اكتساب المعرفة
مقدمة:
أثارت مسألة المعرفة جدلاً كبيراً منذ القدم حول العديد من القضايا والمسائل ذات العلاقة مثل مصدرها، وطبيعتها، وكيفية اكتسابها، وعلاقتها بكل من الروح والعقل والجسد، وكما دار الجدل أيضاً حول موقع العقل، ودوره في بناء المعرفة، وتوليدها ودور الحواس، والبيئة والوراثة في تشكيل الخبرات والمعارف الإنسانية.
لقد تمخض عن هذا الجدل وجهات نظر وأفكار فلسفية متعددة، جمعها علم النفس الفلسفي (Philosophical Psychology) وكان من أهمها اتجاهان فلسفيان هما: الاتجاه الترابطي الذي شكل المنطلق الرئيس لنظريات علم النفس السلوكية الحديثة والاتجاه العقلاني الذي انطلقت منه نظريات علم النفس المعرفية.
أولاً: الاتجاهات الفلسفية في اكتساب المعرفة:
1- المذهب الترابطي "Associative Docrtine"
أرسطو مؤسس علم النفس الفلسفي من أقواله: النفس مادة قادرة على استقبال المعرفة، الذكاء قدرة النفس على استقبال المعرفة والبشر هم المخلوقات الوحيدة القادرة على اكتساب المعرفة.
يعكس هذا المذهب أفكار الفيلسوف اليوناني أرسطو Aristole – 384 (322 B. C) ومثل هذا الاتجاه المنطق الذي ارتكزت عليه الفلسفة التجريبية والنظريات السلوكية حول التعلم واكتساب الخبرات والمعارف. لقد أكد أرسطو أهمية التفاعل مع البيئة واعتبرها أنها مصدر كل الخبرات والمعارف الإنسانية. ومثل هذه المعرفة يستمدها العقل من البيئة من خلال الحواس الخمس. يرى أرسطو أن الإنسان يولد وعقله صفحة بيضاء – Tablu Raza، ومن خلال عمليات التفاعل مع العالم الحسي تنطبع فيه الأفكار والمعارف حول الأحداث والأشخاص والمواضيع والأشياء المختلفة، وحسب رأيه فإن العقل سلبي ومستقبل للأفكار والمعارف التي هي بمثابة ارتباطات Associations بين أحاسيس واستجابات معينة.
تحدث أرسطو عن ثلاثة أنواع من المعرفة: المعرفة النظرية، والمعرفة العملية، والمعرفة المنتجة
من مقولاته: العقل لا شيء بدون فكر.
وانطلاقاً من ذلك، فإن مكونات العقل هي مجرد ارتباطات تتشكل بفعل عوامل الخبرة وفق أحد المبادئ الثلاثة التالية:
أ- التشابه: Similarity
ويعني أن الأشياء والأحداث التي تتشابه في بعض الخصائص أو تشترك بوجود بعض العناصر تنزع إلى أن تترابط معاً في العقل الإنساني.
مكونات العقل ارتباطات تتشكل بفعل خبرة وفق قوانين معينة.
ب- التنافر: Contrast
ويعني أن الأشياء أو الأحداث المتناقضة تميل إلى أن ترتبط في مجموعات معاً في العقل مثل: "أبيض – أسود، خير – شر، طويل قصير" وهكذا.
ج- التجاور Contiguity
ويعني أن الأشياء أو الأحداث التي يتقارب حدوثها الزماني أو المكاني معاً تنزع إلى أن تترابط معاً لتشكل رابطة أو فكرة.
صنف أرسطو علوم البيولوجيا وعلم النفس تحت علم الفيزياء النظري
اعتقد أرسطو بالمبدأ الحيوي Vilalism
اعتقد أرسطو بمذهب الثنائية Dualism بين الروح والجسد، ورأى أن الجسد يعطي الروح جوهر الوجود المادي من خلال الخبرات الحسية التي تأتي بها الحواس الخمس وذلك لأن مثل هذه الخبرات تعمل على تحريك وتنشيط الروح. أما الروح حسب اعتقاده فهي العنصر الذي يعطي الحياة لكل الوجود البشري، وهي التي تسيطر على كل الرغبات والانفعالات والأفعال التي يعبر عنها الجسد. بالإضافة إلى ذلك تحدث أرسطو عن وظائف النمو: الإحساس، التذكر، الرغبة، والتفكير.
افترض أرسطو فكرة التسلسل الهرمي للروح لتشمل:
أ. الروح النباتية Vegetative Soul
وهي الروح التي يشترك بها الإنسان مع كافة الكائنات الحية، ومثل هذه الروح مسؤولة عن البقاء والنمو والتغذية.
ب. الروح الحيوانية Animal Soul
وهي الروح التي يشترك بها الكائن البشري مع كافة الحيوانات، ومثل هذه الروح تزودنا بالأحاسيس وبنوع محدود من الذكاء والقدرة العقلية.
ج. الروح العقلانية Rational Soul
وهي الروح التي توجد لدى العنصر البشري فقط، وهي تمتاز بالخلود وفيها تكمن كل المظاهر والأنشطة العقلية (Core.ecu.edu).
2- المذهب الإمبريقي Empricism
يعد هذا المذهب امتداداً للفلسفة الترابطية من حيث التأكيد على أهمية الخبرات الحسية، وعمليات التفاعل مع البيئة في اكتساب المعارف والخبرات. تزعم هذا الاتجاه الفيلسوف البريطاني جون لوك John Lock المولود عام (1632) وتأثر به كل من هيوم وبيركلي، وجون ستيوارت مل وغيرهم من الفلاسفة الآخرين. (home.earthlink.net)
أكد جون لوك أهمية الخبرة في تكوين كافة أنواع المعارف وأنماط السلوك والخبرات الإنسانية وقد ذهب أيضاً إلى اعتبار أن الخبرات الفطرية أيضاً هي نتاج لعوامل الخبرة الحسية.
يعتقد جون لوك بأن أفكارنا لا شيء سوى مدركاتنا الحقيقية في عقولنا وأن العقل يمتلك قوة Power لاسترجاع مدركاتنا من مستوع الذاكرة.
وحسب رأيه فإن البيئة هي المصدر الرئيس لمكونات العقل على اعتبار أن الإنسان يولد وعقله صفحة بيضاء، فالأفكار هي العناصر الرئيسية للعقل ومثل هذه الأفكار عبارة عن ارتباطات بين المعلومات الحسية عن المثيرات والاستجابات المختلفة، وتقع الأفكار في فئتين البسيطة والمعقدة بحيث تتشكل الأفكار المعقدة أثناء عمليات التفاعل المستمرة من الأفكار البسيطة تبعاً لأحد الطرق التالية:
أ. تجميع مجموعة من الأفكار البسيطة معاً لتكوين فكرة معقدة.
ب. الاستدلال على علاقة تربط بين فكرتين.
ج. اشتقاق أو استنتاج أفكار بسيطة من أفكار معقدة.
يعمل العقل على ربط الأحاسيس معاً لتكوين مدركاتنا حول هذا العالم من خلال مبدأين هما: الترابط المنطقي "Logical Position" والربط بالصدفة "Chance" بحيث أن الارتباطات التي تتشكل وفق مبدأ الترابط المنطقي تكون أكثر قوة وديمومة في حين تلك التي تشكل وفق مبدأ الصدفة تكون عفوية وآنية.
لقد ميز جون لوك بين مصدرين من مصادر المعرفة أو مكونات العقل وهي الأحاسيس التي تعكس الخصائص الفيزيائية للمثيرات وتستمدها من خلال الاتصال المباشر بها. في حين
يمثل المصدر الثاني الخبرات الناتجة بفعل عملية التجديد أو الانعكاس العقلي "Reflection" واعتماداً على ذلك فإن كل فكرة من أفكار العقل قد تكون خبرة حسية مباشرة أو نتاج لعملية الانعكاس العقلي التي يسقطها العقل على الخبرات الحسية، فمن خلال هذه العملية يستطيع العقل توليد معلومات وأفكار جديدة من خلال العمليات التي يجريها على الأفكار والخبرات الحسية البسيطة. فعلى سبيل المثال عندما تنظر إلى وردة معينة ترى لونها وشكلها وتشم رائحتها وتتحسن ملمسها، وكل هذه خبرات حسية مباشرة من خلال يستطيع العقل توليد أفكار أكثر تعقيداً حول الوردة وفقاً لعملية التجريد أو الانعكاس العقلي. بالرغم من تأكد جون لوك أهمية الخبرات الحسية، إلا أنه يرى في بعض الأحيان أنه لا يمكن التعويل أو الاعتماد عليها، لأن مثل هذه الخبرات قد تكون مشوهة أو ناقصة بحيث تتولد عنها أفكار خاطئة (www.Mindspring.com)
الإحساس والانعكاس العقلي مصدران من مصادر المعرفة.
3. المذهب العقلاني Rationalism
يمثل هذا الاتجاه آراء وفلسفة الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون (Plato; 427 – 347 B. C).
تبنى هذا المذهب كل من الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت والألماني عمنوئيل كانت Kant وسبينوزا Spinoza وغيرهم، وهو المنطق الرئيس الذي ارتكزت عليه نظريات علم النفس المعرفية الحديثة.
العقلانية مرادفة للتفكير الحر Free Thinking
نافذة رقم (1) |
العقلانية كما رآها ديكارت Decartes 1- الاعتقاد بأن معرفة الحقيقة يمكن اكتسابها بالاستنباط. (مقدمة كبرى كل إنسان فان مقدمة صغرى أفلاطون إنسان النتيجة أفلاطون فان 2- الاعتقاد بأن المعرفة الإنسانية يمكن الحصول عليها بالتفكير فقط بدون حاجة للتخزين. 3- لابد من الاعتماد على التفكير أكثر منه على الحدس لتبرير معتقدات الفرد أو أفعاله (huizen. Daxis. Nl). |
خلافاً لما جاءت به الفلفسفة الترابطية والتجريبية حول دور البيئة والخبرات الحسية في تكوين المعرفة واكتسابها، يرى أفلاطون أن المعرفة فطرية وليست مكتسبة، فهي تولد مع
الإنسان ويكون العقل مزوداً بها، مسبقاً. وعليه فإن العقل هو مصدر المعرفة الوحيد التي يستمدها من عالم المثل، في حين ينحصر دور التفاعل مع البيئة وعمليات التعلم في تنشيط وتوليد المعارف المخزنة في العقل والمساعدة في عمليات تذكرها واسترجاعها.
عالم المثل عالم افتراضي تصوره أفلاطون في مقابل عالم الطبيعة.
أكد أفلاطون مبدأ ثنائية العقل والجسد، ويرى أن النشاط الإنساني نتاج تفاعل وحدتين هما: العقل أو الروح والجسد. فالروح أو العقل مصنوعة من مادة استثنائية وترتبط بالعالم المثالي، في حين يتألف الجسد من ذرات مادة مبتذلة رخيصة. وبناءاً على ذلك فهو يرى أن المعرفة الحقيقية تتحقق من خلال الروح أو العقل، أما الجسد فينحصر دوره في التزويد بالمعلومات الحسية والتي هي في أغلب الأحوال تمثيلات مشوهة أو غير صادقة للواقع، ولا يمكن الاعتماد أو التعويل عليها في إدراك الحقيقة فهو يرى أن الأداة التي تعمل على توليد المعرفة وتخزينها هي الروح لأنها المسؤولة عن توليد جميع الأحكام العقلية والشهوة معاً، ويفترض أن للروح جزئين أحدهما عقلاني ويوجد في الرأس، ويشتمل على كافة الأنشطة والمعارف الحكيمة وهي التي تعمل على تمييز الإنسان على سائر المخلوقات الأخرى، وثانيهما غير عقلاني يتواجد في الجسد، واعتبر أن المحرك الأساسي للروح هو الرغبة.
