالية أو التقنية فحسب، بل من المعرفة المتراكمة التي تُوجّه هذه الموارد نحو الإبداع والتحسين.

1️⃣ التجربة اليابانية – المعرفة بوصفها فلسفةً للوجود المؤسسي

تُعدّ اليابان مهدًا لولادة الفكر الحديث لإدارة المعرفة.
فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، ومع صعود مدارس الجودة الشاملة والتحسين المستمر (Kaizen)، بدأ الفكر الإداري الياباني يربط بين المعرفة والتميّز، ويرى أن المؤسسة ليست آلةً تُدار بالأوامر، بل مجتمعٌ معرفيٌّ حيٌّ يتعلم من ذاته.
وقد جسّدت شركات مثل تويوتا (Toyota) وسوني (Sony) وميتسوبيشي (Mitsubishi) هذا المفهوم في ممارساتها اليومية من خلال نظمٍ دقيقةٍ لتوثيق الدروس المستفادة، وتنظيم المعرفة الضمنية بين الأجيال، وإشراك جميع العاملين في تطوير الحلول.
وفي تويوتا تحديدًا، تحوّل “سجل التعلم” إلى أحد أهم أدوات التحسين المستمر، إذ تُوثّق كل تجربةٍ إنتاجيةٍ مهما كانت صغيرةً، وتُراجع في اجتماعاتٍ دوريةٍ ليتعلّم منها الجميع.
لقد جعلت اليابان من إدارة المعرفة ثقافةً وطنيةً قائمةً على احترام الخبرة الإنسانية، بحيث لا يُنظر إلى المعرفة كملفٍ في النظام، بل كقيمةٍ أخلاقيةٍ تُمارس في كل خطوةٍ من خطوات العمل.

2️⃣ التجربة الأمريكية – المعرفة بوصفها نظامًا استراتيجيًا للميزة التنافسية

في الولايات المتحدة، اتخذت إدارة المعرفة بعدًا أكثر منهجيةً وتحليليةً.
فمع صعود مفاهيم إدارة الجودة الشاملة (TQM) وستة سيجما (Six Sigma) وإدارة الأداء الاستراتيجي (Performance Management)، بدأت الشركات الأمريكية ترى أن المعرفة ليست فقط أداةً للفعالية، بل مصدرًا للابتكار والتجديد التنافسي.
وقد كانت شركات مثل جنرال إلكتريك (GE) وIBM ومايكروسوفت (Microsoft) من أوائل من أسسوا وحداتٍ رسميةً لإدارة المعرفة، تتولى توثيق أفضل الممارسات، وتحليل الخبرات الداخلية، وتغذية نظم الأداء بالمعرفة التحليلية.
ففي شركة IBM، على سبيل المثال، أُنشئ نظامٌ عالميٌّ يُتيح للموظفين مشاركة الحلول والتجارب عبر قاعدة بياناتٍ معرفيةٍ مفتوحةٍ داخل الشركة، تُستخدم يوميًا لتحسين الأداء وتطوير المنتجات.
أما في جنرال إلكتريك، فقد تم دمج إدارة المعرفة في برامج القيادة، بحيث يُصبح القائد "ناقلاً للمعرفة" لا "مُتحكمًا فيها"، مما خلق ثقافةً قياديةً قائمةً على التعلم المتبادل.

3️⃣ التجربة الأوروبية – إدارة المعرفة في إطار التميز المؤسسي والحوكمة

في أوروبا، اندمجت إدارة المعرفة في سياق التميز المؤسسي (Excellence Models)، خصوصًا في إطار نموذج المؤسسة الأوروبية لإدارة الجودة (EFQM)، الذي جعل “إدارة المعرفة والابتكار” محورًا رئيسيًا في التقييم المؤسسي.
وقد اتخذت الدول الأوروبية، مثل فنلندا والسويد وهولندا وألمانيا، مساراتٍ متميزةً في بناء منظوماتٍ وطنيةٍ لإدارة المعرفة، سواء على مستوى القطاع العام أو الخاص.
في فنلندا، تُعتبر المعرفة موردًا وطنيًا يُدار مثل الطاقة، حيث توجد سياساتٌ حكوميةٌ تُشجّع على نقل المعرفة بين الجامعات والقطاع الصناعي والجهات الحكومية، ضمن مفهوم الاقتصاد المعرفي (Knowledge Economy).
أما في ألمانيا، فقد تبنت كبرى الشركات الصناعية مثل سيمنز (Siemens) وفولكسفاغن (Volkswagen) أنظمةً معرفيةً متقدمةً تُربط فيها تقارير الأداء التشغيلية ببرامج التحسين والجودة، بحيث تُصبح كل عمليةٍ إنتاجيةٍ فرصةً لتوليد معرفةٍ جديدةٍ.
وهكذا، تُظهر التجربة الأوروبية أن إدارة المعرفة لا تُختزل في التقنيات، بل في حوكمةٍ واعيةٍ تربط بين الأداء، والمسؤولية، والابتكار، والمجتمع.