وفي معرض وصفه لمكونات العقل أو ما يسمى بالروح العاقلة ابتكر ما يسمى بالنظرية الشمعية Wax theory وفيها يصف العقل على أنه تكوين من الصيغ أو النسخ Forms الفطرية الطابع التي تنطبع فيها المعارف والخبرات والمدركات والأفكار، ويرى أن هذه النسخ تختلف في حجمها وشكلها من فرد إلى فرد آخر. تشتمل الصيغ على الافتراضات الإدراكية والتفسيرية التي تساعد الأفراد على إدراك العالم بالطريق على يدركونها به أثناء عمليات التفاعل، لأن عمليات التفاعل هذه تعمل على تنشيط المعارف وترسيخها في الصيغ أو النسخ العقلية، ويعتقد أفلاطون أن المعارف التي تترسخ بشكل جيد في العقل تبقى لفترة أطول ويسهل استرجاعها، في حين تلك التي لا تترسخ جيداً أو لا يتم تنشيطها تبقى كامنة ويصعب تذكرها.
4- المذهب الفطري Nativism
يعد هذا المذهب امتداداً للفلسفة العقلانية من حيث تأكيده وجود المعرفة الفطرية المسبقة في العقل الإنساني. فقد تبنى أفكاره العديد من الفلاسفة أمثال ديكارت وليبنز وكانت. يرى كانت (Immanual Kant 1724 – 1804) بأن العقل إيجابي وفعال "Active" في مجال اكتساب المعرفة وتوليدها، حيث تتواجد فيه قدرات مثل الحدس وآليات الفهم الفطرية التي تجعل من الخبرات ذات معنى وقيمة. فالعقل حسب رأيه مزود بالمعرفة الفطرية الأولية التي تمكننا من معالجة الخبرات القادمة إلينا من العالم الخارجي؛ فهو يرى أن الزمان والمكان ليست خصائص فيزيائية للأشياء في الخارج، وإنما هي بحد ذاتها صيغ إدراكية فطرية موجودة بالعقل فعلاً، ويرى أن معرفتنا الفطرية بالزمان والمكان تساعدنا على إدراك كافة أنواع الأفكار والمعارف.
المعرفة فطرية في العقل الإنساني.
بالإضافة إلى بعدي الزمان والمكان، تحدث كانت عن الحقائق القائمة بحد ذاتها Self evident truths والمتعلقة بالعديد من المفاهيم مثل: الفراغ والعمق والاتجاه والمسافة وغيرها التي تتيح للإنسان إدراكها على النحو الذي يدركها بها دون الحاجة إلى تعلم أو تدخل البيئة في ذلك. وأخيراً ميز كانت بين العالم الحسي المتجسد بالخبرات الحسية بحد ذاتها والعالم غير الحسي، ويرى أن الخبرات الحسية يتم ترجمتها إلى تمثيلات أو أفكار من خلال الصيغ الإدراكية الفطرية الموجودة في العقل، أما المعرفة غير الحسية، فهي المعرفة التي يعمل العقل على توليدها من خلال آليات الحدس والفهم والمحاكمة العقلية والتي لا تستند إلى أساس حسي.
ثانياً: المنحى العصبي في اكتساب المعرفة:
النقل العصبي Neural transduction
أن الجهاز العصبي لدى الإنسان يتألف من بلايين الخلايا العصبية تعرف باسم الخلايا العصبية أو العصبونات Neurons. يتواجد الغالبية العظمى منها في الدماغ، وتكمن وظيفتها في تأمين نقل الإشارات والرسائل العصبية الناتجة من التعرض إلى مختلف المثيرات إلى المناطق ذات العلاقة في الجهاز العصبي، ليصار إلى تفسيرها وغصدار القرارات حولها بحيث يتحدد الفعل السلوكي المناسب حيال المثيرات والمواقف المختلفة.
تتواجد الخلايا العصبية في بيئة بيولوجية معقدة، حيث أنها مملوءة ومحاطة بالسائل السيتوبلازمي. تحاط الخلايا العصبية بغشاء رقيق Membrance يمتاز بالنفاذية الانتقائية ويعمل هذا الغشاء على فصل السائل الموجود داخل الخلية عن ذلك السائل الموجود خارجها. يتواجد في السائل داخل الخلية والسائل خارج الخلية جزيئات مواد كيميائية تسمى الأيونات، البعض منها موجبة الشحنة في حين البعض الآخر سالب الشحنة، وتشمل آيونات البوتاسيوم (K+) وآيونات الصوديوم (N+)، وآيونات الكلور (CL-) وآيونات العنصر العضوي (A-).
تكون الخلايا العصبية في حالة الراحة أو الاستقطاب Resting متعادلة الشحنة الكهربائية حيث يكون توزيع الشحنات الموجبة والسالبة متعادلاً داخل وخارج غشاء الخلية وهذا يعني بالطبع أن الخلية العصبية في وضع عدم إثارة، حيث تتركز الشحنات الموجبة خارج غشاء الخلية، في حين تتوضع الشحنات السالبة داخلها.
الأصول العصبية لفهم اكتساب المعرفة
فعندما يحدث نوع من الاستثارة للخلية العصبية، فإن الشحنات الموجبة والسالبة تنجذب نحو بعضها البعض مثل الكرات المغناطيسية وذلك بفعل عوامل الانتشار Diffusion والجذب الكهربائي Electrostatic ليجعل من الخلية العصبية بطارية صغيرة تشتمل على تيار كهربائي تبلغ قيمته 70 مليفولت وتسمى مثل هذه الحالة بفرق الجهد الكهربائي الكامن Resting Potential، وفي حال ازدياد شدة الإثارة الهناتجة بفعل وصول سيال عصبي إلى محور الخلية عبر جسمها من خلية عصبية أخرى، فإن نفاذية غشاء الخلية تتغير وتحدث حالة من الاستقطاب لغشاء الخلية، بحيث يتغير تركيز الشحنات الموجبة والسالبة داخل وخارج غشاء الخلية، وهذا يعني أن داخل الخلية يصبح موجب الشحنة في حين أن خارجها يصبح سالب الشحنة، بحيث يصبح عدد الآيونات الموجبة داخل الخلية أكثر منها خارج غشاء الخلية. ويرجع السبب في ذلك إلى قوى التجاذب الكهربائي التي تسمح لآيونات الصوديوم الموجبة بالنفاذ عبر غشاء الخلية إلى داخل الخلية. في الوقت الذي تطرد فيه آيونات الكلور السالبة الشحنة إلى الخارج.
ينشأ عن هذه الحالة حدوث ما يسمى بحالة الاشتعال أو الإطلاق Firing للخلية العصبية، حيث ينطلق جهد الفعل الكهربائي الكامن بشكل مفاجئ وسريع عبر محور الخلية ويتولد عبر ذلك حالة من الاستقطاب أو ما يسمى جهد الفعل Action Potential والتي تعمل على إثارة الحويصلات Vesicles لمحور الخلية على إطلاق الناقلات العصبية Neurotransmitters عبر نقاط التشابك العصبي Synaptic Clefts إلى الخلايا العصبية الأخرى التي تشتبك مع هذه الخلية. وهكذا نلاحظ أن حالة الاستقطاب – اللااستقطاب – الاستقطاب تتكرر في الخلايا العصبية ويستمر إطلاق السيالات العصبية بين الخلايا العصبية إلى أن يتم تأمين إرسال الإشارات العصبية أو نقل الأوامر اللازمة لتوليد الفعل السلوكي المناسب.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل بالضرورة أن السيال العصبي الذي تطلقه خلية عصبية معينة يعمل على إثارة جميع الخلايا العصبية الأخرى التي تتشابك معها؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هي بالنفي وذلك لأن لكل خلية عصبية عتبة معينة من الإثارة تعرف باسم عتبة الإثارة Threshold of stimulation لإطلاق النبضة العصبية، كما يتوقف إثارة الخلايا أيضاً على نوعية الناقلات العصبية، إذ أن البعض منها ذات صفة استثارية Excitatory في حين البعض الآخر منها ذات صفة تثبيطية Inhibitory واعتماداً على ذلك فإن إثارة الخلايا العصبية لتوليد فرق الجهد الكهربائي يتوقف على كمية ونوعية الناقلات العصبية الواصلة إليها من الخلايا العصبية الأخرى.
هناك مسألة أخرى مثيرة للجدل تتمثل في الكيفية التي يتعامل بها الجهاز العصبي مع المثيرات المختلفة في الشدة، مثل كيف يمكن التمييز بين الضوء الخافت والضوء الشديد، أو الصوت الناعم والصوت الغليظ؟ لقد أسلفنا سابقاً أن لكل خلية عصبية عتبة إثارة معينة، فإما أن تثار أو لا تثار مطلقاً، بحيث أن الطاقة الكهربائية للخلية في وضع الاستقطاب (الراحة) قد تنطلق أو لا تنطلق اعتماداً على مبدأ إما الكل أو لا شيء على الإطلاق (All – or Non Principle) وذلك تبعاً لشدة المثير الذي تتعرض إليه. وهذا يعني بالطبع أن إثارة الخلايا العصبية يعتمد على شدة المثيرات، فالمثيرات التي تقع شدتها دون عتبة الإثارة فبعض الخلايا لا تعمل على إثارتها مطلقاً، في حين تعمل فقط على إثارة الخلايا الأخرى التي تقع عتبة إثارتها دون مستوى شدة هذه المثيرات. من جهة أخرى، يزداد عدد الخلايا العصبية التي يمكن إثارتها تبعاً لشدة المثيرات، إذ أن المثيرات ذات الشدة العالية تعمل على إثارة عدد أكبر من الخلايا العصبية مقارنة مع المثيرات الأقل شدة. وهكذا فمن خلال عمليات الخبرة والممارسة المختلفة يستطيع الجهاز العصبي التمييز بين المثيرات في شدتها مثل درجات ونوعية الصوت والألوان والإضاءة ودرجات الحرارة وإلى غير ذلك. وأخيراً يجدر القول أن التوصل العصبي داخل الخلايا هو كهربائي الصفة، في حين يكون التوصيل بين الخلايا العصبية كيمائي الصفة.
ثالثاً: المنحى النفسي في اكتساب المعرفة:
أ. نظرية اكتشاف الإشارة Signal detection theory
هي صيغة رياضية تستخدم لتحديد تقارير الأفراد من حيث وصول أو عدم وصول شدة المثير إلى أقرب عتبة على نحو يمكنهم من اكتشافه أو تمييزه. تفترض هذه النظرية أن هناك تبايناً في حساسية الأفراد لاكتشاف المثيرات أو عدم اكتشافها وتمييزها، وإن قدرة أو حساسية الفرد في اكتشاف المثيرات أو عدم اكتشافها وتمييزها تتباين أيضاً تبعاً لظروف أو حالات تقديم المثير وتوقعات الفرد وتحيزاته المسبقة.