4️⃣ التجربة الكندية والأسترالية – إدارة المعرفة في القطاع الحكومي

كندا وأستراليا تُعدّان من الدول الرائدة في إدماج إدارة المعرفة ضمن القطاع العام.
فقد أنشأت الحكومة الكندية منذ أوائل الألفية مركز التميز لإدارة المعرفة الحكومية (Centre of Excellence for KM)، الذي يهدف إلى توحيد المعايير وتبادل المعرفة بين الوزارات والهيئات.
وفي أستراليا، تبنّت الحكومة الفيدرالية إستراتيجيةً وطنيةً للمعرفة العامة ترتكز على مبدأ “المعرفة المشتركة من أجل الخدمة العامة”، بحيث تُتاح الدروس المستفادة من كل مشروعٍ حكوميٍّ لتُستخدم في مشاريع أخرى.
وقد أدّى هذا إلى تعزيز الشفافية والكفاءة والمساءلة، لأنّ القرارات أصبحت مبنيةً على تراكمٍ معرفيٍّ مؤسسيٍّ لا على الاجتهاد الفردي.

5️⃣ التجربة الخليجية والعربية – المعرفة كخيارٍ استراتيجيٍّ للتحول الوطني

في العالم العربي، تبرز تجربة الإمارات العربية المتحدة بوصفها النموذج الأبرز في تبني إدارة المعرفة ضمن إطار التحول الحكومي الشامل.
فمن خلال مبادرة “الحكومة الذكية”، و”برنامج التميز الحكومي”، و”نظام إدارة الأداء الحكومي”، أصبحت المعرفة جزءًا أصيلًا من منظومة الحوكمة الوطنية.
وقد أنشأت العديد من الجهات الإماراتية – مثل وزارة الاقتصاد، ووزارة الموارد البشرية والتوطين، وهيئة كهرباء ومياه دبي – أنظمةً متكاملةً لإدارة المعرفة تعتمد على النماذج العالمية (SECI، EFQM)، وتُربط فيها المعرفة بالأداء والابتكار المؤسسي.
وتُعدّ جائزة محمد بن راشد للأداء الحكومي المتميز من أهم النماذج التي رسّخت مفهوم “المؤسسة المتعلمة” في العالم العربي، حيث أصبح التعلّم المؤسسي والتحسين المستمر معيارًا للريادة.

أما في المملكة العربية السعودية، فقد حققت المؤسسات قفزةً نوعيةً في مجال إدارة المعرفة في ظلّ رؤية المملكة 2030، التي جعلت التحول المعرفي محورًا أساسيًا في تطوير الأداء الحكومي والاقتصادي.
فالمبادرات التي أطلقتها وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وهيئة كفاءة الإنفاق والمشروعات الحكومية، والمركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة “أداء”، تمثل نماذج حية لدمج إدارة المعرفة في المنظومات التشغيلية والرقابية.
كما تبنت العديد من الجامعات والهيئات برامج “التحول المعرفي المؤسسي” لتوثيق الخبرات ونقلها، وتدريب القيادات على استخدام المعرفة في اتخاذ القرار والتحسين المستمر.
وهكذا، تحوّلت إدارة المعرفة في السعودية من مشروعٍ إداريٍّ إلى رؤيةٍ وطنيةٍ تُجسّد التحوّل نحو الاقتصاد القائم على المعرفة.

6️⃣ الدروس المستفادة من التجارب العالمية والعربية

من خلال مقارنة هذه التجارب، يمكن استخلاص عددٍ من الدروس الجوهرية التي تُشكّل معالم الطريق لبناء منظوماتٍ معرفيةٍ ناجحةٍ:
1️⃣ أن الثقافة هي نقطة البداية؛ فنجاح إدارة المعرفة يعتمد على القيم والسلوكيات أكثر من الأنظمة.
2️⃣ أن القيادة هي المحرك؛ فحين يُمارس القائد المعرفة، يُصبح مصدر الإلهام والتحفيز للآخرين.
3️⃣ أن التقنية ليست الغاية؛ فالأنظمة تُسهّل فقط ما تخلقه العقول.
4️⃣ أن الدمج مع الأداء والتحسين هو ما يمنح المعرفة قيمتها الاستراتيجية.
5️⃣ أن المعرفة لا تُقاس بحجمها، بل بقدرتها على إحداث أثرٍ قابلٍ للقياس في القرارات والعمليات والمخرجات.
6️⃣ وأخيرًا، أن الاستدامة المعرفية لا تتحقق إلا حين تتحول المعرفة إلى سلوكٍ يوميٍّ متجذرٍ في ثقافة المؤسسة.