ترى هذه النظرية أن إدراك المثيرات وتمييزها لا يتحدد فقط من خلال شدة المثيرات أو في ضوء بعض خصائصها ولكن بسبب التشويش العصبي Neural noise وتحيز الاستجابة الذي يؤثر أيضاً في تقارير الأفراد حول اكتشاف الإشارة المتعلقة بالمثيرات أو عدمه. تحدث حالة التشويش العصبي وتحيز الاستجابة من وجود مثيرات تشويش أخرى مرافقة للمثيرات الأصلية أو بسبب معلومات مسبقة حول حدوث المثيرات ذات العلاقة، بحيث تولد نوعاً من التوقع لدى الأفراد حول حدوثها.
نافذة رقم (2) |
التشويش العصبي إن التذبذب العشوائي في الإشارات الكهربائية التي تنتقل عبر الجهاز العصبي يمكن أن تساعد أكثر مما تعرقل انتقال المعرفة الحسية (Newton.ex.ac.uk) التشويش العصبي يمكن أن يساعد في تنظيم ضغط الدم (www.aip.org) إلا أنه يعد من الحساسية البصرية للرضع (www.arclab.org). |
إن مثل هذه النظرية تمكننا من تحديد أثر تحيز الاستجابة في تقارير الأفراد حول اكتشاف المثيرات، ومقارنة كذلك قدرة الأفراد المختلفين في اكتشاف المثيرات الحسية تحت مختلف الظروف التي ربما تولد تحيزات مختلفة وتقارير مختلفة عن المثيرات.
تحيز الاستجابة في تقارير الأفراد حول اكتشاف المثيرات.
تفترض نظرية اكتشاف الإشارة أن إدراك المثيرات واكتشافها يعتمد على عاملين هما:
أ. درجة الحساسية: Sensitivity
وهي مؤشر إلى قدرة الفرد على اكتشاف المثير، ومثل هذه القدرة تتأثر بكل من عملية التشويش العصبي وشدة المثير وكفاءة أو طاقة النظام العصبي لدى الفرد.
ب. محك الاستجابة Response criterion
وهي مقدار الطاقة التي يحتاجها الفرد لكي يقرر حدوث أو عدم حدوث الإشارة المتعلقة باكتشاف مثير مثير معين. فمحك الاستجابة هو مجرد قاعدة داخلية يستخدمها الفرد لإصدار الحكم أو القرار في الإخبار أو عدم الإخبار عن اكتشاف المثير المعني، وهي تعكس دوافع وتوقعات الفرد.
تؤكد هذه النظرية على إمكانية عزل هذه العوامل وقياسها على نحو منفرد وذلك من خلال عدد من التقنيات والطرق. فعلى سبيل المثال، يتم تعريض الأفراد إلى عدد من المحاولات (الظروف) بحيث يتم تقديم مثيرات معينة في بعضها وحجب هذه المثيرات في بعض المحاولات الأخرى، ويطلب من المفحوصين الإخبار حول ما إذا اكتشفوا المثيرات أم لا. تسمى المحاولات التي لا يقدم فيها المثيرات بمحاولات الإمساك أو الخبرة Catch trails، ويكمن الهدف من ورائها تحديد ميل أو نزعة الأفراد إلى الاستجابة عندما لا يكون هناك بالفعل مثيرات، أي من أجل تحديد مستوى التشويش العصبي أو تحيز الاستجابة.
إدراك المثيرات يعتمد على درجة الحساسية ومحك الاستجابة.
ولجعل تحيز الاستجابة واضحاً ومحدداً، بحيث لا يتباين هذا التحيز بطرق غير معروفة مما يؤثر بالتالي في قياس درجة الحساسية لدى الأفراد، قد يعمد الباحث إلى إغراء أو رشوة الأفراد من خلال المكافآت المالية أو تقديم بعض المعلومات حول المثيرات لتغيير التوقعات لديهم، ثم ملاحظة استجابتهم الناتجة. كما قد يلجأ الباحث إلى تغيير التوقعات لدى الأفراد من خلال التغيير في شدة المثيرات أو من خلال تغيير عدد أو نسبة الحالات التي تحدث فيها المثيرات.
تقاس حساسية الأفراد في اكتشاف المثيرات من خلال قدرتهم على التمييز بين الحالات التي تحدث فيها المثيرات وتلك التي لا تحدث فيها تلك المثيرات. وهكذا فإن زيادة قدرة الأفراد على التمييز بين الحالات هو مؤشر لدرجة حساسيتهم في اكتشاف المثيرات، وزيادة حساسيتهم بالطبع تعني أنهم أقل تأثراً بالتشويش العصبي أو تحيز الاستجابة الناتج والتوقعات المسبقة، بالإضافة لذلك يتم التمييز بين المحاولات التي يحدث فيها تغيير في شدة المثيرات.
إن توقعات الأفراد حول حدوث المثيرات تتغير عندما يتم تزويدهم بمعلومات مسبقة حول عدد الحالات التي سوف تحدث فيها تلك المثيرات. ومثل هذه الحالة تؤثر في محك الاستجابة لديهم، فكلما زادت توقعات الأفراد حول عدد الحالات التي سوف تحدث فيها المثيرات، انخفض محك الاستجابة لديهم في الحكم على اكتشاف أو عدم اكتشاف المثيرات، الأمر الذي يؤدي إلى الإقرار باكتشاف المثيرات على نحو أكبر حتى في الحالات التي لا يكونوا فيها متأكدين من حدوث المثيرات.
ولتوضيح ما سبق، يعمد الباحثون من خلال هذه النظرية إلى تعريض الأفراد إلى مجموعة مختلفة من المثيرات، بحيث يتم تزويدهم بها في بعض المحاولات وحجبها في محاولات أخرى، وقد يعمل الباحثون أيضاً إلى التغيير في شدة هذه المثيرات من محاولة إلى أخرى، أو العمل على تقديمها مع مثيرات أخرى تشتت الانتباه، أو تزويدهم ببعض المعلومات المسبقة حول المحاولات التي سوف تحدث فيها مثل تلك المثيرات وذلك لإحداث تغيير في توقعاتهم، ويكمن الهدف من وراء ذلك في تحديد قدرة الأفراد على اكتشاف الإشارات المتعلقة بالمثيرات موضع البحث تحت بعض الظروف المختلفة.
يمكن على أساس هذه النظرية توضيح الفروق الفردية بين الأفراد في إدراكهم واستجاباتهم للمثيرات المختلفة، وتفسير التغيرات التي تحدث في استجابات الأفراد نحو المثيرات المختلفة تبعاً لتغيير ظروف حدوثها أو مستوى شدتها أو بسبب تحيز الاستجابة في ضوء توفر معلومات أو توقعات مسبقة لدى الأفراد.
ب- الإحساس والإدراك Senstion & Preception
تثار تساؤلات عديدة حول الطريقة التي يدخل من خلالها هذا العالم إلى عقولنا أو كيف يتم التعرف على أشيائه والتمييز فيما بينها، وكيف يتم إدراك الفروق بين الأشياء ممن حيث طبيعتها وخصائصها والتباين في شدتها ومظاهرها؟ وإلى غير ذلك من التساؤلات الأخرى.
وللإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها، حاول علماء النفس وعلماء السيكوفيزيا والفسيولوجيا بحث هذه المسائل منذ أكثر من مائتي عام، وتمثل هذا الاهتمام في دراسة عمليتي الإحساس والإدراك.
الإحساس:
يمثل الإحساس العملية التي من خلالها يتم الوعي بالخصائص الفيزيائية للمثيرات الموجودة في البيئة المحيطة مثل اللون والشكل ودرجة الحرارة والمذاق والصوت ... إلخ. فهي
العملية الأولية في معالجة المعلومات التي تعمل على تحويل الطاقة الفيزيائية المتعلقة بالمثيرات البيئية إلى طاقة عصبية داخل الجهاز العصبي. يتم استقبال الرسائل والإشارات عن المثيرات الخارجية من خلال الحواس الخمس المختصة وهي (السمع والشم والبصر والذوق واللمس)، ومثل هذه الإشارات هي بمثابة معلومات خاصة بسيطة تتم معالجتها في الجهاز العصبي مما يمهد لظهور العمليات العقلية المعقدة والتأثير في كافة الأنشطة السلوكية.
بالإحساس نعي الخصائص الفيزيائية للمثيرات وهي العملية الأولية في معالجة المعلومات.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يتم التعرف على الخصائص المختلفة للمثيرات والتمييز فيما بينها؟ مما لاشك فيه أن ذلك يعتمد على نوع مصدر الاستقبال الحسي وخصائص عضو الحس. فالحواس تزودنا بمعلومات مختلفة عن خصائص المثيرات في العالم الخارجي حيث تعمل هذه الحواس وفق آليات خاصة بها وتختص بنوع محدد من المعلومات، فالعين تتاثر بخصائص الضوء المنعكس عن الأشياء، والأذن تتحسس الاهتزازات والأمواج الصوتية الصادرة عن المثيرات، أما الجلد فيستجيب إلى الحرارة والبرودة والضغط الواقع عليه، في حين نجد أن كلاً من الفم والأذن يتأثران بالخصائص الكيميائية للمثيرات ليتم التعرف على المذاقات والروائح.
فعلى سبيل المثال، نجد أن حاسة البصر تعمل وفق مبادئ ميكانيكية بحيث تعمل على تحويل الطاقة الضوئية المنبعثة من الأشياء والمثيرات في العالم الخارجي إلى طاقة عصبية يتم نقلها عبر العصب البصري إلى المناطق المختصة في الجهاز العصبي، الأمر الذي يساعدنا في التعرف على الألوان والأشكال والأحجام والمسافة بالإضافة إلى خصائص أخرى مثل النبات والحركة والتباين والعمق والاتجاه والقبح والجمال. أما حاسة السمع فهي أيضاً تعمل وفق مبادئ ميكانيكية تقوم على تحويل الأمواج الصوتية والاهتزازات الصادرة عن المثيرات إلى نبضات عصبية داخل الجهاز العصبي على نحو يمكننا من التعرف على الأصوات المختلفة من حيث نوعيتها وشدتها ومصدرها واتجاهها. ومثل هذا الأمر يحدث في بقية الحواس الأخرى، الأمر الذي يساعدنا بالتالي على التعرف على خصائص الأشياء والمثيرات في هذا العالم والتمييز فيما بينها.
عتبة الإحساس Threshold of Sensation
هل بالضرورة يمكن الإحساس أو الوعي بكافة المثيرات الموجودة في العالم الخارجي؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي بالنفي طبعاً، إذ أن خصائص الأجهزة الحسية لدى الإنسان لا تمكنه من التقاط كافة الإشارات الحسية للمثيرات الخارجية، وحتى يستطيع عضو الحس التقاط أو اكتشاف خصائص المثيرات الخارجية لابد أن تصل شدتها أو كثافتها إلى حد معين يسمىى بعتبة الإحساس. وعليه فإن عتبة الإحساس هي الحد الأدنى لشدة المثير بحيث يمكن لعضو الحس اكتشافه أو التقاطه.
هناك الكثير من الإشارات الحسية أو الخصائص الفيزيائية للمثيرات لا يمكن الوعي بها أو اكتشافها وقد يرجع السبب في ذلك إلى أن مستوى شدتها دون المستوى المطلوب بحيث لا تحدث إثارة في عضو الحس المعني. وفي حالات أخرى يكون مستوى شدتها أعلى مما يستطيع عضو الحس التأثر به، وفي مثل هذه الحالات فإن التعرف لمثل هذه المثيرات يسبب الألم أو الضيق لعضو الحس.
إن ثمة تساؤل حول الإحساس يتمثل في السؤال التالي: هل بالضرورة أن عضو الإحساس يستطيع دائماً التقاط المثيرات حتى وإن كانت ضمن الحد الأدنى من الشدة؟ والجواب على هذا السؤال هو ليس بالضرورة أن عضو الحس دائماً يستطيع التقاط المثيرات وإن كان مستوى شدتها ضمن الحد الأدنى (عتبة الإحسا). وهذا يقودنا بالطبع إلى الحديث عن عتبة الإحساس المطلقة Absolute Threshold وهي تمثل الحد الأدنى من شدة المثير التي يستطيع الحس اكتشافها أو التقاطها بمعدل 50% من الحالات التي يتم التعرض فيها لذلك المثير.
عتبة الإحساس تقرر قدرة الفرد على التقاط أو اكتشاف المثيرات الخارجية.
عموماً يمكن تلخيص مظاهر عملية الإحساس على النحو التالي:
أ. يعمل النظام الحسي على نقل المعلومات الخارجية إلى الدماغ وتنظيمها على شكل تمثيلات وفقاً لخصائص معينة.
ب. تعد القشرة الحسية Sensory Cortex المنطقة الرئيسة التي تستقبل الإشارات القادمة من الثلاموس (المهاد) والواصلة إليه من الحواس المختلفة.
ج. يتم تمثيل الخبرة الحسية في القشرة الدماغية على نحو متضاد الاتجاه لموقعها في العالم الخارجي. فعلى سبيل المثال نجد أن الجانب الأيسر من القشرة الدماغية البصرية يبصر الجانب الأيمن للخبرة الحسية في العالم الخارجي.
د. تشتمل القشرة الدماغية على خريطة وتمثيل طوبوغرافي Topographical Representation لكل حاسة، بحيث يعمل على ترتيب أو تنظيم المثيرات في الدماغ كما هي في الخارج. فعلى سبيل المثال يتم تمثيل المكونات المختلفة للمثيرات في الدماغ حسب تسلسلها في الخارج، ولكن بالرغم من حدوث بعض التشوهات على الخريطة الحسية داخل الدماغ، إلا أن العلاقات بين المثيرات أو مكونات المثيرات يتم الاحتفاظ بها.
هـ. للحواس المختلفة أعصاب خاصة بها تنقل الإشارات القادمة منها إلى الدماغ وذلك حسب مبدأ مولر Muller في الطاقة العصبية الخاصة Specific Nerve Energys وعليه فإن كثافة الآليات العصبية لأي عضو حس تحدد مدى تمثيله في القشرة الدماغية، وهذا يعني أن كمية المستقبلات (People knew.edu) في القشرة الدماغية تختلف باختلاف أعضاء الحس (Soma.npa.uiue.edu).
نافذة رقم (3) |
قانون مولر Muller الجهاز العصبي ينقل النبضات العصبية وليس الصور (للأشخاص أو المواد). كل عصب حسي يحمل معلومات عن الإحساسات الذاتية الخاصة. |
و. تتألف كل منطقة حسية في القشرة الدماغية من عدد من الأعمدة التي تتألف من الخلايا التي لها نفس الخصائص، بمعنى أن الأعمدة المختلفة من الخلايا لها سماتها الخاصة بها، وعليه فإن كل مجموعة من الخلايا في القشرة الحسية الدماغية تتعامل مع الحالات المختلفة للمثيرات. فعلى سبيل المثال نجد أن بعضها يستجيب على نحو أكبر للخطوط القطرية أو المائلة، في حين نجد أن مجموعة أخرى (عمود) يستجيب على نحو أكبر إلى الهوامش أو الأطراف.
ز. لكل عضو حس من الحواس منطقة أخرى في القشرة الدماغية غير القشرة الحسية الأولية تعرف باسم القشرة الارتباطية Association Cortex مهمتها إجراء معالجات أكثر بتمثيلات إضافية أكثر تعقيداً للخبرات الحسية وفقاً لقانون هب Hebb (Citesser.ist.Psu.edu).
نافذة رقم (5) |
قانون هب Hebb الوحدة الأساسية لمعالجة المعلومات في الدماغ هي تجمع من الخلايا العصبية التي تستطيع أن تعمل فور انغلاق النظام وذلك استجابة لمثير خاص. |
الإدراك Perception
هناك من يخلط بين عمليتي الإحساس والإدراك ويتعامل معهما على أنهما مترادفان لنفس العملية، ولكن في الواقع أن هناك فرقاً بين هاتين العمليتين بالرغم من صعوبة التمييز بينهما نظراً لارتباطهما الوثيق معاً أثناء دورة معالجة المعلومات. فإذا كان الإحساس يعكس عملية الوعي بالخصائص الفيزيائية للمثيرات، فإن عملية الإدراك هي الوعي بالخصائص المعقدة للمثيرات، أي عملية تفسير خصائص المثيرات، وإعطائها المعاني الخاصة بها في ضوء الخبرات السابقة، وعليه فإن الإدراك هو عملية تحويل الإشارات الحسية البسيطة إلى تمثيلات عقلية معينة، ومثل هذه العملية تقوم على اختيار وتنظيم وتفسير المثيرات الخارجية بالاستناد إلى إطار خبرات الأفراد السابقة بهذه المثيرات، فالإدراك هو بمثابة عملية معرفية أكثر تعقيداً من الإحساس، وهي تتعدى الخبرات الحسية البسيطة لتتضمن تمثيلات عقلية أكثر تعقيداً أو أكثر دلالة للمثيرات المختلفة، بحيث أنها تضيف للخبرات الحسية معان جديدة مختلفة.
الإدراك هو الوعي بالخصائص المعقدة للمثيرات وتفسيرها وإعطائها معنى.
إن عملية الإدراك توضح لنا الاختلافات البينية بين الأفراد في أنشطتهم السلوكية واتجاهاتهم حيال المثيرات البيئية المختلفة، فبالرغم من وجود التشابه فيما بينهم من حيث الإحساس بالخصائص الفيزيائية للمثيرات المختلفة، إلا أنهم يختلفون في طريقة تفسيرهم وإدراكهم لهذه المثيرات أو المعاني التي يعطونها لها، وذلك بسبب أنهم يتمثلونها بطريقة مختلفة استناداً إلى خبراتهم السابقة المختلفة بمثل هذه المثيرات.
تعتمد عملية الإدراك على مجموعة من العوامل يرتبط بعضها بالخصائص الفيزيائية للمثيرات في حين يرتبط البعض الآخر بالخصائص النفسية للفرد، وعليه فإن الإدراك هو دالة لهاتين المجموعتين من العامل، ولكن على مستوى الخصائص الفيزيائية للمثيرات كيف يمكن للأفراد إدراك الفرق في شدة المثيرات؟ أي كيف يمكن إدراك الفرق في خصائص المثير الواحد تبعاً للتغيير الذي يحدث في شدة مثل هذه الخصائص؟ لقد حاول العالم الألماني فيبر (Weber) تفسير هذه الظاهرة في القرن التاسع عشر من خلال صياغته لمعادلة الحد الأدنى للفرق الملاحظة Just Noticeable difference (JND) في شدة أو كثافة المثير. فمن خلال هذه المعادلة يمكن تحديد القيم الدنيا من التغيرات التي تحدث في شدة أو كثافة المثير على نحو يمكن الفرد من إدراك الفرق بين حالات المثير المختلفة، فعلى سبيل المثال إذا كنت تستمع إلى صوت معين فما هو الحد الأدنى من التغير الذي يجب أن تحدث في شدته بحيث يمكنك من إدراك الفرق في هذا الصوت، أي إدراك أن إيقاع وشدة الصوت قد تغير؟ (www.usd.edu)
نافذة رقم (5) |
قانون فيبر Weber العتبة الفارقة أو الحد الأدنى للفرق الملاحظ في شدة أو كثافة المثير لإنتاج تغير ملاحظ في الخبرة الحسية المعادلة = حيث أن I العتبة الفارقة، I كثافة المثير الأولية، ثابت أي أن النسبة في الطرف الأيسر للمعادلة دائماً ثابتة بالرغم من تغير كثافة المثير. |
يمثل الحد الأدنى للفرق الملاحظ (JND) كسراً عشرياً أو قيمة كمية يفترض أن تطرأ على كثافة أو شدة المثير الحسي حتى يتمكن الفرد إدراك أن هناك تغيراً طرأ على شدة هذا المثير. لقد وجد فيبر أن لكل عضو حس حساسية معينة للتغيرات في كثافة أو شدة المثيرات، بحيث يستطيع عضو الحس الوعي بها، وهذه الحساسية تختلف من عضو حس إلى آخر، وقد رمز لها بالرمز (K)، واستطاع فيبر حساب هذه القيمة لبعض الخصائص كما هو مبين في الجدول أدناه.
جدول قيم الحساسية لبعض الخصائص
الخاصة | في K |
التردد في الصوت | 0.003 |
السطوع في اللون | 0.17 |
الوزن | 0.02 |
علو الصوت | 0.10 |
الضغط على الجليد | 0.014 |
الملوحة | 0.200 |
يرى فيبر أن إدراك الحد الأدنى للفرق الملاحظ في شدة المثير (JND) يمكن حسابه من خلال المعادلة التالية: KXI = JND حيث (K) هي حساسية عضو الحس للتغير في خصائص المثير، في حين تمثل (I) شدة أو كثافة المثير، وعليه فحتى يتم إدراك الفرق بين وزني حقيبتين تزن كل منهما (25) كغم، يجب أن يزيد وزن إحداهما عن الأخرى بمقدار (KXI) أي (25) × (0.02)، وهو ما يعادل (500 غم).
إن مثل هذه المعادلة يمكن استخدامها لتحديد الحد الأدنى للفرق الملاحظ في شدة الخصائص المختلفة للمثيرات مثل اللون، ودرجة سطوعه، وإيقاع وتردد الصوت وعلوه بالإضافة إلى المذاقات والروائح، والأوزان وغيرها من الخصائص الأخرى.
المظاهر العامة لعملية الإدراك:
لقد أسلفنا سابقاً أن الإدراك هو عملية اختيار وتنظيم وتفسير المدخلات الحسية اعتماداً على الخبرات السابقة، وهذا يعني أن هذه العملية تشتمل على العديد من المظاهر المعرفية يمكن إجمالها على النحو الآتي:
1- الإدراك مرتبط بالمعرفة ويعتمد عليها knowledge based يعتمد الإدراك على الخبرات والمعارف السابقة لأنها تشكل الإطار المرجعي الذي على أساسه يتم تفسير المدخلات الحسية.
الإدراك عملية متقدمة في معالجة المعلومات.
2- الإدراك عملية استدلالية Inerential: يمتاز النظام الإدراكي الإنساني بقدرته على عمل الاستدلالات والاستنتاجات حول المثيرات والحوادث البيئية بالرغم من عدم توفر معلوماتكافية حولها أو لوجود معلومات مشوهة عنها. وهذا يعني أن النظام الإدراكي يستخدم المتوفر من المعلومات الحسية عن المثيرات في إدراكها وتمييزها.