وفي نهاية هذا المحور، يتضح أنّ إدارة المعرفة المؤسسية ليست ترفًا تنظيميًا ولا موضةً إداريةً، بل ضرورةٌ وجوديةٌ في عالمٍ تتغير فيه الحقائق كل يوم.
فالمؤسسات التي تنجح في بناء منظوماتها المعرفية لا تكتفي بأن تتعلم من الماضي، بل تُصمم مستقبلها بمعرفةٍ واعيةٍ، وتُحوّل خبرتها إلى رأس مالٍ متجددٍ.
وحين تنضج هذه المنظومة، تُصبح المعرفة ليست وسيلةً لتحسين الأداء فحسب، بل أسلوبًا للحياة المؤسسية، وعلامةً على الوعي الحضاري للأمة.


🪞 الخاتمة التحليلية

حين نتأمل رحلة إدارة المعرفة في منظومة إدارة الأداء المؤسسي، ندرك أننا لا نتحدث عن أداةٍ من أدوات التطوير، بل عن تحولٍ في فلسفة المؤسسة ذاتها. فالمؤسسة التي تُدير المعرفة لا تُدير الملفات أو الأنظمة، بل تُدير عقلها الجمعي، وتُمارس وعيها الذاتي، وتتعامل مع كل تجربةٍ كدرسٍ، وكل إخفاقٍ كفرصةٍ، وكل إنجازٍ كمعرفةٍ جديدةٍ تُبنى عليها خطوات المستقبل.
إدارة المعرفة ليست مجرد مرحلةٍ من مراحل النضج المؤسسي، بل هي الروح التي تنفخ الحياة في الأداء، لأنها تُحوّل العمليات الجامدة إلى أنظمةٍ حيةٍ تُفكّر وتتعلم وتتطور باستمرار. فكما أنّ الإنسان لا ينضج إلا حين يتعلم من ذاته، كذلك المؤسسة لا تبلغ الرشد إلا حين تُدير ما تعرفه وتُضيف إليه وعيًا جديدًا كل يوم.

إنّ كل منظومةٍ للأداء، مهما بلغت دقتها، تُصبح عاجزةً ما لم تُغذَّ بمعرفةٍ حيّةٍ تُنير قراراتها وتُوجّه تحسيناتها. فالأداء بلا معرفةٍ هو حركةٌ بلا بصيرة، والمعرفة بلا أداءٍ هي فكرٌ بلا أثر.
وحين تلتقي المعرفة بالأداء في نسقٍ متكاملٍ، تولد المؤسسة المتعلمة التي لا تكتفي بالنجاح، بل تُحسّن طريقها إليه كل مرةٍ.
إنها المؤسسة التي تُدرك أنّ التحسين ليس فعلًا خارجيًا، بل حالةُ وعيٍ داخليةٍ تنبع من فهم الذات، وأنّ التعلم ليس نشاطًا موسميًا، بل أسلوبُ حياةٍ إداريٍّ دائم.

لقد أظهرت التجارب العالمية والعربية أن المؤسسات التي نجحت في إدارة المعرفة هي التي جمعت بين الفكر والتقنية، وبين الثقافة والقيادة، وبين البيانات والضمير.
فهي لم تسعَ فقط إلى تجميع المعرفة، بل إلى تحريرها من الجمود، لتصبح معرفةً حيةً تتحرك في العقول لا في الخوادم، وتنتقل بين الأجيال لا بين الملفات.
وهذا هو جوهر النضج المؤسسي الحقيقي: أن تتحول المعرفة إلى سلوكٍ واعٍ، وأن يتحول السلوك إلى ثقافةٍ، وأن تتحول الثقافة إلى هويةٍ، تُعبّر عن المؤسسة كما يُعبّر الإنسان عن ذاته.