3- الإدراك عملية تصنيفية Categorical: تتيح عملية الإدراك إمكانية تصنيف وتبويب المدخلات الحسية في النظام المعرفي، حيث من خلالها يمكن تجميع الإحساسات المتعلقة بالمثيرات المختلفة في فئات بناءً على وجود الخصائص المشتركة بينها. فالفرد الذي لم يرى طائر الكناري من قبل يمكنه بسهولة إدراكه على أنه ينتمي إلى فئة الطيور نظراً لوجود عناصر التشابه مع الطيور مثل وجود الريش، والذيل، والمنقار، والجناحان.
4- الإدراك عملية علائقية (ارتباطية) Relational: إن وجود خصائص مشتركة بين المثيرات غير كاف لإدراك أوجه الشبه والاختلاف فيما بينها، إذ لابد من توفر آلية لربط وفهم طبيعة العلاقات القائمة بين تلك الخصائص، وعليه يوفر الإدراك معلومات إضافية تساعد في التعرف على الأشياء وتمييزها.
5- الإدراك عملية تكيفية Adaptive: يمتاز النظام الإدراكي بالمرونة والقدرة على التكيف مع المثيرات المختلفة والأوضاع التي تستخدمها، فهو يتيح لنا إمكانية اختيار بعض المثيرات دون غيرها أو اختيار خصائص محددة من المثيرات والانتباه والتركيز عليها أثناء عملية معالجة المعلومات. فالمرونة والقدرة التكيفية للإدراك تمكننا من اتخاذ ردات الفعل السريعة حيال العديد من المواقف ولاسيما الخطرة أو المفاجئة منها.
6- هناك بعض العمليات الإدراكية تتم على نحو أتوماتيكي Automaticly: بحيث لا يمكن الشعور بها وإنما يمكن الشعور أو الإحساس بنتائجها المترتبة عليها.
ج- التمثيلات العقلية Mental Representation
يشير مفهوم التمثيلات العقلية إلى الطريقة التي من خلالها يتم تخزين المعلومات في العقل، إن عملية التمثيل العقلي للمعلومات وتخزينها في الذاكرة أثارت جدلاً كبيراً لدى علماء النفس، وتمثل هذا الجدل في المسائل التالية:
1- هل المعلومات المخزنة في الذاكرة هي صورة حرفية لتلك المثيرات؟
2- هل هي صورة أو خيال يشبه إلى درجة معينة تلك المثيرات؟
3- هل المعلومات المخزنة في الذاكرة ليست صوراً وإنما هي شبكة من الافتراضات والمعاني والعلاقات والخصائص؟
تخزن المعلومات في العقل بعد تمثيلها عقلياً بتحويلها إلى صورة ذهنية أو رموز أو مفاهيم أو قواعد.
لقد تمخض عن هذا الجدل بروز وجهات نظر مختلفة بهذا الشأن إذ أكد بعض علماء النفس أن المعلومات يتم تمثلها عقلياً من خلال الصور العقلية، في حين يرى البعض الآخر أن المعلومات يتم تمثلها من خلال شبكة من المعاني والعلاقات بين الخصائص، وفيما يلي عرض لأشكال التمثيل العقلي: (www.cs.ucl.ac.uk).
نافذة رقم (6) |
التمثيلات العقلية إن نظرية التمثيلات العقلية والنماذج العقلية بخاصة تتفاعل مع شكل ووظيفة معرفة الفرد. كيف يتمثل الكائن البشري المعلومات تمثيلاً عقلياً؟ كيف يستخدم هذه المعلومات للتعامل مع العالم الخارجي بطرق تكييفية؟ |
1- الصور الذهنية Mental Image
يؤكد بعض علماء النفس ولا سيما أصحاب الاتجاه البيئي منهم (Ecological) أن تمثيل المثيرات الخارجية في الذاكرة يتم من خلالها صور عقلية تشبه إلى درجة ما التمثيل الحقيقي لها في الواقع الخارجي Photograph – Live presentation وهذه الصور ليست بالضرورة تجسيداً أو تمثيلاً حرفياً للأشياء أو المثيرات الخارجية، ولكن فيها من الملامح ما يكفي إلى تجسيد أو تمثيل تلك المثيرات، وهذا يعني بالطبع، أننا نفكر في الأشياء من خلال صورها العقلية التي يتم تخزينها في الذاكرة، لكن تظهر بعض الدراسات دعماً لمثل هذه الفرضية والتي تتلخص بالآتي:
1- أظهرت نتائج الدراسات التي طلب فيها من الأفراد وصف مثيرات معينة كانوا قد خبروها في السابق، إن الأفراد عادة يلجأون إلى استحضار صورة عقلية لمثل هذه المثيرات لمساعدتهم على وصفها.
2- أظهرت نتائج التجارب التي تعرف باسم تجارب الذاكرة الصورية Eidetic Image or Photographic memory والتي يتم فيها عرض مجموعة من الصور على الأفراد ثم يطلب منهم بعد ذلك الحديث عن بعض التفاصيل في هذه الصور، إن الأفراد كانوا يعملون على إعادة تشكيل صورة عقلية لهذه الصور، فقد أفاد الأفراد الذين تعرضوا لمثل هذه الخبرة أنهم كانوا يعملون على إعادة استحضار صور الأشياء التي تعرضوا لها ذهنياً من أجل البحث عن بعض التفاصيل (www.intezational parenting ossocealtion.org)
نافذة رقم (7) |
الذاكرة الصورية إن امتلاك الذاكرة الصورية يسمح للفرد بالدخول السهل إلى مخزن المعلومات في الذاكرة، يطلق أحياناً على النصف الكروي الأيمن للدماغ اسم دماغ الصور Image Brain به نرى ما نتخيله أو نحلم به. قبل سن السادسة يسيطر النصف الأيمن بينما يسيطر النصف الأيسر بدءاً من السنة السادسة. |
نافذة رقم (8) |
تدريبات لتطوير الذاكرة الصورة: والقراءة السريعة، وتعلم عدة لغات، والقدرة الحسابية، اعرض على الطفل صوراً سريعة، بطاقات لغوية، وصوراً للأرقام الحسابية. |
3- أظهرت أيضاً تجارب التدوير العقلي Mental rotation أن الأفراد يلجأون إلى الصور العقلية أثناء التفكير بالمثيرات أو إصدار الأحكام عليها. ففي مثل هذه التجارب يتم تعريض الأفراد إلى مجموعة من الأشكال أو الأرقام والأحرف (A A A A) في أوضاع مختلفة، ويطلب منهم الحكم حول ما إذا كانت هذه الأشكال هي في وضعها الطبيعي (Normal) أم أنها صورة انعكاسية (صورة مرآة) Mirror image لها. أفاد الأفراد الذين تعرضوا لمثل هذه الخبرة أنهم كانوا يلجأون إلى أسلوب التدوير العقلي للأشكال من أجل إصدار الأحكام حولها. وقد وجد أن رد الفعل الزمني كان يختلف باختلاف الوضع الذي يتخذه الشكل، حيث أن الأشكال التي كانت تتطلب زاوية تدوير عقلي أكبر تحتاج إلى ردة فعل زمني أطول. فعلى سبيل المثال الحكم على حرف (A) في الوضع (A) يحتاج إلى زمن أطول من الوضع (A) لأن في الحالة الأولى يحتاج إلى زاوية تدوير عقلي أكبر منه في الحالة الثانية (Jordan, 1990).
نافذة رقم (9) |
التدوير العقلي القدرة على تدوير التمثيلات العقلية لأجسام ذات أبعاد ثنائية أو ثلاثية، هذه المهمة يقوم بها أيضاً الشق الأيمن من الدماغ وتستخدم لدراسة سرعة معالجة المعلومات المكانية. |
نافذة رقم (10) |
المراحل المعرفية للتدوير العقلي • كون التمثيل العقلي للشيء. • دور هذا الشيء عقلياً بحيث تستطيع المقارنة بين الأوضاع المختلفة. • أجر المقارنة. • أصدر حكماً. • سجل هذا الحكم. |
4- دلت نتائج الدراسات التي تعرف باسم تفحص الصور العقلية Image Scanning على أن الأفراد يستخدمون الصور العقلية أثناء أداء وتنفيذ المهمات. ففي مثل هذه التجارب يعرض على الأفراد مخططات لعمل أشياء أو خرائط لمواقع معينة، ثم يطلب منهم تنفيذ مهمة معينة، مثل تحديد المسافة بين موقعين مثلاً، وجد من نتائج هذه الدراسات أن الأفراد كانوا يلجأون إلى استحضار الخطط والخرائط عقلياً من أجل تنفيذ المهمات المطلوبة منهم.
5- أثبتت نتائج دراسة أنشطة الدماغ Brain Scanning: أيضاً فكرة التمثيل الصوري للمعلومات. فمن المعروف أن الدماغ يتألف من قسمين متماثلين تقريباً وهما القسم الأيمن والقسم الأيسر وكل من هذين القسمين متخصص في إدراك وتنفيذ مهمات عقلية معينة ويتفوق على الآخر في ذلك. فعلى سبيل المثال نجد أن القسم الأيسر من الدماغ أكثر تخصصاً في مجال إدراك وإنتاج اللغة، في حين نجد أن القسم الأيمن من الدماغ يتخصص في إدراك المكان والمسافة والفراغ والأشكال، ففي دراسات حفظ القوائم التي استخدمت مجموعتين من الأفراد، إحداهما طلب منها حفظ هذه المفردات من خلال التسميع اللفظي والأخرى طلب منها ذلك من خلال تمثيل رابطة عقلية، وجد أن نشاط القسم الأيسر من الدماغ كان أكبر من نشاط القسم الأيمن لدى أفراد المجموعة الأولى التي طلبت منهم حفظ المفردات (القوائم) من خلال التسميع اللفظي، في حين كان نشاط الجزء الأيمن من الدماغ أكبر من القسم الأيسر لدى أفراد المجموعة الثانية التي طلبت منهم حفظ القوائم على أساس تشكيل رابطة فرضية.
6- أظهرت نتائج الدراسات المعروفة باسم تجارب سرعة المطابقة أو المزاوجة Speeded Matching والتي فيها يطلب من الأفراد المزاوجة بين مجموعة من المهمات وفق أسس معينة، فقد أظهرت النتائج أن سرعة الاستجابات في المطابقة بين المهمات تختلف باختلاف أساس المطابقة المطلوب منهم اعتماده. حيث وجد أن ردة الفعل الزمني تكون أقصر في حالة المطابقة بين المهمات على أساس مادي Physical Matching منها في حال المطابقة على أساس لفظي Name Matching. وهكذا اعتماداً على نتائج الدراسات السابقة، يمكن القول بوجود التمثيل العقلي للمعلومات من خلال صورها التي تمثلها بحيث يتم تخزين صور عقلية للمثيرات في الذاكرة يتم الرجوع إليها في الأنشطة العقلية المتعددة.
2- التمثيلات الرمزية Symbolic Representation
بالرغم من وجود بعض الأدلة التي تؤكد فكرة الصور العقلية في تمثيل المعلومات وتخزينها في الذاكرة، إلا أن هناك فريقاً من علماء النفس أصحاب الاتجاه البنائي Constructionism يرون عكس ذلك فمثل هؤلاء العلماء يرون أن المثيرات لا يتم تمثلها من خلال الصور العقلية، وإنما من خلال شبكة منظمة من المفاهيم Concepts المتداخلة والمترابطة معاً، بحيث تشتمل الشبكات على عقد Nodes كل منها يشتمل على مفهوم معين أو يمثل طائفة أو فئة Category من الأشياء أو المثيرات التي تشترك في خصائص معينة في الوقت الذي تتوفر مجموعة خصائص تميز المثير أو المفهوم الواحد عن غيره من المفاهيم، وهكذا فإن المثيرات يتم تخزينها ثم التعرف عليها من خلال شبكة من المعاني والافتراضات والخصائص العامة التي تجمعها بغيرها من المثيرات الأخرى وتلك التي تميزها عن غيرها، فعلى سبيل المثال نجد أن العصفور كمفهوم يمتاز بمجموعة خصائص عامة يشترك بها مع بقية الحيوانات والطيور بحيث يمكن تصنيفه في هذه الفئة وفقاً لهذه الخصائص بالإضافة إلى مجموعة خصائص خاصة به تميزه عن الحيوانات أو الطيور الأخرى على نحو يجعله يقع في فئة أو طائفة مفاهيم أضيق.
نافذة رقم (11) |
نظرية التعلم البنائية ترى أن المتعلم عضوية نشطة في بناء تمثيلاته لمعارفه، وهي تتعارض مع السلوكية حيث يكون دور العضوية سلبياً، تستند هذه النظرية إلى أعمال بياجيه. |
لقد تضمن هذا الاتجاه بروز عدد من النماذج حاولت تفسير عمليات التمثيل الرمزي للمثيرات والمفاهيم من أهمها:
1- النموذج الهرمي لتمثيل المعلومات Hierarchical model of knowledge Representation
لقد طور هذا المفهوم كل من كويلان وكولنز Quillian of Colllins, 1969 وهو يعرف باسم النموذج الشبكي للذاكرة الدلالية Network model of semantic memory وفيه حاولا توضيح الآلية التي يتم من خلالها تخزين المعلومات في الذاكرة وكيفية التعرف عليها وتمييزها.
نافذة رقم (12) |
عام (1975) قدم كولينز ولوفتس النموذج الهرمي، وأزالا البنية الهرمية واستبدلاها بالعقد والوصلات التي تربطها (www.fmrib.ox.ac.uk) |
يفترض هذا النموذج أن المعلومات يتم تخزينها في الذاكرة على شكل شبكة هرمية من المفاهيم بحيث يتسلسل ترتيب المفاهيم في هذه الشبكة من العام إلى الخاص، أي من المفاهيم الأكثر عمومية إلى المفاهيم الأقل تحديداً.
وحسب هذا النموذج فإن المفاهيم العامة تتضمن المفاهيم الأقل عمومية التي تقع في المستوى الأدنى في الشبكة المفاهيمية، فعلى سبيل المثال فإن مفهوم الحيوانات يقع في قمة الشبكة المفاهيمية وهو مفهوم واسع (عريض) يشكل مفاهيم أقل عمومية مثل مفهوم الطيور ثم مفهوم العصفور، وعليه فإن هذا النموذج يرى أن المفاهيم تترابط معاً ويتحدد موقعها في الذاكرة في ضوء عدد من العلاقات. حيث أن تسلسل ترتيب المفاهيم في الشبكة المفاهيمية، بحيث يقع في أعلى الشبكة مفهوم الحيوان والذي يمتاز بخصائص عامة تعرف بالخصائص المحددة Defining Characteristics ومثل هذه الخصائص تجمع بين المفاهيم الأخرى التي تقع في التسلسل الهرمي الأدنى مثل مفهوم الطيور والسمك كما يشرك بها أيضاً مفاهيم أخرى تقع في أسفل التسلسل الهرمي مثل الكناري والسلمون.
يوجد أيضاً ضمن الشبكة المفاهيمية مجموعة العلاقات الرئيسية Suberordinate links وهي مجموعة الخصائص التي تشترك فيها فئة مفاهيمية محددة ضمن الشبكة المفاهيمية الكبرى بحيث تميزها عن غيرها من الشبكات الأخرى، وبالنظر إلى الشكل تلاحظ أن الخصائص التي تمتاز بها الطيور هي خصائص رئيسة تميزها عن سائر الحيوانات الأخرى، بالإضافة إلى الخصائص السابقة، نجد أيضاً أن هناك مجموعة خصائص أخرى تسمى بالخصائص الخاصة Subordinate هذه الخصائص التي ينفرد بها مفهوم معين في الشبكة المفاهيمية، مثل مفهوم الكناري مفهوم يمتاز بالقدرة على التغريد بالإضافة إلى اللون الأصفر ومثل هذه الخصائص تميزه عنه غيره من الطيور والحيوانات.
وعليه فإن عملية تخزين أية معلومات حول مفهوم أو مثير معين أو تذكر واسترجاع تلك المعلومات يتطلب تحديد أو فحص كافة أنواع العلاقات أو الخصائص السابقة كي يتسنى تخزين المعلومات بشكل جيد في الذاكرة البشرية.
د- نموذج انتشار أثر التنشيط Spreading activation network model
يرى أصحاب هذا النموذج أن المثيرات والمفاهيم يتم تخزينها في الذاكرة وفقاً لمجموعة من الخصائص الدلالة، بمعنى أن المفاهيم وخصائصها المميزة لها تخزن في شبكات "network" من العقد "nodes" وتجمع بينها روابط "Connection" بحيث ترمز العقدة إلى المفهوم أو خاصية ذلك المفهوم، في حين ترمز الرابطة إلى علاقة بين المفهوم وخاصية معينة تميزه أو بين المفهوم ومفهوم آخر في الشبكة. وحسب هذا النموذج فإن إثارة أو تنشيط مفهوم معين أو خاصية معينة يؤدي إلى انتقال أثر هذا التنشيط إلى الخصائص الأخرى أو المفاهيم الأخرى ذات العلاقة في الشبكة المفاهيمية. هذا ويوضح الشكل التالي نموذج انتشار التنشيط.
في ضوء ما سبق يمكن تلخيص افتراضات هذا النموذج على النحو التالي:
1- يتم تخزين المعرفة المتعلقة بالمفاهيم والمثيرات المختلفة في شبكات تشتمل على عدد من العقد كل منها يمثل مفهوم معين أو خاصية معينة.
2- هناك روابط تجمع بين المفاهيم معاً أو بين المفاهيم وخصائصها بحيث تسمى الروابط التي تجمع بين المفاهيم بعلاقات الخصائص
3- تتباين أوضاع العقد تبعاً لمستوى التنشيط الذي يحدث فيها، بحيث أن العقد الأكثر تنشيطاً يتم معالجتها بشكل أفضل وبالتالي فهي أكثر وصولاً من غيرها.
4- ينتشر أثر التنشيط خلال الشبكة، بحيث ينتقل هذا التنشيط من عقدة إلى أخرى؛ أي من مفهوم إلى آخر أو من خاصية إلى خاصية أخرى أو من مفهوم إلى خاصية والعكس بالعكس.
تخزن المثيرات في الذاكرة وفقاً لمجموعة من الخصائص الدلالية على شكل شبكات.
حل المشكلات Problem Solving
يواجه الإنسان أثناء تفاعلاته الحياتية المتعددة صعوبات وعوائق كثيرة يتولد عنها مشكلات تحول دون الوصول إلى غاية أو هدف معين، وتتفاوت نوعية المشكلات والعوائق من حيث درجة صعوبتها، إذ أن هناك السهل والمعقد منها، كما أنها تتباين في طبيعتها لتشمل كافة مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية والصحية والمهنية وغيرها من المشكلات الأخرى.
1- تحديد المشكلة:
تعرف المشكلة Problem على أنها وضع إشكالي يسعى الفرد إلى التخلص منه أو وجود عائق يمنع الفرد من تحقيق هدف معين، فالمشكلة هي عبارة عن حالة من الاختلال بين الوضع القائم أو المدرك للفرد وبين الوضع الذي يسعى للوصول إليه، واعتماداً على ذلك، نجد أن وضع حل المشكلة ينطوي على ثلاثة مكونات رئيسة هي:
أ- حالة ابتدائية أو وضع راهن Initial State. ومثل هذا الوضع غير مرغوب فيه بالنسبة للفرد يدفعه إلى التخلص منه.
ب- وضع هدفي goal state وهي الحالة التي يسعى الفرد إلى الوصول إليها.
ج- مجموعة استراتيجيات Set of strategies وهي الوسائل والإجراءات التي يلجأ إليها الفرد للانتقال من الوضع الراهن إلى الوضع المنشود.
نافذة رقم (13) |
مباديء حل المشكلة • الأنواع المختلفة من المشكلات تتضمن تمثيلات عقلية مختلفة. • المشكلات تتفاوت من حيث الصعوبة. • الأنواع المختلفة من المشكلات تستلزم أنواع مختلفة من الحلول. |
نافذة رقم (14) |
أنواع حلول المشكلات: • التقاربي Convergent • التباعدي Divergent • الإبداعي Creative |
2- تصنيف المشكلات:
تتباين المشكلات من حيث نوعيتها وطبيعتها ودرجات صعوبتها بحيث يمكن تصنيفها وفقاً لعدد من الأبعاد وذلك على النحو التالي:
أ- المشكلات جيدة التجديد مقابل المشكلات سيئة التحديد well – defined vs Ill – defined problems.
فالمشكلات جيدة التحديد هي ذلك النوع من المشكلات الواضحة الجوانب التي لها حلول واستراتيجيات وقواعد حل واضحة، بحيث يمكن التأكد من صحة حلولها بالرجوع إلى معايير محددة واضحة. أما المشكلات سيئة التحديد فهي المشكلات التي ليس لها حلول واضحة ولا يوجد استراتيجيات أو قواعد محددة يمكن الرجوع إليها لحل مثل هذه المشكلات.
تتباين المشكلات من حيث نوعيتها وطبيعتها ودرجة صعوبتها.
ب- المشكلات الندية مقابل غير الندية Adversary v.s. Nonadversary Problems
فالمشكلات الندية هي ذلك النوع من المسائل والقضايا التي تتطلب المنافسة بين شخصين أو أكثر في إيجاد الحلول لها أو تحقيق الفوز، وخير مثال على هذا النوع من المشكلات هي اللعب التنافسية مثل الشطرنج، زهر النرد وغيرها من الألعاب الأخرى، أما المشكلات غير الندية فهي التي لا تتطلب المنافسة بين أطراف معينة لإيجاد حل لها ومن الأمثلة عليها حل لعبة المربعات المتقاطعة أو كتابة رواية أو حل مسألة رياضية أو إيجاد حل لمشكلة محددة.
ج- المشكلات القابلة للحل مقابل المشكلات غير القابلة للحل Potentially Solvable v.s. Nonsolvable Problems
فالمشكلات القابلة للحل هي تلك المسائل والقضايا التي يمكن إيجاد حلول محتمة لها مهما بلغت درجة صعوبتها وتعقيدتها، في حين المشكلات غير القابلة للحل هي القضايا التي يستحيل أو يصعب إيجاد حلاً مناسباً لها.