وحين نُعيد النظر في العلاقة بين إدارة المعرفة وإدارة الأداء، نكتشف أن الأولى تُغذّي الثانية، والثانية تُقيس أثر الأولى.
فالمعرفة هي الوقود الذي يُشغّل محرك الأداء، والأداء هو المرآة التي تعكس صدق المعرفة وفاعليتها.
وفي هذا التفاعل المستمر بين الفكر والفعل، تتولد القدرة على التحسين الذاتي المستدام، وهو الهدف الأسمى لأي منظومةٍ مؤسسيةٍ تسعى إلى التميّز لا إلى البقاء فقط.
فالمؤسسات التي تكتفي بالبقاء تموت ببطء، أما التي تتعلم فتنمو، وأما التي تُدير المعرفة فتصنع التاريخ.

وفي العمق الفلسفي، تمثل إدارة المعرفة لحظة الوعي في حياة المؤسسة، اللحظة التي تلتفت فيها إلى ذاتها، وتقول: “أنا لا أُريد فقط أن أعمل، بل أن أفهم ما أعمله، وأن أتعلم من كل ما أقوم به”.
وحين تصل المؤسسة إلى هذا الإدراك، تُصبح مثل الإنسان الناضج الذي لا يُقاس بنجاحه فقط، بل بقدرته على تحويل تجاربه إلى وعيٍ، ووعيه إلى نفعٍ، ونفعه إلى أثرٍ.
فالمؤسسة التي تُدير المعرفة تُدير الذاكرة، والذاكرة هي التي تصنع الهوية، والهوية هي التي تصنع المستقبل.

وهكذا، تتكامل دورة الحياة المؤسسية:
من الفعل إلى الفهم، ومن الفهم إلى التحسين، ومن التحسين إلى التعلّم، ومن التعلم إلى الحكمة، ومن الحكمة إلى الخلود المؤسسي الذي يُعبّر عن الاستدامة الحقيقية، لا بوصفها بقاء الهياكل، بل استمرار الوعي.
ففي النهاية، المؤسسات لا تموت حين تُغلق أنظمتها، بل حين تفقد وعيها بذاتها، وإدارة المعرفة هي التي تحفظ هذا الوعي، لأنها تُذكّر المؤسسة بمن كانت، وتُرشدها إلى ما يجب أن تكون عليه، وتُعلّمها كيف تصل إليه بمعرفةٍ متجددةٍ، وتحسينٍ دائمٍ، وأداءٍ واعٍ.

إنّ إدارة المعرفة هي الضمير الخفي لمنظومة الأداء المؤسسي، والذاكرة الحية لرحلة التحسين، والعقل الجمعي الذي يُفكر بالمستقبل بعينٍ مفتوحةٍ على التجربة.
فهي التي تجعل المؤسسة تتعلم من كل تفصيلٍ، وتُبدع من كل تحدٍ، وتُصيغ من ماضيها مستقبلًا أذكى وأكثر وعيًا.
وحين تبلغ المؤسسة هذا المستوى من التكامل، لا تعود إدارة المعرفة نظامًا إداريًا، بل حالةً من الإدراك الجمعي الراقي، تُحوّل كل قرارٍ إلى تعلّم، وكل تعلّمٍ إلى تحسين، وكل تحسينٍ إلى إنجازٍ يُضيء طريق الأجيال القادمة.


✍🏻 التوثيق للمحتوى

📢 يسعدني أن يُعاد نشر هذا المحتوى أو الاستفادة منه في التدريب والتعليم والاستشارات،
ما دام يُنسب إلى مصدره ويحافظ على منهجيته.

✍🏻 هذه الإضاءة من إعداد:
د. محمد العامري
مدرب وخبير استشاري في التنمية الإدارية والتعليمية،
بخبرةٍ تمتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا في التدريب والاستشارات والتطوير المؤسسي.

📲 للمزيد من الإضاءات والمعارف النوعية،
ندعوكم للاشتراك في قناة د. محمد العامري على الواتساب عبر الرابط التالي:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb6rJjzCnA7vxgoPym1z

🌐 تصفّح المزيد من المقالات عبر الموقع:
👉 www.mohammedaameri.com


🔖#إدارة_المعرفة #إدارة_الأداء_المؤسسي #التفكير_التصميمي #د_محمد_العامري #مهارات_النجاح #التحسين_المستمر #التميز_المؤسسي #التحول_المعرفي #الابتكار_المؤسسي #القيادة_الواعية #رؤية_2030 #حوكمة_المعرفة #التحول_الرقمي #التعلم_التنظيمي #المؤسسة_المتعلمة #رأس_المال_الفكري #الاقتصاد_المعرفي

تحميل محتوى الصفحة رجوع