3- التمثيل العقلي للمشكلة Probem mental representation
نافذة رقم (15) |
التمثيل العقلي للمشكلات: • القواعد، الخوارزمية. • الفروض، التخمينات. • نماذج عقلية، حلول معروفة • تصميم المشكلة. |
نافذة رقم (16) |
الذكاء ما وراء المعرفي أو معرفة ما وراء المعرفي، يتكون من المعتقدات ذات العلاقة بالعوامل أو المتغيرات التي تفعل أو تتفاعل بطرق مؤثرة في مسار مخرجات الخبراتية المعرفية. فلافل (1987) وشيوفلد (1982) وديري (1992) متفقون على أهمية هذا النوع من المعرفة الذي يركز على التمثيلات المعقدة والحلول الاستراتيجية (www.cogs.susx.ac.uk) |
حالما يبدأ الإحساس بوجود مشكلة ما فإن المطلوب الأول الذي يجب علينا القيام به لحل مثل هذه المشكلة هو صياغة هذه المشكلة بشكل واضح يتيح لنا إمكانية التفكير بها. فعند صياغة المشكلة يجب النظر إليها بطرق مختلفة مع العمل على تحديد الوضع الراهن والوضع الذي نسعى في الوصول إليه، كما يتطلب الأمر أيضاً ربط هذه المشكلة بالخبرات والمعلومات المتوفرة لدينا بالذاكرة أو ربطها بمشكلات مشابهة تم التعامل معها سابقاً بحيث يتم الاستغناء عن المعلومات المناسبة أثناء حل المشكلة.
4- استراتيجيات حل المشكلة:
يمكن توظيف عدد من الاستراتيجيات في حل المشكلة نذكر منها:
أ. تحديد أو تحليل الغايات الوسائل Mean – End Analysis
وهنا يتم استخدام منهج مباشر لحل المشكلة يتضمن هذا المنهج تحديد الهدف النهائي أو الغاية المنشودة ثم استخدام حل مباشر لتحقيق هذا الهدف، مثل هذا الإجراء قد يكون فعالاً عندما تكون المشكلة محددة بشكل جيد ولها حلول معروفة وقواعد حل محددة، بحيث يصار إلى استخدام الحل المناسب لهذه المشكلة على نحو مباشر، ولكن في حالة المشكلات سيئة التحديد أو غير واضحة الحل فإن مثل هذا الإجراء قد لا يكون فعالاً أو مناسباً الأمر الذي يستلزم التحايل على هذه المشكلة أو البحث عن استراتيجيات أخرى لحلها.
ب. تجزئة المشكلة Break down – Problem
عندما تكون المشكلات أكثر تعقيداً أو لا يمكن حلها من خلال استخدام حل مباشر لها، فمن المستحيل هو تجزئة هذه المشكلة إلى أجزاء، أي تجزئة الهدف النهائي إلى مجموعة أهداف جزئية Subgoals بحيث أن تحقيق هذه الأهداف يوصل إلى الحل النهائي للمشكلة موضوع الاهتمام. وهذا يعني أن ضرورة ترتيب أولوية التحركات نحو تحقيق هذه الأهداف، بحيث أن تحقيق أي هدف فرعي يجب أن يساعد أو يفضي بالوصول إلى هدف آخر، وهكذا يفترض التسلسل في التحركات نحو تحقيق هذه الأهداف النوعية إلى أن يتم الوصول إلى الحل النهائي للمشكلة.
5- الخبراتية Expertise
مما لا شكل فيه أن هناك تفاوتاً في قدرة الأفراد في حل المشكلات، ويرجع ذلك إلى وجود الفروق الفردية في قدراتهم العقلية وفي مستوى الخبرات السابقة لديهم. فالأفراد يتفاوتون في قدراتهم من حيث إدراك المشكلة وصياغتها وتحديد كافة متغيراتها ومظاهرها وفي تنظيم المعلومات المتعلقة بها، بالإضافة لذلك يتفاوت الأفراد في قدرتهم على توليد البدائل لديهم والاستفادة من خبراتهم السابقة في حل المشكلات المماثلة.
الفروق في القدرة على حل المشكلات ترجع إلى الفروق في القدرة العقلية ومستوى الخبرة
إن المهارة الخبراتية في حل المشكلات تعتمد إلى درجة كبيرة على مدى ممارسة الأفراد لحقل أو مجال معين، حيث يؤكد منهج المجال المحدد في حل المشكلات Specific – Domain Approach أن الممارسة المتكررة في التعامل مع مسائل أو قضايا تتعلق بمجال معين من شأنها أن تزيد من خبرات الأفراد وترفع من كفاءتهم في حل المشكلات التي ترتبط بذلك المجال مما يجعل منهم خبراء experts في ذلك المجال.
نافذة رقم (17) |
عشرة استراتيجيات لحل المشكلات - إيجاد نمط للحل بموجبه. - تبني وجهة نظر مختلفة. - المشكلات المناظرة. - اعتبار الحالات المتطرفة. - التمثيل البصري (رسومات). - الحدس الذكي. - حساب جميع الاحتمالات. - تنظيم البيانات - التفكير المنطقي - العمل رجوعاً (في الحل من النهاية إلى البداية www.mesm.net). |
أظهرت نتائج الدراسات المتعددة (انظر Bedard & Chi, 1992; Anderson, 1990; Mayer, 1992) إن الأفراد الذين لديهم خبرات كبيرة نتيجة لعملهم الطويل في مجال معين إنهم أكثر قدرة على حل المشكلات المرتبطة بذلك المجال مقارنة بأقرانهم حديثي العهد (novices) وهذه القدرة لا ترجع إلى كون سعة الذاكرة العاملة لديهم أكبر، وإنما إلى جملة مهارات يمتازون بها نتيجة خبراتهم المتكررة والتي تتمثل بالآتي:
1. لديهم قدرة أكبر على إدراك المشكلة وتحديد متغيراتها.
2. لديهم معلومات أكثر ذات علاقة في المجال الذي يعملون فيه.
3. لديهم قدرة أكبر على تنظيم المعلومات المتوفرة لديهم على نحو فعال يسهم في حل المشكلة.
4. لديهم المعرفة المفاهيمية Conceptual Knowledge التي توضح العلاقات بين المبادئ والمفاهيم والمعارف المرتبطة بذلك المجال.
5. لديهم قدرة أكبر على توليد بدائل الحلول والاختيار من بينها.
6. لديهم قدرة أكبر على توظيف الاستراتيجيات الأكثر تعقيداً لحل المشكلات.
6- الأتمتة Automaticity
يشير مفهوم الأتمتة إلى طريقة تنفيذ بعض العمليات المعرفية في معالجة بعض المثيرات، فهي تمثل العمليات المعرفية التي يتم من خلالها معالجة بعض المثيرات أو الاستجابة لبعض المواقف دون وعي لمثل هذه العمليات، حيث أن مثل هذه العمليات تتم على نحو أتوماتيكي وبدون أي مجهود. قد يلاحظ أن مثل هذه العمليات قد تتم على نحو تلقائي ولا سيما في حالة معالجة بعض المهمات الأخرى التي تقع خارج نطاق المهمة موضع التركيز أو المعالجة مثل إدراك لون الخط أو الأشكال أثناء قراءة نص معين، في حين قد تكون مثل هذه العملية مقصودة Intenionally في حالة معالجة مثير أو حدث معين يقع في سياق معالجة مهمة عامة، مثل إدراك معنى كلمة ما أثناء معالجة معنى جملة، تجدر الإشارة هنا أن العمليات المعرفية في معالجة بعض المهمات أو المثيرات على نحو أتوماتيكي وهو نتاج عملية الممارسة والخبرة، حيث أن التفاعل المتكرر مع بعض المثيرات أو المهمات يجعل من عمليات معالجتها تبدو على أنها تتم على نحو لا شعوري وبدون أي جهد (Tzelgov, 1999).
نافذة رقم (18) |
الأتمتة القدرة على إكمال المهمات اليومية بأقل قدر من الجهد وبأقل تدخل من الآخرين وبدون تفكير واع لخطوات العملية. فالدماغ عندما يتعرض إلى مهمات مألوفة فإنه يشغل المعلومات ويطبق الحلول الصحيحة بهدف تقليل المتطلبات على الذاكرة العاملة ويسمح لعمليات معالجة المعلومات العليا (coe.solsu.edu) |
مشكلات معرفية
1- التنافر المعرفي Cognitive dissonance
لقد طور العالم ليون فستنجر Leon Festinger (1957) نظرية تعرف باسم نظرية الثبات المعرفي Cognitive Consistency theory أو نظرية التنافر المعرفي Cognitive Dissonance. وفيها حاول تفسير العلاقة بين اتجاهات ومعارف الأفراد وأنشطتهم السلوكية التي يقومون بها. فهو يرى أن الأفراد يطورون معارف Cognitions حول أنفسهم وحول العالم المحيط بهم، وتشمل هذه المعارف كل الآراء والأفكار والاتجاهات والمعتقدات حول ذواتهم وسلوكاتهم والعالم المحيط بهم.
تحدث حالة الثبات أو الاتساق المعرفي عندما تكون آراء واتجاهات ومعتقدات الأفراد وأنماطهم السلوكية متفقة أو منسجمة مع بعضها البعض، أي عندما تنسجم الأفعال السلوكية لديهم مع المعتقدات والآراء والاتجاهات التي يحملونها. فعلى سبيل المثال شخص يعارض التمييز العنصري ويحمل اتجاهات سلبية نحو لذا هو يشارك في الحملات الدعاية ضد التمييز العنصري، ففي هذا المثال، نجد أن لدى هذا الفرد ثبات أو اتساق معرفي لأن أفعاله السلوكية تتوافق مع اتجاهاته ومعتقداته.
الاتساق المعرفي حالة تكون فيها آراء واتجاهات ومعتقدات الفرد منسجمة مع سلوكه.
نافذة رقم (19) |
نظرية التنافر المعرفي يوجد ميل لدى الأفراد للبحث عن الثبات بين معارفهم (المعتقدات، الأفكار ... إلخ)، وبين اتجاهاتهم وسلوكهم، وهناك رغبة في التخلص من حالة التنافر. |
ولكن في حالة حدوث خلل أو عدم انسجام بين الأفعال السلوكية والاتجاهات والمعتقدات فإن حالة من عدم الانسجام أو حالة من التنافر المعرفي تنشأ لدى الفرد، ومثل هذه الحالة قد تطرأ بسبب وجود تناقض بين اثنين أو أكثر من العناصر المعرفية التي يحملها الفرد حول ذاته أو حول البيئة المحيطة به بحيث يكون كل عنصر منهما مضاداً للآخر مثل التناقض بين سلوك الفرد واتجاهاته أو التناقض بين اتجاه واتجاه آخر أو بين صورة الذات والسلوك.
إن حالة التنافر المعرفي تولد دافعاً لدى الأفراد من أجل التخلص أو التقليل منها، بحيث يزداد مستوى الدافعية للتخلص من حالة التنافر بازدياد حجم أو مستوى التنافر المعرفي، فكلما كان حجم التنافر المعرفي كبيراً كانت الدافعية للتغيير أكبر، وبالتالي فإن حجم الجهد المبذول من قبل الفرد يكون أكبر، علماً بأن حجم التنافر المعرفي يعتمد على مدى أهمية المعارف بحيث يتناسب حجم التنافر المعرفي طردياً مع زيادة حجم أهمية المعارف والمدركات التي يحملها الأفراد.
حالة التنافر المعرفي مرهفة يعمل صاحبها على التخلص منها.
يرى فستنجر أن الأفراد يحفزون إلى التخلص من حالة التنافر المعرفي باتباع أحد الوسائل والأساليب التالية:
(1) تغيير السلوك لينسجم مع اتجاهاتهم أو معتقداتهم.
(2) تغيير اتجاهاتهم ومعتقداتهم لتنسجم مع السلوك.
(3) البحث عن معلومات إضافية أكثر انسجاماً لتبرير السلوك.
(4) تشويه المعلومات والمعارف (tip.psychology.org)
ولتوضيح ذلك، فلنأخذ المثال التالي: طالب لديه اتجاهات إيجابية نحو قدراته العقلية ويعتقد بأنه على مستوى عال من الذكاء، تقدم هذا الطالب إلى امتحان في مادة ما وحصل على علامة متدنية على هذا الامتحان.
إن مثل هذه النتيجة تولد لديه حالة من التنافر المعرفي بين ما يعتقده حول ذاته وبين سلوكه أو أدائه على الامتحان، الأمر الذي يولد لديه دافعاً للتخلص من حالة التنافر المعرفي هذه. وعليه قد يلجأ هذا الطالب إلى إحدى الوسائل التالية:
(1) تشويه المعلومات والحقائق، كأن يقول بأن هذا الامتحان غير مهم أو أن المادة تافهمة ولا تستحق الاهتمام، أو يقول بأن الامتحان ليس مؤثراً أو مقياساً للحكم على ذكائي.
(2) تغيير السلوك: مثل التغيير في عاداته الدراسية وأساليب الإعداد والتحضير للامتحانات.
(3) تغيير اتجاهاته أو معتقداته: مثل الاعتراف بأن قدراته العقلية أو مستوى ذكائه أقل مما يعتقد، أو الاعتراف بأن المادة تتطلب قدرات عقلية أعلى مما هو متوفر لديه.
(4) البحث عن معلومات إضافية أكثر انسجاماً لتبرير سلوكه، كأن يقول مثلاً بأن الامتحان مفاجئ، وأن المدرس متحيز، أو أن وقت الامتحان لم يكن كافياً.
لقد وجد فستنجر أنه في حالة وجود ضغوط أو قوي خارجية تدفع الأفراد للتغيير أو السلوك بطريقة معينة، فإن حالة التنافر المعرفي في مثل هذه الحالات يعتمد على مستوى أو حجم الضغوط أو القوى الخارجية، ففي حالة وجود حجم ضغط قوي على الأفراد، فإن حالة التنافر المعرفي الناتجة لديهم تكون ضعيفة، في حين يزداد مستوى التنافر المعرفي لديهم في حالة الضغوط المنخفضة، وعليه يرى فستنجر عدم اللجوء إلى الضغط الشديد سواء من خلال الإغراء أو التهديد والإجبار لدفع الأفراد على التغيير لأن مثل هذه الحالات لا تولد لديهم مستوى عال من التنافر المعرفي. (McCormack, 2004).
2- العزوات Attributions
من المعروف أن سلوكات الأفراد تتأثر بمجموعتين من الأسباب أو العوامل، إحدى هاتين المجموعتين يتمثل في مجموعة العوامل البيئية الخارجية المادية والاجتماعية منها، في حين تتعلق المجموعة الثانية بجملة الخصائص الشخصية الداخلية. ففي الظروف الطبيعية يسعى الأفراد إلى أن تكون سلوكاتهم منسجمة مع توقعاتهم أو توقعات الآخرين، كما يتوقعون بالوقت نفسه أن تكون سلوكات الآخرين منسجمة مع توقعاتهم في مختلف المواقف، ولكن عندما يجد الأفراد أن سلوكاتهم لا تنسجم مع توقعاتهم أو توقعات الآخرين، أو يجدون أن سلوكات الآخرين لا تنسجم مع توقعاتهم، عندها يسعى الأفراد إلى عزو هذه السلوكات إلى مجموعة من الأسباب والعوامل في محاولة منهم لتبرير أو تفسير هذه السلوكات.
العزو عملية تتمثل في البحث عن أسباب ومصادر السلوكات.
تسمى العملية التي يلجأ إليها الأفراد في البحث عن أسباب ومصادر السلوكات من أجل تبريرها وتفسيرها بعملية العزو، واعتماداً على ذلك، فالعزو هو بمثابة عملية معرفية يلجأ إليها الأفراد لتفسير أسباب سلوكاتهم أو سلوكات الآخرين. وفي محاولة تبرير السلوكات قد يلجأ الفرد إلى مجموعتين من المصادر أو الأسباب:
نافذة رقم (20) |
نظرية العزو نظرية حول كيف يفسر الناس الأشياء؛ ثمة نوعان من العزو: العزو الخارجي والعزو الداخلي، بهدف الإجابة على سؤال (لماذا؟ Why). |
أ. الأسباب أو العزوات الخارجية External attributions
وهي مجموعة الأسباب والعوامل التي تقع خارج نطاق الشخص بحيث يكون مصدرها البيئة أو الموقف وتسمى مثل هذه العوامل بالعزوات الموقفية Sitruational attributions وخير مثال على ذلك الطالب الذي يرسب في امتحان، قد يعزو سبب فشله إلى عوامل خارجية مثل صعوبة الامتحان أو تحيز المدرس.
ب. الأسباب أو العزوات الداخلية Internal attributions
وهي مجموعة الأسباب والعوامل التي ترتبط بخصائص أو سمات شخصية ثابتة، وتسمى مثل هذه العوامل بالعزوات الاستعدادية Dispositional Attributions وخير مثال على ذلك الطالب الذي يفشل في امتحان، قد يعزو سبب الفشل هذا إلى ضعف قدراته أو بسبب إهماله (www.as.wvu.edu).
معايير العزوات Criteria for attributions
يستخدم الأفراد عادة ثلاثة معايير عند اتخاذ القرار حول عزو أسباب السلوك إلى المصادر الداخلية أو المصادر الخارجية. وهذه المعايير هي:
(1) الإجماع Consensus
ويقصد بالإجماع مدى عمومية السلوك عند الأفراد، أو مدى تشابه سلوك الأفراد نحو مثير معين.
أ. مستوى إجماع عال High Consensus
عندما يمارس غالبية الأفراد سلوكاً معيناً أو أنهم يسلكون بنفس الطريقة حيال مثير معين. مثال: عندما يجمع غالبية المعلمين على أن طالباً ما ضعيف في التحصيل.
ب. مستوى إجماع منخفض Low Consensus
عندما لا يمارس غالبية الأفراد سلوكاً معيناً أو أنهم يسلكون بطريقة مختلفة حيال مثير معين، مثال: عندما يقول معلم أو معلمون مثلاً أن طالب ما ضعيف في التحصيل.
(2) الثبات أو الاتساق Consistency
ويقصد بذلك مدى تكرار نفس السلوك في مواقف محددة، أو مدى الاستجابة بنفس الطريقة لمثير معين في المواقف المختلفة.
أ. ثبات عال High Consistency
الاستجابة بنفس الطريقة لمثير معين في المواقف المختلفة التي يظهر فيها هذا المثير. مثل التشاؤم من شخص معين عندما نقابله في المواقف المختلفة.
ب. ثبات متدن Low Consistency
الاستجابة بطرق متباينة لمثير معين في المواقف المختلفة التي يظهر فيها المثير، مثل التشاؤم من شخص معين في موقف ما أو بعض المواقف فقط.
(3) التمايز Distinetiveness
ويقصد بذلك المدى الذي يستجيب فيه الفرد إلى مجموعة من المثيرات بنفس الطريقة أو مدى تباين الاستجابات للمثيرات المختلفة.
أ. تمايز مرتفع: High destinctiveness
وهي الاستجابة بطرق مختلفة للمثيرات المختلفة.
ب. تمايز منخفض Low Distinctiveness
وهي الاستجابة بنفس الطريقة للمثيرات المختلفة.
وعليه فإن الأفراد يلجأون إلى المصادر الداخلية لتبرير أو تفسير سلوكاتهم وسلوكات الآخرين عندما يكون مستوى كل من الإجماع والتمايز منخفضاً ومستوى الثبات مرتفعاً. في حين يلجأ الأفراد إلى المصادر الخارجية عندما يتوفر مستوى مرتفع (عالي) في كل من معايير الإجماع والتمايز، ويوضح المخطط التالي معايير اتخاذ القرار حول مصادر الفرد:
الخلاصة:
تناول هذا الفصل عملية اكتساب المعرفة وحل المشكلات وبعض المشكلات المعرفية قديماً وحديثاً وفيما يلي أهم الأفكار الواردة في هذا الفصل:
1- الاتجاهات الفلسفية النفسية منها: المذهب الترابطي الذي ارتكزت عليه الفلسفة التجريبية والنظريات السلوكية في التعلم واكتساب الخبرات والمعارف. والمذهب العقلاني الذي شكل الأساس لنظريات علم النفس المعرفية الحديثة، وذهب إلى أن المعرفة الحقيقية يمكن اكتسابها بالاستنباط، ويمكن الحصول عليها بالتفكير دونما حاجة للتجريب، والمذهب الفطري الذي يؤكد وجود المعرفة الفطرية المسبقة في عقل الإنسان.
2- النقل العصبي عملية بها يتم نقل الإشارات والرسائل العصبية ذات الطبيعة الكهروكيميائية عبر الخلايا العصبية وصولاً إلى مناطق الدماغ ذات العلاقة ليصار إلى تفسيرها وإصدار القرارات حولها بحيث يتحدد الفعل السلوكي المناسب حيال المثيرات والمواقف المختلفة.
3- نظرية اكتشاف الإشارة صيغة رياضية تستخدم لتحديد تقارير الأفراد من حيث وصول أو عدم وصول شدة المثير إلى أقرب عتبة على نحو يمكنهم من اكتشافه أو تمييزه.
4- الإحساس والإدراك عمليتان عقليتان بالأولى يدخل العالم الخارجي إلى عقولنا على شكل إشارات ورسائل عصبية تمثل الخصائص الفيزيائية للمثيرات. بالعملية الثانية يتم التعرف على خصائص المثيرات والتمييز بينها أو الوعي بتلك الخصائص اعتماداً على المعرفة والخبرات السابقة، واستخدام الاستدلالات والاستنتاجات حول المثيرات، وتضيف المدخلات الحسية ربط وفهم طبيعة العلاقات الرابطة بين تلك الخصائص، ويمتاز النظام الإدراكي بالمرونة والقدرة على التكيف مع المثيرات المختلفة.
5- التمثيلات العقلية تشير إلى الكيفية التي يتم بها تخزين المعلومات في العقل، وقد يتخذ هذا التمثيل شكل الصور العقلية (الذهنية) أو الشكل الرمزي الذي يأخذ شكل شبكة منظمةن من المفاهيم المتداخلة والمترابطة معاً, وثمة نماذج لتمثيل المعلومات منها النموذج الهرمي، ونموذج انتشار وأثر التنشيط.
6- حل المشكلات، يمكن توظيف عدد من الاستراتيجيات لحل المشكلة نذكر منها: تحديد الغايات – الوسائل، وتجزئة المشكلة.
7- التنافر المعرفي نظرية تحاول تفسير العلاقة بين اتجاهات ومعارف الأفراد وأنشطتهم السلوكية، ويمكن التخلص من حالة التنافر المعرفي بتغيير السلوك لينسجم مع الاتجاهات والمعتقدات، أو تغيير الاتجاهات والمعتقدات لتنسجم مع السلوك، أو البحث عن معلومات إضافية أكثر انسجاماً لتبرير السلوك، أو تشويه المعلومات والمعارف.
8- العزوات، تفسير سلوكات الأفراد بمجموعتين من العوامل الخارجية المادية والاجتماعية، والعوامل الداخلية المتضمنة جملة الخصائص الشخصية الداخلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: محمد عودة الريماوي وآخرون، ،( كتاب: علم النفس العام)، من إصدار دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، الأردن ، عمان، الطبعة الثانية لعام 2006م / 1426هـ